مقدمة

بقلم طه حسين
أستاذ الآداب العربية بالجامعة المصرية

لم يعرف المسلمون عصرًا كالقرن الرابع للهجرة تناقضت فيه حياتهم العامة أشد التناقض، فكانت سيئة أشد السوء، مجدبة أقبح الإجداب من ناحية، وكانت حسنة قيمة خصبة منتجة من ناحية أخرى، فسدَت فيه حياتُهم السياسية فسادًا ظاهرًا فانحل سلطان الخلافة في بغداد، وأصبح أمر الخلفاء إلى المسيطرين عليهم من رجال القصر ونسائه، يعبثون بهم ويحتكمون فيهم، ويكلفونهم صروف الذلة والهوان، واضطربت الدولة كلها فاستقلت عنها الأطراف البعيدة استقلالًا تامًّا، وطمحت الأقاليم القريبة إلى شيء من الاستقلال الداخلي يختلف قوة وضعفًا باختلاف ما لهذه الأقاليم من حظ في حياتها الاقتصادية والاجتماعية، وباختلاف مَن ينجم فيها من الزعماء وأصحاب المطامع، بحيث أصبح العالم الإسلامي في هذا العصر ميدانًا للتنافس وازدحام الأهواء والشهوات والاستباق إلى مظاهر الفوضى والاضطراب، وصلحت فيه من ناحية أخرى حياتهم العقلية صلاحًا لم يعرفوا له مثيلًا من قبل، فأزهر الشعر والنثر، ونضج العلم والفلسفة، ونمت علوم اللغة وفنونها، ونهض التاريخ والجغرافيا بحيث إنك تنظر إلى هاتين الناحيتين من نواحي الحياة الإسلامية في هذا العصر فلا تكاد تستريح إلى أنهما تمثلان أمة واحدة هي الأمة الإسلامية، متأثرة بحضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية، وخاضعة لسلطان واحد هو سلطان الإسلام.

ذلك أن هذه الأمة لم تكن في حقيقة الأمر أمة واحدة! وإنما كانت أممًا مختلفة أشد الاختلاف، متباينة أشد التباين، جمعها الإسلام تحت لواء واحد في أمد قصير من الدهر، وحاول أن يمزجها ويلغي ما بينها من الفروق، فوُفِّق إلى ذلك أحيانًا، ولم يُوفَّق إليه أحيانًا أخرى.

وبينما كان يُخيل إلى مَن ينظر إلى الأمة الإسلامية إبان قوة الأمويين أو العباسيين أن ستكون من كل هذه الشعوب وحدة قوية قد كونتها وحدة اللغة والدين والنظام، كانت هناك مؤثرات أخرى تحول بين وحدة الدين واللغة والنظام وبين نتائجها الطبيعية المنتظَرة، وكان أهم هذه المؤثرات بعض الجنسيات القوية التي لم يستطع النظام الجديد أن يهضمها ولا أن يمحوها، بل لم يستطع أن يغيِّر طموحها إلى الحياة القوية ويضعف ميلها إلى الاستقلال والسلطان.

فقد أسلم الفرسُ جميعًا، وتعلم كثيرٌ منهم العربية أو استعربوا، ولكن الأمة الفارسية في جملتها ظلت فارسية، إن لم تحتفظ بدينها القديم فقد احتفظت بلغتها وأدبها وعاداتها وكثير من نظمها الاجتماعية، بل هي لم تكتفِ بهذا وإنما جدَّت في إخضاع الغالبين، إلى حدٍّ ما؛ لما احتفظت به من لغة وعادة ونظام، ثم اتصلت بالسياسة العربية الإسلامية فأثَّرت فيها أشد التأثير، وانتهزت فرصة الخلاف بين الأمويين والهاشميين فانحازت إلى هؤلاء الآخرين ومنحتهم القوة، وأجلست زعماءهم على عرش الخلافة، ثم أحاطت بهذا العرش تذود عنه وتحميه، وتحتكره في حقيقة الأمر، وتستأثر به، وتقصي عنه العرب شيئًا فشيئًا، وما هي إلا أن يمضي القرن الثاني وينتصف القرن الثالث حتى تنقطع الصلة أو تكاد تنقطع بين هذا العرش وبين الأمة العربية، وإذا العرب قد ارتدوا إلى أوطانهم الأولى، وإذا الخلفاء قد أصبحوا أسرى للعناصر الأجنبية المغلوبة في الدولة، وإذا هذه العناصر قد أخذت ترفع رءوسها، وتمد أيديها إلى السلطان فتأخذ منه — كما قدمنا — بحظوظ مختلفة من القوة والبأس، ومن السيادة والاستقلال.

وكانت الأمة الفارسية أسبق الأمم إلى اقتطاع حظها من هذا السلطان، وكانت أعظمها منه حظًّا وأوفرها منه نصيبًا، ولا سيما في هذا القرن الرابع للهجرة.

ولكن هذه الحركة العنيفة التي بعثها الإسلام في العالم القديم كله أنتجت ما لم يكن بد من إنتاجه، فقد اختلطت كل هذه الأمم، وائتلفت كل هذه الشعوب، وعرف بعضها بعضًا، وأحب أن يتزيد من هذه المعرفة فانكشفت للعرب نفوس الفرس والروم والساميين والقبط والبربر والإسبانيين، وانكشفت لهؤلاء جميعًا نفوس العرب، وكانت بينهم إلى هذه الصلات السياسية التي أحدثها الفتح والدين صلات عقلية أشبه شيء بما حدث في العالم القديم حين أغار الإسكندر على الشرق، وحين بسطت روما سلطانها على الشرق والغرب معًا.

أصبحت اللغة العربية لغة رسمية لهذه الشعوب تترجم ما بينهم من صلات سياسية ودينية، وتترجم ما بينهم من صلات نفسية وعقلية، وأخذ كل شعب من هذه الشعوب يحرص على أن يكون له فيها أثر ظاهر، وأخذ العرب أنفسهم يحرصون على أن يكون في لغتهم مثال صادق لخير ما انتهت إليه حضارات هذه الشعوب وحياتها من أدب وفن، ومن علم وفلسفة، فكانت الترجمة عن الفارسية والهندية والسريانية واليونانية، وكثرت هذه الترجمة، وكثر درسها وشرحها وتفسيرها، وتأثرت بهذا كله حياة المسلمين العقلية منذ عهد بعيد، فظهرت آثارها في فلسفتهم وكلامهم وعلومهم وآدابهم.

ولكن هذا كله لم يسغه العقل الإسلامي الجديد، ولم يحسن هضمه إلا بعد أن انقضى القرن الثالث وأظل المسلمين هذا القرنُ الرابع، في هذا القرن والقرن الذي بعده أخذت تظهر للمسلمين حياة عقلية جديدة مصطبغة بالصبغة الإسلامية الخالصة، وأخذ يظهر في العالم الإسلامي مفكرون مسلمون لا يصطبغ تفكرهم بصبغة الدين ولا بالصبغة الفلسفية الأجنبية، كما كان ذلك شأن المتكلمين إبان القرنين الثاني والثالث، وإنما هم مفكرون مستقلون يحاولون أن يصبغوا ما انتهى إلى المسلمين من آثار الأمم الأخرى صبغة إسلامية صرفة مستقلة، وكان من زعماء هؤلاء جماعة كالفارابي وابن سينا وغيرهما من الفلاسفة الذين ظهروا في هذا العصر، وكان لنضج هذه العلوم والفنون في نفوس المسلمين أثرها في الفن والأدب أيضًا، فليس شعر المتنبي وأبي العلاء كشعر البحتري وأبي تمام أو كشعر أبي نواس ومسلم أو كشعر الفرزدق وجرير، وليس نثر الصابي وابن العميد كنثر الجاحظ أو كنثر ابن المقفع، أو كما يُروى من النثر لكتَّاب الأمويين وخطبائهم، وإنما هذا كله شيء جديد لا هو بالبدوي أو القريب من البدوي، ولا هو بالأجنبي أو القريب من الأجنبي، وإنما هو فن عربي قوي الأسر متمكن في عربيته الجديدة أشد التمكن.

من خضوع المسلمين في هذا العصر لهاتين الظاهرتين المتناقضتين: ظاهرة الانحطاط السياسي والرقي العقلي، بقيت لنا آثار مختلفة كثيرة، لعل أظهرها وأقواها وأشدها تشخيصًا لهذا العصر هذا الكتاب الذي أقدِّمه إلى القراء، وهو «رسائل إخوان الصفاء»، فهذا الكتاب يمثل أصدق تمثيل وأقواه هاتين الظاهرتين المتناقضين: يمثل من جهة فساد الحياة السياسية الإسلامية في ذلك الوقت؛ لأن الذين كتبوه جماعة لا نكاد نعرف منهم أحدًا؛ لأنهم كانوا يعملون من وراء ستار، وكانوا يعملون لغرض سياسي قبل كل شيء، فهم كانوا خصومًا للنظام السياسي القائم في بغداد كما لم يكونوا أنصارًا مخلصين للنظام السياسي القائم في القاهرة، لم يكونوا يرتاحون إلى خلافة العباسيين، ولم يكونوا يحبون خلافة الفاطميين، وإنما كانت لهم أغراض سياسية متطرفة مسرفة في التطرف، فهم من غلاة الشيعة ولعلهم من الإسماعيليين، والقول كثير في أغراض الإسماعيليين ووسائلهم السياسية ونفورهم من الفاطميين وبغضهم لدولة بني العباس.

كان هؤلاء الناس إذن يعملون من وراء ستار، ويؤلِّفون جماعة سرية، وكان قوام جماعتهم هذه فيما يظهر، سياسي وعقلي، فهم يريدون قلب النظام السياسي المسيطر على العالم الإسلامي يومئذٍ، وهم يتوسلون إلى ذلك بقلب النظام العقلي المسيطر على حياة المسلمين أيضًا، وهم يسلكون في ذلك مسلك جماعات سبقتهم في العالم القديم أظهرها جماعة الفيثاغوريين في المستعمرات اليونانية الإيطالية، فقد كانت هذه الجماعة مبغضة للنظام السياسي اليوناني المألوف، وكانت تريد قلبه وتغييره، وكانت تتوسل إلى ذلك بوسائل أهمها تغيير النظام العقلي، وإنشاء فلسفة جديدة تكوِّن الحياة العقلية والعلمية للفرد والجماعة تكوينًا جديدًا يلائم بينها وبين السياسية الجديدة، ويمكِّن هذه الجماعة من السيطرة على الأُمُور العامة. وقد وُفِّقت هذه الجماعة الفيثاغورية بعض التوفيق، وحاول أفلاطون شيئًا من ذلك فوفِّق من الجهة العقلية، وتخيل نظامًا سياسيًّا بسطه في كتاب الجمهورية وكتاب القوانين، وأقامه على الفلسفة الأفلاطونية كلها، كما أقام الفيثاغوريون نظامهم على الفلسفة الفيثاغورية، ولكن أفلاطون لم يوفَّق في الحياة العملية إلى شيء، وظلت سياسته خيالًا ليس غير، وفلاسفة اليونان جميعًا متفقون على أن النظام السياسي كائنًا ما كان لا قيمة له إذا لم يعتمد على نظام من نظم التربية يلائمه ويهيِّئ الأفراد والجماعات لتأييده والذود عنه، فالتربية أهم ما يُعنى به أفلاطون في الجمهورية، وهي أهم ما يُعنى به أرستطاليس في كتاب السياسة، وكلاهما يبين أحسن تبيين الصلة بين أنواع التربية والتعليم المختلفة، وبين ما يُوجَد أو يُتخيل من نظم الحكم والسياسة.

فجماعتنا السرية هذه متأثرة من غير شك بما كان في العالم اليوناني من محاولات تشبه محاولتها السياسية، متأثرة بمحاولة الفيثاغوريين متأثرة بمحاولة أفلاطون، وقد كان حظها من التوفيق كحظ الفيثاغوريين، فقد وفِّق الإسماعيليون إلى وجودٍ سياسيٍّ مكَّن لهم في بعض الأرض، ونشر الرعب في العالم الإسلامي حينًا.

وليس أدل على فساد الحياة السياسية من قيام هذه الجماعات السرية التي تعمل لهدمها وتقويضها جادة ملحة، فكما كانت فلسفة الفيثاغوريين والأفلاطونيين دليلًا على فساد الحياة السياسية اليونانية، ففلسفة إخوان الصفا دليل على فساد الحياة السياسية الإسلامية في ذلك العصر، وقد احتاط هؤلاء الناس في التستر والاستخفاء فلم نكد نعرف منهم أحدًا — كما قلنا — وإنما سُميت أسماء لا تتجاوز الخمسة، ولا تخلو أن يحيط بها الشك، وكل ما نستطيع أن نعرفه من أمر هذه الجماعة أنها نشأت في البصرة في منتصف القرن الرابع، وعُرف لها فرع في بغداد، وليس عندي شكٌّ في أن أبا العلاء قد اتصل بهذا الفرع البغدادي حين ارتحل إلى بغداد آخر هذا القرن، وكان يحضر اجتماعه يوم الجمعة من كل أسبوع، نرى ذلك في سقط الزند، بل نرى بعض أسماء الذين كانوا يحضرون جلسات هذا الفرع، ونكاد نعرف المكان الذي كانوا يجتمعون فيه يوم الجمعة من كل أسبوع، ونكاد نلمح في هذه الاجتماعات شيئًا من اللهو المعتدل الذي لا بد منه فيما يظهر لتستقيم فلسفة الفلاسفة، وقد أشرت إلى شيء من ذلك في «ذكرى أبي العلاء» على أنه أشد استيقانًا به الآن، وأعتقد أنا نجد في رسائل إخوان الصفاء أحسن تفسير لكثير من غوامض اللزوميات.

و«رسائل إخوان الصفاء» هذه تمثل الحياة العقلية في ذلك العصر، كما تمثل الحياة السياسية أو قل أقوى من تمثيلها للحياة السياسية، فهي مرآة تنعكس فيها الحياة العقلية انعكاسًا مباشرًا، ونحن نرى فيها هذه الحياة واضحة جلية، نرى أن العقل الإسلامي في القرن الرابع كان قد وعى ما نُقِلَ إليه من فلسفة اليونان وحكمة الهند وآداب الفرس والآداب العربية والإسلام وغيره من الديانات السماوية وغير السماوية، وجمع ذلك كله، ورتَّبه ولاءم بينه، وحاول أن يكوِّن منه مزاجًا واحدًا مؤتلفًا هو خلاصة الثقافة التي يجب على الرجل المستنير حقًّا أن يظفر بها، ويأخذ منها بالحظ الموفور.

ونلاحظ ونحن نقرأ «رسائل إخوان الصفاء» ما نلاحظ ونحن نقرأ اللزوميات ورسالة الغفران من أن الصلات كانت في ذلك العصر قد كثرت واستوثقت بين المسلمين في العراق وبين الهند، فانتقلت إلى أهل العراق مذاهب الهند الفلسفية وأساطيرها الشعبية، واختلط هذا كله بمجموعة العلم المحصلة يومئذٍ عند المسلمين فأثَّر فيه أثرًا ظاهرًا، ولعل مذهب التناسخ لم يكثر التحدث به ومحاولة شرحه وتأييده وتصويره في الصور المختلفة كما كثر ذلك في هذا العصر.

ولسنا نقول شيئًا جديدًا حين نقول: إن «رسائل إخوان الصفا» هذه أشبه شيء بدائرة معارف فلسفية علمية جمعت كل ما لم يكن بد من تحصيله للرجل المثقف حقًّا في ذلك العصر، ولكنها جمعت ذلك كله على شيء من النظام يمثله الفهرست الذي قُدِّم بين يديها، وهذا النظام يجب أن يُنظر إليه من وجهين: أحدهما الوجه الفلسفي الصرف، وهو من هذه الناحية متأثر بما عرف المسلمون عن فلسفة الفيثاغوريين والأفلاطونيين القدماء المحدثين، وأرستطاليس متأثر بهذا كله فهو يقسِّم الكتاب إلى أجزاء أربعة: أولها في أربع عشرة رسالة في الرياضة على اختلافها في العدد والهندسة والفلك؛ ثم في الفنون العملية، ثم في المنطق، وهذا الجزء فيثاغوري وأفلاطوني في أوله وهو في آخره متأثر بأرستطاليس؛ إذ منطقه هو منطق أرستطاليس بترتيبه وأسمائه، والجزء الثاني أرستطاليسي الصبغة يتناول الطبيعيات كلها على النحو الذي تناولها عليه أرستطاليس، يبدأ بالهَيُولَى والصورة والزمان والمكان والحركة، وينتقل إلى الآثار العلوية، ثم ما يزال يتدرج حتى يصل إلى المعادن، ثم إلى النبات، ثم إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان، ويختم بعلم النفس. والجزء الثالث عشر رسائل فيما بعد الطبيعة، وهو ظاهر التأثر بهذه الضروب الثلاثة من الفلسفة اليونانية، ففيه من الفيثاغوريين، وفيه من أفلاطون، وفيه من الأفلاطونية الحديثة، وفيه من أرستطاليس. فإذا كان الجزء الرابع فهو يتناول الإلهيات وما يتصل بالديانات والشرائع والتصوف، وهو المزاج الذي التأمت فيه كل العناصر المؤثرة في الفلسفة الإسلامية سواء منها الشرقي والغربي والفلسفي والعلمي والديني والأدبي والفني والخرافي أيضًا، وهذه الأجزاء الأربعة كلها ورسائلها التي تبلغ اثنتين وخمسين رسالة ليست في حقيقة الأمر إلا مقدمة ومدخلًا إلى رسالة جامعة هي خلاصة العلم وغاية الغايات التي كانت تنتهي إليها الجماعة، لا ينبغي أن تعرض على أحدث حتى يكون قد أخذ بحظه من كل هذه الرسائل، والجماعة تشبه نفسها برجل حكيم جواد كريم له بستان فيه من كل لذة ما فيه بهجة لا تعدلها بهجة، ولكنه لا يُدخِل الناس في هذا البستان حتى يعرض عليهم نماذج مما فيه، فهم ينظرون إليها، ويدنون منها فيذوقون ويشمون ويلمسون حتى إذا أنسوا واطمأنوا ثم رغبوا واشتهوا أُدخِلوا في هذا البستان، وهم يشبِّهون رسالتهم الجامعة هذه بالدواء الذي يشفي إن كان الجسم متهيئًا لقبوله، ويقتل إن كان الجسم لم يتهيَّأ له، ولكن هذه الرسالة الجامعة لم تصل إلينا، ولو قد وصلت لعرفنا كنه هذه الجماعة وأغراضها ووسائلها معرفة واضحة قاطعة.

درسُ هذه الرسائل مفيدٌ للذين يريدون أن يدرسوا تاريخ الفلسفة الإسلامية؛ لأنه — كما رأيت — يمثل عصرًا من أنضر العصور الفلسفية في الإسلام! ومَن يدري؟ لعل قراءة هذا الكتاب في عناية وتحقيق تكشف عن أشياء لم تظهر بعد، فهل يبعد أن يكون رجل كالغزالي قد تأثر إلى حد قريب أو بعيد بفلسفة هذه الجماعة ولا سيما حين نلاحظ أنه نشأ فيلسوفًا وانتهى صوفيًّا، وأن إخوان الصفاء يستخلصون التصوف والغلو فيه من الفلسفة الخالصة، وهذا الدرس يفيد الذين يدرسون التاريخ السياسي للمسلمين فهو يكشف لهم عن أشياء قد لا يظفرون بها في كتب التاريخ السياسي؛ لأن التاريخ السياسي قد كُتب — كما يعلم كل إنسان — متأثرًا بطائفة من المؤثرات حالت بينه وبين الإنصاف في كثير من الأحيان، وكثير من الذين كتبوا هذا التاريخ السياسي لم يكونوا ينظرون إلا إلى ظواهر الأُمُور وأعراض الحياة العامة، ومَن يدري لعل هذه الرسائل لو قرأها المؤرخون في عناية وتحقيق تكشف عن أسرار تاريخية لا نقدرها بل لا نفترضها نحن الآن. وهذا الدرس يفيد الذين يريدون أن يتثقفوا وأن يأخذوا بحظ من قديمنا العربي، فالفكرة العامة الآن عند الذين ينصرون القديم ويتعصبون له أن هذا القديم ينحصر أو يكاد ينحصر في الشعر والنثر وما يتصل بهما من علوم اللغة وفنون الأدب، وهم لا يكادون يحفلون بالفلسفة والعلم؛ لأنهم يحسون في وضوح وجلاء تفوق الفلسفة الحديثة والعلم الحديث على ما كان للقدماء من فلسفة وعلم، وهم في ذلك نفعيون يتأثرون منافعهم القريبة خاضعين لعقول هي أرقى من أذواقهم، يقدرون رقي العلم والفلسفة في هذا العصر فيزدرون ما للعصور القديمة من علم وفلسفة، ولا يقدرون رقي الأدب لفتور أذواقهم فيحفلون بالأدب القديم ويسرفون في تقديمه، ولو قد أنصفوا أنفسهم، ولو قد لاءم الله بين عقولهم وأذواقهم لقدروا الأدب القديم والعلم القديم والفلسفة القديمة كلها على سواء وفي شيء من العدل والإنصاف، فليس أدب القدماء أشد لذة وإمتاعًا للنفوس من علم القدماء وفلسفتهم، وإذا كان علم القدماء وفلسفتهم لا يلائمان عقولنا الآن فأدب القدماء يجب ألا يلائم أذواقنا الآن إلا أن يكون الله قد مسخ هذه النفوس فضمم عقولها، ومحا أذواقها أو كاد.

فالذين ينصرون القديم ويتعصبون له، والذين يريدون أن يكوِّنوا لأنفسهم ثقافة قديمة صالحة، والذين يريدون أن يعرفوا القديم على وجهه ليستطيعوا أن يعرفوا الحديث حق معرفته، كل هؤلاء خليقون أن يقرءوا الفلسفة القديمة كما يقرءون الأدب القديم، وليس كل الناس، بل ليس كل المثقفين، يستطيع أن يتصرف في فلسفة الفارابي وابن سينا، وإنما هذه الفلسفة وقف على الإخصائيين؛ لأنها كُتبت للإخصائيين، في حين كُتبت رسائل إخوان الصفاء لعامة المثقفين، وقُصد بها إلى إيجاد الثقافة الفلسفية الصالحة، فهي أدنى إلى العقول، وأيسر على النفوس، وهي مقدمة صالحة لدرس الفلاسفة الإخصائيين.

على أن من الحق أن نَلفت الناس إلى أن هذه الرسائل لم تقصد بها الفلسفة من حيث هي، ولا العلم من حيث هو، وإنما أُريد بها تكوين ثقافة معينة تهيئ لنحو من السياسة معين، ففيها من التأويل والدوران، وفيها من الحيل والخيال ما يحسن الالتفات إليه والاحتياط منه، وقد كان إخوان الصفاء أنفسهم مخلصين فقدَّروا ذلك، ولفتوا إليه، ودعوا وألحوا في الدعاء إلى ألا تُعطى هذه الرسائل للناس إلا بمقدار، وقد كان ذلك ميسورًا في العصر القديم حين كان العلم لا يُؤخذ إلا في المدارس وعن العلماء، وحين كان تحصيل الكتب واقتناؤها لا يتأتيان إلا بعد مشقة وجهد، فأما الآن وقد وُجدت المطبعة وأصبحت الكتب تعرض نفسها على الناس، وتلح في العرض والإغراء فنحن بين أمرين: إما أن نحظر نشر الكتب إلا بمقدار وبعد امتحان وفتنة واختبار وتمحيص، وإذن فهو الجهل والجمود والضعف عن اجتماع الجهاد في سبيل الحياة، وإما أن نذيع الكتب وننشرها ولا نقيِّد حرية المطبعة إلا بما لا بد منه لحماية الأخلاق وحياطة النظام الاجتماعي، وهذا هو الوجه وهو الطريق التي سلكتها الأمم إلى الآن، والتي نسلكها نحن راضين أو كارهين، وكل ما يجب علينا لأنفسنا ولشباننا إنما هو التنبيه واللفت إلى ما يجب من الاحتياط والحذر حين تعرض عليهم كتب بعينها حتى لا تُقرأ على علاتها، ولا تُؤخذ في غير حذق وفطنة، فيكون شرها أكثر من خيرها، وضرُّها أكثر من نفعها.

«لرسائل إخوان الصفاء» قيمة أخرى لم أُشِر إليها بعدُ، وهي قيمتها الفنية الخالصة؛ فهي من حيث إنها تتجه إلى جمهرة الناس للتعليم والتثقيف قد عُدِل فيها عن العسر الفلسفي إلى اليسر الأدبي، وعُنِيَ كتَّابها بألفاظها وأساليبها عناية أدبية خاصة، ففيها خيال كثير، وفيها تشبيه متقن، وفيها ألفاظ متخيرة ومعانٍ ميسرة، وليس من الغلو أن يُقال إنها قاربت المثل الأعلى في تذليل اللغة العربية وتيسيرها لقبول ألوان العلم على اختلافها، ولو أن لدينا من الذين يعنون بالدرس الأدبي جماعةً تتوفَّر على «رسائل إخوان الصفاء» درسًا وتحليلًا ونقدًا لكان من الممتع أن نتبين ما فيها من الشخصيات الفنية المتفاوتة، بل لكان من الممكن أن نستكشف بعض هذه الشخصيات، ومَن يدري، لعل منها شخصياتٍ معروفة كتبتْ في الأدب والفلسفة والعلم وعُرفت كتبها واشتركت في هذه الرسائل سرًّا ولم يُعرف اشتراكها إلى الآن.

وجملة القول أن هذه الرسائل كنز لم يُقدَّر بعد؛ لأنه لم يُعرف بعد، وهو إذا عُرف فقد يجلو قطعة من حياة الأمة الإسلامية في عصر من أهم عصورها وأجلها خطرًا، وعسى أن يكون في نشر هذه الرسائل وتيسير الحصول عليها ما يُدني من هذه الغاية، ويقرِّب من هذا المثل الأعلى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤