الزيف

عرفته — للمرَّة الأولى — في حواديت أمي. كانت تقرنه بالجان والعفاريت والأشباح والأرواح الشريرة. وحين كبرتُ، وتركتُ الحَارَة للَّعب مع الأولاد في الشوارع القريبة، أخافتْني ملامحه أشدَّ ممَّا رسمتْها أمي في حواديتها. كان يتوسَّط الرجال في المقهى المطلِّ على ميدان أبو العباس.

ألِفتُ رؤيته على المقهى وشاطئ البحر، وفي الحلقة وشارع الميدان والحديقة المقابِلة لمستشفى الملكة نازلي. وكانت تكشيرته تجِدُ الصَّدى ابتسامة في أعيُن مَن يلتقون به، أو أنَّهم يتجنَّبون طريقه.

تابعتُه ذات مساء وهو يمضي — بخطواتٍ متعثِّرة — في الأرض الخلاء المطلَّة من اليمين على بناياتِ جنود مصلحة السواحل، ومن اليسار على شاطئ الأنفوشي.

كانت ملامحه على قسوتها، لا تبين عن باعث الخطوات المترنِّحة.

تسلَّلتْ نظرتي من خَصَاص نافذة شقَّة الطابق الأول التي دخَلَ إليها. تلفَّتَ — وهو يعاني — كمَن يتأكَّد من خلوِّ المكان، ثم نزَعَ قناعًا من وجهه، وقذَفَ في حلْقِه حبَّاتٍ صغيرة.

بدا وجهه ضامرًا، وشاحبًا، يختلف عمَّا كان، يخيفني في حواديت أمي، وفي سيره وقعوده، وسط الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤