طائر، أسد، وجحوش

إذا شِيئَ لِي أن أقدِّر عددنا في ذلك اليوم فإننا قُرابة الستين طفلًا، تتراوح أعمارنُا ما بين السابعة والثامنة، بعضنا وأنا واحد منهم، لا تزال قنابيرنا في مقدمة رءوسنا مبللة بالزيت وعلى أعناقنا تتدلى التمائم التي تحفظُنا من العين والحسد وتبارك أيامَنا وتهبنا الحظ الجيد والخير الوفير، كنا نتحدث جميعًا في آن واحد بأعلى ما وُهبنا من أصوات، كلٌّ يريد أن يوصل صوته للآخر في خضم غابة الحناجر التي تزأر في فوضوية، كنا نتحدث عن الكرة، الطيور، الحمير، حسونة المجنون، صيد الجراد، جلب القراقير من جبل تواوا، التشعلق في الكواري ولقيط الفول السوداني من الزرائب، المطر، الحرب التي دارت مؤخرًا ما بين أولاد حي السجون وأولاد حي البوليس، والذين استعانوا بثلة من أولاد ديم النور لرد هجوم أولاد السجون على ضفاف خور مقاديف، لم ينتبه أيٌّ منَّا للأستاذ وهو يدخل الفصل إلا عندما صاح بصوت غليظ أجش: انتباه!

صمتنا، أشار علينا بيديه علامة أن نقف، ودعمها بالقول: قيام.

قمنا واقفين.

صاح: جلوس.

جلسنا، ولكنه هتف مرة أخرى: قيام!

قمنا.

– جلوس!

جلسنا وكثير منا يصدر أصواتًا تنم على عدم الرضا؛ حيث إنه لم نفهم الضرورة من هذا القيام والجلوس، ولكن ألم نأتِ للمدرسة لتعلم الأشياء التي لا نعرفها؟ شخبط الأستاذ في السبورة بطباشير أبيض شيئًا، عرفنا فيما بعد أنه: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم من أشياء كثيرة يحملها، أخرج صورة كبيرة لأسد ضخم، علَّقها على مسمار دُق في أعلى السبورة، كان أسدًا جميلًا كبيرًا ينظر إلينا جميعًا في آن واحد، أشار الأستاذ إليه بالمسطرة الطويلة وصاح فجأة: ما هذا؟

فصحنا خلفه: ما هذا؟

نظر إلينا الأستاذ في استغراب، ولكن في فمه ابتسامة صغيرة مخفية بإتقان؛ وذلك للحفاظ على هيبته.

قال: يا أولاد، ما هذا معناها: دَا شُنُو، لمَّان أقول ليكم: ما هذا؟ يعني أنا بسألكم دَا شُنُو، فاهمين؟

هززنا رءوسنا أنْ: نعم، فصاح مشيرًا بالمسطرة إلى الأسد الذي لا يزال ينظر إلى كل واحد منَّا ويكاد أن يبتسم لنا طفلًا طفلًا، لقد كان أسدًا جميلًا: ما هذا؟

هتفنا بصوت واحد: دا أسد.

قال في نفاد صبر: لا، مش دا أسد، قولوا: هذا أسد.

أشار إلى الأسد وصاح مرة أخرى: ما هذا؟

صحنا: هذا أسد.

قال مصححًا إيانا ومستدركًا خطأً ما قد وقع هو نفسه فيه: هذا أسدٌ.

عرفنا الآن أشياء كثيرة جديدة، أهمها أن الأسد اسمه «أسدن»، وليس «أسد» كما يطلقون عليه في البيت خطأً، وهذه نعمة التعليم، وسوف أخبر حبوبتي حريرة بذلك بمجرد أن أصل إلى النُّزل، همس جاري عبادي كافي وهو جارنا أيضًا في قشلاق السجون، بينما يلعب بقنبوره القصير: شايف الطيرة؟

كان طائر ود أبرق صغير الحجم أرقط يَرِكُّ أعلى السبورة، وعندما رفع المعلم المسطرة الطويلة للمرة الثانية، طار نحو عمق الفصل، وركَّ على النافذة التي قرب ود حواء زريقا، فحاول ود حواء زريقا الإمساك به ولكن الطائر كان الأسرع فحلق فوق رءوسنا باحثًا عن مخرج، فتسابقنا جميعًا دون فرز للإمساك به، صعد بعضنا على الأدراج، صعد البعض على أكتاف البعض على وعدِ تقاسم ملكية الطائر ما بين الحامل والمحمول، استخدم البعض الرمي بالكتب والكراسات في محاولة إصابة الطائر في الهواء؛ حيث لا توجد حجارة أو سفاريك في الفصل، تشعلق البعض على أعمدة السقف في محاولة جنونية للإمساك بطائر ود أبرق الشقي، لا أحد يدري شيئًا عن الأستاذ، هاج الفصل وماج، أبرق وأرعد، ضج ضجيجًا عنيفًا، ولكني استطعت أن أنهي الصراع بقفزة موفقة في الهواء مستعينًا بكتف جاري عبادي ورأس أوشيك الكبير؛ حيث وضعت عليه ركبتي وأنا أهبط على الكنبة والطائر المسكين يصوصو في يدي، قمت بسرعة بتجنيحه حتى لا يطير أو يجري ورميت به في الدرج إلى أن نعود إلى البيوت لنذبحه ونشويه ونأكله مناصفة مع أوشيك وعبادي، ولم يصمت الفصل إلا حينما سمعنا ما يشبه زئير الأسد أو هزيم الرعد، بل قل نهيقَ ألف حمار متوحشٍ في لحظة واحدة في الفصل، كان ناظر المدرسة يقف عند باب الفصل وحوله كل المدرسين والمدرسات والخفراء وبائعات الطعام وحتى عم الخير العميان الذي يسأل الناس عند باب المدرسة من حق الله، كان الناظر السمين يدق على السبورة بكل ما أوتي من قوة بكفه وهو يجعر كالثور، صمتنا، مضى زمن من الصمت طويل وثقيل، كانت أنفاس المدير تعلو وتهبط دون سبب وجيه نعرفه ولا نظن أنه يتعلق بالطائر، فالطائر ملك لمن اصطاده ولمن شارك في اصطياده، كان غضبانَ وحانقًا يتطاير الشرر من عينيه، لا بدَّ أن هنالك مكروهًا ألمَّ به: هل ماتت أمه أم مات أبوه؟ كنا ننتظر في قلق للاستماع على ما يود المدير قوله، الشيء الذي أحضر له كل هؤلاء الناس؛ عاملين بالمدرسة ومعلمين، وأخيرًا صاح وهو يحملق بعينين شريرتين نحونا ويضرب بكفه على السبورة ضربة أخيرة قاسية تُطيِّرُ الأسد المسكين في الهواء فيسقط ومعه قلوبُنا على الأرض مثيرًا عاصفةً من الغبار: ما هذا يا جحوش؟

أجبنا بصوت واحد منغم: هذا «أسدن».

الفاشر
٣ / ١١ / ٢٠٠٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤