عودة إلى الفردوس

حديثه مع آدم

فإذا رأى قلة الفوائد لديهم، تركهم في الشقاء السرمد، وعمد لمحله في الجنان، فيلقى آدم — عليه السلام — في الطريق، فيقول: «يا أبانا — صلى الله عليك، قد روي لنا عنك شعر، منه قولك:

نحن بنو الأرض وسكانها
منها خُلقنا، وإليها نعود
والسعد لا يبقى لأصحابه
والنحس تمحوه ليالي السعود»
فيقول: «إن هذا القول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء، ولكني لم أسمع به حتى الساعة.» فيقول: «فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت؟ فقد علمت أن النسيان متسرع إليك، وحسبك شهيدًا على ذلك، الآية المتلوة في قرآن محمد — صلى الله عليه: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا. وقد زعم بعض العلماء أنك سميت إنسانًا لنسيانك، واحتج١ على ذلك بقولهم في التصغير: أنيسان، وفي الجمع: أناسي، وقد روي أن الإنسان من النسيان عن ابن عباس، وقال الطائي:
لا تَنْسينَّ تلك العهود وإنما
سُميت إنسانًا لأنك ناسي»

فيقول آدم — صلى الله عليه وسلم: «أبيتم إلا عقوقًا وأذية؟ إنما كنت أتكلم العربية، وأنا في الجنة، فلما هبطت الأرض نقل لساني إلى السريانية فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله — سبحانه وتعالى — إلى الجنة عادت علي العربية، فأي حين نظمت هذا الشعر في العاجلة أم الآجلة، والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة، ألا ترى قوله: منها خلقنا وإليها نعود؟ فكيف أقول هذا المقال ولساني سرياني. وأما الجنة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها، وإنه مما حكم على العباد. وأما بعد رجوعي إليها فلا معنى لقولي: «وإليها نعود»؛ لأنه كذب لا محالة، ونحن معاشر أهل الجنة خالدون مُخَلَّدون!»

فيقول: إن بعض أهل السِّيَر يزعم أن هذا الشعر وجده يعرب في متقدم الصحف السريانية، فنقله إلى لسانه، وهذا لا يمتنع أن يكون، وكذلك يروون لك — صلى الله عليك — لما قتل قابيل هابيل:

تغيرت البلاد ومَنْ عليها
فوجه الأرض مُغبَر قبيح
وأودي رُبع أهليها فبانوا
وغودر في الثرى الوجه المليح

فيقول آدم — صلى الله عليه وسلم: «أعزز علي بكم معشر بنيَّ!

إنكم في الضلالة متهوكون،٢ آليت٣ ما نطقت هذا النظم ولا نطق في عصري، وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض!»

حديثه مع ذات الصفا

ثم يضرب سائرًا في الفردوس فإذا هو بروضة مؤنقة، وإذا هو بحيات يلعبن، فيقول: «لا إله إلا الله! وما تصنع حية في الجنة؟» فينطقها الله — جلت عظمته — بعد ما ألهمها المعرفة بهاجس الخلد، فتقول: «أما سمعت في عمرك بذات الصفا، الوافية لصاحب ما وفيٍّ، كانت تنزل بواد خصيب، وكانت تصنع إليه الجميل في ورود الظاهرة٤ والغِب. فلما ثمر بودها ماله، ذكر عندها ثاره، ووقف على صخرة وهَمَّ أن ينتقم منها، وكان أخوه ممن قتلته — فضربها، فلما وقيت ضربة فأسه والحقد يمسك بأنفاسه، ندم على ما صنع أشد الندم، وقال للحية مخادعًا: هل لك أن نكون خِلَّيْن، ودعاها بالسفه إلى حَلف فقالت: «لا أفعل أنى أجدك فاجرًا مسحورًا،٥ تأبى لي صكة٦ فوق الرأس، ويمنعك من أربك قبر محفور، وقد وصف ذلك نابغة بني ذبيان، فقال:
وإني لألقى من ذوي الضغن منهم
وما أصبحت تشكو من البث ساهرة
كما لقيت ذات الصفا من حليفها
وكانت تريه المال غبا وظاهرة
فلما رأى أن ثمر الله ماله٧
فأصبح مسرورًا، وسيد مفاقرة٨
أكب٩ على فأس بحد غُرابها١٠
مذكرة من المعاول باترة
وقام على جحر لها فوق صخرة
ليقتلها أو تخطئ الكف بادرة
فلما وقاها الله ضربة فأسه
وللبر عين لا تغمض ناظرة
فقال تعالي، نجعل الله بيننا
على مالنا، أو تنجزي لي آخره»
فقالت: «معاذ الله أفعل أنني
رأيتك مسحورًا، يمينك فاجرة
أبى لي قبر لا يزال مقابلي
وضربة فأس فوق رأس فاقرة»١١

•••

وتقول حية أخرى: إني كنت أسكن دار الحسن البصري فيتلو القرآن ليلًا، فتلقيت الكتاب من أوله إلى آخره.

ويهكر١٢ مع الأبرار المتقين لما سمع من تلك الحية، فتقول: «ألا تقيم عندنا برهة من الدهر! فإني إذا شئت انتفضت من إهابي١٣ فصرت مثل أحسن غواني الجنة، لو ترشفت رضابي١٤ لعلمت أنه أفضل من الدرياقة١٥ التي ذكرها ابن مقبل في قوله:
سقتني بصهباء درياقة
متى ما تلين١٦ عظامي تلن١٧
فيذعر منها ويذهب مهرولًا في الجنة، ويقول في نفسه: «كيف يركن إلى حية؟!» فتناديه: «هلم إن شئت اللذة، لو أقمت عندنا إلى أن تخبر ودنا وإنصافنا، لندمت إن كنت في الدار العاجلة قتلت حية أو عثمانًا.»١٨ فيقول: «لقد ضيق الله على مراشف الحور الحسان أن رضيت بترشف هذه الحية».

عودة إلى حوريته

فإذا ضرب في غيطان من الجنة لقيته الجارية التي خرجت منها تلك الثمرة، فتقول: «إني لأنتظرك منذ حين، فما الذي شجنك١٩ عن المزار؟ ما طالت الإقامة معك، فأمل بالمحاورة مسمعك!» فيقول: «كانت في نفسي مآرب من مخاطبة أهل النار، فلما قضيت من ذلك وطرًا عدت إليك، فاتبعيني بين كثب العنبر وأنقاء٢٠ المسك»، فيتخلل بها أهاضب الفردوس، ورياض الجنان، فيقول: أيها العبد المرحوم أظنك تحتذي بي فعال الكندي٢١ في قوله:
فقمت بها أمشي، تجر وراءنا
على أثرينا ذيل مرط٢٢ مرحَّل٢٣
فلما أجزنا٢٤ ساحة الحي٢٥ وانتحى
بنا بطن٢٦ خبت٢٧ ذي حِقاف٢٨ عقنقل٢٩
هصرتُ٣٠ بفَوْدِي رأسَها٣١ فتَمايلتْ
على هضيم الكَشْح٣٢ رَيَّا المُخَلْخَل٣٣
فيقول: «العجب لقدرة الله! لقد أصبت ما خطر في السويداء٣٤ فمن أين لك علم بالكندي، وإنما نشأت في ثمرة تبعدك من جن وأنيس؟ فتقول: إن الله على كل شيء قدير».
ويعرض له حديث امرئ القيس في دارة جلجل،٣٥ فينشئ الله — جلت عظمته — حورًا يتماقلن٣٦ في نهر من أنهار الجنة، وفيهن من تفضلهن، كصاحبة امرئ القيس، فيترامين بالثرمد، وإنما هو كأجل طيب الجنة — ويعقر لهن الراحلة،٣٧ فيأكل ويأكلن من بضيعها٣٨ ما ليس تقع الصفة عليه، من متاع ولذاذة.

حديثه مع الرجاز

ويمر بأبيات ليس لها سموق٣٩ أبيات الجنة فيسأل عنها، فيقال: «هذه جنة الرّجز.» فيقول: «تبارك العزيز الوهاب! لقد صدق الحديث المروي: «إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها.» وإن الرجز لمن سفساف القريض٤٠ فصرتم أيها النفر فقصر بكم.» ويعرض له رؤية فيقول: «يا أبا الحجاف! ما كان أكلفك٤١ بقواف ليست بالمعجبة، تصنع رجزًا على العين ورجزًا على الطاء وعلى الظاء، وعلى غير ذلك من الحروف النافرة، ولم تكن صاحب مثل مذكور، ولا لفظ يستحسن!» فيغضب رؤبة ويقول: «ألي تقول هذا، وعني أخذ الخليل وكذلك أبو عمر بن العلاء، وقد غبرت٤٢ في الدار السالفة تفتخر باللفظة تقع إليك، مما نقله أولئك عني وعن أشباهي.» فإذا رأى ما في رؤبة من الانتخاء٤٣ قال: «لو شبك رجزك ورجز أبيك لم تخرج منه قصيدة مستحسنة، ولقد كنت تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق، وإن غيرك أولى بالأعطية والصلات.» فيقول رؤبة: «أليس رئيسكم كان يستشهد بقولي ويجعلني له كالإمام؟»
فيقول: «لا فخر لك أن أستشهد بكلامك، فقد وجدناهم يستشهدون بكلام أمة وكعاء،٤٤ وكم روى النحاة عن طفل ما له في الأدب.» فيقول رؤبة: «أجئت لخصامنا في هذا المنزل؟ فامض لطيتك٤٥ فقد أخذت بكلامنا ما شاء الله!» فيقول: «أقسمت ما يصلح كلامكم للثناء، تصكون مسامع الممتدح بالجندل. ومتى خرجتم عن صفة جمل ترثون له من طول العمل، إلى صفة فرس أو كلب، فإنكم غير الراشدين.» فيقول رؤبة: «إن الله — سبحانه وتعالى — قال: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْو٤٦ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ،٤٧ وإن كلامك لمن اللغو.» فإذا طالت المخاطبة بينه وبين رؤبة، سمع العجاج، فجاء يسأل المحاجزة.٤٨

نعيم الخلد

ويذكر الشيخ ما كان يلحق أخا الندام، من فتور في الجسد من المدام، فيختار أن يعرض له ذلك من غير أن ينزف٤٩ له لب.

فإذا هو يخال في العظام الناعمة دبيب نمل، فيترنم بقول إياس بن الأرت:

أعاذل لو شربت الخمر حتى
يظل لكل أنملة دبيب
إذن لعذرتني وعلمت أني
لما أتلفت من مالي مصيب
ويتكئ على مفرش من السندس، ويأمر بالحور العين أن يحملن ذلك المفرش فيضعنه على سرير من سرر أهل الجنة، وإنما هو زبرجد أو عسجد، فيكون البارئ فيه حلقًا من الذهب تطيف٥٠ به من كل الأشراء٥١ حتى يأخذ كل واحد من الغلمان وكل واحدة من الجواري المشتبهة بالجمان٥٢ واحدة من تلك الحلق، فيحمل على تلك الحال إلى محله المشيد بدار الخلود، فكلما مر بشجرة نضحته٥٣ أغصانها بماء الورد قد خلط بماء الكافور والمسك، وتناديه الثمرات من كل أوب وهو مستلق على الظهر: «هل لك يا أبا الحسن هل لك؟» فإذا أراد عنقودًا من العنب أو غيره انقضب٥٤ له من الشجرة بمشيئة الله وحملته القدرة إلى فيه، وأهل الجنة يلقونه بأصناف التحية، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين».

هوامش

(١) أتى بالحجة.
(٢) متهورون أو متحيرون، أي أنكم واقعون في الضلالة بغير مبالاة ولا روية، أي خابطون فيها على غير هدى.
(٣) أقسمت.
(٤) الظاهرة: الإبل الواردة كل يوم نصف النهار.
(٥) مفسدًا مخادعًا.
(٦) ضربة شديدة.
(٧) نماه وكثره.
(٨) سد مفاقره، أي اغتنى وسد وجوه فقره.
(٩) أقبل ولزمه.
(١٠) حدها.
(١١) الفاقرة: الداهية التي تكسر الفقار، وهو ما تنضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجز، أي خرزات الظهر، ومعناها هنا شديدة محطمة.
(١٢) يشتد عجبه.
(١٣) جلدي.
(١٤) ريقي المرشوف.
(١٥) الدرياقة: القطعة من الدرياق، لغة في الترياق، وهو شقاء السم.
(١٦) تجعل عظامي لينة.
(١٧) يقال: لَيَّنه فلان لي.
(١٨) العثمان فرخ الثعبان.
(١٩) حبسك أو منعك.
(٢٠) جمع نقا، وهي القطعة من الرمل تنقاد محدودبة.
(٢١) امرئ القيس.
(٢٢) المرط كساء من خز أو صوف، وقد تُسمى الملاءة مرطًا.
(٢٣) منقش بنقوش تشبه رحال الإبل، ومعنى البيت أنها حين صحبتني أخذت تجر مرطها على آثار أقدامنا لتعفيها به أثناء سيرنا.
(٢٤) قطعنا.
(٢٥) فناء الحي أو رحبته.
(٢٦) البطن: مكان مطمئن حوله أمكن مرتفعة.
(٢٧) الخبت: الأرض المطمئنة.
(٢٨) جمع حقف، وهو رمل مشرف معوج.
(٢٩) العقنقل: المنعقد المتلبد من الرمل، ومعنى البيت: لما جاوزنا فناء الحي وصرنا إلى أرض مطمئنة تحوطها مرتفعات وتلال من الرمل … إلخ.
(٣٠) جذبت.
(٣١) جانبي رأسها.
(٣٢) ضامر الكشح وهو منقطع الأضلاع.
(٣٣) المخلخل موضع الخلخال من الساق، وريا المخلخل معناها هنا كثيرة لحم الساقين ممتلئتهما، ومعنى البيت: أنه جذب إليه ذؤابتيها فمالت إليه، ثم أخذ في وصفها فقال: إنها ضامر الكشح ممتلئة ساقاها لحمًا.
(٣٤) حبة القلب، أي أصبت ما في نفسي.
(٣٥) يشير إلى حادثته مع حبيبته وابنة عمه عنيزة والنساء في دارة جلجل، وقد ذكر تلك القصة في معقلته فقال:
ألا رب يوم لك منهن صالح
ولا سيما يوم بدارة جلجل
… إلخ.
وقد امتلأت بها كتب الأدب، فلا حاجة لذكرها هنا، وأشار أبو العلاء إلى هذه الحادثة في لزومياته، في قوله:
أين امرؤ القيس والعذارى
إذ مال من تحته الغبيط؟
(٣٦) يتغاططن.
(٣٧) الراحلة: النجيب الصالح لأنْ يرحل من الإبل والقوي على الأسفار، وهو يشير بذلك إلى قول امرئ القيس: «ويوم عقرت للعذارى مطيتي».
(٣٨) لحمها.
(٣٩) ارتفاع أو طول.
(٤٠) ارجع الى الجزء الخاص بحديثه مع امرؤ القيس لتزداد اقناعا بتحامله على الرجاز.
(٤١) أي ما كان أشد حبك وولعك.
(٤٢) مكثت أو ظلت.
(٤٣) التكبر والتعاظم.
(٤٤) حمقاء، وقيل الوكعاء هي الوجعاء أي التي تسقط وجعًا.
(٤٥) أي: امض لنيتك التي انتويتها أو اذهب إلى الناحية التي كنت تقصدها أو امض إلى سبيلك.
(٤٦) اللغو: ما لا يعتد به من الكلام، أو القول الباطل الذي يصدر لا عن روية وفكر.
(٤٧) فعل ما لا يحل.
(٤٨) المسالمة.
(٤٩) من غير أن يذهب له عقل.
(٥٠) تحيط به.
(٥١) الأنحاء، مفردها شرى.
(٥٢) اللؤلؤ.
(٥٣) رشته.
(٥٤) انقطع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤