الرَّجل المَيِّت

اقتسمَ المقاتلون حاجياته القليلة؛ أخذوا حذاءه وبذلته الحربية، حيث إن زيَّهم العسكري هو نفس ما يرتديه جنودنا، ولم يبقونه سوى بلباسه الداخلي المبتل بالدماء، ويبدو أنه قد جُرح في إليته أو مكان قريب من هنالك، كان يقف بصعوبة بوجه منكفئ نحو الأرض، لم يرفع رأسه مطلقًا لينظر إليَّ في عيني، أو ربما أنا الذي لم أستطع أن أرفع رأسي لأتفرَّس وجهه، كما أدركتُ فيما بعد.

لأسباب أمنية استخباراتية احتفظوا لي بموبايله، كان جهازًا بسيطًا من ماركة نوكيا يسمونه ريبكا، وهو منتشر بين العساكر لسعره الرخيص، ويُشاع أنه قوي البنية وله بطارية تحتفظ بالطاقة الكهربائية لزمن أطول، ويُستخدم أيضًا للإضاءة الليلية في وسط محدود، وضعته في جيب بذلتي العسكرية مع بطاقته، دونت اسمه ورتبته العسكرية في دفتر أحوال الميدان، وهو دفتر صغير أحتفظ به وأسميه بهذا الاسم المريب، أستخدمه في حياتي اليومية كمدونة لما تمر بي من أحداث وتراوغني من أفكار، كالعادة طلبتُ منهم أن يحتفظوا بالأسير في مؤخرة الصندوق، ولكن الجنديين ضحكا من سذاجتي، وقال لي أكبرهم رتبة: بلكنته المحلية فيما يعني: ماذا نفعل به، لا يوجد مكان للأسرى، ليس بآخر الصندوق أو أوله، وإذا لم نقتله نحن سيقتله الآخرون.

ووضع في أذني الجملة الكريهة التي مللت سماعها، وأُصاب بالغثيان كلما فكرتُ فيها وهي: إكرام الأسير قتله.

ثم أضاف: دعنا نتخلص من هذا الرجل الميت.

وركله بسخرية بمقدمة بندقيته، بينما ظلَّ الرجل كما هو بائسًا منكسًا رأسه، يرتجف قليلًا، يسيل الدم من تحت لباسه القصير في شكل خيط رفيع أحمر، شديد الاحمرار.

قلت مندهشًا، محاولًا ألا تلتقي عيناي بعينيه: الرجل الميت؟

– نعم، إنه ميت ميت.

– إنه يمشي ويتنفس ويرتجف، كيف يكون ميتًا؟

قال لي وهو يركله مرة أخرى: صدقني إنه ميت، ألم ترَ ميتًا يمشي في حياتك ويتنفس ويرتجف؟

إذا لم ترَ ذلك من قبل فإنك تراه الآن، تكلم معه فإنه لا يسمعك ولا يرد، خلينا نتخلص منه عشان نشوف أشغالنا الأخرى.

نظرا إليَّ فيما يعني أيضًا أن عيِّنَة هؤلاء الضباط جبناء، لا يفقهون في الحرب شيئًا، لا يفهمون في الموت، يعني أنني أخاف أن أرى شخصًا يُقتل أو أقتل شخصًا أو آمر بقتله أو أشاهده ميتًا، وأنهما سيتوليان أمره بطرائقهما الخاصة، كررت أوامري بأن يتم سحبه إلى مؤخرة الصندوق وأن يعودا إليَّ بأسرع ما يمكن، ولولا خفت من أن أُتهم بالخيانة والعمالة لطلبت منهما أن يعرضاه لطبيب مستشفى الطوارئ الميداني بأسرع ما يمكن، كما لو أنه كان واحدًا من جنودنا الجرحى، وقد يبدو كأي مواطن عادي طالما لم يحمل بندقية ولا يرتدي الزي العسكري، لا يستطيع أحد أن يميِّز أنه من المتمردين، لا شيء يميزه إطلاقًا، إلا إذا صادف أحدًا من أقاربه أو معارفه الأقربين في المستشفى الميداني، وكانت بينهما ضغائن لم يمحها الزمن، وإذا أطلقا سراحه فهو أيضًا يستطيع أن يتدبر أمر نفسه وينجو.

كنتُ مشغولًا بوضع خطة هجوم جديدة بعد أن نجحت الأولى نجاحًا باهرًا نسبة لعنصر المفاجأة الذي صُممت عليه، لم يكن جيش العدو بعيدًا عنَّا، لقد اعتصموا بخنادقهم خلف الغابة، عند خور المرفعين، وكان الحلُّ العسكري الوحيد هو ضربهم بالمدفعية والراجمات من وراء مؤخرة الصندوق، مع الزحف البطيء بالمدرعات والمشاة نحو دفاعاتهم الأمامية، كنتُ أنا قائد «جماعة» المقدمة، معي ضابطان آخران، عددنا جميعًا ثلاثة وثلاثون فردًا، لم يتم اختيارنا عشوائيًّا لقد كنت أعرف المكان جيدًا، إنه أحد ميادين لعبي وأنا طفل، وعندما كبرت قليلًا صرت أُخرِج مع أصدقائي الصبيان من بين ترابه الذهبَ، يقولون معرفة ميدان المعركة كسبٌ لنصف الحرب، علينا أن نحافظ على أرواحنا ونستطلع قوة مقدمة العدو، ونقترح تكتيك الهجوم، كان من المفيد في هذا الشأن أن يتم اختيار ضابط ميداني غيري؛ لأنني قبل كل شيء غير مقتنع بالأسباب الأساسية لهذه الحرب، وأنني أيضًا لا أرى مبررًا منطقيًّا من قتل جندي ليست بيننا أية مشكلة أو سوء تفاهم، بالعكس إذا كنَّا قد التقينا في ظرف آخر غير هذا المكان البغيض لنشأت بيننا علاقة رائعة، وربما سكرنا معًا، غنينا ورقصنا على أنغام الكلش وتشاجرنا شجارًا حميمًا في بنت جميلة، إنني أيضًا لا أرى سببًا منطقيًّا يجعلني أضحي بحياتي من أجله، أنا سوداني أحارب سودانيين آخرين، لهم قضية معروفة يناضلون من أجلها، أتفق فيها معهم أم أختلف ليست هي القضية، أنا لا أفهم فيم أحارب ولأجل ماذا، لم يستشرني أحد في الحضور، بل كُلفت بسرعة ووضعت جماعة بكامل عتادها العسكري تحت إمرتي وتوجهت لميدان المعركة، وكنت أتمنى أن أموت في بيتي أو في الدفاع عن وطني، وأعرف أن كثيرًا جدًّا من الأراضي السودانية محتلة من قِبل دول الجوار، ربما كنت أجد مبررًا معقولًا لخوض معركة ضد عدو احتل أرضي، والأدهى والأمر أنني من ذات المجموعة القبلية التي أحاربها وأهزمها الآن، وقد تهزمني في دورة أخرى، وربما إذا كنت دقيقًا فإن المدفعية التي تعمل منذ أكثر من ساعتين تُسقط قذائفها في القرية التي ولدتُ فيها بعد أن هرب أهلي بالطبع إلى دولة مجاورة كلاجئين، بقدر ما أنا أعي حقيقة الأشياء بقدر ما أمضي قُدمًا في وضع الخطط الفاعلة من أجل أن ننتصر، فلا يعني أنني أفهم جوهر الحرب أن يفهما ما نسميه العدو بنفس الطريقة، أقصد الذين نحاربهم وهم الذين إذا وقعتُ في يدهم أسيرًا أو جريحًا سيذبحونني في الحال؛ لأنهم يعتبرونني خائنًا لشعبي، وطني وعشيرتي، وأنهم يعرفون أيضًا، أنني أنا الذي يضع الخطط العسكرية الهجومية والدفاعية في هذه المنطقة بالذات للقضاء عليهم، لا أحدَ غيري من الجنود والضباط وُلد هنا، عندما تكون في ميدان المعركة يصبح دافعك الوحيد هو أن تظلَّ حيًّا، وتفعل كل ما يمكنه أن يحقق لك تلك الرغبة الإنسانية المتأصلة، وهي ذاتها التي تصير في غاية الوحشية عندما تدفعك لقتل الآخر دون تردد؛ لأنك تظن أنك إذا لم تقتله فإنه سيقتلك، وهو أيضًا يحمل ذات الظنون الشيطانية ولا يرى فيك سوى بندقية تطلق الرصاص.

مرت تلك الأيام بمراراتها وانتهت تلك المعارك التي انتصرنا فيها وعدتُ إلى المدينة حزينًا، احتفلَ المنتصرون السياسيون الذين لم يذهبوا لميدان معركة في حياتهم بالنصر، أنشدوا، غنوا، رقصوا، ذبحوا الثيران البائسة، كتبتُ في دفتر الميدان الذي أحمله معي أينما ذهبت:

أحسستُ بأنني إحدى تلك النعاج السمينة التي قُدمت لنا في الغداء، وشاهدتُ فيها دمَ ذلك الرجل الميت النازف من بين ساقيه، كان يغطي اللحم مثل كريمة من الطماطم الطازجة.

وهذا السطر أعاد لي ذكراه مرة أخرى، أعادها بعنف وإلحاح عظيمين، عندما عدتُ للمنزل بدأتُ أبحث في حاجياتي عن موبايله وبطاقاته، كانت صورته تبين وجهه العريض وعينيه السوداوين الضيقتين، ويبرز شاربه بصورة حادة وكأنما كان يعتني به عناية خاصة، يبدو أنه شخص ما، ليس إنسانًا عابرًا، قرأت رتبته العسكرية مرة أخرى، رقيب إدارة، ولكنه بدا كقائد ميداني أو رجل استخبارات، كان الذكاء يشع من عينيه وتفاصيل وجهه، نظرتُ لقائمة الأسماء والأرقام المسجلة في ذاكرة موبايله؛ بعض الأشخاص تسبقهم رتبهم، وأسماء بغير ألقاب، إلى أن عثرت على ضالتي، وهو الرقم المسجل باسم «الأولاد»، وهذا يعني رقم زوجته، كانت لديَّ رغبة ملحة في أن أتعرف على ما إذا كانت له زوجة وأطفال أم لا، لا أعرف ماذا سأفعل من أجلهم أو أفعل بهم، لكن الرغبة في معرفة أحوالهم كانت تدبُّ في قلبي مثل النمل، في الحقيقة الرغبة في تتبع أخباره هو، التي تعمل في أحشائي كالمِنْجَل، استفسرت عن الرصيد الذي بالشريحة للاتصال وجدته صفرًا، أرسلت لرصيد وأضفته للشريحة، كما أنني تعرفت على رقم شريحته، عندما اتصلت على نفسي من موبايله، الآن عليَّ أن أتصل بأسرته، لا أعرف ماذا أقول لهم؛ لأنني كنت مرتبكًا جدًّا، تصرفت بغباء بالغ، اتصلت بذات موبايله بدلًا من أن أتصل من تليفوني الخاص أو أي تليفون عام بالشارع، وكانت النتيجة مذهلة، بعد الجرس الأول فقط سمعت صوتًا يهتف من الجانب الآخر بل يصرخ في شدة، لدرجة أنني اضطررت لإبعاد الموبايل عن أذني: أبي، أمي أبي يتصل، أبي، أبي يتصل، أمي أسرعي.

كان الطفل يصرخ باللغة المحلية، هي ليست لغتي الأم لكنني أجيدها أيضًا، قمت بإنهاء المكالمة وإغلاق الموبايل مباشرة، أستطيع أن أقول إن ذلك حدث بطريقة لا إرادية تمامًا، كأنما ليس أنا الفاعل، عرفت أنهم لم يعلموا بعد أن والدهم رجلٌ ميت، أحسست بتأنيب الضمير؛ لأنني زرعت في أسرته أملًا زائفًا مُربكًا، بل قد أكون أصبتهم بالرُّعب عندما أنهيتُ المكالمة بهذه الطريقة البائسة وأغلقت الموبايل، لماذا لم أكن بالشجاعة التي تجعلني أتحدث لأمهم وأخبرها بما حدث لزوجها، سيكون ذلك نبيلًا شهمًا كريمًا جدًّا وإنسانيًّا، احتقرت نفسي، كيف لي أن أتصرف كما الأطفال وأنا ما فوق الأربعين من عمري ضابط في الجيش برتبة محترمة، وقائد حربي، أعتبر نفسي أيضًا ذا ثقافة لا بأس بها، فأنا قارئ جيد في شتى مجالات المعرفة الإنسانية، مما يؤهلني أن أتصرف تصرفًا يليق بي كإنسان، قررت أن أعمل على تصحيح الوضع، وقمت بالتقصي عن مكان سكن الأسرة، كانوا في مدينة لا تبعد كثيرًا عن مكان إقامتي، وقررت أن أذهب إليهم وأحمل معي موبايله، بطاقته العسكرية، بعض الزاد من المواد التموينية والهدايا لزوجته، ولديه وبنته الكبرى، وهي حسب المعلومات في السادسة عشرة من عمرها، الولدان في العاشرة والرابعة، قدرت أن الذي رد على التليفون وصرخ مناديًا أمه هو طفل العاشرة.

في أول الشهر، أي بعد أسبوعين من حادثة المحادثة قدتُ عربتي بنفسي، مضيتُ طالبًا أسرته، كان منظره لم يبرح عيني، منكسًا رأسه، في لباس قصير، يسيل خيطٌ رفيعٌ من الدم من تحته، وحوله الجنديان يتشهيان قتله.

وصلت في منتصف النهار، كانت الشمس ساخنة، البيت يقع في حي شعبي مكتظ بالسكان، عبر طُرق ضيقة غير معبدة تضج بالحُفر والمجاري المائية الصغيرة، استطعت أن أوقف عربتي أمام باب البيت، كان بيتًا مبنيًّا من الطين اللبن، له بوابةٌ صغيرةٌ مبنية جوانبها بالطوب الأحمر، مطلية بالجير الأبيض، ويبدو الطلاء جديدًا، تجمع بعض الصِّبية والصبيات الصغار حول العربة، بعضهم أخذ يستفسر ما لو أنني أريد بيت الحاجة علوية، وهي زوجته، في الأحياء الفقيرة نسبة لغياب الآباء الطويل تُعرف الأُسر بأسماء الأمهات، أهزُّ رأسي أي نعم وأنا أطرق الباب، لحظات وانفتح، كان نحيفًا كما هو، يرتدي جلبابًا نظيفًا أبيض، شاربه مُعْتَنَى به جيدًا، ولأول مرة أنظر إليه في وجهه وعينيه السوداوين الدقيقتين، وهو يمد يده مصافحًا، قال لي مبتسمًا باللغة المحلية: أظننا تقابلنا من قبل.

هززت رأسي إيجابًا، بينما كان هو يفسح لي الطريق لكي أتقدم بالدخول إلى فناء بيته الفسيح.

الدمازين
١٦ / ١٢ / ٢٠١١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤