أغنية للزمن القديم

– من أنت؟

أغمضت عيني لعفوية السؤال. تصورت نفسي الحاجز الأخير، قبل أن يغيب أبي في البحر المسكون بالأسرار والغموض. ناوشتني الأسئلة: كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ الخيوط متشابكة، فيصعب التعرف إلى طرف البداية: حياة أبي في شارع الميدان اتصال بحياة الوكالة منذ أنشأها جدنا الكبير. حدثنا عن بداية تعرفه على الصلاة في أذان مسجد سيدي الشوربجي القريب، تعرِّيه — غصبًا — من لباس الإحرام عندما صحبه جدي إلى الأراضي الحجازية، معرفته أنواع المأكولات والمشروبات على عربات اليد وفي الدكاكين، جولاته — مع أصدقائه — في سوق الخيط وزنقة الستات وسوق المغاربة وحارة اليهود ووكالة الليمون وأرصفة الميناء، صعوده فوق مرصد كوم الناضورة — قبل أن يلحقه الخراب — يطل على المدينة من أعلى موضع فيها، تعلُّمه القراءة في ملصقات الشوارع ولافتات المكاتب والدكاكين، وتعلمه اللغات من التجار الأجانب وبحارة السفن الزائرة، تردده — دون أوراق — على الدائرة الجمركية، بضاعته القليلة — قبل أن تصبح الوكالة على صورتها الحالية — تتسع وتزيد، يتاجر في البن اليمني والبقالة والنقل والعطارة والأقمشة والكليم الأسيوطي والحرير من بلاد الشام.

•••

بدا أنه أجهد نفسه في القراءة. علا صوته بالكلمات، قرأها ثانية، أطال التأمُّل والشرود كأنه يفتش عن المعنى. ثم أعاد الجريدة — في نفاد صبر: اقرأ لي.

كان يهز رأسه في نهاية كل فقرة. وكانت أمي — في وقفتها على باب الشرفة المطلة على الطريق — تخفي بالطرحة المسدلة على جانب وجهها قلقًا وتوترًا. قراءة الصحف أول ما يجلس إليه، حين يصحو من النوم.

قال أبي لسائق سيارة النقل: كم صندوق رنجة تسلمناها؟

قال السائق: هذه رابع مرة تسألني يا حاج!

النسيان مشكلة نلحظها في كلماته وتصرفاته. يجهد نفسه في استدعاء الأسماء، يفتش عن الكلمات المناسبة، يضغط على جبهته بإصبعيه، ويغمض عينيه، يسند وجهه على قبضتيه، ويتوه في الفراغ. ينصت ساكن الحركة كمن لا يتابع. يكتفي بالتطلُّع إلى سقف الحجرة، أو بتأمُّل خطوط التكوينات المرسومة على السجادة. يرمق توالي الأمواج كأنه ينتظر شيئًا في داخلها. يسأل عن النظارة الطبية، أو مفتاح المكتب، أو الجريدة التي لم يعد يقرؤها. ينسى أين أوقف السيارة. وكان يتسلل إلى داخلي شعور بالقلق، أشبه بالومضة ما تلبث أن تختفي.

تدخَّل أخي سامح: من حقه أن يكرر السؤال … وعليك أن تجيب.

قال السائق: مائتان وأربعون صندوقًا.

أنهى سامح الموقف، لكن القلق ظل في أعيننا. أبي يعيد الملاحظات والأسئلة والقضايا. حتى رؤيته للبحارة المتكلمين بالرطانات الأجنبية، تردده على الدائرة الجمركية، لقاءاته بالموردين من الجنسيات المختلفة، جيرته لتجار وباعة مغاربة وتوانسة وشوام وأترك وأروام وطلاينة، ظلوا في شارع الميدان حتى غابت الأسماء من واجهات الشركات والدكاكين.

فقد أبي حذره وهو يكلم المترددين على الوكالة. يعطي نفسه لتجار الحي وباعته. يسأل عن الصحة والأولاد، يناقش ما يبين عن تعرفه إلى شئون حياتهم. الزبائن الطياري — تسمية ورثناها عنه — تقتصر أحاديثه معهم على العمل وحده. خذ وهات! لا فصال ولا مساومات، ولا تأجيل في الدفع أو أقساط. لم يعد يفرق بين من اعتادوا التردد على الوكالة، ومن قدموا إليها للمرة الأولى، بين الأصدقاء والزوار الذين لم يرهم من قبل. السحن المألوفة والتي شحبت ملامحها في الغيم. يستقبل الجميع بالحفاوة نفسها. يطلب الساخن والبارد. يعرض حمل البضاعة، حتى في غياب الثمن المطلوب.

•••

أطال الوقوف أمام تمثال الراقصة الإسبانية ترتدي ثوبًا أحمر وحذاءً أسود ذا كعب عال. أظهر الفرحة وهو يميل مع ما يتصوره رقصة للمرأة: هكذا هكذا ترقص … هكذا ترفع يدها … هكذا تميل بجسدها.

يعاني الحكم على الأشياء. يمتد إصبعاه — بعفوية — إلى شفته السفلى. يمطها فتظهر لثته. يتصور الحركة في الثبات، وتسابيح ما قبل الفجر في الشوربجي خناقة يطلب فضها، والغسيل المتطاير في المناشر طيورًا ينتظر تحليقها. تختلط السلمات من تحته، فيخشى أن تزل قدمه. تتناغم دندنته مع أصوات احتكاك دقات صحن العطارة في سوق الترك القريب. أرقبه فأهمل الكثير مما يقوله. أتابع تصرفاته، وحركات يديه وعينيه، وتعبيرات وجهه. يبدأ الجملة، ولا يتمُّها، أو يعاني تلاحق الكلمات، فهي دمدمة غير مترابطة. يغيب اتصال المعنى، فأحدس ما يريد قوله. يشتم — بصوت مرتفع — شخصًا لا نراه. يطلق «أف» مفاجئة تغيب أسبابها.

•••

قال سامح: لاحظت أن الأمور تشوشت في ذهن أبي منذ بدأ جلوسه إلى أصدقائه الجدد في قهوة المنشية.

قلت: إنهم أصدقاء قدامى.

قالت أمي: ولماذا تتركونه يجلس إليهم؟

قال سامح: من يعلق الجرس في رقبة القط؟

أضاف موضحًا: يصعب على أحد أن ينصح أبي بما يجب أن يفعله.

قالت أمي: من هؤلاء الناس؟ … كيف عرفهم؟

قال سامح: تجار … عادوا إلى الإسكندرية بعد هجرة أعوام طويلة … اجتذبوه باستعادة الذكريات القديمة.

طلب سامح أن ألزم أبي في داخل المكتب، أصحبه، أقود السيارة إن أراد العودة إلى البيت، أو إلى القهوة. لا أتدخل إلا إذا طلب أبي ما ينبغي تنفيذه. أكتفي بالمحاضرات المهمة. أنطلق بالسيارة في طريق الكورنيش. أميل من النصب التذكاري إلى ميدان المنشية. أبطئ في زحام شارع الميدان، أو أترك السيارة قبالة سراي الحقانية، وأخترق الزحام إلى مبنى الوكالة.

أهملت ما كنت أعده فور تخرجي: إضافة استيراد معدات كهربائية وإلكترونية إلى عمل الوكالة. لزمت أبي حتى يقبل التردد على الأطباء، فتصل تعليماتهم إلى بر نطمئن إليه.

خبط فخذه بكفه: أنا لا أشكو شيئًا!

قال سامح: التردد على الطبيب لا يعني أنك مريض … ربما كتب لك مقويات تساعد على التذكر.

وهو يشيح بيده: ذاكرتي حديد!

قال لي سامح: أنت آخر العنقود … أبي يرتاح إلى مجلسك.

لم أجد في طلب سامح ما يضايقني. أحب الجلوس إلى أبي، وسماع الحكايات القديمة. كنت أكتفي باحتساء الشاي، والتطلع إلى حركة الميدان. لا أشارك في المناقشات، ولا أبدي اهتمامًا بما كان أبي يهبه سمعه. يستعيدون ذكريات بعيدة. لقاءاتهم في قهوة النجعاوي بسوق المغاربة. أهازيج السحر أعلى مئذنة أبي العباس. قراءة البردة في صحن البوصيري. تواشيح رمضان والموالد وحلقات الذكر وخيام الصوفية وأكشاك الختان والمتصوفة والمجاذيب والنقرزان وسوق العيد والرفاعية وملاءات اللف. معارك الفتوات، وسباق البنز والقوارب. خرجت مظاهرات طلبة المعهد الديني بالمسافرخانة، تهتف ضد الإنجليز والملك وأحزاب المعارضة، واكتفت البلانسات بنشر الأشرعة إلى نهاياتها، وركب الرجال عربة الترام الوحيدة من الباب الأخضر في اتجاه ميدان كرموز، وتتابعت إضاءة عفريت الليل لمصابيح الغاز، وتضوعت المجامر بعبق البخور، وفعلت بركات الأولياء ومكاشفاتهم ما لا يخطر بالعقول، وعادت الكتاتيب إلى صيتها القديم، وارتفعت ألحان كان أبي يدير بها جهاز الفونوغراف، وتبادلت الصحبة — داخل مجيرة عم عباس — أنفاس الحشيش (في ليلة أم كلثوم)، وتمايلت الرءوس بالطرب، وتمطت أيام الهدوء والسكينة والعشرة، ودارت رقصات أولاد عبد السلام حتى أتعبتني، وتطوحت الرءوس والأكتاف على إيقاع أحزاب الشاذلي وأوراده، ومضت جياد سراي رأس التين في جولتها الصباحية، وتقدم الأفندية الجنازات من جامع الشيخ إلى مقابر العامود، وتوسط قوس قزح أفق المينا الشرقية.

أُسلم عيني إلى اتساع الميدان بزحامه وباعته والنوافذ الخشبية الواسعة، ولافتات الشرفات والدكاكين، وأطباق الفضائيات فوق الأسطح والطائرات الورقية في مساحة السماء بين البنايات، والشمس وهي تصعد على واجهات البيوت المقابلة، ثم تنحسر عنها، حتى تغيب تمامًا. تحل رمادية شاحبة، تلحقها الظلمة. أتنبه على همسات يصيخ لها أبي سمعه. يلمح اتجاه عيني فيشيح بيده: نحن نتكلم فيما لا شأن لك به.

إذا فاجأني سؤال، أشير إلى أبي، فيرد بدلًا مني. ثمة حاجز غير مرئي نشأ بيني وبينهم، منذ صحبت أبي إلى المقهى. أهمل عبارات الود، والدعوات الملحة بمشاريب. تظل عيناي في اتجاههما إلى الطريق.

أربط — في البيت — بين الهمهمات التي تنتزع أبي من شروده، البسمة حين تتخلل التجاعيد حول الفم والعينين، الضحكة العالية ما يلبث أن يكتمها، ليتأكد إن كان قد سمعه أحد.

•••

نطق التأثر في وجه أخي شبل، وإن لم يفاجئه ما حدث. كان قد عاد من بورسعيد، بعد أن تسلم بضاعة في الميناء. أقبل على أبي بملامح مهللة، فاصطدم بالشرود. التمعت عيناه بدهشة متسائلة: هل يمكن؟

النظرة المتسائلة أصطدم بها — دون أن يلحقها كلام — حين يمضي أحد أخوتي يومين أو أكثر خارج الإسكندرية. أزمعت أمي ألا تترك البيت بعد أن أمضت ثلاثة أيام عند خالتي في الإبراهيمية. فاجأتها النظرة الشاردة المتسائلة.

قال شبل: أنت الوحيد الذي يصادقه أبي لأنك لا تفارقه!

لزمت الصمت، فلم أنطق بعنوان الوكالة. شدد سامح، فأنا أصحب أبي إذا كان أخواي في أعمال خارج الإسكندرية، وأراد أن يذهب إلى الشركة، أو يعود منها. فضل التمشي من البيت أو سعد زغلول إلى شارع الميدان. عشرته قديمة لتجار الشارع يعرفه المترددون على الوكالات والدكاكين والباعة ورواد المقاهي والمصلون في جامع الشوربجي. يُظهر الغضب لنصيحة أمي أن يكتفي بالتليفون وسيلة للاطمئنان على سير العمل، وأن الراحة هي ما يطلبه.

بدا على أبي أنه نسي الوكالة، أجهد نفسه في التذكر. تدلت شفته السفلى، ولجأ إلى تعبيرات الوجه واليدين. لم أستطع التخمين ما إذا كان ينوي الذهاب إلى أبو العباس للصلاة وزيارة المقام — وهو ما تحدث عنه في الليلة السابقة — أم أنه يريد العودة إلى البيت.

نادى على تاكسي: عد إلى البيت.

– أين هو؟

ضرب جبهته براحته. غلبه الارتباك، فذكرت العنوان.

•••

فضل أبي أن نترك السيارة في الموقف، ونعود — سيرًا — إلى البيت. الدنيا ليل، وبدايات الخريف تحمل نسائم رطبة. حركة المرور قلت، ومعظم المحال أغلقت أبوابها. ظل أبي صامتًا، كأنه مشغول بشيء لا أعرفه.

قبل أن نميل من المنشية إلى سعد زغلول، توقف أبي عن السير. أعاد تأمُّل المكان كأنه يراه للمرة الأولى. بدت المشاعر في داخله خرساء، لا يقوى على التعبير عنها. أغمض عينيه ليفرض التركيز. ثم مال بأعلى صدره ناحيتي. حدق في تطلعي المرتبك، الساكن: من أنت؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤