الرد على رسالة ابن القارح

وقد أطلت في هذا الفصل، ونعود الآن إلى الإجابة على الرسالة: فهمت قوله: «جعلني الله فداءه، لا يذهب به إلى النفاق.» وبعد ابن آدم من الوفاق، وهذه غريزة خص بها الشيخ دون غيره، وتعايش العالم بخداع، وأضحوا من الكذب في إبداع.١

لو قالت شيرين الملكة لكسرى: «جعلني الله فداءك» لَخَالبته في ذلك ونافقته، وإن راقته ووافقته، على أنه أخذها من حال دنية فجعلها في النعمى، وعتبه في ذلك الأحباء وجرت لهم في ذلك قصص وأنباء، وقيل له — فيما ذكر: «كيف تطيب نفس الملك لهذه المومس؟» فضرب لهم المثل بالقدح، جعل في الإناء الشعر والدم، وقال للحاضر: «تجيب نفسك لشرب ما فيه؟» فقال: «إنها لا تطيب وهي بالأنجاس».

فأراق ذلك الشيء وغسله، وجعل فيه من بعد مدامًا، وعرضها على الندامى، فكلهم بهش٢ أن يشرب، فقال: «هذا مثل شيرين».
كم من شبل نافق أسدًا، وأضمر له غلًّا وحسدًا، وضيغم نقم على فرهود، وود لو دفنه، والفرهود ولد الأسد، وهو — آنس الله الإقليم بقربه — أجلُّ من أن يشرح له مثل ذلك، وإنما أفرق من وقوع هذه الرسالة في يد غلام مُتَرَعْرِع،٣ ليس إلى الفَهْم بمُتَسَرِّع، فتستعجم عليه اللفظة، فيظل معها في مثل القيد.
يقول القائل: «بأبي أنت!» وإنما جامل أو سدج٤ ولعل بعض العتارف٥ يلفظ إلى البائضة حبة البر ويأنس بها، وفي فؤاده من الضغن أعاجيب.

•••

وكيف يقول الخليل المخلص: إن حنينه حنين واله من النوق، وهي الذاهلة أن حمل عليها بعض الوسوق، وإنما تسجع ثلاثًا أو أربعًا، ثم يكون سلوها متبعًا.

فأما الحمامة الهاتفة، فقد رزقها البارئ صيتًا شائعًا، وظل وصفها بالأسف ذائعًا، تنهض إلى التقاط حب، وتعود إلى جوز لها٦ ذات أب٧ ثان هي صادفته أكيل باز، فما هي إلا مثل الحيوان، نمل حالها في أقصر أوان، وقد زعم زاعم لا يصدق، أن الحمائم في هذا العصر، يبكين مقعدًا هلك في عهد نوح، وأن دوامها على ذلك لدليل الوفاء.٨

وكيف يعتب الزمن على تجافيه، وإنما حشى بشر وغدر وما أقل صدق الآلاف!

وليس خليلي بالملول ولا الذي
إذا غبت عنه باعني بخليل

•••

وأما ما ذكره عن حالي، فطال ما أعطي الوسن سعودا٩ وأحلف كيمين امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
إني لمكذوب عليه، كما كذبت العرب على الغول، وكما تقولت الأمثال السائرة على الضب، وكما تكلمت على لسان الضبع وهي خرساء يظن أني من أهل العلم١٠ وما أنا له بالصاحب وتلك لعمري بلية، والعلوم تفتقر إلى ممارسة، ويقال إني من أهل الدين، ولو ظهر ما وراء السدين،١١ ما اقتنع لي الواصف بسب.

وكيف تدعي للعلج الوحشي، أن تغريده في السحر أشعار موزونة، وهل يصور لعاقل أن الغراب الناعب صاج بتشبيب؟ فبعد من زعم أن الحجر متكلم، وأنه عند الضرب متألم.

ولو أني لا أشعر بما يقال في، لأرحت، وكنت كالوثن سواء عليه أن وقر وأن أوقر، وكالأرض السبخة ما نحفل أن قيل هي مريعة، أو قيل بئست الزريعة.١٢
وكيف أغتبط إذا تخرصَ علي، وعزيت المعرفة إلي، ولست آمنًا في العاقبة فضيحة، ومثلي إن جذلت بذلك مثل من اتهم بمال، فسرَّه قول الجهلة أنه لحلف اليسار، فطلب منه بعض السلاطين أن يحمل إليه جملة وافرة، فصادف أكذوبة، وضربه كي يقر، وقتل في العقوبة، وقد شهد الله أني أجذل بمن عابني؛ لأنه صدق فيما رابني، واهتم لثناء مكذوب١٣ فغفر الله لمن ظن حسنًا بالمسيء، ولولا كراهيتي حضورًا بين الناس، وإيثاري أن أموت ميتة علهب١٤ في كناس،١٥ فاجتمع معي أولئك الجائلون، لصح أنهم عن الرشد حائلون.

وأما وروده حلب — حرسها الله — فلو كانت تعقل، لفرحت به فرح الشمطاء شحط سليلها الواحد، وقدم بعد أعوام. فالحمد لله الذي أعاد البارق إلى الغمام الوسمي.

•••

وإني لأعجب من تمالئ جماعة على أمر ليس بالحسن ولا الطاعة، قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الحبار، ولم أصلح نخلتي يابار، وقيل لبعض الحكماء: «إن فلانًا تلطف حتى قتل نفسه، وكره أن يمارس بدائع الشرور، وأحب النقلة إلى منازل السرور.» فقال الحكيم قولًا معناه: «أخطأ ذلك الشاب، هلا صبر على صروف الزمان، فإنه لا يشعر علام يقدم».

ولولا حكمة الله — جلت قدرته — وأنه حجز الرجل عن الموت بالخوف من العلز١٦ والفوت١٧ لرغب كل من احتدم غضبه، وكلَّ عن ضريبة مقضبة، أن تترع١٨ له من الموت كؤوس.١٩

أبو القطران الأسدي

وأما أبو القطران الأسدي، فصاحب غزل وتبطُّل، ومن أين لذلك الشخص ما وهبه الله للشيخ من وفاء، وإنما عاشر أبو القطران أعبدًا في الإبل وآميًا، ولعله لو صادف غانية تزيد على وحشية بشق الأبلمة٢٠ لسلاها، وإنما ديدن ذلك الرجل ونظرائه صفة ناقة أو ربع، ولو حضر أخوته حضرها الشيخ، لعاد كما قال القائل:
فلو كنت عذري العلاقة لم تبت
بطينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
وهو — قدر الله له ما أحب — قد جالس ملوك مصر التي قال فيها فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. وقد أقام بالعراق زمنًا طويلًا وبالعراق مملكة فارس، وهم أهل الشرف والظرف، ولا ريب أنه قد جالس بقاياهم، واختبر في المعاشرة سجاياهم، وعاطوه الأكؤس آلات التصاوير، كما قال الحكمي:٢١
تدور علينا الكأس في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مهى تدريها٢٢ بالقسي الفوارس٢٣

•••

وما أشك أنه — أمتع الله الآداب ببقائه — لو رزق محاورة أبي الأسود على عرجه وبخله، لكانت مقته له أبلغ من مقة مهدي ليلاه، ولو كان أبو عبيدة أزفر الفم، لما أمنت مع كلفه٢٤ بالأخبار أن يقبله شق البلسة.٢٥ وفي الحديث عن عائشة — رحمة الله عليها: «كان رسول الله يقبلني شق التينة.» وروى بعضهم شق النمرة، وذلك أن يأخذ الشفة العليا بيده والسفلى بيده الأخرى، ويقبل ما بين الشفتين.

•••

وأما من فقده من الأصدقاء لما دخل حلب — حرسها الله — فتلك عادة الزمن، يبدل من الأبيات المسكونة قبورًا، وإن رمس الهالك لبيت الحق، على أنه يغني الثاوي به بعد عدم ويكفيه المؤونة.٢٦

قال الضبي:

ولقد علمت بأن قبري حفرة
ما بعدها خوف علي ولا ندم
فأزور بيت الحق زورة ماكث
فعلام أحفل ما تقوض وانهدم

وما زالت العرب تسمي القبر بيتًا، وإن كان المنتقل إليه ميتًا.

قال الراجز:

اليوم يبني لدويد بيته
يا رب بيت حسب بنيته
ومعصم ذي برة٢٧ لويته
لو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدًا كفيته
وأما الفصل الذي ذكر فيه الخليل، فقد سقط منه اسم الذي غلا في،٢٨ ومن كان فغفر الله جرائمه، فقد أخطأ على نفسه فيما زعم وعلى، وإني لأكره بشهادة الله تلك الدعوى المبطلة كراهة المسيح من جعله رب العزة، بدليل قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.٢٩

أمثال العرب

وأما حلب — حماها الله — فإنها الأم البرة، وما أحسبها — إن شاء الله — تظاهر بذميم العقوق، ولا تغفل المفترض من الحقوق، ووحشية يحتمل أن يكون الشيخ جعلها نائبة عمن فقده من الإخوان الذين عدم نظيرهم؟ وكذلك تجري أمثال العرب، يكنون فيها بالاسم عن جميع الأسماء، مثال ذلك أن يقول القائل:

فلا تشلل يد فتكت بعمرو
فإنك لن تذل ولن تضاما
يجوز أن يرى الرجل رجلًا قد فتك بمن اسمه حسان أو غير ذلك، فيتمثل بهذا البيت، فيكون عمرو فيه واقعًا على جميع من يتمثل له به، وكذلك قول الراجز: أوردها سعد وسعد مشتمل.٣٠

صار ذلك مثلًا لكل من عمل عملًا لم يحكمه، فيجوز أن يقال لمن اسمه خالد أو بكر أو ما شاء الله من الأسماء، ويضعون في هذا الباب المؤنث موضع المذكر، والمذكر موضع المؤنث، فيقولون للرجل: «الصيف ضيعت اللبن.» وإذا أرادوا أن يخبروا بأن المرأة كانت تفعل الخير ثم هلكت فانقطع ما كانت تفعله، جاز أن يقولوا: «ذهب الخير مع عمرو بن جمعة.» وهذا كثير.

شكاة الأدباء

وأما شكواه إلي فإني وإياه لكما قيل في المثل: «الثكلى تعين الثكلى.» وعلى ذلك حمل الأصمعي قول أبي دؤاد.

ويصيح أحيانًا كما استمع المضل دعاء ناشد:٣١
كلانا بحمد الله مضل فعلى من
نحمل؟ وعلى من ندل؟

أما المطية فآلية، وأما المزادة فخالية:

يشكو إلى جملي طول السرى
صبر جميل فكلانا مبتلى

ولا أرتاب في أنه يحفظ قول الفزاري، منذ خمسين حجة أو أكثر:

أعيين هلا إذ بليت بها
كنت استعنت بفارغ العقل
أقبلت تبغي الغوث من رجل
والمستغاث إليه في شغل
ولم يزل أهل الأدب يشكون الغير في كل جيل، وهو يعرفه الحكاية أن مسلمة بن عبد الملك أوصى لأهل الأدب بجزء من ماله، وقال: «إنهم أهل صناعة مجفرة.» وأحسب أنهم والحرفة خلقا توأمين، وإنما ينجح بعضهم، ثم لا يلبث أن تزلَّ قدمه، وإذا كان الأدب على عهد بني أمية يقصد أهله بالجفوة، فكيف يسلمون من بأس عند مملكة بني العباس؟ وإذا أصابتهم المحن في أيام الرشيد، فكيف يطمع لهم بالحظ؟ ومن بغى التكسب بهذا الفن فقد أودع شرابه في شن٣٢ غير ثقة على الوديعة.

•••

وأما الذين ذكرهم من المصحفين، فغير البررة ولا المنصفين، وما زال التتفل٣٣ يعرض لأذاة الأسد، وما أحسبه يشعر بمكان الحسد.
ما يضر البحر أمسى زاخرًا
إن رمى فيه غلام بحجر

•••

أوكلما طن الذباب أروعه
إن الذباب إذن علي كريم

وإن حساد البارع لكما قال الفرزدق:

فإن تهج آل الزبرقان فإنما
هجوت الطوال الشم من آل يذبل
وقد نبح الكلب النجوم ودونها
فراسخ تقصي ناظر المتأمل

أبو الطيب المتنبي

فأما من ذكره من قول أبي الطيب: «أذم إلى هذا الزمان أهيله.» فقد كان الرجل مولعًا بالتصغير، لا يقنع منه بخلسة المغير، كقوله:

من لي بفهم أهيل عصر يدعي
أن يحسب الهندي فيهم باقل

وقوله: «مقالي للأحيمق يا حليم».

وقوله: «ونام الخويدم عن ليلنا».

وقوله: «أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعر».

وغير ذلك مما هو موجود في ديوانه، ولا ملامة عليه؛ إنما هي عادة صارت كالطبع، تغتفر مع المحاسن، وهذا البيت الذي أوله: «أذم إلى هذا الزمان أهيله.» إنما قاله في علي بن محمد بن سيار بأنطاكية قبل أن يمدح سيف الدولة، والشعراء مطلق لهم ذلك؛ لأن الآية شهدت عليهم بالتخرص وقول الأباطيل: ألَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.

وأما ما ذكره من حكاية القطربلي وابن أبي الأزهر، فقد يجوز مثله، وما وضح أن ذلك الرجل حبس بالعراق، فأما بالشام فحبسه مشهور، وحدثت أنه كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب قال: «هو من النبوة.» أي المرتفع من الأرض، وكان قد طمع في شيء قد طمع فيه مَنْ هو دونه، وإنما هي مقادير، يظفر بها من وُفق، ولا يراع بالمجتهد أن يخفق، وقد دلت أشياء في ديوانه أنه كان متألهًا٣٤ فمن ذلك قوله: «ولا قابلا إلا لخالقه حكمًا» وقوله:
ما أقدر الله أن يُخزي بَرِيَّته
ولا يصدق قومًا في الذي زعموا

•••

وإذا رجع إلى الحقائق، فنُطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان؛ لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق،٣٥ ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تدينًا، وإنما يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض،٣٦ ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون، وفيما بطن ملحدون.

دعبل بن علي

وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع، وإنما غرضه التكسب، ولا أرتاب في أن دعبلًا كان على رأي الحكمي وطبقته، والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشية.

أبو نواس

وقد اختلف في أبي نواس، ادعي له التأله، وأنه كان يقضي صلوات نهاره في ليله، والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه.

سذاجة العرب

وذلك أن العرب جاءها النبي وهي ترغب إلى القصيد، وتقصر هممها عن القصيد، فاتبعه منها متبعون، والله أعلم بما يوعون، فلما ضرب الإسلام بجرانه واتسق ملكه، مازج العرب غيرهم من الطوائف، وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق، فمالت منهم طائفة كثيرة.

رسالة آدم

ولم يزل الإلحاد في بني آدم على ممر الدهور، حتى إن أصحاب السير يزعمون أن آدم — صلى الله عليه وسلم — بعث إلى أولاده، فأنذرهم بالآخرة، وخوَّفهم من العذاب، فكذبوه وردوا عليه قوله، ثم على ذلك المنهاج إلى اليوم.

زندقة قريش

وبعض العلماء يقول: «إن سادات قريش كانوا زنادقة، وما أجدرهم بذلك! وقال شاعرهم يرثي قتلى بدر، وتروى لشداد بن الأسود الليثي:

ألمت بالتحية أم بكر
فحيوا أم بكر بالسلام
وكائن بالطوى طوى بدر
من الأحساب والقوم الكرام
ألا يا أم بكر لا تكري
على الكأس بعد أخي هشام
وبعد أخي أبيه وكان قرما٣٧
من الأقرام شراب المدام
ألا من بلغ الرحمن عني
بأني تارك شهر الصيام
إذا ما الرأس زايل منكبيه
فقد شبع الأنيس من الطعام
أيوعدنا ابن كبشة٣٨ أن سنحيا
وكيف حياة أصداء٣٩ وهام
أتترك أن ترد الموت عني
وتحييني إذا بليت عظامي

ولا يدعي مثل هذه الدعاوى إلا من يستبسل وراءها للحمام، ولا يأسف له عند المام.»

عودة إلى أبي الطيب المتنبي

وحدثت أن أبا الطيب، لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم، قالوا له وقد تبينوا دعواه: ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل، وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل، فتحيل حتى وثب على ظهرها، فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها، ومشت مشي المسمحة،٤٠ وأنه ورد بها الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم.

وحدثت أيضًا أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام، فجرحته جرحًا مفرطًا، وأن أبا الطيب نقل عليها من ريقه، وشد عليها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: «لا تحلها في يومك. وعد له أيامًا وليالي، وأن ذلك الكاتب قَبِلَ منه، فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون هو كمحبي الأموات».

وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل، أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع، فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح، ثم انصرف فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد، إنك ستجد ذلك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل ألفى الأمر على ما ذكر.

ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئًا من المطاعم مسمومًا، وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل.

والذين رووا ديوان أبي الطيب، يحكون أنه ولد سنة ثلاثمئة وثلاث، وكان طلوعه إلى الشام سنة إحدى وعشرين، فأقام فيه برهة ثم عاد إلى العراق، ولم تطل مدته هناك، والدليل على صحة هذا الخبر أن مدائحه في صباه إنما هي في أهل الشام، إلا قوله:

كفى، أراني — ويك — لومك الوما

الدهر

وأما شكيته أهل الزمان إليه، فإنه سلك في ذلك منهاج المتقدمين، وقد كثر المقال في ذم الدهر٤١ حتى جاء الحديث: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر.» وقد عرف معنى هذا الكلام، وأن باطنه ليس كظاهره؛ إذ كان الأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — لم يذهب أحد منهم إلى أن الدهر هو الخالق ولا المعبود، وقد جاء في الكتاب الكريم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ.
وقول بعض الناس: «الزمان حركة الفلك؛ لفظ لا حقيقة له. وفي كتاب سيبويه ما يدل على أن الزمان عنده مضي الليل والنهار، وقد حددته حدًّا ما أجدره أن يكون قد سبق إليه إلا أني لم أسمعه، وهو أن يقال: الزمان شيء أقل جزء منه يشتمل على جميع المدركات، وهو في ذلك ضد المكان؛ لأن أقل جزء منه لا يمكن أن يشتمل على شيء كما تشتمل عليه الظروف. فأما الكون فلا بد من تشبثه بما قل وكثر».٤٢
الدهر لاءم بين ألفتنا
وكذاك فرق بيننا الدهر

وقول أبي صخر:

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

لم يدع أن أحدًا منهم كان يقرب للأفلاك القرابين، ولا يزعم أنها تعقل، وإنما ذلك شيء يتوارثه الأمم في زمان بعد زمان.

وكان في عبد القيس شاعر يقال له شاتم الدهر، وهو القائل:

ولما رأيت الدهر وعرًا سبيله
وأبدى لنا وجهًا أزب مجدعا
وجبهة قرد كالشراك ضئيلة
وأنفًا ولرى بالعثانين أخدعا
ذكرت الكرام الذاهبين أولي الندى
وقلت لعمرو والحسام ألا دعا

الزندقة والزنادقة

وأما غيظه على الزنادقة والملحدين، فأجره الله عليه، كما أجره على الظمأ في طريق مكة، واصطلاء الشمس بعرفة، ومبيته بالمزدلفة، ولا ريب أنه ابتهل إلى الله سبحانه في الأيام المعدودات، أن يثبت هضاب الإسلام.

ولكن الزندقة داء قديم، وقد رأى بعض الفقهاء أن الرجل إذا ظهرت زندقته، ثم تاب فزعًا من القتل، لم تقبل توبته، وليس كذلك غيرهم من الكفار؛ لأن المرتد إذا رجع، قبل منه الرجوع، ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، وقد كانت ملوك الفرس تقتل على الزندقة. والزنادقة هم الذين يسمون الدهرية، ولا يقولون بنبوة ولا كتاب.

بشار بن برد

وبشار إنما أخذ ذلك عن غيره، وقد روي أنه وجد في كتبه رقعة مكتوب فيها: «إني أردت أن أهجو فلان بن فلان الهاشمي، فصفحت عنه لقرابته من رسول الله ».

وزعموا أنه كان يشار سيبويه، وأنه حضر يومًا حلقة يونس بن حبيب، فقال: «هل هنا من يرفع خبرًا؟» فقالوا: «لا.» فأنشدهم:

بني أمية هُبوا من رقادكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ليس الخليفة بالموجود فالتمسوا
خليفة الله بين الناي والعود

وكان في الحلقة سيبويه، فيدعي بعض الناس أنه وشى به، وسيبويه فيما أحسب كان أجل موضعًا من أن يدخل في هذه الدنيات.

وذكر من نقل أخبار بشار؛ أنه توعد سيبويه بالهجاء، وأنه تلافاه واستشهد بشعره، ويجوز أن يكون استشهاده به، على نحو ما يذكره المتذاكرون في المجالس ومجامع القوم.

وأصحاب بشار يروون له هذا البيت:

وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه
وما كل مؤت نصحه بلبيب

وفي كتاب سيبويه نصف هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام لم يسم قائله، وزعم غيره أنه لأبي الأسود الدؤلي.

ويقال: إن يعقوب بن داود وزير المهدي، تحامل على بشار حتى قتل. واختلف في سنه، فقيل: كان يومئذ ابن ثمانين سنة، وقيل أكثر، والله العالم بحقيقة الأمر.

ولا أحكم عليه بأنه من أهل النار، وإنما ذكرت ما ذكرت فيما تقدم؛٤٣ لأني عقدته بمشيئة الله، وإن الله لحليم وهاب.

•••

وذكر صاحب كتاب الورقة، جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووصفهم بالذندقة، وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم بها علام الغيوب، وكانت تلك الحال تكتم في ذلك الزمان خوفًا من السيف، فالآن ظهر نجيث٤٤ القوم وانقاضت التريكة٤٥ عن أخبث رأل.٤٦

عودة إلى أبي نواس

أما قول الحكمي: «تيه مغن وظرف زنديق» فقد عيب عليه هذا المعنى، وقيل إنه أراد رجلًا من بني الحارث كان معروفًا بالزندقة والظرف، وكان له موضع من السلطان.

صالح بن عبد القدوس

وأما صالح بن عبد القدوس؛ فقد شهر بالزندقة، ولم يقتل حتى ظهرت عنه مقالات توجب ذلك. ويروي لأبيه عبد القدوس:

كم أهلكت مكة من زائر
خربها الله وأبياتها
لا رزق الرحمن أحياءها
وأشوت الرحمة أمواتها

ولقد كان لصالح ابنٌ، حبس على الزندقة حبسًا طويلًا، وهو الذي يروى له:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
فما نحن بالأموات فيها ولا الأحيا
إذا ما أتانا زائر متفقد
فرحنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا
وأما رجوعه عن الزندقة لما أحس بالقتل، فإنما ذلك على سبيل الختل، فصلى الله على سيدنا محمد، فقد روي عنه أنه قال: «بُعثت بالسيف، والخير مع السيف، والخير في السيف، والخير بالسيف.» وفي حديث آخر: «لا تزال أمتي بخير ما حملت السيف.» والسيف حمل صالحًا٤٧ على التصديق، ووده عن رأي الزنديق.٤٨

الصناديقي

وأما المنسوب إلى الصناديق، فإنما يحسب من الزناديق، وأحسبه الذي كان يعرف بالمنصور، ظهر سنة سبعين ومئتين، وأقام برهة باليمن، وفي زمانه كانت القيان تلعب بالدف، وتقول:

خذي الدف يا هذه والعبي
وبثي فضائل هذا النبي
تولى نبي بني هاشم
وقام نبي بني يعرب
فما تبتغي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب
إذا القوم صلوا، فلا تنهضي
وأن صوموا، فكلي واشربي

•••

ولا تحرمي نفسك المؤمنين
من أقربين ومن أجنبي٤٩
فكيف حللت لذاك الغريـ
ـب وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن ربه
ورواه في عامه المجدب
وما الخمر إلا كماء السحا
ب طلق، فقدست من مذهب

فعلى معتقد هذه المقالة بهلة المبتهلين.

وهذه الطبقة — لعنها الله — تستعبد الطغام بأصناف مختلفة.

•••

وقد كان باليمن رجل يحتجب في حصن له، ويكون الواسطة بينه وبين الناس خادمًا له أسود؛ قد أسماه جبريل، فقتله الخادم في بعض الأيام وانصرف، فقال بعض المجان:

تبارك الله في علاه
فر من الفسق جبرئيل
وضل من تزعمون ربا
وهو على عرشه قتيل

ويقال إنه حمله على ذلك ما كان يكلفه من الفسق، وإذا طمع بعض هؤلاء، فإنه لا يقنع بالإمامة، ولا النبوة، ولكنه يرتفع صعدًا في الكذب.

ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه الأمور العظائم، بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلف من كتب القدماء إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى ذلك بعين الغبي.

ربيعة بن أمية بن خلف الجحمي

وكان ربيعة بن أمية بن خلف الجحمي جرى له مع أبي بكر الصديق — رحمه الله — خطب، فلحق بالروم، ويروى أنه قال:

لحقت بأرض الروم غير مفكر
بترك صلاة من عشاء ولا ظهر
فلا تتركوني من صبوح مدامة
فما حرم الله من السلاف٥٠ من الخمر
إذا أمرت٥١ تيم بن مرة فيكم
فلا خير في أرض الحجاز ولا مصر
فإن يك إسلامي هو الحق والهدى
فإني قد خليته لأبي بكر

•••

وافتن الناس في الضلالة حتى استجازوا دعوى الربوبية، فكان ذلك تنطسًا في الكفر، وجمعًا للمعصية، وإنما كان أهل الجاهلية يدفعون النبوة ولا يجاوزون ذلك إلى سواه.

سمير بن أدكن

ولما أجلى عمر بن الخطاب — رحمة الله عليه — أهل الذمة عن جزيرة العرب، شق ذلك على الجالين، فيقال: إن رجلًا من يهود بني خيبر، يعرف بسمير بن أدكن، قال في ذلك:

يصول أبو حفص علينا بدرة٥٢
رويدك، إن المرء يطفو ويرسب
كأنك لم تتبع حمولة مأقط
لتشبع، إن الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقًا ما ظهرتم
علينا، ولكن دولة ثم تذهب
ونحن سبقناكم إلى المين، فاعرفوا
لنا رتبة البادي الذي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا
وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا

•••

وما زال اليمن منذ كان معدنًا للمتكسبين بالتدين، والمحتالين على السحت، وحدثني من سافر إلى تلك الناحية أن به اليوم جماعة كلهم يزعم أنه القائم المنتظر، فلا يعدم جباية من مال، يصل بها إلى خسيس الآمال.

القرامطة

وحكي لي أن للقرامطة بالأحساء بيتًا يزعمون أن إمامهم يخرج منه، ويُقيمون على باب ذلك البيت فرسًا بسرج ولجام، ويقولون للهمج والطغام: «هذا الفرس لركاب المهدي، يركبه متى ظهر.»٥٣ وإنما غرضهم بذلك خدع وتعليل، وتَوَصُّل إلى المملكة وتضليل. ومن أعجب ما سمعت أن بعض رؤساء القرامطة في الدهر القديم، لما حضرته المنية، جمع أصحابه، وجعل يقول لهم لما أحس بالموت: «إني قد عزمت على النقلة، وقد كنت بعثت موسى وعيسى ومحمدًا، ولا بد لي أن أبعث غير هؤلاء.» فعليه اللعنة، لقد كفر أعظم الكفر في الساعة التي يحب أن يؤمن فيها الكافر، ويؤوب إلى آخرته المسافر.

الوليد بن يزيد

وأما الوليد بن يزيد، فكان عقله عقل وليد، وقد بلغ سن الكهل. وقد رويت له أشعار، يلحق به منها العار، كقوله:

ادنيا مني خليلي
عبد لا، دون الإزار
فلقد أيقنت أني
غير مبعوث لنار
واتركا من يطلب الجنة
يسعى في خسار
سأُرَوِّض الناس حتى
يركبوا دين الحمار

فالعجب لزمان صار مثله إمامًا، ولعل غيره ممن ملك يعتقد مثله أو قريبًا، ولكن يساير ويخاف تثريبًا. ومما يروى له:

أنا الإمام الوليد مفتخِرًا
أجرُّ بُردي، وأسمع الغزلا
أسحب ذيلي إلى منازله
ولا أبالي من لام أو عذلا
ما العيش إلا سماع محسنة
وقهوة تترك الفتى ثملا
لا أرتجي الحور في الخلود، وهل
يأمل حور الجنان مَن عقلا؟
إذا حَبتك الوصال غانية
فجازها بذلها كمن وصلا

ويقال إنه لما أحيط به — دخل القصر وأغلق بابه وقال:

دعوا لي هندًا والرباب وفَرْتَني
ومسمعة، حسبي بذلك مالا
خذوا ملككم، لا ثَبَّت الله ملككم
فليس يساوي بعد ذلك عقالا
وخلُّوا سبيلي قبل عير وما جرى
ولا تحمدوني أن أموت هزالا

فأُلب عن تلك المنزلة أي ألب، ورؤي رأسه في فم كلب، كان حق الخلافة أن تفضي إلى من هو بنسك معروف، لا تصرفه عن الرشد صروف، ولكن البلية خلقت مع الشمس، فهل يخلص من سكن في رمس؟

أبو عيسى بن الرشيد

وأما أبو عيسى بن الرشيد، فإن صح ما روي عنه فقد باين بذلك أسلافه، وما يحفل ربه بالعبيد، صائمين للخيفة ولا مفطرين؛٥٤ وكان يستحسن شعره في البيتين والثلاثة. وأنشد لي الصولي في نوادره:
لساني كتوم لأسراره
ودمعي نموم بسري مذيع
ولولا دموعي كتمت الهوى
ولولا الهوى لم يكن لي دموع

فإن كان فر من صيام شهر؛ فلعله يقع في تعذيب الدهر.

الجنابي

وأما الجنابي،٥٥ فلو عوقب بلد بمن يسكنه، لجاز أن تؤخذ به جنابة ولا يقبل لها إنابة، ولكن حكم الكتاب المنزل أجدر وأحرى، أن لا تزر وازرة وزر أخرى، فعليه اللعنة.

العلوي البصري

وأما العلوي البصري، فقد رويت له أبيات تدل على تألُّهٍ، وما أدفع أن تكون قيلت على لسانه، والأبيات:

قتلتُ الناس إشفاقًا
على نفسي كي تبقى
وحزت المال بالسيف
لكي أنعم لا أشقى
فمن أبصر مثواي
فلا يظلم إذن خلقا
فواويلي إذا ما
مت عند الله ما ألقى
أخلدًا في جوار الله
أم في ناره ألقى

•••

وأنشدني بعضهم أبياتًا قافية طويلة الوزن، وقافيتها مثل هذه القافية، قد نسبت إلى عضد الدولة، وقيل إنه أفاق في بعض الأيام فكتبها على جدار المنزل الذي كان فيه، وقد نحل فيها أبيات البصري وأشهد أنها متكلَّفة، صنعها رقيع من القوم، وأن عضد الدولة ما سمع بها قط.

•••

وأما الحكاية عن أصحاب الحديث أنهم صحفوا رخمة، فقالوا: رحمة، فلا أصدق بما يجري مجراها، والكذب غالب ظاهر، والصدق خفي متضائل.٥٦

وكذلك ادعاء من يدعي أن عليًّا — عليه السلام — قال: «تهلك البصرة بالزنج.» فصحَّفها أهل الحديث بالريح. لا أومن بشيء من ذلك ولم يكن عليٌّ — عليه السلام — ممن يُكشف له الغيب، وفي الكتاب العزيز لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ. وفي الحديث المأثور: «لا يعلم ما في غد إلا الله».

ولا يجوز أن يُخبر مُخبِر منذ مئة سنة أن أمير حلب — حرسها الله — في سنة أربع وعشرين وأربعمئة٥٧ اسمه فلان بن فلان وصفته كذا، فإن ادعى ذلك مُدَّعٍ فإنما هو متخرِّص كاذب.

النجوم

وأما النجوم فإنما لها تلويح لا تصريح، وحُكي أن الفضل بن سهل كان يتمثل كثيرًا بقول الراجز:

لئن نجوت ونجت ركائبي
من غالب ومن لفيف غالب
إني لنجاء من الكرائب

وإن غالبًا كان في مَن قتله، فهذا يتفق مثله، وأجدر بهذه الحكاية أن تكون مصنوعة، فأما ما تمثله بالشعر فغير مستنكَر.

وربما اتفق أن يكون في الوقت جماعة يسمون بهذا، فيمكن أن يقترن معنى بلفظ، على أن في الأيام عجائب، وفوق كل ذي علم عليم.

الألمعي

وقد حكي أن إياس بن معاوية القاضي كان يظن الأشياء فتكون كما ظن، ولهذه العلة قالوا رجل نقاب٥٨ وألمعي، قال أوس:
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قد رأى وقد سمعا

الحلاج

وكم افتري للحلاج،٥٩ والكذب كثير. وجميع ما ينسب إليه بما لم تجر العادة بمثله، فإنه المين لا أصدق به. ومما يُفتعل عليه أنه قال للذين قتلوه: أتظنون أنكم إياي تقتلون، إنما تقتلون بغلة المادراني، وإن البغلة وجدت في اصطبلها مقتولة.
وفي الصوفية إلى اليوم من يرفع شأنه، وبلغني أن ببغداد قومًا ينتظرون خروجه، وأنهم يقفون بحيث صُلب على دجلة، يتوقعون ظهوره،٦٠ وليس ذلك ببدع من جهل الناس.

يزيد بن معاوية

وقد روي أن يزيد بن معاوية كان له قرد يحمله على أتان وحشية ويرسلها مع الخيل في الحلبة.

رجعة إلى الحلَّاج

وأما الأبيات التي على الياء:

يا سر سر يدق حتى
يجل عن وصف كل حي
وظاهرًا باطنًا تبدّى
من كل شيء لكل شي
يا حملة الكل لست غيري
فما اعتذاري إذن إلي

فلا بأس ينظمها في القوة، ولكن قوله «إلي» عاهة في الأبيات، وكذلك قوله «الكل»، فإن إدخاله الألف واللام مكروه.

مذهب الحلول

وينشد لفتى كان في زمن الحلاج:

إن يكن مذهب الحلول٦١ صحيحًا
فإلهي في حرمة الزجاج
عرضت في غلالة بطراز
بين دار العطار والثلاج
زعموا لي أمرًا وما صح لكن
هو من إفك شيخنا الحلاج

وهذه المذاهب قديمة، تنتقل في عصر بعد عصر. ويقال: إن فرعون كان على مذهب الحلولية، فلذلك ادعى أنه رب العزة.

وحكي عن رجل منهم أنه كان يقول في تسبيحه: «سبحانك سبحاني، غفرانك غفراني.» وهذا هو الجنون، إنما من يقول هذا القول معدود في الأنعام. وقال بعضهم:

أنا أنت بلا شك
فسبحانك سبحاني
وإسخاطك إسخاطي
وغفرانك غفراني
ولم أخلد يا رب
إذا قيل هو الزاني؟

وبنو آدم بلا عقول، وهذا أمر يلقنه صغير عن كبير: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. ويروى لبعض أهل هذه النحلة:

رأيت ربي يمشي بلا لكه
في سوق يحيى، فكدت أنفطر
فقلت: «هل في اتصالنا طمع»
فقال: «هيهات، يمنع الحذر»
ولو قضى الله ألفة بهوى
لم يك إلا السجود والنظر

التناسخ

وتؤدي هذه النحلة إلى التناسخ،٦٢ وهو مذهب عتيق يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشيعة، نسأل التوفيق والكفاية. وينشد لرجل من النصيرية:
أعجبي أمّنا لصرف الليالي
جعلتْ أختَنا سكينة قاره
فازجري هذه السنانير عنها
واتركيها وما تضم الغراره

وقال آخر منهم:

تبارك الله كاشف المحن
فقد أرانا عجائب الزمن
حمار شيبان، شيخ بلدتنا،
صيره جارنا أبو السكن
بدل من مشية بحلته
مشيته في الحزام والرسن٦٣

ويصور لهم الرأي الفاسد مشبهات فيسلكون في الترهات.

مذهب التناسخ في الهند

وحكي عن بعض ملوك الهند، وكان شابًّا حسنًا، أنه جدر، فنظر إلى وجهه في المرآة وقد تغير، فأحرق نفسه، وقال: «أريد أن ينقلني الله إلى صورة أحسن من هذه».

وحدثني قوم من الفقهاء، ما هم في الحكاية بكاذبين، إنهم كانوا في بلاد محمود، وكان معه جماعة من الهند، قد وثق بصفائهم، يفيض عليهم الأعطية لوفائهم، ويكونون أقرب الجند إليه إذا حل أو ارتحل، وأن رجلًا منهم سافر في جيش جهزه، فجاء خبره أنه قد هلك، فجمعت امرأته لها حطبًا كثيرًا، وأوقدت نارًا عظيمة، واقتحمتها، والناس ينظرون، وكان ذلك الخبر باطلًا، فلما قدم الزوج، أوقد له نارًا عظيمة ليحرق نفسه، حتى يلحق بصاحبته، فاجتمع خلق كثير للنظر إليه، وأن أصحابه من الهند كانوا يجيئون إليه فيوصونه بأشياء إلى أمواتهم٦٤ هذا إلى أبيه، وهذا إلى أخيه، وجاءه إنسان منهم بوردة وقال: «أعط هذه فلانًا» يعني ميتًا له، وقذف نفسه في النار.

•••

وحدث من شاهد إحراقهم نفوسهم، أنهم إذا لدغتهم النار أرادوا الخروج، فيدفعهم من حضر إليها بالعصي والخشب، فلا إله إلا الله؛ لقد جئتم شيئًا إدًّا.

ابن هانئ الأندلسي

وفي الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصل به إلى الدنيا الفانية،٦٥ وكان لهم في المغرب رجل يُعرف بابن هانئ، وكان من شعرائهم المجيدين، فكان يغلو في مدح المعز غلوًّا عظيمًا، حتى قال فيه وقد نزل بموضع يقال له رقادة:
حل برقادة المسيح
حل بها آدم ونوح
حل بها الله ذو المعالي
وكل شيء سواه ريح

عودة إلى الحلاج

وأدل رُتب الحلاج أن يكون شعوذيًّا لا ثاقب الفهم، على أن الصوفية تعظمه منهم طائفة، ما هي لأمره شايفة.

ابن أبي عون

وأما ابن أبي عون، فإنه أخذ في لون بعد لون، وقد تجد الرجل حاذقًا في الصناعة، بليغًا في النظر والحجة، فإذا رجع إلى الديانة ألفي كأنه غير مقتاد، وإنما يتبع ما يعتاد، والتأله موجود في الغرائز، ويلقن الطفل الناشئ ما سمعه، فيلبث معه، والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه، كنقل الخبر عن المخبر لا يميزون المصدق من المكذب، فلو أن بعضهم ألفى أسرة من المجوس لخرج مجوسيًّا،٦٦ وإذا جعل المعقول هاديًا، نقع بريه صاديًا، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل؟٦٧ هيهات! عُدم ذلك في من تطلع عليه الشمس، ومن ضمنه في الرمم رمس، إلا أن يشذ رجل في الأمم، يخص من فضل بعمم.

•••

وربما لقينا من نظر في كتب الحكماء، فألفيناه يستحسن قبيح الأمور، إن قدر على فظيع ارتكبه، وإن عرف واجبًا نكبه، وإن أُودع وديعة خان، وإن سئل عن شهادة مان، وإن وصف لعليل صفة، فما يحفل أَقَتَلَهُ أم ضاعف عليه الأثقال، بل غرضه فيما يكتسب، ورُب زار بالجهالة على أهل ملة، وعلته الباطنة أدهى علة.

وإن البشر لكما جاء في الكتاب العزيز: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.٦٨ ويحضر المجالس أناس طاغون، كأنهم للرشد باغون، وأولئك علم الله أصحاب البدع والمكر.
كم متظاهر باعتزال، يزعم أن ربه على الذَّرَّة يُخلِّد في النار،٦٩ بله الدرهم وبله الدينار، وما ينفك يحتقب من المآثم عظائم، وينهمك على العهار والفسق، قد صير الجدل مصيدة؛ ينظم به من الغي قصيدة.٧٠

•••

وحدثت عن إمام لهم، يوقر ويتبع؛ أنه كان إذا جلس في الشرب، ودارت عليهم المسكرة، وجاءه القدح؛ شربه، فاستوفاه، وأشهد من حضره على التوبة.

عبد الله بن ميمون القداح

والشيعة يزعمون أن عبد الله بن ميمون القداح، وهو من باهلة، كان من علية أصحاب جعفر بن محمد، وروى عنه شيئًا كثيرًا، ثم ارتد بعد ذلك، فحدثني بعض شيوخهم أنهم يروون عنه ويقولون: «حدثنا عبد الله بن ميمون القداح، قبل أن يرتد.» ويروون له:

هات اسقني الخمرة يا سنبر
فليس عندي أنني أنشر
أما ترى الشيعة في فتنة
يغرها من دينها جعفر
قد كنت مغرورًا به برهة
ثم بدا لي خبر يستر

وما ينسب إليه:

مشيت إلى جعفر حقبة
فألفيته خادعًا يخلب
يجر العلاء إلى نفسه
وكل إلى حبله يجذب
فلو كان أمركم صادقًا
لما ظل مقتولكم يُسحب
ولا غض منكم عتيق، ولا
سما عمر فوقكم يخطب
والحلولية قريبة من مذهب التناسخ، وحدثت عن رجل من رؤساء المنجمين٧١ من أهل حران، أقام في بلدنا زمانًا، فخرج مرة مع قوم يتنزهون، فمر والثور يكرب، فقال لأصحابه: «لا شك في أن هذا الثور رجل كان يعرف بخلف، بحران.» وجعل يصيح به: «يا خلف.» فيتفق أن يخور ذلك الثور، فيقول لأصحابه: «ألا ترون صحة ما خبرتُكم به؟»

وحكي لي عن رجل آخر ممن يقول بالتناسخ أنه قال: رأيت في النوم أبي وهو يقول: «ابني إن روحي قد نُقلت إلى جمل أعور في قطار فلان، وإني قد اشتهيت بطيخة.» فأخذتُ بطيخة، وسألت عن ذلك القطار، فوجدت فيه جملًا أعور، فدنوت منه بالبطيخة، فأخذها أخْذَ مُريد مُشْتَهٍ، أفلا يرى مولاي الشيخ إلى ما رمى به هذا البشر من سوء التمييز!

ابن الراوندي

وأما ابن الراوندي،٧٢ فلم يكن إلى المصلحة بمهدي، وأما تاجه فلا يصلح أن يكون نعلًا، وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة: «أف وتف» إنما هتك قميصه، وأبان للمناظر خميصه.

القرآن الكريم

وأجمع ملحد ومهتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز، ما حذي على مثال ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو بالقصيد الموزون ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سَجْع الكهنة، وجاء كالشمس، لو فهمه الهضب لتَصَدَّع. وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب.

ابن الرومي

وأما ابن الرومي فهو أحد من يقال إن أدبه كان أكثر من عقله، وكان يتعاطى الفلسفة، والبغداديون يدعون أنه متشيع، ويستشهدون على ذلك بقصيدته الجيمية، وما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء، ومن أولع بالطيرة،٧٣ وإنما هي شر مستعجل، وللأنفس أجَلٌ، وكل ذلك حذر من الموت الذي هو ربق في أعناق الحيوان.
وفي الناس من يظن أن الشيء إذا قيل، جاز أن يقع!٧٤ ولذلك قالت العامة: الإرجاف أول الكون، ويقال إن النبي تمثل بهذا البيت ولم يُتْمِمْه:
تفاءل بما تهوى يكن، فلقلما
يقال لشيء كان، إلا تحققا
ومهما ذهب إليه اللبيب، فالخير في هذه الدنيا قليل جدًّا٧٥ والشر يزيد عليه بأجزاء ليست بالمحصاة، وقال علقمة:
ومن تعرض للغربان يزجرها
على سلامته، لا بد مشئوم

•••

وكان ابن الرومي معروفًا بالتطيُّر، ومن ذا الذي أجرى على التخير، وقد جاءت عن النبي أخبار كثيرة، تدل على كراهة الاسم الذي ليس بحسن مثل: مُرَّة، وشهاب.

ونحو من حكاية ابن الرومي،٧٦ ما حكي عن امرأة من العرب أنها قالت للأخرى: «سماني أبي غاضبة، وإنما تلك نار ذات غضى، وتزوجت من بني جمرة رجلًا كان اسمه توربا، وإنما ذلك تراب، فشمتت بي الأتراب، وكان اسم أمه سوارة، فلم تزل تساورني في الخصام».
فقالت الأخرى: «لكن سماني أبي صافية، فصفوت، وزوجني من بني سعد بن بكر، فبكر على السعد، واسم زوجي محاسن، جزى الصالحة، فقد حاسن وما لاسن، واسم أبيه وَقَّاف — رعاه الله — فقد وقف على خيره، واسم أمه راضية، رضيتْ أخلاقي.» وإذا كان الرجل خثا رما،٧٧ لم يزل أن رأى حمامة فرق من الحمام٧٨ كما قال الطائي:
هن الحمام، فإن كثرت عيافة٧٩
من حائهن فإنهن حمام
وإن آنس نعامة فما يأخذها من النعيم، ويجعلها بالهلكة، يقول من الفند٨٠ أولها نعي. وإن نظر إلى عصفور، قال: عصف من الحوادث بوفور، فهو طول أبده في عناء.

•••

ولهذه الطوية جعل ابن الرومي جعفرا من الجوع والفرار، ولو هدي صرفه إلى النهر الجرار، ولكن إخوان هذه الخليقة لا يحملون الأشياء الواردة على الحقيقة.٨١
وأراد بعضهم السفر في أول السنة، فقال: «إن سافرت في المحرم، كنت جديرًا أن أُحرم، وإن رحلت في صفر، خشيت على يدي أن تصفر.» فأخَّر سفره إلى شهر ربيع، فلما سافر مرض فلم يحظ بطائل، فقال: «ظننته من ربيع الرياض، فإذا هو من ربع٨٢ الأمراض».

وأما إعداده الماء المثلوج فتعلة، وما تنقع بالحيل غلة، وتقريبه الخنجر تحرز من جان، فكم تنقض الأقضية ما بني البان، ورب رجل يحتفر له قبرًا بالشام، ثم يجشمه القدر، فيموت باليمن أو بالهند: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

وكما أن النفس جهلت مدفن عظامها، فهي الجاهلة لنظامها، كم ظان أنه يهلك بسيف فهلك بحجر.

•••

والبيتان اللذان رواهما الناجم عن ابن الرومي مقيدان، وما علمت أنه جاء عن الفصحاء هذا الوزن مقيدًا، إلا في بيت واحد، يتداوله رواة اللغة، والبيت:

كأن القوم عشوا لحم ضأن
فهم نعجون٨٣ قد مالت طلاهم
وهذا البيت مؤسس، والذي قاله ابن الرومي من غير تأسيس، وما يدري الناجم٨٤ ولعله بالفكر راجم أفي الجنة حصل ذلك الشيخ أم في السعير.

أبو تمام

وأما أبو تمام،٨٥ فما أمسك من الدين بزمام، فإن قذف في النار حبيب، فما تغنى المدح ولا التشبيب.

مناحة القصائد

ولو أن القصائد لها علم وتأسف، لأقامت عليه الممدودتان اللتان في أول ديوانه مأتمًا، فناحتا عليه كابنتي لبيد، وقالتا ما زعمه الكلابي في قوله:

وقولا هو الميت الذي لا حريمه
أضاع ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر

وكأني بهما، لو قضي ذلك — لاجتمعت إليهما الممدودات، كما تجتمع نساء من كل أوب، ولو فعلن ذلك لبارتهن البائيات بمأتم أعظم رنينًا، وإذا كان مأتم الممدودات في مئة ممَّن يسعدهن، وجب أن يكون مأتم البائيات في آلاف؛ لأن الباء طريق ركوب، والمد في القصائد سبيل منكوب، وما نظمه على التاء، فإنه لا يعجز عن الإيتاء، وتجيء التائيتان في حالك اللون، وإن التاء لقليلة في شعر العرب، إلا أنهما تستعينان كلمة كثير:

حبال سلامة أضحت رثاثا
فسقيا لها جددًا أو رماثًا

وبأراجيز رؤبة، وما كان نحوها من القوافي المتكلفة، والأشعار المتعسفة، ولهما فيما نظم ابن دريد أعوان.

فأما الداليات والرائيات وما بني على الحروف الذلل، كالميم والعين واللام وما جرى مجراهن، فلو اجتمع كل حيز منهن، لضاق عنهن الصدر والأبراد، وزدن على ما ذكر أنه اجتمع في جنازة أحمد بن حنبل من النساء والرجال.

ويقال إنه لم يجتمع في الجاهلية ولا الإسلام جَمْعٌ أكثر مما اجتمع في موت أحمد، حرز الرجال بألف ألف، والنساء بستمئة ألف، والله العالم بيقين الأشياء.

•••

وإن كان حبيب ضيع صلواته، فإنه لضال، لا يبلغ فيه كيد العداة ما بلغ من إهمال غداة. وإني لأضن بتلك الأوصال، أن يظل جسدها وهو بالموقدة صال؛ لأنه صاحب طريقة مبتدعة، ومعان كاللؤلؤ يستخرجها من غامض بحار، ويفض عنها المستغلق من المحار، فليته كالجعدي، أو ليته لحق يزيد بن مهلهل، فقد وفد على النبي وطرح عنه ثوب الغبى.

أبو مسلم الخراساني

والعجب لأبي مسلم، حطب لنار أكلته، وقتل في طاعة ولاة قتلته، وليس بأول من دأب لسواه، وأغواه الطمع، وإنما تبع سرابًا في قفر فوجد ذنبه غير المغتفر، عند صاحب الدولة أبي جعفر، وكل ساع للفانية لا بد له من الندم، وما آمن أن تكون الآخرة بأرزاق،٨٦ على أن السر مغيب، والجاهل وفوق الجاهل من ادعى المعرفة، واللعنة على الكاذبين.

علي بن أبي طالب

أما الذين يدعون في علي٨٧ — عليه السلام — ما يدعون، فتلك ضلالة قديمة.

دعوى الربوبية

وقد بلغني أن رجلًا بالبصرة يعرف بشاباس، تزعم جماعة كثيرة أنه رب العزة، وتجبى إليه الأموال الجمة، ويُحمل إلى السلطان منها قسمًا وافرًا، ليكون بما طلب ظافرًا، وهو ساقط. وحدثت عن امرأة بالكوفة يدعى لها مثل ذلك.

رجعة إلى ابن الراوندي

وقد سمعت من يخبر أن لابن الراوندي معاشر تذكر أن اللاهوت سكنه؛ ويخترصون له فضائل، يشهد الخالق وأهل المعقول، أن كذبها غير مصقول؛ وهو في هذا أحد الكفرة، وقد أنشد له منشد:

قسمت بين الورى حظوظهم
قسمة سكران بين الغلط
لو قسم الرزق هكذا رجل
قلنا له قد جننت فاستعط٨٨
ولو تمثل هذان البيتان، كانا في الإصر، يطولان أرمي مصر.٨٩

أبو جوف

وقد ظهر في الضيعة المعروفة بالنيرب، رجل يعرف بأبي جوف، كان يدعي النبوة، ويخبر بأخبار مضحكة، وكان له قطن في بيت، فقال إن قطني لا يحترق، وأمر ابنه أن يدني سراجًا إليه، فأخذ في القطن، وصرخت النساء، واجتمعت الجيرة.

•••

وحدثني من شاهد أنه كان يكثر الضحك من غير موجب، ولا عند حادث معجب، فقيل له: «لِمَ تضحك؟» فقال كلامًا معناه: «إن الإنسان ليفرح بهين قليل، فكيف من وصل إلى العطاء الجليل؟!»

وكان بين الجنون، فاتبعه الأغبياء، حتى قتله والي حلب.

عودة إلى علي بن أبي طالب

وبعض الشيعة يحدث أن سليمان الفارسي كان في نفر جاءوا يطلبون علي بن أبي طالب — سلام الله عليه — فلم يجدوه في منزله، فبينا هم كذلك، جاءت بارقة تتبعها راعدة، وإذا عليٌّ قد نزل على أجار البيت في يده سيف مخضوب بالدم.

«فقال: «وقع شجار بين فئتين من الملائكة، فصعدت لأصلح بينهما.

أفلا يرى هذه الأمة كيف افتتنت في الضلالة! وللكذب سورة ليست للصدق!

•••

وأما الذي ذكره من بلوغ السن، فإن الله — سبحانه — خلق مقرًّا وشهدًا، ورغبة في العاجلة وزهدًا، وإذا اللبيب أنعم النظر لم ير الحياة إلا تجذبه إلى الضير، صبح يتبسم وأمساء، كأنهما سيد إضراء، والعمر ثلة، وهما على السارح يغيران، فينفيان السائمة.٩٠

الزواج

وقد تحدث بعض طلاب الأدب، أنه ذكر التزويج — يريد الخدمة — فسرني ذلك؛ لأنه دل على إقامته بالوطن، وفي قربه الفرحة، إذ كان الشجرة الوارف ظلالها في الهواجر، الطيب ثمرها، والأرج نسيمها وهو يعرف حكاية الحليل عن العرب، إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، ولكن النصف.٩١

ولو نشط لهذه المأربة، لتنافست فيه العجز والمكتهلات، وهل هو إلا كما قال الأول:

يا عز هل لك في شيخ فتي أبدًا
وقد يكون شباب غير فتيان

فليس بأول من تزوج عجوزًا كما قال:

إذا ما أعرض الفتيات عني
فمن لي أن تساعفني عجوز
كأن مجامع اللحيين منها
إذا حسرت عن العرنين كوز

ويروى للحارث بن حلزة، ولم أجده في ديوانه:

وقالوا ما نكحت؟ فقلت خيرًا
عجوزًا من عرينة ذات مال
نكحت كبيرة وغرمت مالًا
كذاك البيع، مرتخص وغال٩٢

وأعوذ بالله مما قاله الآخر:

عجوز لو أن الماء يسقى بكفها
لما تركتنا بالمياه نجوز

وما زالت العرب تحمد الحيزبون والشهلة.

زواج النبي بخديجة

وقد تزوج النبي خديجة بنت خويلد، وهو شاب، وهي طاعنة في السن، وقالت له أم سلمة ابنة أبي أمية: يا رسول الله، إني امرأة قد كبرت وما أطيق الغيرة. فقال: أما قولك قد كبرت، فأنا أكبر منك، وأما الغيرة فإني سوف أدعو الله أن يزيلها عنك.

حاجة الشيخ إلى الزواج

ولا شك أنه قد استخدم في مصر أصناف جوار، ولولا أن أخا الكبرة يفتقر إلى معين، لكانت الحزامة أن يقتنع بورد المعين، فهو يعرف قول القائل:

ما العيش إلا القفل والمفتاح
وغرفة تخرقها الرياح
لا صخب فيها ولا صياح

التوبة

وأما إشفاق الشيخ، فتلك سجية الأنيس؛ لا يختص بها أخو الجبن عن الشجاع، ومن القسوط تعرض بالقنوط: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ.

كم من أديب شرب وطرب ثم تاب، فقد يضل الدليل في ضوء القمر، ثم يهديه الله، وكم استنقذ من اللج غريق فسلم.

الفضيل بن عياض

وقد كان الفضيل بن عياض، يسيم في أوبل رياض، ثم حُسب في الزهاد، وجُعل من أهل الاجتهاد، ورب خليع وهو فتى، تصدر لما كبر وأفتى، ومغن بطنبور أو عود، قدر له تولي السعود، فرقى منبرًا للعظات.

عمر بن عبد العزيز

ولعله قد نظر في طبقات المغنين، فرأى فيهم عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس؛ هكذا ذكر ابن خرداذيه، فإن يك كاذبًا فعليه كذبه.

أبو حذيفة وحماد عجرد

والحكاية معروفة، أن أبا حذيفة٩٣ كان يشارب حماد عجرد وينادمه، فنسك أبو حذيفة، وأقام حماد في الغي، فبلغه أن أبا حذيفة يذمه ويعيبه، فكتب إليه حماد:
إن كان نسكك لا يتمـ
ـمُ بغير شتمي وانتقاصي
فاقعد وقم بي كيف شئـ
ـت مع الأداني والأقاصي
فلطالما ركيتني
وأنا المقيم على المعاصي
أيام تعطيني وتأ
خذ في أباريق الرصاص

عمر بن الخطاب

أليس الصحابة — عليهم رضوان الله — كلهم كان على ضلال، ثم تداركهم المقتدِر ذو الجلال؟

وفي بعض الروايات، أن عمر بن الخطاب خرج من بيته يريد مجمعًا كانوا يجتمعون فيه للقمار، فلم يجد فيه أحدًا، فقال: لأذهبن إلى الخمار لعلي أجد عنده خمرًا، فلم يجد عنده شيئًا، فقال: لأذهبن ولأُسْلِمن، والتوفيق يجيء من الله سبحانه.

عودة إلى النبي

وفيما خُوطب به النبي وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ.

وذكر أبو معشر المدني، في كتاب المبعث، حديثًا معناه: أن النبي ذبح ذبيحة للأصنام، فأخذ شيئًا منها، فطبخ له، وحمله زيد بن حارثة، ومضيَا ليأكلاه في بعض الشعاب، فلقيهما زيد بن عمرو بن نفيل، وكان من المتألهين في الجاهلية، فدعاه النبي ليأكل من الطعام، فسأله عنه، فقال: «هو شيء ذبحناه لآلهتنا.» فقال زيد بن عمرو: «إني لا آكل من شيء ذُبح للأصنام، وإني على دين إبراهيم — صلى الله عليه وسلم.» فأمر النبي زيد بن حارثة بإلقاء ما معه.

تميم بن أوس الداري

وفي حديث آخر، وقد سمعته بإسناد، أن تميم بن أوس الداري٩٤ كان يهدي إلى النبي، في كل سنة، راوية من خمر، فجاء في بعض السنين، وقد حرمت الخمر، فأراقها.

أحمد بن حنبل

وقد ذكر عند ثعلب، أحمد بن حنبل، إن كان شرب النبيذ قط، والنبيذ — عند الفقهاء — غير الخمر، فقال ثعلب: «أنا سقيته بيدي».

الخمر

وإنما لذة الشرب فيما يعرض لهم من السكر، ولولا ذلك، لكان غيرها من الأشربة أعذب وأدفأ،٩٥ وإن كان الشيخ قد شرب فله أسوة بشيخ الأزد، محمد بن الحسن، إذ قال:
بل رب ليل جمعت قطريه لي
بنت ثمانين عروس تجتلى
ثم قال في آخر القصيدة:٩٦
فإن أمت فقد تناهت لذتي
وكل شيء بلغ الحد انتهى

وما أختار له أن يأخذ بقول الحكمي:

قالوا: كبرت، فقلت: ما كبرت يدي
عن أن تشير إلى فمي بالكاس٩٧

وقد آن لمولاي الشيخ أن يزهد في شيعة حميد الأمجي، قائل هذه الأبيات:

شربت المدام فلم أقلع
وعوتبت فيها، فلم أرجع
حميد الذي أمج داره
أخو الخمر، ذو الشيبة الأصلع
علاه المشيب على حبها
وكان كريمًا فلم ينزع

وقال آخر:

تعاتبني في الراح أم كبيرة
وما قولها — فيما أراه — مصيب
تقول: «ألا تجفو المدام، فعندنا
من الرزق تمر مكثب وزبيب؟»
فقلت: «رويدًا ما الزبيب مفرحي
وليس لتمر في العظام دبيب
فإن حميدًا علها في شبابه
ولم يصح منها حين لاح مشيب»

توبة ابن القارح

وإذا تسامعت المحافل بتوبته، اجتمع عليه الشبان المقتبلون، والأدباء المكتهلون، وكل أشيب، فيقتبسون من آدابه، ويصغون المسامع لخطابه. وجلس لهم في بعض المساجد بحلب — حرسها الله — فإنها من بعد أبي عبد الله بن خالويه عطلت من الأدب.

عودة إلى الحور

وإذا صحت الأخبار المنقولة بأن أهل الآخرة يعلمون أخبار أهل العاجلة، فلعل جواريه المعدات له في الخلد، يسألن عن أخبار من يرد عليهن من الصلحاء، فيسمعن مرة أنه بالفسطاط، ومرة أنه بالبصرة، ومرة أنه ببغداد، وخطرة أنه بحلب، فإذا شاع أمر التوبة، ومات ناسك من أهل حلب، أخبرهن بذلك فسررن وابتهجن، وهنأهن جاراتهن.

•••

ولا ريب أنه قد سمع حكاية البيتين التاليين، في كتب الاعتبار:

أنعم الله بالخيالين عينا
وبمسراك يا أميم إلينا
عجبًا! ما جزعت من وحشة اللحـ
ـد ومن ظلمة القبور علينا

رجعة إلى الخمر

أعوذ بالله من قوم يحثهم المشيب على أن يستكثروا من أم زنبق،٩٨ قال حاتم:
وقد علم الأقوام لو أن حاتمًا
أراد ثراء المال كان له وفر
يفك به العاني ويؤكل طيبًا
وليست تعريه القداح ولا اليسر
أماوي أن يصبح صداي بقفرة
من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
ترى أن ما أهلكت لم يك ضرني
وأن يدي مما بخلت به صفر

وقال طرفة:

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي

وقال ابن المعتز:

لا تطل بالكؤوس مطلي وحبي
ليس يومي يا صاحبي مثل أمسي
لا تسلني واسأل مشيبي عني
مذ عرفت الخمسين أنكرت نفسي

فهذا حثته كثرة سنيه على أن يستكثر من السلافة، وما حفظ حق الخلافة، وأنا أضن به أن يكون كأبي عثمان المازني، عوتب في الشراب فقال: «إذا صار أكبر ذنوبي تركته!»

المعتصم وإبراهيم المهدي

وقد روي أن المعتصم دعا إبراهيم كعادته، فغناه وبكى، فقال له المعتصم: ما يبكيك؟ فقال: كنت عاهدت الله إذا بلغت ستين سنة أن أتوب، وقد بلغتها، فأعفاه المعتصم من الغناء وحضور الشراب.

الهيام بالخمر

وكان في بلدنا رجل مُغرَم بالقهوة٩٩ فلما كبر رغب في المطبوخ وكان يحضر مع نداماه، وعندهم قدح واحد، فيشرب هو من المطبوخ ويشرب أصحابه من النيئ، فإذا جاء القدح إليه ليشرب، غسله من أثر الخمر وشرب فيه، فإذا فرغ المطبوخ، رجع فشرب من شراب إخوانه.
وأما مخاطبته غيره، وهو يعني نفسه، فهو كقولهم في المثل: «إياك أعني واسمعي يا جارة.» ولا عنده عن الجبلة، يريد المتنسك، أن ينصرف حبه عن العاجلة، وليس يقدر على ذلك كما لا تقدر الظبية أن تصير لبؤة ولا الحصاة أن تُتصور لؤلؤة:١٠٠  يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ.

وقول القائل:

لقد علمت، وما أنهاك عن خلق
ألا يكون امرؤ إلا كما خلقا١٠١
وكثير من الذين يتلون الآية: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وهم بها مصدقون، ومن خشية إلهمم مشفقون، يضنون بالقليل التافه ولا يسمحون للسائل،١٠٢ فكيف تكون حال من ينكر حديث الجزاء، ولا يقبل عن الفانية حسن العزاء.

أبو طلحة واليهودي

وقد مر حديث أبي طلحة، أو أبي قتادة، ومعناه: أنه خاصم يهوديًّا إلى النبي وكان لأبي طلحة حديقة نخل، وبينه وبين اليهودي خلف في نخله واحدة، فقال النبي لليهودي: أتسمح له بالنخلة حتى أضمن لك نخلة في الجنة، ونعتها رسول الله بنعوت أشجار الجنة. فقال اليهودي: لا أبيع عاجلًا بآجل. فقال أبو طلحة: أتضمن لي يا رسول الله كما ضمنت له حتى أعطيه الحديقة؟ فقال: «نعم.» فرضي أبو طلحة بذلك وأخذ اليهودي وذهب إلى حديقته، فوجد فيها امرأته وأبناءه، وهم يأكلون من جناها، فجعل يُدخل أصبعه في أفواههم فيُخرج ما فيها من التمر، فقالت امرأته: «لِمَ تفعل هذا ببنِيك؟!» فقال: إني قد بعت الحديقة. فقالت: «إن كنت بعتها بعاجل فبئس ما فعلت!» فقص عليها الخبر، ففرحت بذلك.

•••

ولو قيل لبعض عباد هذا العصر: «أعط لبنة لتُعطى في الآخرة لبنة من فضة.» لما أجاب، ولو سئل أمَةً عوراء يُعوض منها في الآخرة بحوراء لَمَا فَعَل، على أنه من المصدقين، فكيف من غذي بالتكذيب وجحد وقوع التعذيب؟

أبو هذيل العلاف

ويحكى عن أبي الهذيل العلاف، أنه كان يمر في الأسواق على حمار ويقول: «يا قوم، احذروا توبة غلامي.» وكان له غلام يَعِدُ نفسه التوبة، فسقطت عليه آجرة فقتلته.

بدء التعارف بين المعري وابن القارح

وأول ما سمعت بأخبار الشيخ، من رجل واسطي، يتعرض لعلم العروض، ذكر أنه شاهده بنصيبين وفيها رجل يُعرف بأبي الحسين البصري معلمًا لبعض العلوية. وكان غلام يختلف إليه يعرف بابن الدان، وقد اجتاز الشيخ ببلدنا، والواسطي يومئذ فيه، وقد شاهدت عند أبي أحمد عبد السلام — رحمه الله — كتبًا عليها سماح لرجل من أهل حلب، وما أشك أنه الشيخ، وهو لا يفتقر إلى تعريف بالقريض، كما قال الطائي:

تحميه لألاؤه أو لوذعيته
من أن يذال بمن، أو ممن الرجل

حجج ابن القارح

وأما حججه الخمس فهو — إن شاء الله — يستغني في المحشر بالأولى منهن، وينظر في المتأخرين من أهل العلم، فلا ريب أنه يجد فيهم من لم يحجج، فيتصدق عليهم بالأربع. وكأني به، وعماعم الحجيج يرفعون التلبية، وهو يفكر في تلبيات العرب، وأنها جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطور.

وكأني به لما اعتزم على استلام الركن، وقد ذكر قول القائل:

ذكرتك والحجيج له عجيج
بمكة، والقلوب لها وجيب
فقلت ونحن في بلد حرام
به لله أخلصت القلوب:
«أتوب إليك يا رباه مما
جنيت فقد تظاهرت الذنوب
فأما من هوى ليلي وحبي
زيارتها، فإني لا أتوب»

ولعله قد ذكر هذه الأبيات في الطواف:

أطوف بالبيت فيمن يطوف
وأرفع مئزري المسبل
وأسجد بالليل حتى الصبا
ح وأتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الكرب عن يوسف
يسخر لي ربة المحمل

وذكر عند تفرق الناس هذين البيتين:

ودِّعى القلب يا قريب، وجودي
لمحب فراقه قد أحما
ليس بين الحياة والموت إلا
أن يردوا جمالهم فتزما

وكأني به وقد مر بأنطاكية، فذكر قول امرئ القيس:

علون بأنطاكية فوق عقمة
كجرمة نحل، أو كجنة يثرب

أبو الطيب اللغوي

وأما أبو الطيب اللغوي، واسمه عبد الواحد بن علي، فلا أشك أنه قد ضاع كثير من كتبه وتصنيفاته؛ لأن الروم قتلوه وأباه، في فتح حلب. وكان ابن خالويه يلقبه: دحروجة الجبل؛ لأنه كان قصيرًا. وقد كان أبو الطيب يتعاطى شيئًا من النظم، وقد علم الله أنني لا في العير ولا في النفير، كلما رغبت في الخمول قدر لي غير المأمول. كان حق الشيخ إذ أقام في معرة النعمان سنة، أن لا يسمع لي بذكر، ولا أخطر له على فكر، والآن قد غمر أفضاله، وأظلني أدبه، وهو كريم الطبع، والكريم يخدع، ومن سمع جاز أن يخال.

ابن القارح في مصر

وأما ما ذكره من ميله في مصر إلى بعض اللذات، فهو يعرف الحديث: أريحوا القلوب تَعِ الذِّكرَ. وقال أحيحة بن الجلاح:

صحوت عن الصبا، واللهو غول
ونفس المرء آونة ملول

وقد عاشر ملوكًا ووزراء، وقد سمع أنباء النعمان الأكبر؛ إذ فارق ملكه، وتعوض من الحرير المسوح، وإياه عنى العبادي في قوله:

وتذكر رب الخورنق إذ فكـ
ـر يومًا، وللهدى تفكير
سره ملكه وكثرة ما يمـ
ـلك، والبحر معرضًا، والسدير
فارعوى جهله، فقال: «وما غبـ
ـطة حي إلى الممات يصير؟»

الهنود والخمر

والسكر محرم في كل الملل، ويقال إن الهند لا يملكون عليهم رجلًا يشرب مسكرًا؛ لأنهم يرونه منكرًا. ويقولون: «يجوز أن يحدث في المملكة نبأ والملك سكران.» لعنت القهوة!

•••

وينبغي أن يزهده في الصهباء أن نداماه الأكرمين أصبحوا في الأجداث العافية، كم جلس مع فتيان أتى عليهم الزمن، فكان كما قال الجعدي:

تذكرت والذكرى تهيج لي الهوى
ومن حاجة المحزون أن يتذكرا
نداماي عند المنذر بن محرق
فأصبح منهم ظاهر الأرض مقفرا

وهو يعرف الأبيات التي أولها:

خليلي هبا، طالما ما قد رقدتما
أجدكما لا تقضيان كراكما

وهل يعجز أن يكون كما قال الآخر:

أما الطلاء فإني لست ذائقها
حتى ألاقي بعد الموت جبارا

دنانير ابن القارح

وسرتني فيئة١٠٣ الدنانير الية، فتلك أعوان، ولها على الناس حقوق، تبر إن خيف عقوق. قال عمرو بن العاص لمعاوية: «رأيت في النوم أن القيامة قد قامت وجيء بك وقد ألجمك العرق!» فقال معاوية: «هل رأيت ثَمَّ من دنانير مصر شيئًا؟»

وهذه لا ريب من دنانير مصر، لم تجئ من عند السوق، ولكن من عند الملوك، فالحمد لله الذي سلمها إلى هذا الوقت، ولم تكن كذهب صار إلى الخمارة، كما قال:

وخمارة من بنات المجوس
ترى الزق في بيتها شائلًا
وزنا لها ذهبًا جامدًا
فكالت لنا ذهبًا سائلًا

وهي عند البله والكيس، أجود من الخاتم ذكره بن قيس، فقال:

إن ختمت حاز طين خاتمها
كما تجوز العبدية العتق

أراد بالعبدية دنانير نسبها إلى عبد الملك بن مروان، ويقال إنه أول من ضرب الدنانير في الإسلام.

•••

ودنانيره بإذن الله مقدسات، وإن كانت زائدة على الثمانين، فقد أوفت على عدة أصحاب موسى الذين جاء فيهم: وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا، وعلى عدة الاستغفار في قوله: إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ، وعلى عدة أذرع في السلسلة في قوله تعالى: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ.

ولو كانت سنو زهير مثلها لما وصف نفسه بالسآمة، ولو أدركه عروة بن حزام وهو يقول:

يكلفني عمي ثمانين ناقة
ومالي يا عفراء غير ثمان

لجاز أن يرق له فيغيثه من هذه الثمانين ببعضها، أو يسمح له بكلها؛ لأنه كريم طبع. ولو صارت في يد عروة هذه الثمانون، لبلغ بها الأمنية؛ لأن الناقة في ذلك الزمان كانت ربما اشتُريت بعشرة دراهم. وفي بعض أخبار الفرزدق، أن رجلًا من ملوك بني أمية أعطاه مئة من إبل الصدقة، فباعها بألف وخمسمئة درهم بعد ما عني به وزيد في الثمن.

الجَمل في زمن المنصور

وقد مرت به الحكاية التي يذكرها أصحاب التاريخ، أن الجَمل كان يباع في زمن أبي جعفر المنصور بدرهم، وأنه صادر قومًا من أصحابه وكانت لهم نعاج، فباعوها ثماني نعاج بدرهم؛ هذا ما وجد بخط المرزباني في تاريخ ابن شجرة.

فضل الذهب

وهي أنضر من الثمانين التي ذكرها العلوي البصري في قوله:

عبرت إليهم في ثمانين فارسًا
فأدركت منهم بغيتي ومراديا

لله در الذهب من خليل؛ فإنه يفيء بظل ظليل، ما هو كغيره بال، والدر إذا كسر ذهبت قيمته، ورب ذهب في سوار، جعل في خلخال ثم نقل إلى جام أو كاس، وهو بحسنه ما تغير لبشار النيران.

أبو بكر الشبلي

وأما أبو بكر الشبلي — رحمه الله — فلا ريب أنه من أهل الفضل، وأرجو أن يكون سالمًا من مذهب الحلولية، وأنشدني له منشد:

باح مجنون عامر بهواه
وكتمت الهوى ففزت بوجدي
وإذا كان في القيامة نودي
أين أهل الهوى؟ تقدمت وحدي

فإن صح أن هذين البيتين له فلا يمتنع أن يعترض عليه قائل، فيقول: إن ادعاءه الانفراد من العالم، لا يسلمه إليه البشر؛ إن كان هواه للمخلوقين أو الخالق فله في الأمم نظراء كثير.

ختام الرسالة

وأنا أعتذر إلى مولاي الشيخ الجليل، من تأخير الإجابة؛ فإن عوائق الزمن منعت من إملاء السوداء، وأنا مستطيع بغيري، فإذا غاب الكاتب فلا إملاء، ولا ينكر الإطالة علي؛ فإن الخالص من النضار طالما اشترى بأضعافه في الزنة من اللجين، فكيف إذا كان الثمن من النفيات،١٠٤ اللائي يوجَدن في الطرق مرميات؟
وعلى حضرته الجليلة سلام، يتبع قرومه١٠٥ إفاله،١٠٦ وتلحق بعوذه١٠٧ أطفاله.

هوامش

(١) أي في افتنان، وقد امتلأ شعر أبي العلاء ونثره بهذا المعنى وأشباهه، ومن أدق ما قاله في ذلك قوله في لزومياته:
مين يردد، لم يرضوا ببطاله
حتى أبانوا إلى تصديقه طرقا
(٢) ارتاح له وخف إليه.
(٣) ناش أو شاب.
(٤) كذب وتقوَّل الأباطيل.
(٥) جمع عتروف أو عتريف، وهو الخبيث الفاجر الجريء.
(٦) الجوزل: فرخ الحمام قبل أن ينبت ريشه، قيل: وبعد أن ينبت ريشه أيضًا.
(٧) كرر أبو العلاء هذا المعنى بصور شتى في لزومياته، فمن ذلك قوله عن الظبي:
عجبت للظبي بانت عنه صاحبة
لاقت جنود منايا لا تناخيها
فارتاع يومًا، ويومًا، ثم ثالثه
ومال بعد إلى أخرى يواخيها
ما شد صرف زمان عقدة لأذى
إلا ومر لياليه يراخيها
(٨) أشار أبو العلاء إلى هذا المعنى في كتابه سقط الزند في قوله:
أبنات الهديل أسعدن أوعد
ن قليل العزاء بالأسعاد
إيه لله دركن فأنتن اللوا
تي تحسن حفظ الوداد
ما نسيتن هالكًا في الأوان الـ
ـخال أودى من قبل هلك إياد
(٩) الوثن الصنم، ومما نختاره من لزومياته في هذا المعنى قوله:
وبالجد زار اللات أهل ضلالة
وعظمت العزى، وأكرم باجر
وهي أسماء أصنام ثلاثة: أولهما لثقيف وكان بالطائف، وثانيهما لقريش وكنانة، وثالثهما لقضاعة ومن والاهم.
(١٠) تبرأ أبو العلاء في مواضع كثيرة من لزومياته، من مظنة العلم، ومن أحسن ما نختاره له في هذا المعنى قوله:
أقررت بالجهل، وادعى فهمي
قوم، فأمري وأمرهم عجب
والحق، أني وأنهم هدر
لست نجيبًا، ولا هم نجب
وقوله:
الله يشهد أني جاهل ورع
فليحضر الناس إقراري وإشهادي
ورع، أي جبان.
(١١) السدين هو الستر.
(١٢) من أحسن ما نختاره لأبي العلاء في هذا المعنى قوله:
ما يحس التراب ثقلًا إذا ديـ
ـس ولا الماء يتعب الجريان
وقوله:
أما الجماد فإني بت أغبطه
إذ ليس يعلم إما زاد أو محقا
لا يشعر العود بالنار التي أخذت
فيه، ولا الأصهب الداري إذا سحقا
وقوله:
عز الذي أعفى الجماد فما ترى
حجرًا يغص بمأكل أو يشرق
متعريًا في صيفه وشتائه
ما ريع قط لملبس يتخرق
لا حس يؤلمه، فيظهر مجزعًا
إن راح يضرب ملطس أو مطرق
إلى أن يقول:
والصخر يلبث لا يقارف مرة
ذنبًا، ولا هو من حياء مطرق
ولعل هذه الميزة التي ذكرها للجماد في هذا البيت الأخير، هي التي جعلته يقول:
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذب
(١٣) مما نختاره لأبي العلاء في هذا المعنى قوله في لزومياته:
وأزهد في مدح الفتى عند صدقه
فكيف قبولي كاذبات المدائح
وقوله:
إذا كان التقاوض من محال
فأحسن من مدائحنا التهاجي
(١٤) العلهب الظبي.
(١٥) الكناس بيت الظبي في الشجر يستتر فيه، وإيثار أبي العلاء العزلة معروف بل هو من ألزم صفاته، وحسبك دليلًا على ذلك، ما لقب به نفسه من أن رهن المحبسين. والإفاضة في الاستشهاد بما قاله في الترغيب في العزلة، والحث عليها، إطالة لا فائدة فيها، فلنكتف من ذلك بقوله في فصلها:
بعدي عن الناس خير من لقائهم
وقربهم للحجى والدين أدواء
كالبيت أفرد، لا إيطاء يدخله
ولا سناد، ولا في اللفظ إقواء
وقوله متضجرًا من التكاليف الثقيلة التي يحتمها عليه الاختلاط بالناس:
لقاء الناس ألجأني برغمي
إلى حسن التجمل والنفاق
ونحب أن لا يفوت القاري جمال هذا البيت الرائع، وهو قوله:
متى ما يأتني أجلي بأرضي
فحي على الجنازة للغريب
(١٦) الرعدة أو الاضطراب والقلق والخفة والهلع.
(١٧) الضياع.
(١٨) تملأ.
(١٩) أبدع أبو العلاء في صوغ هذا المعنى في قوله:
لو لم تكن طرق هذا الموت موحشة
مخشية، لاعتراها القوم أفوجا
وكان من ألقت الدنيا إليه أذى
يؤمها تاركًا للعيش أمواجا
(٢٠) الأبلمة بقلة، وشق الأبلمة أي نصفها.
(٢١) هو أبو نواس وقد سبق ذكره.
(٢٢) تختلها.
(٢٣) هذان البيتان من قصيدة أبي نواس السينية الرائعة التي أولها:
ودار ندامى عطلوها، وأدلجوا
بها أثر منهم، جديد ودارس
ويليهما قوله:
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
(٢٤) شدة حبه.
(٢٥) التينة.
(٢٦)

رأي أبي العلاء في الموت

هذه هي أكبرة ميزة للموت، عند أبي العلاء، وهي التي حببته فيه، وربما كان أول ما يسترعي انتباهتك في شعره، تشاؤمه، ونظرته إلى العالم بمنظار شديد السواد، ومن ثَمَّ سخطه على الدنيا، وتبرمه بالحياة، التي دفعته إليها المقادير برغمه، فلاقى فيها من صنوف الأذى والعذاب، ما كان يكفي بعضه، لتبغيضه فيها، ونقمته عليها، حتى أصبح لا يرى فيها إلا سلسلة آلام طويلة متصلة الحلقات، تبدأ، لا بولادة الطفل، كما زعم ابن الرومي في قوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها، وإنها
لأوسع مما كان فيه وأرغد
بل منذ كان جنينًا في بطن أمه …
وما برح الإنسان في البؤس مذ جرت
به الروح، لا مازال عن رأسه الغرس
ثم لا تنتهي تلك الآلام إلا بموته — وفي هذه الخاتمة شك كبير عند أبي العلاء، كما سنبينه، فلا غرو إذا خص الدنيا، بأوفر قسط من الذم، وأنتن في تقبيحها حتى لقبها بأم دفر — أي أم نتن — في أكثر مخاطباته إياها، وقد جعله مزاجه السوداوي يرى الحياة مأساة مفجعة فيها كل موضع صالح للحسرة والبكاء، وليس فيها موضع واحد يصلح للسرور. وفي ذلك يقول أشعارًا كثيرة، نجتزئ منها بقوله:
أعن باكيًا لج في حزنه
وسل ضاحك القوم مم ابتهج
وقوله:
يسمى سرورًا جاهل متخرص
بغية البرى هل في الزمان سرور؟

•••

وقد أكثر أبو العلاء من التفكير في مسألة الموت، فلا تكاد تخلو من ذكره صفحة من لزومياته، حتى لأصبح من أوليات المسائل التي يدور عليها محور فلسفته، ولا نعرف له شبيهًا في هذه الخلة، سوى أبي العتاهية الذي نعده مقصرًا — رغم إكثاره — عن شأو أبي العلاء تقصيرًا بينًا. والفرق بين الرجلين في نظرنا هو فرق ما بين الفيلسوف الصادق الزَّهِد، والواعظ الذي اتخذ الوعظ ديدنًا له.

•••

ويمكن الإلمام بآراء أبي العلاء في الموت، رغم تناقضها مع الإشارة إلى سبب ذلك فيما يلي:
  • (١)

    فتارة كان يصل جزعه من الموت إلى أقصاه، ويرتاع منه، فتنبعث من نفسه صيحة مفزعة يكاد ينخلع لها قلبه، فيقول:

    يهال التراب على من ثوى
    فآه من النبأ الهائل

    ثم يصرخ من أعماق نفسه، وقد تولاه الذهول:

    أنبأنا اللب بلقيا الردى
    فالغوث من صحة ذاك النبأ

    أو يقول:

    فويها رواها السيل المنون
    كم جر عيرًا بأحمالها

    أو تنبهه فكرة طارئة، تنتابه فجأة، فيهب مذعورًا خائفًا، فيقول:

    بكر الحول بعد الحول عني
    وتلك مصارع الأقوام حولي
    كأني بالألى حفروا لحاري
    وقد أخذوا المعاول وانتحوا لي

    وفي البيت الثاني صورة مفزعة تمثل ما ألمَّ به من الهلع والرعب!

  • (٢)

    وحينا يذكر الموت فيتمناه، ولكنه يخشى ألا تكون فيه الراحة والطمأنينة اللتين أخطأهما في الحياة، فيتردد في تمنيه ويقول:

    إن كان نقلي عن الدنيا يكون إلى
    خير، وأرحب، فانقلني على عجل
    وإن علمت مآلي عند آخرتي
    شرًّا وأضيق، فانسأ رب في الأجل

    وتزداد به الحيرة والارتباك، فيقول:

    فإن خرجت إلى بؤس فواحربي
    وإن نقلت إلى نعمي فطوبى لي

    وربما خشي أن يسلبه حسه الذي يعتز به، ويتضاءل بالقياس إليه كل اعتبار آخر، حتى إنه حرم على نفسه الخمر ضنًّا أن تذهب به سورتها — كما سنبينه في حينه — فيقول:

    ولو كان يبقى الحس في فم ميت
    لآليت أن الموت في الفم أعذب

    وفي هذه الحالة ترى حنينه إلى الموت مقرونًا بشيء من الجزع والرهبة منه، على أنها نوبات فجائية، تعرض له، فتنطقه بما استشهدنا به من كلامه.

  • (٣)

    فأما يقينه الذي لا يفتأ يردده، ويتغنى به في أكثر أحايينه، فهو النزوع إلى تفضيل الموت؛ لأنه يرى فيه المنقذ الوحيد من آلام الحياة وأوصابها. وإليك نخبة مختارة من كلامه تزيدك اقتناعًا بإيمانه الثابت، بما ذكره في رسالته هنا عن الرمس، من أنه يغني الثاوي به بعد عدم ويكفيه المؤونة:

    ما أعدل الموت من آت وأستره
    فهيجيني، فإني غير مهتاج
    العيش أفقر منا، كل ذات غنى
    والموت أغنى بحق كل محتاج
    إذا حياة علينا للأذى فتحت
    بابًا من الشر، لاقاه بإرتاج

    •••

    يغني الفتى بالمنايا عن مآربه
    وتنقح الروح في طفل فيفتقر

    •••

    كأس المنية أولى بي، وأروح لي
    من أن أكابد إثراء وأحواجا

    •••

    لكون خلك في رمس أعز له
    من أن يكون مليكًا عاقد التاج
    الملك يحتاج ألافًا تناصره
    والميت ليس إلى خلق بمحتاج

    •••

    أصبح في لحدي على وحدتي
    لست إلى الدنيا بمحتاج
    كشفي رأسي وافتقاري بها
    خير من التمليك والتاج

    •••

    أن يرحل الناس ولم أرتحل
    فعن قضاء لم يفوض إلي

    •••

    متى ألق من بعد المنية أسرتي
    أخبرهم أني خلصت من الأسر

    •••

    ومن اليمن للفتى أن يجيء الـ
    ـموت يسعى إليه سميًا سريحا
    لم يمارس من السقام طويلًا
    ومضى لم يكابد التبريحا

    •••

    رقدة الموت ضجمة يستريح الجـ
    ـسم فيها فيها والعيش مثل السهاد
    تعب كلها الحياة فما أعجـ
    ـب إلا من راغب في ازدياد

    •••

    تدعو بطول العمر أفواهنا
    لمن تناهى القلب في وده
    يسر إن مد بقاء له
    وكل ما يكره في مده

    •••

    دعا لي بالحياة، أخو وداد
    رويدك إنما تدعو عليا
    وما كان البقاء لي اختيارًا
    لو أن الأمر مردود إليا

    •••

    آليت لا ينفك جسمي في أذى
    حتى يعود إلى قديم العنصر

    •••

    على البلى سيفيد المرء فائدة
    فالمسك يزداد من طيب إذا سحقا

    •••

    طال وقوفي وراء جسر
    وإنما ينظر العبور

    •••

    عشنا وحسر الموت قدامنا
    فشمر الآن لكي نعبره

    •••

    أقمت برغمي وما طائري
    براض إذا ألفته الوكون

    •••

    لعل الموت خير للبرايا
    وإن خافوا الردى وتهيبوه

    •••

    تعود إلى الأرض أجسامنا
    وتلحق بالعنصر الطاهر
    ويقضي بنا فرضه ناسك
    يمر اليدين على الظاهر

    •••

    لعل موتًا يريح الجسم من نصب
    إن العناء بهذا العيش مقترن

    •••

    متى غدوت ببطن الأرض مضطجعًا
    فثم أفقد أوصابي وأمراضي

    •••

    فمالي أخاف طريق الردى
    وذلك خير طريق سلك
    يريحك من عيشة مرة
    ومآل أضيع، ومال ملك

    •••

    هنيئًا لطفل أزمع السير عنهم
    فودع من قبل التعارف ظاعنًا

    •••

    ومسكن الروح في الجثمان أسقمه
    وبينها عنه من سقم يعافيه
    وما يحس إذا ما عاد متصلًا
    بالترب تسقيه في الهابي سواقيه
    وحبذا الأرض قفرًا لا يحل بها
    ضد تعاديه، أو خلم تصافيه

    الهابي: تراب القبر.

    روح إذا اتصلت بجسم لم يزل
    هو وحي في مرض العناء المكمد
    إن كنت من ريح فيا ريح اسكني
    أو كنت من نار، فيا نار اخمدي

    •••

    بطن البسيطة أعفى من ظواهرها
    فوسعا لي، اهرب من سعاليها

    •••

    أعفى المنازل قبر يستراح به
    وأفضل اللبس — فيما أعلم — الكفن

    ونختم هذا المختار بتلك المشاجرة الجميلة التي حدثت بينه وبين الدنيا، وأحسن تمثيلها في البيتين التاليين:

    أف لدنياي فإني بها
    لم أخل من إثم ومن حوب
    قلت لها امضي غير مصحوبة
    فقالت اذهب غير مصحوب
(٢٧) البرة: الخلخال.
(٢٨) أي الذي غلا في مدحي.
(٢٩) أشار أبو العلاء إلى ذلك في موضعين من لزومياته، أولهما قوله:
وقد شهد النصارى أن عيسى
توخته اليهود ليصلبوه
وما أبهوا وقد جعلوه ربا
لئلا ينقصوه ويجدبوه
والثاني قوله:
عجبًا للمسيح بين أناس
وإلى الله والد نسبوه
أسلمته، إلى اليهود النصارى
وأقروا بأنهم صلبوه
يشفق الحازم اللبيب على الطفـ
ـل إذا ما لداته ضربوه
وإذا كان ما يقولون في عيسـ
ـى صحيحًا فأين كان أبوه؟
كيف خلى وليده للأعادي؟
أم يظنون أنهم غلبوه؟
(٣٠) عجُز البيت هو: «ما هكذا تورد يا سعد الإبل».
(٣١) الناشد: الطالب، وهو هنا الضال الذي ينشد السبيل.
(٣٢) الشن: القربة الخلق الصغيرة.
(٣٣) الثعلب.
(٣٤) متعبدًا أو متنسكًا أو مؤمنًا بالله.
(٣٥)
أمسى النفاق دروعًا يستجن بها
من الأذى؛ ويقوي سردها الحلف
(٣٦) شنع أبو العلاء في كثير من أبيات لزومياته على هذه الفئة التي تتخذ الدين دائمًا وسيلة لنيل أعراض الدنيا، ونجتزئ من ذلك بقوله:
إذا كشفت عن الرهبان حالهم
فكلهم يتوخى التبر والورقا
مذاهب جعلوها من معائشهم
من يعمل الفكر فيها تعطه الأرقا
وقوله:
وإنما حمل التوراة قارئها
كسب الفوائد لا حب التلاوات
وقوله:
كذب لا يزال يطعم خبزًا
نص عن آدم وعن قابيل
يمتريه جذلان مهتبل الفـ
ـرة يبدي حزنًا على هابيل
(٣٧) سيدًا عظيمًا.
(٣٨) يعني به النبي .
(٣٩) موتى أو أجساد ميتة.
(٤٠) التي تلين بعد استصعاب.
(٤١) الدهر: أشعار أبي العلاء في الدهر كثيرة تملأ عدة صفحات من لزومياته، فلنجتزئ بالقليل منها عن الكثير، لإظهار مناحي رأيه المتعددة في الدهر، وإنما نسردها بلا تعليق رغبة في الإيجاز وهي قوله:
إن رابنا الدهر بأفعاله
فكلنا بالدهر مرتاب
وقوله:
إذا قيل غال الدهر شيئًا فإنما
يراد إله الدهر والدهر خادم
وقوله:
ولا عقل للدهر فيما أرى
فكيف يعاتب أن أذنبا
وقوله:
فلو تكلم دهر كان شاكيهم
كما تراهم على الإحسان يشكونه
وقوله:
صحبنا دهرنا دهرًا، وقدما
رأى الفضلاء ألا يصحبوه
وغيظ بنوه منه، وغيظ منهم
فعذب ساكنيه وعذبوه
ومن عاداته في كل جيل
غداة أن يقل مهذبوه
أساء بجهله أدبًا عليهم
فهل من حيلة فيؤدبوه
وما يخشى الوعيد فيوعدوه
ولا يرعى العتاب فيعتبوه
وقوله:
إن خَرِف الدهر فهو شيخ
يُحَقُّ بالهَترِ والزّمانَهْ
أضحى سليمًا بغير داء
لم تبد في شخصه ضمانه
أعجم قد بين الرزايا
أو جعل الشر ترجمانه
وقوله:
ويا دهر لحاك الله
ما هنأت فرحانك
(٤٢) الزمان: هذا التعريف هو في اعتقادنا أدق تعريف فلسفي صحيح عرفناه للزمن، وقد ذكره أبو العلاء في لزومياته، فقال:
وأيسر كون تحته كل عالم
واسترسل في فكرته في الشطر الثاني من هذا البيت فبيَّن سرعة الزمان، فقال: «ولا تدرك الأكوان جرد صلادم.» ثم قسم الأزمان في البيتين التاليين من هذه القصيدة إلى ماضٍ اندثر فاستحالت عودته ومستقبل آتٍ سيندثر بعد حين، فقال:
إذا هي مرت لم تعد، ووراءها
نظائر، والأوقات ماض وقادم
فما آب منها، بعد ما غاب، غائب
ولا يعدم الحين المجدد عادم
وقد ذكر شطر هذا الرأي في سقط الزند فقال:
أمس الذي مر، على قربه
يعجز أهل الأرض عن رده
وذكر الشطر الثاني منه في بيته الآخر وهو قوله:
أرى الوقت يفنى أنفسًا بفنائه
ويمحو، فما يبقي الحديث ولا الرسم
وهذا الرأي لا يناقض قوله في التدليل على قدم الزمن:
أرى زمنًا تقادم غير فان
فسبحان المهيمن ذي الكمال

•••

وبين أن القادم من الزمان (المستقبل) مجهول لا يعرف إلا بعد مرور الزمن الذي يكشف الغطاء عن أسراره، فقال:
الساع آنية الحوادث، ما حوت
لم يبد إلا بعد كشف غطائها
وقد ذكر هذا المعنى «بوب» الشاعر الإنجليزي، بصيغة أخرى، وترجمه الأستاذ العقاد، وهو:
إنما الغيب كتاب صانه
عن عيون الخلق رب العالمين
ليس يبدو منه للناس سوى
صفحة الحاضر حينًا بعد حين

•••

وكثيرًا ما شبه أبو العلاء الزمان بالطائر، فمن ذلك قوله:
وما الوقت إلا طائرًا يقطع المدى
فبادره إذ كل النهي في بداره
وقوله:
يبغي التشبث بالأوقات جائزها
هيهات ما الوقت إلا طائر طارا
(٤٣) ارجع إلى جزء «١».
(٤٤) أي بدا سرهم الذي كانوا يخفونه.
(٤٥) بيضة النعام خرج منها الفرخ.
(٤٦) ولد النعام.
(٤٧) هو صالح بن عبد القدوس الذي مر ذكره.
(٤٨) كرر أبو العلاء هذا المعنى في لزومياته بطرق شتى، فمن ذلك قوله:
إذا ما ألحدت أمم بجهل
فقابلها بتوحيد السيوف
وقوله:
تمادوا في الضلال ولم يتوبوا
ولو سمعوا صليل السيف تابوا
وقوله:
أبدى العتاهي نسكا
وتاب من ذكر عتبه
والخوف ألزم سفيا
ن أن يغرق كتبه
وأمعن في التهكم والسخرية في قوله:
تلوا باطلًا، وجلوا صارمًا
وقالوا «صدقنا؟» فقلنا «نعم!»
(٤٩) المزدكية: هذا الرأي هو رأي جماعة المزدكية، وهم أتباع المذهب المزدكي المنسوب إلى مزدك، وهو رجل ادعى النبوة على عهد خسرو قباذ والد أنو شروان، وزعم أن الله بعثه ليأمر بشيوع النساء والأموال بين الناس كافة، كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ؛ لأنهم كلهم أخوة أولاد أب واحد، وكان يتوهم أن ذلك يحسم أسباب المنازعات من بينهم؛ لأنها إنما تحدث بسبب النساء والمال، فانقاد قباذ إلى مذهبه وأباح له أن يخلو بالملكة زوجه، فترامى ابنه أنو شروان على قدمي قباذ باكيًا متوسلًا إليه؛ ليعدل عن ذلك، وما زال به حتى رجع عن فكرته، فلما ولي الملك بدأ يقتله انتقامًا منه على ما هم به، ولم يقبل توسلاته إليه، وقال له: «لن أنسى نتن قدميك حين قبلتهما.» ثم استأصل أصحابه وشيعته.
وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني نبذة مفيدة في بيان هذا المذهب، فليرجع إليها مَن شاء.
والمنصور الصناديقي هذا هو أحد من اعتنقوا ذلك المذهب ودعا إليه، وسيمر ذكره في رسالة ابن القارح، وترى كيف كان يجمع إلى دار خاصة، نساء البلد ورجالها ليلًا، ويأمرهم بالاختلاط حتى لا يتميز مال من مال ولا ولد من ولد.
(٥٠) ما تحلب وسال قبل العصر، وهو أفضل الخمر.
(٥١) صارت أميرة.
(٥٢) سوط يضرب به.
(٥٣) وفي ذلك يقول أبو العلاء:
يرقب الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقـ
ـل مشيرًا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلب الرحـ
ـمة عند المسير والإرساء
إنما هذه المذاهب أسبا
ب لجذب الدنيا إلى الرؤساء
كالذي قام بجمع الزنج بالبصـ
ـرة والقرمطي بالإحساء
فانفرد ما استطعت فالقائل الصا
دق يضحى ثقلًا على الجلساء
(٥٤) ذكر أبو العلاء هذا المعنى في لزومياته أكثر من مرة، فمن ذلك قوله:
تورعوا يا بني حواء عن كذب
فما لكم عند رب صاغكم خطر
(٥٥) اسمه سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام القرمطي، بلده جنابة من أعمال فارس متصلة بالبحرين، وكنيته أبو طاهر، وقد امتلأت كتب التاريخ بخروج القرامطة على الخلفاء والملوك وحروبهم معهم، فلا حاجة إلى الإفاضة في ذلك، وحسبنا أن نلم بتاريخه مُوجِزين: ظهر في سنة ٢٨٦ﻫ بالبحرين، وانضم إليه عدد من الأعراب والقرامطة، ثم ارتفع شأنه وقويت شوكته، فقتل من حوله من أهالي تلك القرى، ولما قرب من نواحي البصرة، جهز إليه المعتضد بالله جيشًا فهزمه الجنابي، وقتل الأسرى وأحرقهم، واستبقى قائده ثم أطلقه بعد أيام، وقال له: «امض إلى صاحبك، وعَرِّفه ما رأيت»، فدخل بغداد في رمضان تلك السنة، وحضر بين يدي المعتضد، فخلع عليه ودخل القرامطة الشام سنة ٢٨٩ﻫ وجرت وقائع بين الفريقين، ثم قتله خادمه سنة ٣٣١ في الحمام، وستجد في رسالة ابن القارح إشارة نافعة إليه.
(٥٦) يقول أبو العلاء في هذا المعنى:
والحق يهمس بينهم
ويقام للسوآت منبر
ويقول:
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت اليقين أطلت همسي
(٥٧) من هذا نستنتج أن رسالة الغفران كتبت في تلك السنة.
(٥٨) النقاب الذي يحدث بالغائب.
(٥٩) اسمه الحسين بن منصور، كنيته أبو مغيث، وجَدُّه مجوسي، وبلده البيضاء، إحدى بلاد فارس، وكانت وفاته سنة ٣٠٩ﻫ.
نشأ بواسط والعراق، واشتهر بصحبته لأبي القاسم الجنيد، ومَن في طبقته، كما اشتهر بكفره، وإن بالغ في تعظيمه بعض الناس. ومن شعره قوله:
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت، ولا
لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
وقوله المشهور:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
وكان يكثر من قوله: «ما في الجبة إلا الله.» فسمي الجبائي لذلك، وكان يقول: «معبودكم تحت قدمي هذا.»! وقد تصدى الإمام الغزالي للدفاع عنه في فصل طويل عقده في كتاب (مشكاة الأنوار) اعتذر فيه عن الألفاظ الشديدة التي صدرت منه، وعزاها إلى إفراطه في محبة الله، واستشهد بقول القائل:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان، حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وسيمر بك طرف من أخباره في رسالة ابن القارح.
(٦٠) كان السبب في صلبه، كلام جرى منه في مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر، فأفتى بحل دمه، وكتب بخطه ذلك، وكتب معه من حضر المجلس من الفقهاء، فقال لهم الحلاج: «ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتقولوا عليَّ، وأنا اعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل الأئمة الأربعة، الخلفاء الراشدين، ولي كُتب في السنة، فالله الله في دمي»، ولم يزل يردد هذا القول، وهم يكتبون حتى أتموا ما احتاجوا إليه. ونهضوا من المجلس وحملوا الحلاج إلى السجن، ثم جُلد أمام العامة، وقطعت أطرافه، وجُزت رأسه، وأحرقت جثته، ثم ألقيت في دجلة. واتفق أن زادت في تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن سبب ذلك هو سخط الحلاج.
(٦١) الحلولية أو مذهب الحلول هي الادعاء بحلول الله — سبحانه — في الأشخاص، ولمعتنقي هذا المذهب ادعاءات لا يحصيها العدُّ، فقد ادعى بعضهم أن روح الله حلت في الأنبياء، واحدًا بعد الآخر، حتى حلت في أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنيفية، وادعى غيرهم أنها حلت في أبي مسلم، وادعى آخرون حلول الله في الأشخاص الحسنة، فكان الحلمانية إذا رأوا صورة حسنة، سجدوا لها، واهمين أن الله حل فيها، واستدل بعض هؤلاء على جواز حلول الله في الأجساد، بقوله تعالى للملائكة في آدم: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، وزعموا أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم؛ لأنه خلقه في أحسن تقويم، بدليل قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
وزعم الحلاج أن من هذب نفسه في الطاعة، وصبر على اللذات والشهوات، ارتقى إلى مقام المقربين، ولا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه منها حظ، حل فيه روح الله، الذي حل في عيسى بن مريم، ولم يرد حينئذ شيئًا إلا كان كما أراد، وكان جميع فعله فعل الله تعالى.
ولنجتزئ بهذا القدر فإن فيما أورده أبو العلاء في هذا الفصل وابن القارح في رسالته ما فيه الكفاية.
(٦٢) التناسخ: هو مذهب القائلين بانتقال الأرواح بعد مغادرة أجسادها، إلى أجساد أخرى. ويرى بعضهم أن ذلك يحدث ولو لم تكن تلك الأجساد من نوع الأجساد التي فارقتها الروح. وبهذا الزعم يدين الكثيرون، منهم القرامطة، وأحمد بن حائط، وتلميذه أحمد بن نانوس، وأبو مسلم الخراساني، ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب. ومما ذكره الأخير في بعض كتبه قوله: «لولا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجساد المتصورة بالصورة البهيمية، إلى الأجساد المتصورة بصور الإنسان، إلا بالقتل والذبح، لَمَا جاز ذبح شيء من الحيوان البتة».
ويزعمون أن التناسخ هو نوع من العقاب والثواب، فالفاسق السيئ العمل، يعاقب على ذلك بأن تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار، والمسخرة الممتهنة بالذبح.

•••

وزعم بعضهم أن الله — سبحانه — أبدع خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين، في دار سوى هذه الدار الدنيا، وخلق فيهم معرفته، والعلم به، وأسبغ عليهم نعمه، فابتدأهم بتكليف شكره، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وعصاه بعضهم في جميع ذلك، وأطاعه بعضهم في البعض دون الآخر، فمن أطاعه في الكل، أقره دار النعيم التي ابتدأهم فيها، ومن عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب، وهي النار، ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض الآخر، أخرجه إلى دار الدنيا، فألبسه هذه الأجساد الكثيفة، وابتلاه بالبأساء والضراء، والشدة والرخاء، والآلام واللذات، على صور مختلفة من صور الناس، وسائر الحيوانات، على قدر ذنوبهم. فمن كانت معاصيه أقل، وطاعته أكثر، كانت صورته أحسن وآلامه أقل، ومن كانت ذنوبه أكثر، كانت صورته أقبح، وآلامه أكثر، ثم لا يزال يكون في الدنيا كرة بعد كرة، وصورة بعد أخرى، ما دامت معه ذنوبه وطاعاته.

•••

واستدل من يعتقد بالتناسخ من المسلمين، على صحة زعمهم بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ، وبالآية الأخرى: جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ.
واستدل غير المسلمين منهم على صحة مذهبهم، بأن النفس لا تتناهى والعالم لا يتناهى لأمد، فالنفس منتقلة أبدًا، وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها.

•••

وأنكرت طائفة أخرى، انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقتها بعد أن أقرت انتقالها إلى أنواع أجسادها، فقالت: «بما أنه لا تناهي للعالم، فوجب أن تتردد النفس في الأجساد أبدًا، ولكن لا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه، وتعلقها به».
وفي كتابي الملل والنحل لابن حزم والشهرستاني، فصلان نافعان، لمن شاء الرجوع إليهما، وقد عني ابن حزم بتفنيد كثير من هذه الآراء ودحضها.

•••

شاع في الهند هذا المذهب، كما شاع فيها غيره، منذ إقدام أزمنة التاريخ، ثم عرفه العرب في أواخر القرن الأول، ودان به الشيعة، كما دانوا بمذهب الحلول والرجعة وغير ذلك من المذاهب القريبة منهما، ولم يأت القرن الرابع حتى انتشرت تلك المذاهب، وذاع أمرها، وساعد على انتشارها فتح محمود بن سكتكين بلاد الهند، الذي كان سببًا في توثق العلاقات بين المسلمين والهنود، فكثر تبادل الآراء بينهم، ووفد بعض الهنود إلى مدينة السلام، وانتشرت تجارة الهند بالعراق.

رأي أبي العلاء في التناسخ

فإذا شئت أن تعرف رأي أبي العلاء في التناسخ، أمكنك أن تلمحه فيما تقرؤه له في هذا الفصل، من السخرية والتبرم.
ولا ريب أن أبا العلاء درس هذا المذهب دراسة حقة، فلم يوافق عليه، وأبدى ارتيابه فيه، ثم شفع هذا الارتياب بالرفض الصريح.
فقد ذكر التناسخ في صباه، على سبيل اللهو والتندر، وإن لم يفته أن يظهر ارتيابه فيه، في بيت من قصيدة له، في سقط الزند كتبها إلى إبراهيم بن إسحق مدحًا فيه، وجوابًا على قصيدة بعث بها إليه، والبيت:
فلو صح التناسخ، كنت موسى
وكان أبوك إسحق الذبيحا
ثم أنكره أكثر من مرة إنكارًا صريحًا في لزومياته، فقال: يقولون:
«إن الجسم ينقل روحه
إلى غيره؛ حتى يهذبه النقل»
فلا تقبلن ما يخبرونك، ضلة؛
إذا لم يؤيد ما أتوك به العقل
وتهكم بجماعة القائلين بهذا المذهب، وأمعن في السخرية منهم، فقال:
يا آكل التفاح لا تبعدن
ولا يقم يوم ردى ثاكلك
قال النصيري، وما قلته،
فاسمع، وشجع يا أخي ناكلك
«قد كنت في دهرك تفاحة
وكان تفاحك ذا آكلك
وحرف هاج لحت فيما مضى
وطالما تشكله شاكلك»
والبيت الأخير سخرية من مذهب القائلين — ومنهم بن سعيد العجلي، وهو أحد من ادعى أنه المهدي المنتظر — أن الأعضاء على صور حروف الهجاء، وأن الألف منها مثال القدم، والعين على صورة العين … إلخ. وسخر منه وممن يدينون به، في موضع آخر، فقال:
فما بال هذا العصر، ما فيه آية
من المسخ، إن كانت يهود رأت مسخًا
وقال بأحكام التناسخ معشر
غلوا، فأجازوا الفسخ في ذاك والرسخا
فقد قسموا التناسخ إلى أربعة أقسام: نسخ، ومسخ، وفسخ، ورسخ. وقالوا عن الأول إنه انتقال الروح من جسم إنساني إلى آخر، أو من جسم إنساني إلى جسم أرفع منه، وعن الثاني إنه انتقال الروح إلى البهائم، وعن الثالث إلى أنه انتقالها إلى الحشرات، وعن الرابع إنه انتقالها إلى النبات أو الجماد.
(٦٣) أي أن روح جارهم تقمصت في حمار شيخ البلدة، فأصبح ذلك الجار يمشي في الحزام والرسن بعد أن كان يختال في حلته.
(٦٤) أشار أبو العلاء إلى ذلك في لزومياته، فقال:
تقول الهند: «آدم كان قنا
لنا، فسرى إليه مخببوه»
أولئك يحرقون الميت نسكًا
ويشعره لبانًا ملهبوه
ونذكر بهذه المناسبة، قوله في تحبيذ ما يفعله الهند من إحراق موتاهم:
فأعجب لتحريق أهل الهند ميتهم
وذاك أروح من طول التباريح
أن حرقوه فما يخشون من ضبع
تسري إليه ولا خفي وتطريح
والنار أطيب من كافور ميتنا
غبًّا، واذهب للنكراء والريح
والخفي: نبش الميت. وقوله:
حرق الهند من يموت فما زا
روه في روحة ولا تفكير
واستراحوا من ضغطة القبر ميتًا
وسؤال لمنكر ونكير
(٦٥) ردد أبو العلاء هذا المعنى بصور شتى في كثير من أشعاره، وأنحى على تلك الطائفة التي اتخذت الدين وسيلة للكسب والنفع، وقد أتينا ببضع أمثلة من ذلك في هذا الجزء، وإليك نخبة من أبدع ما نختاره له في ذلك:
بخيفة الله تعبدتنا
وأنت عين الظالم اللاهي
تأمرنا بالزهد في هذه الدنيـ
ـا وما همك إلا هي

•••

تلاوتكم ليست لرشد ولا هدى
ولكن لكم فيها التكاثر والكبر

•••

وليس حبر ببدع في صحابته
إن سام نفعًا بأخبار تقولها
وإنما رام نسوانا تزوجها
بما افتراه وأموالًا تمولها
لا يخدعنك داع قام في ملأ
بخطبة زان معناها وطولها
فما العظات، وإن راعت، سوى حيل
من ذي مقال على ناس تحولها

•••

رويدك قد غررت، وأنت حر،
بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحًا
ويشربها على عمد مساء
يقول: «لقد غدوت بلا كساء»
وفي لذاتها رهن الكساء

•••

طلب الخسائس وارتقى في منبر
يصف الحساب لأمة ليهولها
ويكون غير مصدق بقيامه
أمسى بمثل في النفوس ذهولها

•••

وكم من فقيه خابط في ضلالة
وحجته فيها الكتاب المنزل
وقارئكم يرجو بتطريبه الغنى
فآض — كما غنى ليكسب زلزل
وزلزل هذا موسيقي يُضرب به المثل في إتقان العود.
(٦٦) من أبدع ما نختاره لأبي العلاء في هذا المعنى قوله في لزومياته:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوَّده أبوه
وما دان الفتى بحجا، ولكن
يعلمه التدين أقربوه
وطفل الفارسي، له ولاة
بأفعال التمجس دربوه
(٦٧) لو شئنا الاستشهاد بكل ما كتبه أبو العلاء في النعي على التقليد، والحث على تمجيد العقل، والاعتزاز به، والدعوة إلى تحكيمه في كل شيء، لملأنا صحفًا عديدة، لا يسمح لنا بها هذا الكتاب الصغير، فلنجتزئ من ذلك بالقليل عن الكثير، وإليك ما نختاره له:
اللب قطب والأمور رحى
فيه تدبر كلها وتدار

•••

العقل يوضح للنسـ
ـك منهجًا فاحْذُ حذوه
وليس يظلم قلب
وفيه للب جذوة

•••

كذب الناس لا إمام سوى العقـ
ـل مشيرًا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلب الرحمـ
ـة عند المسير والإرساء

•••

صدقت يا عقل، فليبعد أخو سفه
صاغ الأحاديث إفكًا أو تأولها

•••

فلا تقبلن ما يخبرونك ضلة
إذا لم يؤيد ما أتوك به العقل

•••

نُكذِّب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرام وتصديق

•••

وينفر عقلي مغضبًا إن تركته
سدى، واتبعت الشافعي ومالكا

•••

والعقل يعجب والشرائع كلها
خبر يقلد لم يقسه قائس
وإذا الرئاسة لم تعن بسياسة
عقلية، خطئ الصواب السائس

•••

قالوا، فمانوا، فلما أن حدوتهم
إلى القياس، أبانوا العجز واعترفوا

•••

وإذا ما سألت أصحاب دين
غيروا بالقياس ما رتبوه
لا يدينون بالعقول، ولكن
بأباطيل زخرف كذبوه

•••

وجاءتنا شرائع كل قوم
على آثار شيء رتبوه
وغير بعضهم أقوال بعض
وأبطلت النهى ما أوجبوه

•••

فاحذر ولا تدع الأمور مضاعة
وانظر بقلب مفكر متبصر

•••

تفكر فقد حار هذا الدليل
وما يكشف النهج غير الفكر

•••

الفكر حبل متى يمسك على طرف
منه، ينط بالثريا ذلك الطرف

•••

فكروا في الأمور يكشف لكم بعـ
ـض الذي تجهلون بالتفكير

•••

فكري أنت ربما هُدي الإنـ
ـسان للمشكلات بالتفكير

•••

إذا كان التقي بلها وعيا
فأعيار المذلة أتقياء

•••

وما تريك مرابي العين صادقة
فاجعل لنفسك مرآة من الفكر

•••

وجدت إياك مفتريًا حديثًا
فأنت على مقص الشيخ تفري

•••

عاشوا، كما عاش آباء لهم سلفوا
وأورثوا الدين تقليدًا كما وجدوا
فما يراعون ما قالوا أو ما سمعوا
ولا يبالون من غي لمن سجدوا

•••

في كل أمرك تقليد رضيت به
حتى مقالك ربي واحد أحد

•••

جاءت أحاديث إن صحت فإن لها
شأنًا، ولكن فيها ضعف إسناد
فشاور العقل، واترك غيره هدرًا
فالعقل خير مشير ضمه النادي

•••

إذا رجع الحصيف إلى حجاه
تهاون بالمذاهب وازدراها
فخذ منها بما أداه لب
ولا يغمسك جهل في مراها
وهت أديانهم من كل وجه
فهل عقل يشد به عراها
(٦٨) وعند كل فريق أنهم ثقفوا.
(٦٩) ذكر أبو العلاء هذا المعنى في لزومياته فقال:
جنوا كبائر آثام، وقد زعموا
أن الصغائر تجني الخلد في النار
(٧٠) ارجع الى بداية هذا الجزء.
(٧١) لأبي العلاء في المنجمين أسوأ رأي، ونجتزئ لك من أشعاره الكثيرة فيهم بقوله:
لو كان لي أمر يطاوع لم يشن
ظهر الطريق يد الحياة منجم
(٧٢) اسمه أحمد بن يحيى بن إسحق الراوندي، كنيته أبو الحسين، وهو ينسب إلى راوند إحدى قرى أصبهان. مات في سن الأربعين في سنة ٢٤٥ﻫ، وكان أبوه يهوديًّا فأسلم، فكان اليهود يقولون للمسلمين: «ليُفسدن عليكم هذا كتابَكم، كما أفسد أبوه التوراة علينا».
وكان من متكلمي المعتزلة، وانفرد بمذاهب نقلها أهل الكلام عنه في كتبهم، قالوا: «ولم يكن في زمانه أحذق منه بالكلام، ولا أعرف بدقيقه وجليله.» وكان يلازم أهل الإلحاد؛ فإذا عوتب في ذلك، ادعى أنه يريد معرفة مذاهبهم، ثم صار بعدُ ملحدًا زنديقًا.
وأوجز ما ننعته به، أنه رجل لا يستقر على مبدأ، وليس للمبادئ قيمة عنده، فقد كان مسلمًا، ولكن ذلك لم يمنعه أن يصنف كتاب البصيرة لليهود، ردًّا على الإسلام، نظير أربعمئة درهم دفعوها له، فلما قبض المال، رام نقضه، فلما أعطوه مئة درهم أخرى عدل عن ذلك. وكان من متكلمي المعتزلة، فلم يمنعه ذلك من أن يؤلف كتابه الذي سماه: فضيحة المعتزلة. وقد ألف كتبًا أخرى متناقضة، ولكن أكثرها كان إلحاديًّا شديد الجرأة، وقد نِيفت كتبه على المئة، ذكر ابن القارح أهمها وأشنعها، في رسالته. وكان له ذوق خاص في تسمية كتبه، فقد أطلق اسم الزمردة على كتابه الذي دلل فيه على فساد الرسالة والرسل، وازدرى فيه بالنبوات، وعلل هذه التسمية بأن من خاصية الزمرد، أن الحية إذا نظرت إليه ذابت، وسالت عيناها، كما يحدث لأخصامه حين يقرءون كتابه، ومما زعمه فيه قوله: «إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي شيئًا أحسن من إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، وإن الأنبياء كانوا يستعبدون الناس بالطلاسم … إلخ»!
وقد ذكر في كتبه الأخرى آراء لا تقلُّ عن هذه جرأة وشناعة، على الأنبياء والدين، فقد طعن على النبي في كتابه (الفريد) وطعن على القرآن، وعاب نظمه في كتابه الدامغ، ومما ورد فيه قوله: «إن الله — سبحانه وتعالى — ليس عنده من الدواء إلا القتل، فعل العدو الحنق الغضوب، فما حاجته إلى كتاب ورسول … وقال في وصف الجنة: وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وهو الحليب، ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع، وذكر العسل، ولا يطلب صرفا، والزنجبيل، وليس من لذيذ الأشربة، والسندس يفترش ولا يلبس، وكذلك الإستبرق؛ وهو الغليظ من الديباج، ومن تخايل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ، ويشرب الحليب والزنجبيل، صار كعروس الأكراد والنبط».
وسيمر بك طرف من أخباره في فصل آخر من هذا الكتاب، وفي رسالة ابن القارح، فلنكتف بهذا القدر، على إيجازه الآن.
(٧٣) الطيرة والتشاؤم: أبو العلاء متشائم شديد التشاؤم، بل هو من أشد مَن عرفناهم تشاؤمًا، ولكنه مع تشاؤمه الذي لا يقف عند حد، ليس من جماعة المتطيِّرين، بل هم أبعد من عرفناهم، عن التطير.
وإنما نعني بالتشاؤم ذلك المذهب الذي يسميه الإفرنج (Pessimisme) ونريد أن نسميه بالعربية سخطًا، ونسمي أصحابه ساخطين، وهو مذهب جماعة المتبرمين بالعالم، الذين لا يرون فيه إلا شرًّا مستطيرًا، لا يستطيعون دفعه، ولا أمل لهم في إزالته أو تحسينه، ولا ينظرون إليه إلا بمنظار شديد السواد. وعلى العكس من ذلك مذهب الرضى، ويسميه الإفرنج (Optimisme)، وهو مذهب من يحسنون الظن بالأيام، وينظرون إلى العالم بمنظار رائق ناصع البياض، فيرون كل ما فيه يدعو إلى الغبطة، ويرونه سائرًا في طريق التقدم والكمال، وفي هذا مجلبة رضاهم وارتياحهم، وقد أشبع ماكس تورداو، جماعة الساخطين، سخرية وتعنيفًا، ورماهم بنقص في عقولهم، في مقالته التي كتبها عن السخط والرضى (Pessimisme & Optimisme) في كتابه الفلسفي الذي سماه (الغرائب Paradoxes)، وهي مقالة غاية في الإمتاع واللذة، نحب ألا تفوت القارئ، وقد لخصتها مجلة البيان في سنتها الرابعة في عدديها الثاني والثالث، تلخيصًا لا يخلو من الفائدة والنفع، لمن لا تتاح له قراءتها كاملة في الكتب الإفرنجية، وفي كتاب (الفصول) للأستاذ العقاد، فصل ممتع — على إيجازه — في (ص٥ و٦) عن التشاؤم، وفيه رد مقنع، على من يعيبون على الساخطين سخطهم ونقمتهم على الحياة.

•••

أما الطيرة (Mauvais Augure)، ونقيضها الفأل أو التيمن (Bon Augure)، فمذهب آخر يختلف في نظرنا عن مذهب السخط والرضى كل الاختلاف؛ فقد يكون الإنسان ساخطًا أو راضيًا ولكنه لا يتطير ولا يتفاءل. وعلى العكس من ذلك، قد يكون من المتطيرين والمتفائلين، ولكنه في الوقت نفسه ساخط على الحياة أو راض عنها.

•••

وإنما الطيرة مذهب أساسه ربط الحوادث بغير أسبابها الحقيقية، وتمليل النفس بما لا يفيد، وترقب المناسبات والمصادفات، لاستنتاج شيء وهمي لا أساس له من الصحة، ولا قيمة له عند العقلاء. وإنما يدعو إليها، في نظرنا، عدم اطمئنان القلب، وخفة العقل، وربما لو رجع الإنسان إلى نفسه يسائلها في أي ساعاتها تميل إلى التعلل بأشباه هذه الخرافات، لرأى أن ذلك كثيرًا ما يحدث في أوقات الهلع والذعر من جراء مصاب فادح مذهل، تملك على الإنسان قلبه، وأطار لبه، وحرمه طمأنينته، فجعله كالغريق يتلمس أتفه الأسباب وأقلها غناء، لينقذ نفسه من الهلاك. فأما في ساعات اطمئنانه فقلما يأبه لذلك، اللهم إلا إن كان من ذلك النوع الذي أصبح له التطير ديدنًا وطبعًا.
وهذا غير السخط، الذي أساسه سوء الظن وشدة الحذر والنقمة على الحياة والنظر إليها من جانبها الأسود.

•••

إذا أقررنا ذلك، سهل علينا أن ندرك، كيف كان أبو العلاء ساخطًا ولم يكن متطيرًا.
أما ابن الرومي، فربما لم يكن شديد السخط على الحياة، ولكنه كان — على الرغم من ذلك — إمامًا من أئمة المتطيرين، وسيمر بك في هذا الفصل وفي رسالة ابن القارح ما يزيدك اقتناعًا بطيرته، وحسبك أن تعلم أنه كان لا يلبس ثيابه إلا بعد أن يتعوذ، فإذا وصل إلى الباب نظر من خلال ثقب المفتاح، فإذا رأى ذلك الأحدب الذي تعود مضايقته، جالسًا، جبن فلم يخرج، وخلع ثيابه ثانية، وقد عرف ذلك الأحدب كيف ينغص عليه عيشه، وإن عرف ابن الرومي كيف ينتقم منه ويثأر لنفسه، ببيتيه اللذين وسمه بهما آخر الأبد، وهما قوله:
قصرت أخادعه، وطال قذاله
فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة
وأحس ثانية لها فتجمعا
ولابن الرومي في تطيره أخبار شتى، منها أن أبا الحسن الأخفش؛ غلام المبرد، كان كثيرًا ما يقرع بابه، فإذا رد عليه ابن الرومي مستفسرًا، أجابه: «مرة ابن حنظلة»! فيتطير من ذلك ولا يجسر على الخروج بقية يومه.

•••

ولما كان هذا المقام أضيق من أن يحتمل شيئًا من الإسهاب في تفصيل هذه النزعات وتحليلها والمقارنة بينها، فإنا نكتفي بهذا القدر على شدة إيجازه، ونشير إلى رأي أبي العلاء في مذهب المتطيرين والمتفائلين، وتهكمه اللاذع بأصحابه، وسخريته الشديدة منهم. وسيمر بك في هذا الفصل ما يبهرك من حججه وبراهينه القوية التي دلل بها على فساد ذلك المذهب. وإليك نخبة مختارة من كلامه في ذلك:
تروم قياسًا للحوادث ضلة
وتلك أصول ليس يجمعها الحصر

•••

تعرض للطير السوانح زاجرًا
أمالك من عقل يكفك زاجر

•••

أغربانك السحم استقلت مع الضحى
سوانح؟ أم مرت حمائمك الورق؟

•••

لا تفرحن بفأل، إن سمعت به
ولا تطير، إذا ما ناعب نعيا
فالخطب أفظع من سراء تأملها
والأمر أيسر من أن تضمر الرعبا

•••

آليت لا يدري بما هو كائن
متفائل بالأمر أو متطير
كالدار صبحها سوى سكانها
فثووا بها، وتحمل المتدبر

•••

زجر الغراب تطيرًا، ونقيضه
ديك لأهل الدار أبيض أفرق

•••

شاهدت قبرة فخفت تطيرًا
ما كل ميت — لا أبا لك — يقبر

•••

لا يتطير بناعب أحد
فكل ما شاهد الفتى طيره

•••

وما طير اليمين بمبهجاتي
فأخشى الهم من طير الشمال

•••

وقد سمي المرء الهزبر تفاؤلًا
وليس بباق في الليالي هزبرها

•••

ما أسر لتعشير الغراب أسى
ولا أبكي خليطًا حل نشارا
ولا توهمت أنثى الأنجم امرأة
ولا ظننت سهيلًا كان عشارا
أي لا أضمر حزنًا إذا سمعت الغراب يصيح عشرة أصوات متتابعة، ولا أبكي جمعًا ذهب إلى ذلك البلد المسمى نشارًا، ولا أتوهم أن الزهرة امرأة كما يفعل العرب، ولا أن سهيلًا كان عشارا باليمن.
وهل لحق التثريب سكان يثرب
من الناس؟ لا، بل في الرجال غباء
وذو نجب؛ إن كان ما قيل صادقًا
فما فيه إلا معشر نجباء
(٧٤) وفي ذلك يقول ابن الرومي في نونيته الرائعة:
وإذا ما ظننت شرًّا، فخفه
رب شر يقينه مظنونه
(٧٥) وفي ذلك يقول أبو العلاء:
نعم ثم جزء من ألوف كثيرة
من الخير والأجزاء بعد شرور
على أنه أنكر حتى هذا الجزء القليل جدًّا من الخير في مكان آخر، فقال:
لا أزعم الخبر مازجًا كدرًا
بل مزعمي أن كله كدر
(٧٦) ستمر بك تلك الحكاية الممتعة في رسالة ابن القارح.
(٧٧) متطيرًا.
(٧٨) التراب.
(٧٩) العيافة زجر الطير.وإن أنس نعامة، فما يأخذها من النعيم ويجعلها بالهلكة، يقول.
(٨٠) الخرف أو العجز.
(٨١) ومما يروونه عن تطير ابن الرومي أيضًا، ما حكاه عنه علي بن عبد الله بن المسيب، قال: دخل علي، يوم المهرجان، وقد أهدى إلي عدة من جواري القيان، وكانت فيهن صبية حولاء وعجوز في إحدى عينيها نكتة، فتطيَّر من ذلك، ولم يظهر إلى أمره، وأنام باقي يومه، فلما كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لي من بعض السطوح فماتت، وجفاه القاسم الوزير فجعل سبب ذلك المغنيتين، وكتب إلي:
أيها المتحفي بحول وعور
أين كانت عنك الوجوه الحسان
فتحك المهرجان بالحور والعـ
ـور، أرانا ما أعقب المهرجان
كان من ذاك فقدك ابنتك الحـ
ـرة مصبوغة بها الأجفان
وتجافى مؤمل لي خليل
لج فيه الجفاء والهجران
إلى أن يقول:
لا تتهاون بطيرة أيها النظا
ر وأعلم بأنها عنوان
قف إذا طيرة تلقتك وانظر
واستمع ثم ما يقول الزمان
قلما غاب من أمورك عنوا
ن مبين، وللزمان لسان
إلى أن يقول:
خبر الله أن مشأمه كا
نت لقوم، وخبر القرآن
(٨٢) حمى تنوب يومًا وتترك يومين، وذلك أنها تأخذ في الأيام الثلاثة ثماني عشرة ساعة وهي ربع ساعات تلك الأيام الثلاثة، فسميت كذلك باعتبار الساعات.
(٨٣) مفردها نعج وهو السمين أو الذي أكل لحم الضأن حتى ثقل على قلبه.
(٨٤) يعني به أبا عثمان الناجم.
(٨٥) ارجع إلى الجزء ألأول.
(٨٦) الجد: ذكر أبو العلاء هذا المعنى على لسان أوس بن حجر، وذكره في مكان آخر في لزومياته فقال:
والبخت في الأولى أنال العلا
وليس في آخرة بخت
كذلك قالوا، وأحاديثهم
يبين فيها الجزل والشخت
وكرره في قوله:
أأخشى عذاب الله، والله عادل
وقد عشت عيش المستضام المعذب
نعم! إنها الأرزاق، والمرء جاهل
يهذب من دنياه ما لم يهذب
ولأبي العلاء أشعار أخرى كثيرة في الجد، نجتزئ منها بقوله:
والحظ يقسم، عاش بشر ما اشتكى
كمها، وعمر أكمها بشار

•••

والسعد يدرك أقوامًا فيرفعهم
وقد ينال إلى أن يعبد الحجرا
وشرفت ذات أنواط قبائلها
ولم تباين على علاتها الشجرا

•••

سيطلبني رزقي الذي لو طلبته
لما زاد، والدنيا حظوظ وإقبال

•••

لا تطلبن بآلة لك رتبة
قلم الأديب، بغير حظ، مغزل
سكن السما كان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل

•••

إذا صدق الجد افترى العم للفتى
مكارم لا تحصى وإن كذب الخال
العم أي الجماعة، ولا تكرى أي لا تنفد، والخال المخيلة.

موجز رأي الشعراء في الجد

وننتهز هذه المناسبة فنذكر نخبة من آراء الشعراء في الجد، ويمكن القول بأن آراءهم جميعًا تكاد تجمع على أنه حليف الغباء، قال المتنبي:
هو الجد حتى تفضل العين أختها
وحتى يصير اليوم لليوم سيدا

•••

وما الجمع بين الماء والنار في يد
بأصعب من أن أجمع الجد وألفهما
وقال أبو تمام:
ينال الفتى من دهره، وهو جاهل
ويكدي الفتى من دهره، وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تأتي على الحجا
إذن هلكت من جهلهن البهائم
وقال الضالي:
إذا جمعت بين امرئين صناعة
فأحببت أن تدري الذي هو أحدق
فلا تتفقد منهما غير ما جرت
به لهما الأرزاق حين تفرق
فحيث يكون الجهل فالرزق واسع
وحيث يكون العلم فالرزق ضيق
وقال ابن وهبون:
وحيث ترى زند النجابة واريا
فثم ترى زند السعادة كابي
وقال ابن الخياط:
وما زال شؤم الحظ من كل طالب
كفيلًا ببعد المطلب المتداني
وقد يحرم الجلد الحريص مرامه
ويعطى مناه العاجز المتواني
وقال المروزي الضرير:
تنافى العقل والمال
فما بينهما شكل
فعقل حيث لا مال
ومال حيث لا عقل
وقال القاضي الفاضل:
وزيادتي في الحذق فهي
زيادة في نقص رزقي
وقال ابن سناء الملك:
هو الجد خذه إن أردت مسلما
ولا تطلب التعليل فالأمر مبهم
ونختم هذا المختار بتلك القصة الجميلة، التي يحكيها لنا أحد الشعراء عن نفسه، وهي:
ولما لمست الرزق فانجذ حبله
ولم يصف لي من بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته
فزوجنيها الفقر إذ جئت أخطب
فأولدتها الحزن الشقي، فما له
على الأرض غيري والد، حين ينسب
فلو تهت في البيداء، والليل مسبل
على جناحيه، لما لاح كوكب
ولو خفت شرًّا فاستترت بظلة
لا قبل ضوء الشمس من حيث تغرب
ولو جاد إنسان علي بدرهم
لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب
ولو يمطر الناس الدنانير، لم يكن
بشيء سوى الحصاء رأسي يحصب
وإن يقترف ذنبًا بيرقة مذنب
فإن برأسي ذلك الذنب يعصب
وإن أر خيرًا في المنام فنازح
وإن أر شرًّا فهو مني مقرب
أمامي من الحرمان جيش عرمرم
ومنه ورائي جحفل حين أركب
(٨٧) للشيعة آراء مضحكة في علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — ودعاوى لا تقف عند حد، وقد ادعى قوم أنه لم يقتل، وإنما الذي قتله ابن ملجم هو شيطان تصور للناس في صورته. أما علي فقد صعد السماء، وسينزل إلى الدنيا وينتقم من أعدائه، وهي دعوى تشبه ما ادعوه في عيسى.
وادعى قوم أن الله أرسل جبريل إلى علي، فذهب إلى محمد خطأ لشدة الشبه بين النبي والإمام علي، وهذه الفرقة تقول: «العنوا صاحب الريش» أي جبريل!
وادعى آخرون أن الله خلق محمدًا ثم فوض إليه تدبير العالم وتدبيره، فهو الذي خلق العالم دون الله، ثم فوض محمدٌ تدبير العالم إلى علي بن أبي طالب، فهو المدبر الثالث، وزعم غيرهم أن عليًّا هو الله، وشتموا محمدًا، وزعموا أن عليًّا بعثه ليثني عنه، فادعى الأمر لنفسه، ويدعي فيه قوم آخرون أن الرعد والبرق صوته، ومن سمع منهم صوت الرعد، قال: «عليك السلام يا أمير المؤمنين.» وفي هذه الطائفة يقول أبو إسحق بن سويد العامري:
برئت من الخوارج لست منهم
من الحجاج منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا عليًّا
يردون السلام على السحاب
ولا يزال كثير من العامة يعتقد إلى اليوم أن عليًّا راكب ناقة يطير بها فوق السحاب. ومما نذكره بهذه المناسبة، على سبيل التندر والفكاهة، أن أحد أشياخنا المعممين، المشتغلين بنظم الكلام، أراد أن يبتكر ليقنع الناس بأنه غير عاكف على أساليب التفكير القديمة، ويدفع عن نفسه معرة الجمود والجهل بحقيقة الشعر الحي، الذي يحتاجه هذا العصر المملوء بالحياة والتفكير. فحسب أن كل ما يتطلبه ذلك التطور الفكري العظيم من الشاعر هو أن يستبدل وصف النوق والجياد بوصف قطر البخار والطيارات، فورط نفسه في الأخذ بتلك الخرافة، ودعا الله أن يهبه طيارة يسمو بها إلى السحاب، حتى إذا بلغه حظى بلقيا علي بن أبي طالب، فقال:
فهب لي ذات أجنحة، لعلي
بها ألقى على السحب الإماما
فلم يزد اقتناعنا بجموده، ولكنه وفق إلى إثبات فنده وخرفه بهذا البيت الرائع!

•••

وقد نسبوا إلى علي بن أبي طالب علم الجفر، وهو ما يطلقونه على العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر، المحتوى على ما كان وما يكون كليًّا وجزئيًّا. وتدعي طائفة أنه وضع الحروف الهجائية في جلد الجفر، وأنه يمكنه استخراج ما يأتي به الغيب منها بطريقة خاصة، ويدعون أن هذا علم انفرد به آل البيت ومن ينتمي إليهم، وأنهم يتوارثونه، وادعى آخرون أن فهم أسرار هذا الجفر قاصرة على المهدي المنتظر، وأنه — دون غيره — يستطيع أن يفقه حقيقة ما في هذا الكتاب الذي سموه بهذا الاسم؛ لأن عليًّا كتبه حروفًا متفرقة في ورق مصبوغ من جلد البعير، وقد اشتهر بين الناس، لاحتوائه ما حدث للأولين والآخرين، ولا يزال كثير من العامة يعني بهذه الخرافات وأشباهها، بلا تدبر ولا روية. ونحو من هذه الخرافة ما يروونه عن الخضر، وعن المسيخ الدجال، وغير ذلك من الترهات. وقد وقف أبو العلاء قسمًا كبيرًا من رسالة الغفران واللزوميات لمحاربة أشباه هذه البدع، والتشنيع على من يقولون بها. وحسبنا أن نستدل بقوله منددًا بتلك الخرافة التي يشيعونها عن الخضر:
يقول الغواة الخضر حي، عليهم
عفاء، نعم ليل من الفتن اخضرا
ولو صدقوا ما انفك في شر حالة
يعاني بها الأسفار، أشعث مغبرا
جنى قائل بالمين، يطلب ثروة
ويعذر فيه من تكسب مضطرا
وقوله منددًا بالمهدي المنتظر:
مجوسية وحنيفية
ونصرانية ويهودية
تراقب مهديها أن يقو
م فتلقى إلى الحق مهدية
وندد بظهوره في مكان آخر من هذا الجزء، فليرجع إليها من شاء.
(٨٨) أي أدخل السعوط في أنفك لتفيق، والسعوط هو ما يدخل الأنف من مسحوق دقيق التبغ. ولابن الراوندي في هذا المعنى، بيتان آخران، أقل شناعة من هذين البيتين، وهما:
كم عاقل عاقل، أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل، تلقاه مرزوقًا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقًا
(٨٩) أي هرمي مصر.
(٩٠)
هل العمر إلا نظير السوام
وآجالهم أسد تفترس
(٩١) كرر أبو العلاء هذه النصيحة أكثر من مرة في لزومياته، فمن ذلك قوله:
إذا ما ابن ستين ضم الكعاب
إليه فقد حلت البهله
هو الشيخ، لم يرضه أهله
ولم يرض في فعله أهله
فلا يتزوج أخو الأربعين
إلا مجربة كهله
رأى الشيب في عارضيه المسـ
ـن فنعم القرين له الشهله
وقوله:
إذا أنت زوجت العجوز، على الصبا
فأيامها صن عليك وصنبر
كأنك بعد خمسين استقلت
لمولدك، البناء، دنا ليهوى
وأنك إن تزوج بنت عشر
لا خيب صفقة من شيخ مهو
وحكاية شيخ مهو مشهورة، لا نحب أن نذكرها هنا، فليرجع إليها من شاء، في (ص٣٥٨ جزء ٢) اللزوميات.
(٩٢) نذكر بهذه المناسبة قول بعض الشعراء:
لا تنكحن عجوزًا، إن دعيت لها
وإن حبيت على تنكيحها الذهبا
فإن أتوك وقالوا إنها نصف
فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا
(٩٣) هو واصل بن عطاء، تلميذ الحسن البصري، وصاحب مذهب الواصلية، ورئيس تلك الطائفة المعروفة المنسوبة إليه، وكان في زمن عبد الملك وهشام بن عبد الملك، ويمكن الرجوع إلى مذهبه في كتاب الملل والنحل للشهرستاني.
(٩٤) نسبة إلى الدار وهي قبيلة من لخم.
(٩٥) رأي أبي العلاء في الخمر: لا يجهل أبو العلاء مزايا الخمر، بل هو من أعرف الناس بمزاياها، وإن كان لم يذق لها طعمًا، فقد قرأ جل ما كتبه عنها شعراء العربية جاهليين وإسلاميين وعباسيين، ودرسه كما درس غيره، فأصبح من أعلم الناس بها، وليس ذلك مستغربًا، فقد أتى أبو العلاء في أشعاره بكثير من التشبيهات الرائعة التي تعتمد على البصر قبل غيره. وحسبك ما أتى به من الأوصاف الكثيرة الدقيقة، في وصف الدروع وغيرها، ونكتفي من ذلك كله ببيته المشهور، الذي وصف به سهيلًا في قوله:
وسهيل كوجنة الحب في اللو
ن وقلب المحب في الخفقان
ولم يقصر بشار، في كثير من تشبيهاته عن شأو المبصرين، وإجادة الأوصاف التي كان من حقهم أن ينفردوا بها دون سواهم، وآية ذلك بيته الرائع المشهور:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

•••

إذن فقد كان أبو العلاء يعرف الخمر ويدرك مزاياها تمامًا، وقد تمنى شربها في كثير من أشعاره، وود لو أنها أصبحت طلقة محللة، ولكنه لم يفته أن يعقب — في كل موضع تمناها فيه تقريبًا — بالسبب الرئيسي الذي يدفعه إلى العزوف عنها، والإحجام عن شربها، وهو إزراؤها باللب. وقد عرفت أن أبا العلاء كان يعتز بالعقل كل الاعتزاز ويجله، ويفتن في تقديسه؛ حتى ليتضاءل أمامه كل اعتبار إذا قيس إليه. وقد أظهرنا أن من أكبر الأسباب التي أزعجته من لقاء الموت — رغم حنينه الدائم إليه — هو خوفه أن يسلبه الردى ذلك العقل الذي يحرص عليه ويضن به، ولهذا السبب نفسه ارتاع من الكبر، فقال:
وما أتوقى والخطوب كثيرة
من الدهر إلا أن يحل بي الهتر
ويمكننا أن نتخذ البيت التالي مفتاح فلسته في الخمر وهو:
ولولا أنها باللب تزري
لكنت أخا الندامة والنديم
ومن ثم ندرك السر في رغبته عنها — بالرغم من تمنيه إياها أحيانًا، فقد تمناها في لاميته التي قالها — وهو بالعراق، وأظهر فيها حنينه ووَجْده الشديد إلى بلده (المعرة) فقال:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعراق، على شفا
رزى الأماني لا أنيس ولا مال
مقل من الأهلين، يسر وأسرة
كفى حزنًا بيت مشت وإقلال
على أنها أمنية اليائس الذي يفضل الموت على الحياة. وإليك نخبة مختارة مما قاله في الخمر، نستدل بها على ما ذهبنا إليه:
أيأتي نبي يجعل الخمر طلقه
فتحمل ثقلًا من همومي وأحزاني
وهيهات! لو حلت، لما كنت شاربًا
مخففة في الحلم، كفة ميزاني

•••

لو كانت الخمر حلًّا، ما سمحت بها
لنفسي الدهر لا سرًّا ولا علنا

•••

ويهجر طيب الراح خوفًا من السكر

•••

هي الراح أهلًا لطول الهجاء
وإن خصها معشر بالمدح
فلا تعجبنك عروس المدام
ولا يطربنك مغن صدح
ومن يفتقد لبه ساعة
فقد مات فيها بخطب فدح
وقد شرح في الأبيات التالية، ما ينجم عن الذهول الذي تحدثه الخمر في نفوس شاربيها، فقال:
البابلية باب كل بلية
فتوقين هجوم ذاك الباب
جرت ملاحاة الصديق وهجره
وأذى النديم، وفرقة الأحباب
هتكت حجاب المحصنات، وجشمت
مهن العبيد تهضم الأرباب
وتوهم الشيب المدالف، أنهم
لبسوا، على كبر، برود شباب
وإذا تأملت الحوادث، ألفيت
صهب الدنان أعادي الألباب

•••

وجماع القول: إن أبا العلاء أكثر مِن ذكر الخمر والتشنيع بها في أشعاره، وكما تستطيع أن تفرد لبعض الشعراء — مثل أبي نواس — ديوانًا في مدح الخمر، تستطيع أنت أن تفرد لأبي العلاء كذلك، ديوانًا في ذمها.
(٩٦) يعني مقصورة ابن دريد، وهي أشهر من أن نشير إليها، وأولها:
يا ظبية أشبه شيء بالمها
ترعى الخزامى بين أشجار النقا
(٩٧) ويلي هذا البيت قوله:
صفراء، زان رواءها مخبورها
فلها المهذب من ثناء الكاس
وكأن شاربها لفرط شعاعها
بالليل، يكرع في سنا مقباس
فالراح طيبة، وليس تمامها
إلا بطيب خلائق الجلاس
(٩٨) هي الخمر.
(٩٩) الخمر.
(١٠٠) الجبر: كرر أبو العلاء هذا المعنى في لزومياته وهو بلا ريب أول من يدين بالجبر، ونجتزئ من أشعاره الكثيرة بالأبيات التالية، للاستدلال بها على يقينه الثابت وإيمانه الذي لا يتزعزع بمذهب الجبر وإذعانه للقضاء والقدر، وهي:
وما فسدت أخلاقنا باختيارنا
ولكن بأمر سببته المقادر
وفي الأصل غش، والفروع توابع
وكيف وفاء النجل، والأب غادر؟
إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلة
كحالاتها، أفعالها والمصادر
فقل للغراب الجون، إن كان سامعًا
«أأنت على تغيير لونك قادر؟»

•••

والعقل زين، ولكن فوقه قدر
فما له في ابتغاء الرزق تقدير

•••

ويجري قضاء مالكم عنه حاجز
فألقوا إلى مولاكم بالمقالد

•••

نهاب أمورًا، ثم نركب هولها
على عنت، من صاغرين قماء!

•••

ونحاذر الأشياء بعد يقيننا
ألا يرد الكائنات حذار

•••

وجبلة الناس الفساد، فضل من
يسمو بحكمته إلى تهذيها

•••

يتحارب الطبع الذي مزجت به
مهج الأنام، وعقلهم فيفله
(١٠١) يشبه قول ذي الأصبع العدواني:
كل امرئ صائر يومًا لشيمته
وإن تخلق أخلافًا إلى حين
(١٠٢) افتن أبو العلاء في نظم هذا المعنى، فقال:
دنتم بأن سيجازيكم إلهكم
فما لأفعالكم أفعال إهمال
(١٠٣) عودة أو رجعة.
(١٠٤) جمع نفية وهي ما تنفيه الحوافز من حصي وغيرها. ومعناها هنا الأشياء الحقيرة التافهة.
(١٠٥) جمع قرم وهو البعير أو الفحل.
(١٠٦) جمع أفيل وهو صغير الإبل.
(١٠٧) جمع عائذ وهي الناقة الحديثة العهد بالنتاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤