فصل في رسائل إخوان الصفاء

بقلم أحمد زكي باشا١

قد رأيت أن أطيل القول على هذا الكتاب، وأوفيه حقَّه من الشرح والبيان؛ لمناسبة انتشاره واشتهاره على أثر طبعه حديثًا بالهند وبمصر، بعد أن لم يكن يوجد منه سوى نسخ تُعد على الأصابع، ولعمري! إنه لجدير بالعناية؛ لأنه يدلنا على حالة المعارف العقلية عند العرب، بعد انتشار الدين الإسلامي بزمن قليل.

اشتهر هذا الكتاب بين بني الآداب، وعلا قدره وطار صيته، حتى صار موضوعًا لحديث القوم في كل نادٍ، يهيمون بالمذاكرة في تاريخه وأصله في كل وادٍ، وما تجلت عرائس الحقيقة، إلا لنفر من نخبة الأفاضل المدققين، فاستجلوها وضنوا بها على المتسائلين، فحملني ذلك على التنقيب في دفاتر الأوائل والأواخر، حتى تيسَّر لي بعون الله تعالى جمع خلاصة تُميط النقاب عن حقيقة هذا الكتاب، فأقول: لم يظهر بدر هذا الكتاب في أفق المعارف، حتى تزاحم عليه الناس من جميع الطبقات والمذاهب، وعُنوا بقراءته والإعجاب به مدة طويلة من الزمان.

ولقد شُغفوا بمعرفة مؤلفيه لكونهم كتموا أسماءهم، فزادوا بذلك فضل الكتاب واهتمام الباحثين، حتى بلغ صيته المشارق والمغارب، وتنبَّه إليه العلماء وقدَّروه حق قدره.

فقد رأيت، أثناء مطالعتي ومراجعاتي، عبارة في ترجمة «الطبيب أبي الحكم الكرماني القرطبي» أحد الراسخين في علم العدد والهندسة «في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء نقلًا عن القاضي صاعد» وهي «… ورحل إلى ديار المشرق وانتهى منها إلى حران من بلاد الجزيرة … ثم رجع إلى الأندلس واستوطن مدينة سرقسطة من ثغرها، وجلب معه الرسائل المعروفة «برسائل إخوان الصفاء» ولا نعلم أحدًا أدخلها الأندلس قبله.»

فهذا القول يدل على جليل مكانتها وعظيم أهميتها التي جعلت العلماء يقيدون تاريخ دخولها واسم مَن أتى بها في ربوع العلم بالأندلس، وسنستعين به فيما سيجيء معنا من التحقيق الدقيق، إن شاء الله.

ولقد عرف حكماء الإفرنج وجهابذتهم مقامها فأحلوها محلها الرفيع، واعتنوا بالتنويه بها والتنبيه عليها، وكان السابق لهم في حلبة هذا المضمار العلامة سلفستر دوساسي المشهور، فإنه كتب عليها خلاصة وجيزة باللغة الفرنساوية.

وقد طُبعت هذه الرسائل في سنة ١٨١٢ مسيحية بمدينة كلكتة بالهند تحت عنوان «تحفة إخوان الصفاء»، والذي راجعها وباشر طبعها هو الشيخ «أحمد بن محمد شروان اليمني».

وفي سنة ١٨٣٧ طبع العلامة نوفرك في برلين خلاصة على رسائل إخوان الصفاء، تكلم فيها عليهم وعلى كتابهم، ونقل منها شيئًا باللغة العربية ووضع أمامه ترجمته بالألمانية.

وللمعلِّم فريدرخ ديتريصي الألماني كتاب في ثمانية أجزاء، بحث فيه عن العلوم الفلسفية عند العرب في القرن العاشر للمسيح «القرن الرابع للهجرة» واعتمد في كتابه كله على «رسائل إخوان الصفاء»، وقد طبعه في برلين من سنة ١٨٥٨ إلى سنة ١٨٧٩.

أقول: إنه أشبه في صنيعه هذا رجلًا من الخراسانيين ألَّف كتابًا عنوانه «مجمل الحكمة»، وإليك ما قاله صاحب «كشف الظنون» عنه: «فارسي في حكمة الرياضيات والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات، وأكثره رموز، انتخبه رجل من الخراسانيين بحذف الحشو وإيضاح الرمز، كما في «رسائل إخوان الصفاء»، ونقله بعضهم من الفارسي إلى التركي.» ا.ﻫ.

واعلم أن المعلِّم ديتريصي المذكور قد طبع في سنة ١٨٨٦ بمدينة برلين كتابًا اسمه «خلاصة الوفاء في اختصار رسائل إخوان الصفاء» وباشر تصحيحه، فإنه من المتبحرين في الفنون واللغات المشرقية، وإليك ما قاله في آخر الكتاب بحروفه:
إن النسخات التي نُقل عنها هذا الكتاب كثيرة التحريف والتصحيف، وهو يشتمل على زبدة الكتاب وخلاصة ما يلزم معرفته من مواده، وهو مرتب على غير ترتيب الكتاب الأصلي؛ لأن مختَصِره٢ راعى في ذلك أسلوبًا أحسبه أجود وأفضل من الأول وأدخل في باب الكمال.
فإنه ابتدأ بالكلام على مبادئ الموجودات وأُصُول الكائنات، ثم نضد العالَم، فالهيولى والصورة، فماهية الطبيعة، فالأرض والسماء، ثم أعقب ذلك بالكلام على وجه الأرض والتغيرات فيه، ثم الكون والفساد، ثم في الآثار العلوية، ثم السماء والعالم، ثم شرح الأسطرونوميا (الذي هو علم النجوء)، ثم تكوين المعادن، ثم علم النبات، ثم أوصاف الحيوان، ثم مسقط النطفة وكيفية رباط النفس بها، ثم تركيب الجسد، ثم الحاس والمحسوس، ثم العقل والمعقول، ثم الصنائع العملية ثم الصنائع العلمية، ثم العدد وخواصه (يعني الأرثماطيقي)، ثم الجومطريقي (الذي هو علم الهندسة) ثم الموسيقى، ثم علم النِّسب العددية والهندسية والتأليفية، ثم المنطقيات، فمعاني الألفاظ العشرة (المعروفة بالمقولات العشرة)، ثم قاطيغورياس وباري أرمينياس وأنولوطيقا الأولى وأنولوطيقا الثانية، ثم بيان اختلاف الأخلاق، ثم طبيعة العدد، ثم تكلم على أن العالم إنسان كبير٣ وأن الإنسان عالم صغير،٤ ثم شرح الأكوار والأدوار، وتكلَّم على ماهية البعث والنشور والقيامة، وأفاض بعد ذلك في الكلام على أجناس الحركات والعلل والمعلومات، والحدود والرسوم، حتى تخلص إلى بيان اعتقاد إخوان الصفاء وكيفية عشرتهم، ثم أورد في آخر الكتاب فهرست الرسائل، وماهية أغراض إخوان الصفاء.

وهذا كله دليل كافٍ يُعلِمك بمكانتها من نفوس العلماء، ومقامها عند جمهور الفضلاء في مشارق الأرض ومغاربها.

ولا يغرب عن بال القارئ اللبيب أن الأعمال العظام والتآليف المعتبرة ونوابغ الرجال، قد كانت وستكون في جميع الأزمان والبلاد، عرضة لسهام الطعن والانتقاد، ولا تكاد تخلو من ذلك أمة من الأمم، والشواهد كثيرة ليس هذا محل بيانها، بل إن هذه حقيقة مقررة لا ينكرها إلا مَن يطلب الدليل على ثبوت النهار، وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.

إذا ثبت ذلك، فاعلم أن هذه الرسائل حازت قبولًا كثيرًا عند جماعة الناس، كما استوجبت لأصحابها السخط واللعنة عند فريق آخرين، ونحن لا نتشيع لأحد المذهبين، بل نترك الحكم لمن يطلع عليها في إبداء رأيه بالانتصار لأربابها أو التحامل عليهم، ونورد له كلامًا يعينه على تعيين حكمه ويرشده في أمره.

فأكبر دليل على عناية العلماء بالتنقير والتنقيب عن أمر هذه الرسائل هو ما رأيته أثناء البحث والمراجعة، في كتاب تراجم الحكماء للوزير جمال الدين أبي الحسن القفطي المتوفَّى سنة ٦٤٦ﻫ (المترجَم في كتاب الخطط الجديدة التوفيقية)، فإنه أفرد لها فصلًا مخصوصًا في حرف الألف؛٥ كأنها اسم أحد الفلاسفة الذين أتى على ذكر أخبارهم وأحوالهم في كتابه، وقد أورد في هذا الفصل كلامًا طويلًا ضمنه الرسالة التي كتبها أبو حيان التوحيدي إلى الوزير صمصام الدولة، فإنها تحتوي على إيضاحات وإرشادات مفيدة في بابها، ولا بد منها لكل مَن طلب الوقوف على حقيقة هذه الرسائل، قال القفطي المصري:

رسائل إخوان الصفا

هؤلاء جماعة اجتمعوا على تصنيف كتاب في أنواع الحكمة الأولى ورتَّبوه مقالات، عِدتها إحدى وخمسون مقالة، خمسون منها في خمسين نوعًا من الحكمة، والحادية والخمسون جامعة لأنواع المقالات، على طريق الاختصار والإيجاز، وهي مقالات مشوِّقات، غير مستقصاة، ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج، وكأنها للتنبيه والإيماء إلى المقصود الذي يحصل عليه الطالب لنوع من أنواع الحكمة.

ولما كتم مصنفوها أسماءهم، اختلف الناس في الذي وضعها، فكل قوم قالوا قولًا بطريق الحدس والتخمين، فقوم قالوا: هي من كلام بعض الأئمة من نسل علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه)، واختلفوا في اسم الإمام الواضع لها اختلافًا لا يَثبت له حقيقة، وقال آخرون هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول.

ولم أزل شديد البحث والتطلب لذكر مصنِّفها، حتى وقفتُ على كلام لأبي حيان التوحيدي، جاء في جواب له عن أمر سأله عنه الوزير صمصام الدولة بن عضد الدولة، في حدود سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وصورته:

«قال أبو حيان حاكيًا عن الوزير المذكور: حدثني عن شيء هو أهم من هذا إليَّ، وأخطر على بالي! إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولًا يريبني ومذهبًا لا عهد لي به، وكناية عما لا أحقه، وإشارة إلى ما لا يتوضح شيء منه، يذكر الحروف ويذكر اللفظ، ويزعم أن الباء لم تُنقط من تحت واحدة إلا لسبب، والتاء لم تُنقط من فوق اثنتين إلا لعلة، والألف لم تُهمل إلا لغرض، وأشباه هذا، وأشهد منه في عرض ذلك دعوى يتعاظم بها وينتفخ بذكرها، فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دخلته؟ فقد بلغني، يا أبا حيان، أنك تغشاه وتجلس إليه، وتُكثِر عنده، ولك معه نوادر معجبة، ومَن طالت عشرته لإنسان، صدقت خبرته، وأمكن اطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه.

فقلت: أيها الوزير، أنت الذي تعرفه قبلي قديمًا وحديثًا، لاختبار ولاستخدام، وله منك الإمرة القديمة والنسبة المعروفة.

قال: دع هذا، وصِفه لي!

فقلت: هناك ذكاء غالب، وذهن وقَّاد، ومتسع في قول النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ أيام الناس، وسماع المقالات، وتبصُّر في الآراء والديانات، وتصرُّف في كل فن: إما بالشد الموهِم، وإما بالتوسط المفهِم، وإما بالتناهي المفحِم.٦

قال: فعلى هذا، ما مذهبه؟

قلت: لا يُنسب إلى شيء، ولا يُعرف له حال؛ حيث إنه تكلم في كل شيء وغليانه في كل باب، ولاختلاف ما يبدو من بسطته ببيانه وسطوته بلسانه.

وقد أقام بالبصرة زمانًا طويلًا، وصادق بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان محمد بن مشعر البيستي (ويُعرف بالمقدسي) وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي، وغيرهم، وصَحِبهم وخدَمَهم، وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبًا زعموا أنهم قرَّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله.

وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دُنِّست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال.

وصنَّفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، علميًّا وعمليًّا، وأفردوا لها فهرسًا وسموها «رسائل إخوان الصفاء» وكتموا فيها أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ووهبوها للناس، وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية، والأمثال الشرعية، والحروف المحتملة، والطرق المموهة.

قال الوزير: فهل رأيت هذه الرسائل؟

قلت: قد رأيتُ جملة منها، وهي مبثوثة من كل فن، بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات، وحملتُ عدةً منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي٧ السجستاني محمد بن بهرام، وعرضتُها عليه، فنظر فيها أيامًا، وتبحَّرها طويلًا، ثم ردَّها عليَّ، وقال: تعِبوا وما أُغنوا، ونصِبوا وما أُجِروا، وحاموا وما وردُوا، وغنَّوا وما أطربوا، ونسجوا فهلَّلوا، ومشَّطوا ففلفلوا، ظنوا ما لا يكون، ولا يمكن، ولا يُستطاع، ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة (التي هي علم النجوم والأفلاك والمقادير والمجسطي وآثار الطبيعة، والموسيقى الذي هو معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان، والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات) في الشريعة، وأن يربطوا الشريعة في الفلسفة، وهذا مرام دونه جَددٌ، وقد تورَّك على هذا قبل هؤلاء قوم؛ كانوا أحدَّ أنيابًا وأحضر أسبابًا وأعظم أقدارًا وأرفع أخطارًا وأوسع قوى وأوثق عُرى، فلم يتم لهم ما أرادوه، ولا بلغوا ما أملُوه، وحصلوا على لوثات قبيحة ولطخات واضحة موحشة وعواقب مخزية.

فقال له النجاري بن العباس: ولمَ ذلك أيها الشيخ؟

فقال: إن الشريعة مأخوذة عن الله (عز وجل) بواسطة السفير بينه وبين الخلق، ومن طريق الوحي وباب المناجاة وشهادة الآيات وظهور المعجزات، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوض فيه، ولا بد من التسليم المدعو إليه والمنبَّه عليه، وهناك يسقط «لم» ويبطل «كيف» ويزول «هلا» ويذهب «لو» و«ليت» في الريح؛ لأن هذه المواد عنها محسومة، وجملتها مشتملة على الخير، وتفصيلها موصول على حسن التقبل، وهي متداولة بين متعلق بظاهر مكشوف، وصحيح بتأويل معروف، وناصر باللغة الشائعة، وحامٍ بالجدل المبين، وذابٍّ بالعمل الصالح، وضارب للمثل السائر، وراجع إلى البرهان الواضح، ومتفقِّه في الحلال والحرام، ومستنِد إلى الأثر والخبر المشهورَين بين أهل الملة، وراجِع إلى اتفاق الأمة، ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك، ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما الفاعل وما المنفعل منها، وكيف تمازجها وتنافرها، ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ولوازمها، ولا حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال ومناسب الأسماء والحروف والأفعال.

قال: فعلى هذا كيف يسوغ «لإخوان الصفاء» أن ينصبوا لأنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة؟ على أن وراء هذه الطوائف جماعة أيضًا لهم مأخذ من هذه الأغراض كصاحب العزيمة، وصاحب الكيمياء، وصاحب الطلسم، وعابر الرؤيا، ومدعي السحر، ومستعمل الوهم.

فقال: ولو كانت هذه جائزة، لكان الله ينبِّه عليها، وكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها، ويكملها باستعمالها، ويتلافى نقصها بهذه الزيادة التي تجدها في غيرها، أو يحض المتفلسفين على إيضاحها، بها يتقدم إليهم بإتمامها، ويفرض عليهم القيام بكل ما يذب به عنها حسب طاقتهم فيها، ولم يفعل ذلك بنفسه، ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه، بل نهى عن الخوض في هذه الأشياء، وكرَّه إلى الناس ذكرها، وتوعَّدهم عليها، وقال مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا أو منجِّمًا يطلب غيبَ الله منه، فقد حارب الله! ومَن حارب الله، حرب، ومن غالبه، غُلب، وحتى قال: «لو أن الله حبس عن الناس القطر سبع سنين، ثم أرسله، لأصبحت طائفة كافرين! يقولون مُطرنا بنوء المجدح.» وهذا كما ترى. والمجدح الدبران.

ثم قال: ولقد اختلفت الأمة ضروبًا من الاختلاف في الأُصُول والفروع، وتنازعوا فيها فنونًا من التنازع في الواضح والمشكل، من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والعيان والخبر والعادة والإصلاح، فما فزِعوا في شيء من ذلك إلى منجِّم ولا طبيب ولا منطقي ولا هندسي ولا موسيقار ولا صاحب عزيمة وشعبذة وسحر وكيمياء؛ لأن الله تعالى تمَّم الدينَ بنبيه ، ولم يحوِجه، بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيان موضوع بالرأي.

وقال: وكما لم تجد هذه الأمة تفزع إلى الفلاسفة في شيء من دينها، فكذلك أمة عيسى (هي النصارى) وكذلك المجوس.

قال: ومما يزيدك وضوحًا أن الأمة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها، فصارت أصنافًا فيها وفرقًا، كالمعتزلة والمرجئة، الشيعة والسنية والخوارج، فما فزعت طائفة من هذه الطوائف إلى الفلسفة، ولا حققت مقالاتها بشواهدهم وشهاداتهم، وكذلك الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيام الصدر الأول إلى يومنا هذا، لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة واستنصروهم.

وقال: وأين الآن الدين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل؟ فإن أدلوا بالعقل، فالعقل موهبة الله — جل وعز — لكل عبد، ولكن بقدر ما يدرِك به ما يعلوه، كما يخفى عليه ما يتلوه. وليس كذلك الوحي، فإنه على نوره المنتشر، وبيانه المتيسر.

قال: ولو كان العقل يُكتفى به، لم تكن للوحي فائدة ولا غناء، على أن منازل الناس متفاوتة في العقل، وأنصباؤهم مختلفة فيه، فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل، كنا كيف نصنع، وليس العقل بأسره لواحد منا، وإنما لجميع الناس. فإن قال قائل بالنعت والجهل: كل عاقل موكول إلى قدر عقله، وليس عليه أن يستفيد الزيادة من غيره؛ لأنه مكفي به وغير مطالَب بما زاد عليه، قيل له: كفاك عارًا في هذا الرأي، أنه ليس لك فيه موافِق ولا عليه مطابِق، ولو استقل إنسان واحد بعقله في جميع حالاته «في دينه ودنياه» لاستقل أيضًا بقوته في جميع حاجاته «في دينه ودنياه»، ولكان وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف، وكان لا يحتاج إلى أحد من نوعه وجنسه، وهذا قول مرذول، ورأي مخذول.

قال النجاري: فقد اختلف أيضًا في درجات النبوة بالوحي، وإذا ساغ هذا الاختلاف بالوحي، لم يكن ذلك ثالمًا له، ساغ أيضًا في العقل.

فقال: يا هذا! اختلاف درجات أصحاب الوحي لم يخرجهم عن الثقة والطمأنينة بمن اصطفاهم بالوحي، وخصهم بالمناجاة، واجتباهم للرسالة، وهذه الثقة والطمأنينة مفقودتان في الناظرين بالعقول المختلفة؛ لأنهم على بُعد من الثقة والطمأنينة إلا في الشيء القليل، وعوار هذا الكلام ظاهر، وخطلُ هذا المتكلم بَيِّن.

قال الوزير: فما سمع شيئًا من هذا المقدسي؟

قلت: بلى، قد ألقيت إليه هذا وما أشبهه بالزيادة والنقصان وبالتقديم والتأخير في أوقات كثيرة بحضرة الوراقين بباب الطاق، فسكت وما رآني أهلًا للجواب.

لكن الحريري، غلام ابن طرارة، هيَّجه يومًا في الوراقين بمثل هذا الكلام فاندفع، فقال: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى؛ حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة، فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها، حتى لا يعتريهم مرض أصلًا، فبين مدبِّر المريض وبين مدبِّر الصحيح فرق ظاهر، وأمر مكشوف؛ لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجحًا والطبع قابلًا، والطبيب ناصحًا، وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة، فقد أفاده كسب الفضائل وفرغه لها، وعرضه لاقتنائها، وصاحب هذا الحال فائز بالسعادة العظمى، وقد صار مستحقًّا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الخلود والديمومة، وإن كسب مَن يبرؤ من المرض بطب صاحبه الفضائل أيضًا، فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل؛ لأن إحداهما تقليدية والأخرى برهانية، وهذه مظنونة، وهذه مستيقنة، وهذه روحانية، وهذه جسمانية، وهذه دهرية، وهذه زمانية.» ا.ﻫ كلام أبي حيان.٨

قال المؤلف (أي القطفي): ثم إن أبا حيان ذكر تمام المناظرة بينهما فأطال فتركته؛ إذ ليس ذلك من شرط هذا التأليف، والله الموفق للصواب (انتهى كلام القفطي).

وقد رأيت في كتاب «جلاء العينين في محاكمة الأحمدين» تأليف السيد نعمان خير الدين الشهير بابن الألوسي البغدادي، المطبوع ببولاق في سنة ١٢٩٨ هجرية، كلامًا على هذه الرسائل منقولًا من كشف الظنون ومن شرح عقيدة السفاريني، وها هو بالحرف الواحد:
هي أصل مذهب القرامطة، وربما نسبوها إلى جعفر الصادق — رضي الله تعالى عنه — ترويجًا، وقد صُنفتْ بعد المائة الثالثة في دولة بني بويه، أملاها أبو سليمان محمد بن نصر البستي المعروف بالمقدسي وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني وأبو أحمد النهر جوري والعوفي زيد٩ بن رفاعة، كلهم حكماء اجتمعوا، وصنَّفوا هذه الرسائل على طريق الفلسفة الخارجة عن مسلك الشريعة المطهرة، وفي فتاوى الشيخ ابن حجر ما نصه: نسبها كثير إلى جعفر الصادق، وهو باطل، وإنما الصواب أن مؤلفها مسلمة بن قاسم الأندلسي؛١٠ كان جامعًا لعلوم الحكمة من الإلهيات والطبيعيات والهندسة والتنجيم وعلوم الكيمياء وغيرها، وإليه انتهى علم الحكمة بالأندلس، وعنه أخذ حكماؤها، وتُوفي سنة ٣٥٣ﻫ، وممن ذكره ابن بشكوال، وكتابه فيه أشياء حكمية وفلسفية وشرعية، وممن شدَّد النكير عليه ابن تيمية، لكنه يفرط في كلامه فلا يُعتبر بجميع ما يقوله. ا.ﻫ.

قال صاحب «جلاء العينين»: فتدبره وأنصفْ، وأقول: إني طالعت كثيرًا من الرسائل المذكورة، فرأيتها كما أشار الشيخ ابن تيمية، وأنها مشوبة بالتصوف المشوب بفلسفة المتفلسفين والأبحاث التي تمجها أسماع فلتشرعين، ولربما يفوح منها ريح المتشيعين، فإن أردت كمال الوقوف عليها المرجع إليها، ولنعم ما قيل:

رسائل إخوان الصفاء كثيرة
ولكن إخوان الصفاء قليل١١

انتهى كلام صاحب جلاء العينين.

فأنت ترى أن الآلوسي صدَّر كلامه عن هذه الرسائل بأنها أصل مذهب القرامطة، وأقول: إن مَن اطلع عليها خصوصًا الجزء الرابع منها ونظر في خطط المقريزي وسفينة الراغب وكشاف اصطلاحات العلوم ودائرة المعارف للبستاني وغير ذلك من كتب علماء المشرقيات الذين تكلموا عن الإسماعيلية الذين هم القرامطة، رأى ما يحقق له هذا القول، لكن العبارة في هذه الكتب واضحة صريحة، وهي في «إخوان الصفاء» دقيقة لا يكاد يدركها إلا مَن تنبه إليها أو نُبه عليها فتلا الرسائل على بصيرة.

ومما يدلك على ذلك، ويؤكد لك صحة هذا النظر، أني رأيت في الجزء الخامس من جرنال آسيا Journal A I tiqu الصادر في يناير سنة ١٨٥٥ — المحفوظ بالكتبخانة الخديوية — فصلًا هذه ترجمة عنوانه «بحث جديد على الإسماعيلية أو الباطنية بالشام المعروفين بالحشاشين»١٢ وفي علاقتهم على الخصوص مع ممالك الفرنج بالمشرق، وقد قال صاحب هذا الفصل المفيد في عرض كلامه ما تعريبه: «إن سنان بن سليمان الملقب برشيد الدين هو من أجل وأفخم رؤساء الإسماعيلية، قد خدم في أَلَمُوت المقدمين الذين كانوا قبله، وزاول علوم الفلسفة، وأطال نظره في كتب الجدل والخلاف، وأكبَّ على مطالعة رسائل «إخوان الصفاء»».

فإن تخصيص هذه الرسائل بالذكر والنص عليها دون غيرها، يدل صراحة على أن هذا الرئيس إنما كان يهيم بمطالعتها، ويهتم بمراجعتها لكي يقتبس منها تعاليمه، ويستمد منها ما يؤيد سلطته في عشيرته، وعلى ذلك يكون مؤلفوها ممن نحوا نحو الإسماعيلية، وذهبوا مذهبهم، وقالوا بمقالاتهم.

وقد ذكر صاحب «كشف الظنون» بعد أن أورد أسماءهم، التي مرت عليك في رسالة التوحيدي، أنهم كلهم حكماء اجتمعوا وصنَّفوا إحدى وخمسين رسالة، ولم يزد على هذا.

وقد أعملتُ الجهد الجهيد في تطلب ترجمتهم، ومعرفة أخبارهم وشئونهم، والوقوف على سيرتهم، ونظرتُ كثيرًا في كتب التواريخ والطبقات، فلم يسعفني القدر ببلوغ الوطر، ولكني أقول: إن إطناب أبي حيان في مدح زيد بن رفاعة، كما رأيته فيما تقدم، يدلك دلالة ضمنية على فائق فضلهم وواسع اطلاعهم.

وقد ساعدتني المقادير، أثناء البحث الطويل والمراجعة المتوالية، فرأيت صاحب «كشف الظنون» يقول: إن لأبي الحسن العوفي (وهو من أصحاب إخوان الصفاء) رسالة في «أقسام الموجودات وتفسيرها» قال: وهي لطيفة ذكرها الشهرزوري في «تاريخ الحكماء».

[أشرنا إلى أن ابن تيمية كان ممن يشددون النكير على «إخوان الصفاء»، ونريد الآن أن نؤيد ذلك بما جاء في فتواه عن «طائفة النصيرية»، فهذه الفتوى قد سبقنا الإفرنج إلى طبعها بالعربي (مع بعض أغلاط خفيفة وأخرى سخيفة، ثم ترجموها إلى الفرنساوي، ونشروا الأصل والترجمة معًا في «جرنال آسيا» سنة ١٨٧١ صفحة ١٧١)، ثم طبعها بعد ذلك — عن أصل آخر — السيد بدر الدين النعساني في القاهرة سنة ١٣٢٣ﻫ/١٩٠٥م ضمن مجموعة رسائل ابن تيمية، وفيها تلك الفتوى بعنوان «الرد على النصيرية»، وقد أخذتُ محلَ الشاهد من كل منهما، مع اجتناب الأغلاط التي فيهما، قال ابن تيمية:
وحقيقة أمرهم (أي النصيرية) أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين … ولا بشيء من كتب الله المنزلة … وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب المتفلسفة الطبائعيين لا الإلهيين، كما فعل أصحاب «رسائل إخوان الصفاء»، فإنهم تارة يبنونه على قول المتفلسفة وغرض المجوس الذين يعبدون النور ويضمون إلى ذلك الكفر والرفض، ويحتجون لذلك من كلام النبوات إما بلفظ يكذبون به … فيحرفون لفظه … ليوافق قول المتفلسفة أتباع أرسطو … وإما بلفظ ثابت عن النبي فيحرفونه عن مواضعه كما يصنع أصحاب رسائل «إخوان الصفاء» ونحوهم فإنهم من أئمتهم.]١٣

وعلى ذكر هذه الرسائل نسوق الحديث إلى نبأ غريب، وموضوع تُحار فيه الألباب.

ذلك أن هذا الكتاب قد تم طبعه كله ببلاد الهند في هذه الأيام،١٤ ولكن يا للعجب! ويا للغرابة! فقد ورد فيه اسم مؤلفه …! فهل يتصور القارئ صحة ذلك، مع علمه باشتغال العلماء بلا طائل من زمان طويل للوقوف على معرفة واضعي هذه الرسائل؟!

وليس بغريب أن يستولي الذهول على قارئ هذه السطور، أو مَن يطلع على الكتاب المذكور، فقد قيل في آخره: إن المؤلف هو رجل يُدعى «أحمد بن عبد الله» (ولا أرى هذا الاسم مرادفًا لهي بن بي)، والأغرب من هذا وذاك قوله بأن الرجل مترجَم في كتاب اسمه «عيون الأخبار» لمن يُدعى «إدريس عماد الدين»، مع أن هذا الكتاب أثر لا عين؛ وليس له مسمى في الوجود، فإني لما رأيتُ ذلك، أخذ العجب مني مأخذه، فشرعتُ أتحرى الأمر؛ لأكون على بينة وبصيرة من هذا المشكِل الذي ليس له في بابه مثيل، وقد تحققتُ بأن هذه العبارات، إنما هي تلفيق ومحض اختلاق؛ وذلك لأنني كابدت مشقة عظيمة في البحث عن أمر هذا الكتاب المزعوم، وعن شأن ذلك الرجل الموهوم، وكل ما يتعلق به مما هو مدوَّن زورًا وبهتانًا بآخر تلك الطبعة، ولما لم أعثر على شيء، وداخلتني الريبة، واختلفت عندي الظنون، كاشفتُ بهذا الأمر أحد العارفين.

فقال لي: إن الحقيقة على خلاف ما ورد بهذه الطبعة، وإن أصحاب المطبعة إنما اضطُروا لاختلاق مثل هذه الأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ ليحتكروا طبع الكتاب وبيعه في بلاد الهند، فإن القوانين هناك تحفظ للمؤلفين ولورثتهم من بعدهم حقوق الطبع، كما هو الشأن في بلاد أوروبا، فلما شرع أصحاب هذه المطبعة في نشر الرسائل التي نحن بصدد الكلام عليها، أرادوا أن يختصوا بربحها دون سواهم، ويقفلوا باب المزاحمة على مَن عداهم، فجاءوا برجل وقالوا إنه من ذرية المؤلف، وأخذوا منه رخصة تخوِّلهم وحدهم طبع الكتاب، ونقدوه في نظير ذلك ما طابت به نفسُهُ، وبهذا انتفع الرجل وانتفع أصحاب المطبعة بنيل الاحتكار، فهذا هو السبب في التلبيس والتدليس.

وأما الطبعةُ التي أخذتْ فيها مطبعة الآداب في العام الماضي١٥ ولم يفرغ منها إلى اليوم سوى جزء واحد، مع طول انتظار الناس لباقي الأجزاء يومًا فيومًا، فهي خالية من التمويهات فيمن ألف ومن خلف، كما جاء في طبعة الهند، وغاية ما يُقال فيها إن حضرة محرر الآداب١٦ نقل في المقدمة١٧ التي كتبها في صدر هذا الكتاب عبارة قال إنها للوزير القفطي، ومن مقتضاها أن رسائل «إخوان الصفاء» من تأليف «المجريطي».
وأقول: إن هذا منافٍ للحقيقة، مخالف للصواب؛ لأن القفطي لم يُشر إلى مثل هذا، فضلًا عن النص عليه في كتاب «تراجم الحكماء» وهو بالكتبخانة الخديوية لمن يريد من الباحثين والمحققين الذين يعنيهم هذا الأمر، ثم إن هذه الرسائل ليست للمجريطي، كما ستراه بُعيد هذا، نعم إن حضرة الشيخ قال في آخر جملته: «وقد علمت أن رسائل إخوان الصفاء التي ألَّفها المجريطي هي غير هذه»، وذلك عَقيب قوله: «وبعد أن شاع اسم١٨ هذه الرسائل بالأندلس، وتطلعتْ لها علماء الغرب ألَّف أبو محمد مسلمة المجريطي القرطبي رسائل على مثالها، وكتم اسمه فيها إلخ»، وهو قول نطالبه عليه بالدليل، ولا نأخذه منه قضية مسلمة،١٩ فإن مثل هذا مما يهم المؤرخين نقله، والمؤرخون لما ذكروا أن تلميذ المجريطي هو أول مَن أدخل الرسائل إلى الأندلس، ما تكلموا في شيء من هذا القبيل، وما أشاروا إلى هذا المعنى أصلًا مع أن عبارتهم تدل على عنايتهم بأمر هذا الكتاب.
وقد قال محرر «الآداب» في مقدمته أيضًا ما نصه:

وفي كتاب المقابسات أن زيد بن رفاعة وجماعة من كبار فلاسفة الإسلام كانوا يجتمعون في منزل أبي سليمان النهرجوري، وكان شيخهم وإن لم يَحُز شهرتهم، وكانوا إذا اجتمع معهم أجنبي، التزموا الكنايات والرموز والإشارات، قال: ولعل كيفية اجتماعاتهم هذه هي التي أرابت صمصام الدولة حتى أوجس من زيد بن رفاعة — وهو شيخه — خيفة. انتهى.

وهو قول يؤيد أنهم من الإسماعيلية.

واعلم أني قد راجعتُ ترجمة الحكيم أبي القاسم مسلمة بن أحمد بن عمر بن وضاع المجريطي المعروف بالمجريطي في كثير من الكتب والتواريخ، فما رأيت شيئًا يدل على أنه وضع «رسائل إخوان الصفاء» أو كتابًا على نمطها، فقد ذكره جمٌّ غفير من العلماء، ولم يقل أحد في سيرته قولًا لا ينطبق على هذا الرأي، وأقوى دليل أورده مكتفيًا به عما سواه أن أبا الحكم الكرماني هو أول مَن جلب إلى الأندلس الرسائل المعروفة بإخوان الصفاء، كما علمت ذلك مما سبق بيانه في أول هذا الفصل، والظاهر أن الذي أوهم بعض القوم أن هذه الرسائل للمجريطي، هو قوله في كتابه الذي سماه «رتبة الحكيم» في علم الكيمياء:

وقد قدَّمنا من التآليف في العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية رسائل استوعبناها فيها استيعابًا لم يتقدمنا فيها أحد من أهل عصرنا البتة، وقد شاعت هذه الرسائل فيهم، وظهرت إليهم، فتنافسوا في النظر إليها، وحضوا أهل زمانهم عليها، ولا يُعلم مَن ألَّف ولا أين ألَّف غير الحذاق منهم؛ لما دأبوا على مطالعتها لاستحسانهم إياها واستعذابهم لألفاظها، علموا أنها من تأليف زمانهم وعصرهم الذي هم فيه، ولا يعلمون مَن ألَّفها، وكل ذلك من تلك التآليف مبسوط المرسوم. انتهى.

فالظاهر أنهم لما اطلعوا عليه (أي على كتاب رتبة الحكيم) قالوا: إن الرسائل التي يذكرها إنما هي المعروفة برسائل إخوان الصفاء وهو وَهمٌ، فإنه يقول إنه استوعب فيها العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية استيعابًا لم يتقدمه فيه أحد من أهل عصره، وليست رسائل إخوان الصفاء كذلك، كما علمت وتعلم إن شاء الله، وأيضًا فقوله: إن هذه الرسائل شاعت بين أهل عصره وظهرت إليهم فتنافسوا فيها وحضوا أهل زمانهم عليها، وإن الحذاق دأبوا على مطالعتها، وعلموا أنها تأليف زمانهم، يؤيد ما قلناه من وهم القوم، فإنه يُقال: إذا كانت هذه الرسائل التي يقوم بشيوعها بين أهل عصره هي رسائل إخوان الصفاء، وقد كان الرجل أندلسيًّا، فأي معنى بعدُ لقول المؤرخين بأن الكرماني هو أول مَن أدخل رسائل إخوان الصفاء إلى بلاد الأندلس، حاملًا لها من المشرق؟ اللهم إلا أن يُقال: إن هذا الشيوع كان بالمشرق، ودون ذلك القول خَرْط القَتَاد.

وقد قال المجريطي أيضًا «وكل ذلك من تلك التآليف مبسوط المرسوم» كأنه أراد أن يؤكد ما قاله قبيل هذا من أنه استوعب في هذه الرسائل العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية استيعابًا لم يتقدمه فيه أحد، مع أن ذلك مخالف لما نراه في الكتاب المعروف برسائل «إخوان الصفاء» المتداول بين أيدينا الآن.

ذلك لأن مَن أجالَ جواد الناظر في هذه الرسائل، وجدها يصدق عليها ما قاله «القفطي» من أنها مشوقات، غير مستقصاة، وكأنها للتنبيه والإيماء، وينطبق عليها ما قاله أبو حيان التوحيدي من أنها مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وتأكد من موافقتها لما قصده أصحابها؛ إذ قالوا في موضع: «واعلم يا أخي، أيدك الله، إنما نذكر في كل علم شبه المقدمة والمدخل إلى ما فيه؛ ليكون تحريضًا لإخواننا على التميز فيه والشوق إليه؛ لأن بالشوق إلى شيء يكون الحرص على الاطلاع عليه.»

وقالوا في موضع آخر: «اعلم يا أخي، أنما نورد من العلوم في كتبنا ورسائلنا ما يكون تذكية للعقول وتنبيهًا للنفوس، فأخذنا من كل علم بقدر ما اتسع له الإمكان وأوجبه الزمان، وقد اجتهدنا أن يكون ذلك من أحسن ما قدرنا عليه ووصلنا إليه؛ ولذلك وضعناه وأثبتناه وأوردناه لإخواننا (أيدهم الله وإيانا) ورضينا لهم ما رضينا لأنفسنا؛ إذ كنا كلنا روحًا واحدة، وقد قال رسول الله : لا يكمل للمؤمن إيمانه حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه، وقال الله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» إلخ.

فهذه الأقوال كلها تناقض ما صرَّح به المجريطي مناقضة كلية، وحينئذٍ لا يصح القول بأن الكتاب الذي يشير إليه هو «رسائل إخوان الصفاء» الذي بين أيدينا الآن.

وغاية ما أراه في هذا الشأن أن لهذا الحكيم كتابًا آخر أو كتبًا متعددة لم يضع اسمه عليها، فلما رأى الناس عبارته في «رتبة الحكيم» وكانوا يبحثون على مؤلف «رسائل إخوان الصفاء» بغير جدوى، ظنوا أنهم أدركوا الطلبة وأصابوا الغرض فنسبوا له هذه الرسائل، من غير ما تمعن ولا تدبُّر.

وهنا نذكر أمرًا آخر لا يخلو من الغرابة، وهو أن المجريطي لم يذكر في عبارته التي أوردتها قبيل هذا، أسماء الكتب التي أطنب في مدحها والتنبيه عليها، فليت شعري! ما هو الباعث الذي دعاه في أول الأمر إلى كتم اسمه عن مصنفات جليلة، تاقت إليها نفوس أهل عصره وشغفوا بمطالعتها؟ ثم ما هو الداعي الذي جعله يصرح أخيرًا في كتابه «رتبة الحكيم» بأنه هو الذي صنَّف تلك الكتب؟

ولعل هذا التصريح من المجريطي هو الذي حمل صاحب «كشف الظنون» على القول بوجود كتاب آخر اسمه «رسائل إخوان الصفاء» لهذا الحكيم، وأنه صنفه على مثال الرسائل المعروفة المشهورة بهذا الاسم.

وإذا اعتبرنا هذا القول بميزان البحث والتدقيق، وصلنا إلى ملحوظة لطيفة، وذلك أن هذا الحكيم تُوفي سنة ٣٩٥ كما قاله حاجي خليفة (صاحب كشف الظنون)، ولا شك أن هذه الرسائل كانت موجودة في سنة ٣٧٣، كما يتضح من كلام أبي حيان، ومن ذلك يُستنبط أن أصحاب الرسائل الشرقية المتداولة الآن كانوا معاصرين للمجريطي، وأن وقت تأليف رسائلهم يقارب الوقت الذي ألَّف فيه هو رسائله على ذياك النمط؛ لأن صاحب الكشف قال «إن رسائله غير رسائل إخوان الصفاء وإنها على نمطها.»

والنتيجة أن المجريطي يمكن أن يكون صنَّف رسائل، ولم يضع لها اسمًا، كما كتم اسمه فيها، وكان هذا سببًا لتسمية بعضهم لها حين رآها برسائل «إخوان الصفاء» تشبيهًا لها برسائل المشرق؛ لأن الاتفاق في التسمية أيضًا، فوق الاتفاق في النمط وكتم الاسم، من الأُمُور المستبعدة بل المتعذرة.

وهنا نرى فضل صاحب الكشف واضحًا فإنه لم يخلط بين الكتابين، ولم ينسب كتاب المشرق إلى المجريطي، كما فعل كثير من العلماء، بل قال بوجود كتاب آخر بهذا الاسم، وأورد كلمتين من خطبته، فلا بد أن يكون اطلع على الكتاب، ولكن إذا كان هذا الكتاب موجودًا حقيقة، فكيف لم ينبِّه عليه القاضي صاعد لمَّا ذكر أن الكرماني هو أول مَن أدخل رسائل «إخوان الصفاء» إلى الأندلس، وأنه لا يعلم أحدًا أدخلها فيه قبله؟ فإن هذا الكلام يدل، كما قدمنا، على عناية كبيرة بشأن الكتاب، وإذا كان ذلك كذلك، وكان المجريطي مؤلفًا لكتاب آخر بهذا الاسم وهذا النمط (كما يقول صاحب الكشف) فلا بد أنه من واجبه أن ينبِّه عليه بعبارة صريحة، لا سيما وأن صاحب طبقات الأطباء ترجم المجريطي قبل إيراد هذه العبارة بصحيفة وبضعة أسطر خصصهما لذكر سيرة ثلاثة من تلامذة المجريطي، وأعقبهم بترجمة تلميذه الكرماني، وأورد فيها العبارة المذكورة قبل.

ومهما يكن فقد ثبت أن الرسائل المتداولة الآن ليست للمجريطي، وأنه لا يصح أن يُقال بأن له كتابًا بهذا الاسم، بل إنه إذا ثبت وجود كتاب له بهذا الاسم، فيكون الاسم موضوعًا عرضًا، لا من المؤلف نفسه، والله أعلم.

وقبل أن أختم المقال في هذا المجال، أنبِّه القارئ النبيه إلى رسالة في «إخوان الصفاء» رجاء مطالعتها واقتطاف ثمراتها، وتلك هي الرسالة الواحدة والعشرون من الكتاب أو الثامنة من القسم الثاني من الطبيعيات المعروفة برسائل الحيوان (وقد طبعها العلامة ديتريصي بأوروبا على حِدَتها)، فقد احتوت٢٠ ضروب المعرفة والمدافعة والمنازعة بين الحيوان والإنسان، في شكل عجيب على منوال غريب، فزعموا أن جميع الحيوان اتحدت كلمتها على إقامة الدعوى على الإنسان ومطالبته بالرفق بها، والعدول عن ظلمها إلى العدل فيها، وأن كل فريق من الحيوان أخذ يرتقي منبر الخطابة، ويتفنن في بيان اعتساف الإنسان، ويناضل عن حقوقه بثبات جنان، وقوة برهان، يخجل أمامهما قس وسحبان، فيقوم كل فريق من بني آدم، ويدحض حجة الحيوان ويذكر لأعضاء المحكمة شرفه على سائر المخلوقات، ويدوم الحال هكذا بين أخذ ورد، ودفاع ونزاع، وجدال وخصام، وهم لم يخرجوا عن قوانين المناظرة، ولم يدخلوا في طريق المكابرة، بل كل يورد من الشواهد القواطع والحجج الدوامغ ما يؤيد قوله، ويزكي فعله، ويجعل الحق في جانبه، والباطل من طريق صاحبه، إلى أن تحكم المحكمة بإقفال باب المرافعة، وأنها ستنظر في حسم هذه الواقعة، وهناك تنتهي الرسالة بعد أن ينص فيها على أن الحكم هو المقصود من وضع الكتاب كله، وأنه ينبغي على الطلاب أن يدرسوا جميع الفصول والأبواب؛ لينكشف لهم الحجاب، ويتجلى أمامهم الجواب، ويفوزوا بحسن العقبى وخير المآب، والله أعلم.
١  كتب في سنة ١٣٠٨ﻫ/١٨٨٩م تكملة لتصنيفه المسمَّى «موسوعات العلوم العربية». (الناشر)
٢  لم نعثر على اسم الذي اختصر الكتاب، ولكن الطريقة التي اتبعها في الترتيب تدل على زيادة فضله وغزارة علمه.
٣  وهذا مأخوذ عن فلاسفة اليونان في قولهم Macrocosme.
٤  وهذا مأخوذ عن فلاسفة اليونان في قولهم Microcosme.
٥  وكذلك فعل صاحب «كشاف اصطلاحات العلوم» فإنه أفرد لها كلامًا في حرف الألف، أورده باللغة الفارسية، وهذه ترجمته: «هم جماعة من الأصدقاء العقلاء والإخوان الألباء سلِموا من شوائب الكدورات البشرية، وتحلوا بأوصاف الكمالات الروحانية.» ولعله يصف بذلك إخوان الصفاء على العموم.
٦  إذا كانت هذه صفة زيد بن رفاعة وهو أحد إخوان الصفاء، بل خادمهم كما سيجيء في بقية الكلام، فما بالك بإخوان الصفاء أنفسهم، لا جرم أنهم كانوا على جانب عظيم من الفضل والعلم.
٧  هو الذي اقتبس عنه أبو حيان أشياء كثيرة في كتابه المعروف «بالمقابسات»، فراجع هذا الكتاب، تعلمْ فضلَ الرجل ومكانه من العلم.
٨  العجب كل العجب أني رأيت هذه الرسالة منقولة بالحرف الواحد في العدد الحادي عشر من السنة الثامنة من جريدة «روضة المدارس»، فإن محررها حضرة علي بك فهمي، نجل العلامة المخلد الأثر رفاعة بك، قد صدَّر بها هذا العدد، وقال إنها بقلم تحرير الروضة، مع أنها موجودة في كتاب تراجم الحكماء المحفوظ بالكتبخانة الخديوية، ولا أعلم كيف جوَّز لنفسه أن يثبت في الروضة هذه العبارة «ولم أزل شديد البحث والتطلب لذكر مصنفيها حتى وقفتُ على كلام لأبي حيان التوحيدي إلخ»، فإن البحث والتطلب يجوز حصوله منه، ولكن السابق له القفطي وتلك هي عبارته بالحرف الواحد، فهل يصح أن نقول إنه ورد على خاطر محرر الروضة أن يكشف عن أمر رسائل إخوان الصفا كما سنح ذلك للقفطي من قبل، ثم لم يُفتح عليه بغير العبارة التي أوردها القفطي كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا؟ بل هل يعقل أن فكرهما توارد على إيراد الديباجة بصورة واحدة ومعنى واحد؟ إن صح ذلك كان حقيقة من أغرب الغرائب التي يسمع بها الإنسان، بل يقول هي حديث خرافة يا أم عمرو، والذي أذهب إليه أن محرر الروضة نقل الرسالة برمتها من كتاب تراجم الحكماء، وأثبتها في جريدته من غير أن يغيِّر حرفًا واحدًا، يدلك على ذلك أنه ختمها بهذه العبارة: «قال المؤلف: ثم إن أبا حيان ذكر تمام المناظرة بينهما فتركته؛ إذ ليس من شرط هذا التأليف، انتهى.» مع أنه لم يُشر إلى المؤلف قط، فمتى وصل القارئ إلى هذه العبارة اختلط عليه الكلام، وداخلته الريبة، وظن أن في الأمر دخيلة، والحقيقة أن هذه العبارة بحذافيرها للقفطي، نقلها من الكتاب الذي أشار إليه بقوله: «ولم أزل شديد البحث والتطلب حتى وقفت على كلام لأبي حيان إلخ.» فإن ذلك يُشعِر بأنه نقلها من كتاب، وإن لم يصرِّح باسمه، فجاء صاحب الروضة ونقلها كما هي، ويا ليته اختصر هذه الرسالة، وتصرَّف فيها بما كان يجعله آمنًا من التعقب والمؤاخذة، ولكن السهم نفذ.
نقول: وقد صدرت هذه العبارة في حياة المرحوم علي باشا رفاعة فلم يمكنه أن يتملص من هذه الخنقة، ولا أن يتمحل عذرًا لهذه السرقة، وأما الكتاب الذي نقل عنه ابن القفطي فقد ظفر الأستاذ زكي باشا به، ونقله لنفسه بالفتوغرافيا، وهو عنده الآن، وعنوانه «الإمتاع والمؤانسة».
٩  في النسخة المطبوعة ورد هذا الاسم هكذا «العرفي» بالراء، وهو خطأ مطبعي.
١٠  ذلك ليس بصواب، وستعلم الحقيقة فيما سأورده عليك من النبأ الصادق والقول اليقين.
١١  يذكرني هذا البيت بقول الحماسي:
أولئك إخوان الصفا رزئتهم
وما الكف إلا أصبع ثم أصبع
١٢  وردت هذه الكلمة في الكتب الإسلامية القديمة المعتبرة مثل ابن الأثير، وعبَّر عنها صاحب كتاب الروضتين «بالحشيشية» واحدها «حشيشي»، ولما أراد الإفرنج نقلها إلى لغتهم، اختاروا الصيغة الأولى، فقالوا: Assassins (أساسان وأساسين)، ولما شاعت عندهم اختلفوا في بيان اشتقاقها على الأقوال، أشهرها أنها مأخوذة من كلمة حشيش، وهو الأصح؛ لأن اللفظ العربي يؤيد هذا الاشتقاق، وقد دخلت هذه اللفظة في لغاتهم أيام الحروب الصليبية، ورسمها كتبتهم ومؤلفوهم بكيفيات شتى وصور متعددة، فذهبوا مدة طويلة إلى أنها منحوتة من اسم «حسن الصباح» الذي كان أول مقدم عليهم في بلاد فارس، ثم عرفوا خطأ ذلك، وأن قواعد اللغة العربية لا تساعد على مثل هذا النحت، وذهب توماس هيد إلى أنها مشتقة من فعل «حس» فإنه عربي ومن معانيه القتل، ولذلك كانت كلمة Assassins تدل الآن عند الإفرنج على القاتلين، أي الذين يرتكبون جناية القتل عمدًا مع سبق الإصرار، ووافقه على ذلك المؤرخ ألكساندر مازا في سيرة صلاح الدين، وإنما دعاهم إلى التضارب في الآراء عدم ابتداء الكلمة الإفرنكية بحرف H الذي يقابله حرف الحاء أو الهاء في العربية، ولكنهم لو رجعوا إلى كتبهم القديمة المصنفة في أيام الحروب الصليبية، لرأوها مرسومة هكذا Hassasins، ولذلك كان جمهور الباحثين المحققين على أن الكلمة مشتقة من لفظة «حشيش»؛ لأن شيخ الجبل (هذا هو اسم الرئيس الأكبر عندهم ويُسمى بالإفرنجية Le Vieux de la Montagne وفيه تسامح) كان يدعو «الفداوية» الذين يرى فيهم الاستعداد لإنفاذ مقاصد عشيرته، ثم يأمر بمعاطاتهم الحشيشة حتى يفقدوا الحواس، ويريهم حينئذٍ نعيم الجنة في جنان أعدها لذلك، ثم يأمر بإعادتهم، ومتى زال تأثير الحشيشة، كان الواحد منهم يعتقد أنه ذاق لذة النعيم فعلًا، وشاهد الفردوس الموعود بها عيانًا، فينقاد حينئذٍ لرئيسه انقياد الأعمى، ويسعى في تنفيذ جميع أوامره؛ رغبة في الرجوع إلى النعيم المقيم، فلا بدع إذا لقَّبوهم بالحشاشين، وأفسدها الصليبيون فجعلوها «حساسين» ثم أساسين Assassins، فإن السين والشين يكثر تواردها في النقل من بعض اللغات إلى البعض الآخر، بل في اللغة الواحدة، ولا يُعتد بقول مَن ذهب من الإفرنج إلى أن لفظة «أساسين» عندهم محرفة عن «عساسين» جمع «عساس» بمعنى حارس وأنهم إنما سُموا بذلك من ادعائهم حراسة البلاد من السرقات.
١٣  هذه العبارة المحصورة بين قوسين مربعين يعلوهما نجمان، لم ترد في المقال المكتوب سنة ١٣٠٨ﻫ/١٨٩٠م، فقد كان عثورنا عليها بعد ظهور «مجموعة رسائل ابن تيمية»، ثم تحرينا الأمر فعرفنا أن السابق لنشر هذه الفتوى وترجمتها هو العلامة ستانسلاس جيار المستشرق الفرنساوي الشهير.
١٤  الإشارة إلى ما قبل ١٣٠٧ﻫ/١٨٨٩م.
١٥  أي سنة ١٣٠٧ﻫ/١٨٨٩م.
١٦  هو المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد.
١٧  وقد لخص فيها رسالة التوحيدي، ولم يُشِرْ إلى أنه نقلها من مصدرها الذي هو تراجم الحكماء، بل نقل عبارة هذا الكتاب كما فعل علي بك فهمي في روضة سنة ١٢٩٤، وهي: «ولم أزل شديد البحث والتطلب لذكر مصنفيها حتى وَقَفْتُ على كلام لأبي حيان … إلخ»؛ إذ لا يقدر أن يقول إنه عثر على كلام التوحيدي إلا في تراجم الحكماء أو في روضة المدارس التي نقلتْ عنه، ولا يقدر أن يقول إنها موجودة في كتاب مختصر الدول لابن حكيما الذي قال عنه إنه أورد جواب أبي حيان بالإيجاز، فإن هذا الكتاب غير متيسر الآن.
١٨  إلا أن شيوع الاسم لا يدل على شيوع المسمى، فتنبه.
١٩  وقد سكت الشيخ — رحمه الله — عن الجواب منذ صدور إنكارنا هذا إلى أن دخل غمار السياسة إلى أن اختاره الله لجواره؛ لأنه لا يمكن الجواب عن شيء غير موجود بشيء غير السكوت أو الاعتراف الصريح.
٢٠  انظرها في [الجزء الثاني].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤