زَوْجُ خَرِيفِيَّة

عمتي خريفية ظلَّت صامدة متمسكة بالجُملة التي عُرِفَتْ بها، عندما يكون الحديث عن المال، أو عندما يبدي أحدهم عشمًا مستحيلًا ويطلب منها ولو قدرًا قليلًا من المال سلفة: يَسِمَني ويَحرِقني لو عندي قرش واحد، القروش اللي بيجيبها اللبن تأكلها البهايم علف.

وظلَّت صامدة أيضًا إلى أن تبقَّى يوم واحد على الوقت الذي حددته الحكومة كآخر يوم لاستبدال العملة القديمة (الجنيه) بالعملة الجديدة (الدينار)، وكنت أظنها لا تتذكر هذا اليوم، إلا أنها في الصباح الباكر عندما جئت لأصبِّح عليها وأساعدها في فكِّ وثاق الأغنام قبل أخذها للراعي الذي أخذتْ صفافيره تعلو الآن في الشارع الخلفي، دعتني ولأول مرة أن أدخل قطيتها، وذلك خلال العشر سنوات الماضية منذ أن طلبتْ مني أمي وأنا طفلة في الخامسة من عمري أن أساعد عمَّتي خريفية وأن أستجيب لها وقتما طلبتني؛ لأنه لا أطفال لها، عُرِفَتْ عمتي خريفية بالبُخل في كل مناحي الحي الجنوبي، بالبخل الشديد، كانت بخيلة حتى على نفسها؛ حيث إنها لا تشتري من الأسواق شيئًا غير الذرة التي تقوم بسحنها في البيت على المرحاكة وتعمل منها كسرة الخبز، تأكلها بالسمنة أو اللبن أو الروب الرائب، وأحيانًا بالويكة أو البامية أو الخضرة، وكلها منتجات أغنامها وجبراكتها، وحتى اللحم الجاف هو لحم تخزنه لشهور من آخر حَمَلٍ اضطرت على ذبحه لسبب أو لآخر، وهي أيضًا تأكل وحدها، ولا تهب أية شيء ما عدا الروب، إلا أنها كانت تعاملني — لحدٍّ ما — بصورة مختلفة.

عمتي تمتلك قطيعًا كبيرًا من الضأن والماعز، يُنتج ما يُقارب الخمسين رطلًا يوميًّا، وتبيع من قطيعها سنويًّا ثلاثين خروفًا وعشرين تيسًا، وذلك في موسم الأضحية، وهذه الأرقام ثابتة ولم تتغير حتى في فترة الجفاف في الثمانينيات من القرن الماضي، والسبب في ذلك العقليةُ التجارية البحتة التي تتمتع بها عمتي خريفية؛ حيث إنها تمتلك مخزونًا من علف المواشي يكفي لعامٍ بأكمله، كان بيتنا عبارة عن زريبة كبيرة محاطة بالشَّوْك وأشجار الكتر، مقسمة في الداخل إلى بيوت؛ بيت جدي، بيت عمتي، بيت أبوي وبيت خالنا جبرين، وكل بيت تلحق به زريبة للماشية صغيرة وعدد قطيتين، ما عدا بيت عمتي؛ حيث إنه يحتوي على زريبة للمواشي وقطية واحدة وزريبة أكبر للعلف، وكانت أسرتنا هي الأسرة التي تمتلك أكبر قطيع من المواشي في الحي الجنوبي كله، وتقريبًا تشرب نصف المدينة من اللبن الذي تنتجه أغنامنا وبالذَّات أغنام عمتي خريفية، بالبيت ما لا يقلُّ عن عشرين طفلًا وأربع أمهات، حبوبة واحدة، جد واحد، خال واحد، وأب واحد أيضًا، كل هؤلاء الناس لم يحظَ واحدٌ منهم بدخول قطية عمتي، ولأول مرة أدخلها أنا نفسي، وكنت متشوقة للدخول فيها على الرغم من تلك الشائعات التي تثير الرعب من مجرد الفكرة في الدخول، كانت تُؤلَّف القصص المرعبة عن هذه القطية الغامضة، ولكن عندما طلبتْ مني عمتي الدخول لم أتردد إطلاقًا، عمتي نفسها كانت وما زالت امرأة جميلة طويلة القوام نشيطة، ممتلئة الجسد، لها فم منقوش باللون الأخضر المائل للسواد وعينان دائمًا مكحولتان، كانت في بداية الأربعين من عمرها، ترتدي قُرْبَابًا من الفُوطة الهندية، في الغالب لا ترتدي شيئًا آخر غير ثوب تغطي به الجزء الأعلى من جسدها، بالذات صدرها ونهديها المنتصبين دائمًا، ويقال إنها إلى اليوم عذراء ولم يمسسها رجل أبدًا ما عدا فيما يقال بين الناس: الجان.

لم يكن في داخل القطية أي شيء غريب أو يثير الدهشة، كانت مثل قطية أمي وحبوبتي أو أية قطية أخرى دخلتها، قدَّمتْ لي مديدة دخن بالسمنة وبلح عطن في زيت السمسم، وهي تفعل ذلك من أجلي بين حين وآخر، وهو السبب الذي جعلني أبدو أكبر حجمًا من رصيفاتي في العمر، قالت لي: شايفة البرميل داك؟

مشيرة إلى برميل يُستخدم في تخزين المياه لم أره سوى الآن، كان خلف عنقريب ضخم، ربما كان أكبر عنقريب يمكن أن يراه إنسان، ثم أضافت: عايزة أغير العملة، مش الليلة آخر يوم؟

أشرتُ لها برأسي إيجابًا وأنا أبتلع بلحة كبيرة لذيذة، أضافت: أنا عندي قروش عايزة أستبدلها إلى دينارات.

قلتُ لها وأنا أبحلق في البرميل: وين القروش؟

مشتْ في خطوات سريعة نحو عنقريبها الضخم ومن تحته سحبت حقيبة من الحديد يستخدمها الجيش في نقل الذخائر، ثم سحبت حقيبة أخرى في ذات الحجم، ثم حقيبتين أخريين من ذات الحجم الكبير، فتحت كل الحقائب في آن واحد أمامي، فذهلتُ؛ لأنني أول مرة في حياتي أرى هذا الكمَّ من الجنيهات، كانت مرصوصة في عناية ونظام مدهش، لا أدري كم عددها إلى الآن، بل ما كنتُ أظن أن أحدًا يستطيع عدَّها، أطلقت صوتًا ينمُّ عن الدهشة وأنا أضع أصبعي في فمي: إييييك!

قالت لي في حزم: قولي: ما شاء الله.

– ما شاء الله.

قلتُها مرارًا وتكرارًا حتى لا أسحرها، وأجعلها تطمئن.

قالت لي: جيبي لينا كارُّو عم النعيم عشان نشيل فيه القروش دي للبنك ونغيرها.

كانت عمتي تحمل عصاها الغليظة، وهي ترتدي قُرْبَابًا جميلًا، وهي تمشي خلف عربة الكارو، وكنتُ أنا أركب قرب السائق، أما الحقائب الكبيرة فإنها مغطاة بمشمع من الكنفاز كانت عمتي تحتفظ به منذ سنوات كثيرة ربما لمثل هذا اليوم، ولا أعرف كيف عرف أطفال الحي الجنوبي بالكنز؛ لأنهم الآن يجرون على بعد مسافة كافية من عصا عمتي وهم يسألونها أن ترمي لهم بعض النقود، أما الكبار وعلى الرغم من علمهم بما نحمل في الكارو إلا أنه لا يجرؤ أحدهم على الاقتراب من عمتي، كلُّ ما يمكنهم فعله هو إلقاء التحية من بعيد، بالتأكيد كان شكلها غريبًا وهي ترتدي القرباب وحول خصرها الخنجر تخفيه تحت الفوطة التي تستخدمها كبلوزة وتوب في آن واحد، وهي ليست كبيرة في العمر بالصورة التي تجعل الناس يصنفونها كبقايا قرون سابقة، كانت جميلة وطويلة، ولكنها اختارت أن تلبس مثل جدتي حريرة وأن تعيش في زمانها كراعية للماشية، كان الناس يقتربون منَّا أكثر كلما قربنا للسوق الكبير، وعندما وصلنا البنك كنَّا وسط غابة من الفضوليين الذين تجمعوا ليروا المرأة الراعية صاحبة الملايين، بدأ رجال البنك بالحساب، وهم في غاية التذمُّر لكثرة ما سوف يحسبون ودقة عمتي التي كانت تعطيهم ربطة واحدة وتنتظر إلى أن يحصوها عددًا ثم يقوموا باستبدالها، تضعها في الحقيبة الفارغة التي أتت بها، ثم ربطة أخرى وأخرى وأخرى إلى أن أتوا على الحقائب الأربع كلها، تأكدوا من صحة حسابهم عن طريق الحاسب الآلي، حينها قالت لهم عمتي وهي تغلق حقائب المال جيدًا وتتأكد من أنها قد أغلقت جيدًا بسحبها بشدة: حأمشي للبيت عشان أجيب الفكة.

صاح موظفان في آن واحد: الفكة!

– أيوا عندي برميل واحد بس.

– برميل!

خالي جبرين، أبي، أمهاتي الأربع، أخواي الكبيران محمد والشفيع، خضر ولد النعيم صاحب الكارو، عمتي ذاتها، كنا جميعًا نصارع البرميل الثقيل المقفول بصورة تامَّة محاولين أن نخرجه من القُطية لكي نرفعه على سطح الكارو، البرميل الثقيل ثقيل، أخيرًا اتبعنا فكرة أبي بأن نفرغه في جوالات من الخيش ليسهل نقله إلى البنك، ولكن فاجأتنا عمتي بما لم يتوقع أحدٌ منها، حينما قالت: شِيلوا المال الفي البرميل دَا كله كرامة، اتقاسموه ناس البيت كلكم.

فُسِّرتْ هذه الخُطوة من قِبل الكثيرين بأن عمتي قد تعبت من معالجة البرميل وعملية الحساب والعد وهي الآن تتخلص من كل ذلك: هذا مشكوك فيه؛ لأن عمتي لا تغضب لا تتضجر لا تمل لا تشتكي من المال.

وفُسِّرتْ أيضًا أن ذلك حدث بإيعاز من الجان الذي يتزوجها: هذا جائز، فللجان أحوال كأحوال البشر.

وفُسِّرتْ أيضًا أن عمتي ستموت قريبًا جدًّا: هذا خيال جامح؛ لأن عمتي ليست من ذلك النوع الذي يُعطِي انطباعًا للآخرين بأنه سيموت قريبًا، الذين تحس بهم جنازة تمشي على الأرض، بل العكس: من قال إن عمتي ستموت؟ عمتي خُلِقتْ لتحيى للأبد، أو هكذا تبدو لكل من يراها.

أما السناريو الذي لم يضعه أحد في الحسبان هو الذي حدث، كنت وعمتي نجلس في القطية، كان البرميل الفارغ يقبع في مكانه خلف العنقريب الضخم، بدت عمتي سعيدة وحزينة في نفس الوقت، كنَّا نأكل البلح بالزيت، وبين حينٍ وآخر كنتُ أنتبه إلى أن عمتي تهيم بأفكارها بعيدًا، ظننت في بادئ الأمر أنها مريضة، ولكنها أكدت لي أن صحتها على أتمِّ ما تكون وأنها فقط تسمع أصواتًا، سألتني: بتسمعي الأصوات دي؟

كانت الأصوات تأتي من بعيد جدًّا كصليل الأجراس، ثمَّ أخذتْ تعلو وتعلو.

– دا شِنو؟

أكدتْ لي أنها مثلي لا تدري عن أمر الأصوات شيئًا، وأثناء ما نحن نتداول الأمر إذا بالنقود تتساقط في البرميل كالمطر، كانت عملة معدنية لها بريق، ظلَّت عمتي تنظر في صمت وهي تمسك بيدي لكي لا أخاف أو أهرب، ولم تجب على سؤالي المتكرر لها: دا شُنُو يا عمتي، دا شُنُو؟

إلى أن امتلأ البرميل تمامًا، واختفى الصوت، حينها قالت لي عمتي: القروش رجعت!

في البيتِ الكبير وجدتُ الأسرةَ كلها تجلس للغداء، كانوا يَشكون من الاختفاء المفاجئ للنقود التي وهبتها إليهم عمتي، يعرفون أن النقود رجعت إلى عمتي، ويلومون في ذلك الجن الذي يسكن معها في قُطِيتها، وحذرتني أمي من دخول القطية مرة أخرى، مؤكدة لي أن الجان الذي يتزوج عمتي قد يتخذني أنا أيضًا زوجة ثانية له.

الخرطوم
١٦ / ٧ / ٢٠٠٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤