إبراهيم الهلباوي

figure

كان في مصر قبل الثورة العرابية حزبان سياسيان: أحدهما حزب «محمد شريف باشا» والآخر حزب «مصطفى رياض باشا».

وقد يخطر للقارئ العصري أن تعريف الأحزاب بالأشخاص دليل على أن الحركة كلها شخصية لا علاقة لها بالبرامج السياسية، ولكن الواقع أن تعريف الأحزاب بالأشخاص كان سنة معروفة في ذلك العصر حتى في أعرق الأمم البرلمانية، فكان الحزبان المتناظران في إنجلترا يعرفان يومئذ باسم حزب «غلادستون» وحزب «بيكنسفيلد»، ولم يكن ذلك دليلًا على وحدة البرامج بين الحزبين.

وقد كان الحزبان المصريان كذلك مختلفين في البرامج، ولم يكن الخلاف بينهما مقصورًا على الانتماء إلى هذا الوزير أو ذاك الوزير.

كان حزب «شريف» أقرب إلى التجديد السريع.

وكان حزب «رياض» أقرب إلى المحافظة مع التقدم في رفق وأناة.

وكان «الهلباوي بك» ناقمًا على «رياض باشا» لسبب من الأسباب، فكان يطلق فيه لسانه ويكتب عنه ما لا يرضيه.

فأمر عالمًا من رجال الدين أن يستجوب الشيخ «إبراهيم الهلباوي» تمهيدًا لمعاقبته. فبدأ العالم المحقق كلامه بتهديد الشيخ الناشئ، واستطرد قائلًا: إن ناظر النظار سيخرب بيتك إن لم تكف عن الحملة عليه.

فضحك الشيخ «إبراهيم» وأجابه ساخرًا: إنه لا يستطيع.

فعجب العالم المحقق وقال: كيف لا يستطيع وهو ناظر النظار والحكومة كلها في يديه؟

قال الشيخ «إبراهيم»: «وليكن ناظر النظار، أو أكبر من ناظر النظار، ليكن أمير البلاد، ليكن خاقان البرين والبحرين، بل ليكن الله جل جلاله، فإنه لا يستطيع أن يخرب لي بيتًا.» ففزع العالم المحقق، وخيل إليه أن المسألة تنتقل من التمرد والعصيان إلى الكفر بالله، والعياذ بالله!

فصاح بالشيخ الناشئ حنقًا: أهذا الذي تعلمتموه من «جمال الدين»؟!

وكان «جمال الدين» مظنة «الزندقة» عند بعض العلماء في ذلك الحين، فطاب للعالم المحقق أن يجد في كلام التلميذ برهانًا على زندقة الأستاذ.

وكان الشيخ «إبراهيم الهلباوي» من تلاميذ «جمال الدين»، فلم يكن أسرع منه إلى رد التهمة إلى المتهم، وقال لصاحبنا: بل هذا الذي تعلمناه منكم قبل أن نتعلمه من «جمال الدين»!

قال الرجل: أعلَّمناكم نحن الكفر؟

قال الفتى المتحذلق: بل علمتمونا أن قدرة الله لا تتعلق بالمستحيل، وخراب بيتي مستحيل؛ لسبب واحد، وهو أنه ليس لي بيت!

على أن تلمذة «الهلباوي» «لجمال الدين»، لم تكن تمنعه أن يستطيل عليه بمثل هذه الحذلقة إذا «حكمت القافية» كما يقولون، فلعله هو التلميذ الوحيد الذي كان يجترئ على السيد بالدعابة في مجالس الدرس أو مجالس الحديث.

قال لي عظيم من عظماء هذا العصر الذي حضروا كثيرًا من تلك الأحاديث — أو تلك الدروس — وكانت كل أحاديث «جمال الدين» من قبيل الدروس: إن السيد كان يتكلم يومًا عن بعض الرذائل التي تصيب الجسد والنفس الناطقة، وبعض الرذائل التي تصيب الجسد ولا تمس النفس الناطقة.

فقاطعه «الهلباوي» قائلًا: يا خبر! وهل السيد من هؤلاء؟

فانتفض السيد مغضبًا وصاح به: «اغرب عني أيها الخبيث. لعنة الله عليك!»

و«الهلباوي» الذي تدل عليها هاتان النادرتان هو «الهلباوي» الذي عرفه الناس طوال حياته، ويمكنك أن تلخصه في عبارة واحدة، وهي أنه — رحمه الله — كان «ذلاقة لسان، لا تطيق نفسها، ولا تريح صاحبها».

ومن هذه الذلاقة المتعجلة، كان يؤخذ على «الهلباوي» كل ما هو مأخوذ عليه.

•••

سمعنا عنه قبل أن نراه، أو نسمع عنه ممن رآه.

كان أشهر المحامين بين الفلاحين بلا استثناء، وكان من آيات شهرته أنها دخلت في «النكتة المصرية»؛ فكان الذين يساومون القصابين في شراء لسان الذبيحة يقولون إذا اشتط عليهم القصاب في الثمن: والله ولا لسان الهلباوي!

وسمعنا بشهرته كاتبًا كما سمعنا بشهرته محاميًا، فكان عنوان مقالاته «إلى أي طريق نحن مسوقون؟» يتردد على كل لسان، وكنا نسمع به وإن لم نقرأ تلك المقالات.

ثم أدركته آفة التعجل وقلة الاستقرار، فتحول في الوطنية إلى خطة «الاعتدال» وفسر الاعتدال بمصانعة الاحتلال.

ثم كانت الطامة الكبرى، ونعني بها قضية «دنشواي» التي وقف فيها موقفًا ظل نادمًا عليه طول حياته.

وعن قضية «دنشواي» قلت في كتابي «سعد زغلول»: لقد كنا أربعة نقرأ وصف التنفيذ في «أسوان»، فأغمي على واحد منا ولم نستطع إتمام القراءة إلا بصوت متهدج تخنقه العبرات.

ويستطيع القارئ إذن أن يتخيل مبلغ السخط الذي أثارته في نفوسنا رؤية «الهلباوي» أمامنا وجهًا لوجه في دار الجريدة، يوم ألقى الأستاذ «لطفي السيد بك» خطابه الذي أشرنا إليه في الكلام عن صاحب «المؤيد».

لقد كان اغتباطي شديدًا بما أصابه من الأذى في ذلك اليوم، ولكني أقول إنصافًا له إننا رأينا في الرجل شجاعة لم نرها في غيره من المقصودين بالهتاف العدائي ذلك المساء؛ فقد أوى بعضهم إلى حجرات الدار حتى اطمأن إلى انصراف الجمهور الغاضب، وأبى «الهلباوي» إلا أن يقتحم الجمع خارجًا من الدار في إبان الهياج، ولم يحفل بما تعرض له في طريقه من اللكم والإيذاء.

وغاب «الهلباوي» زمنًا عن ميدان السياسة، ثم ظهر بعد الثورة الوطنية معارضًا ﻟ «سعد زغلول»، وكانت المساجلات بين الأحزاب يومئذ على أعنفها، ولكني أشهد القارئ أنني ما وجدت القلم ينبعث في يدي انبعاثًا إلى القول القارص العنيف كما كان ينبعث في الرد على خطب «الهلباوي» وأحاديثه، فردودي عليه فيما أعتقد كانت أعنف ما كتبت على الإطلاق.

ثم مضت الأيام، وشاء القدر أن يكون للهلباوي شأن في موقف من أهم المواقف في حياتي السياسية؛ لأنه الموقف الذي اعتزمت فيه جديًّا أن أترك الهيئة الوفدية مستقلًّا عن جميع الأحزاب.

كان الوفد والأحرار الدستوريون مؤتلفين على عهد الوزارة «الصدقية» التي عدَّلت الدستور.

وجاء اليوم الثالث عشر من شهر نوفمبر، فعقد «الأحرار» الدستوريون اجتماعًا في دار حزبهم، وذهبنا إليه تأييدًا لمظهر الائتلاف.

وإذا «بالهلباوي» هو خطيب الاجتماع.

وإذا بي جالس أمامه على قيد خطوة واحدة، وإذا به يحتال في كلامه ليهملني عند مناسبة ذكري، ويتجاوز الإهمال إلى التعريض.

وعلقت على الخطبة في اليوم التالي، ورآها فرصة سانحة لإرغامي باسم الائتلاف.

وجاءتني دعوة إلى بيت الأمة، حيث تجتمع طائفة من أعضاء «الوفد» على رأسهم «مصطفى النحاس باشا».

ما الخبر؟

الخبر — كما قالوا — أن مصير الائتلاف معلق على بيان مطلوب منا، ونحب أن نتلوه عليك.

قلت: وما شأني في هذا البيان؟

قالوا: بل الشأن شأنك؛ لأن فحوى البيان أن الوفد لا يقر ما كتبت عن «الهلباوي بك».

قلت: إنكم أحرار فيما تكتبون، ولكنني سأرد لا محالة على هذا البيان، وأقول لكم سلفًا إنني أنا المسئول عما أكتب، ولم يعلم الناس قط أنني أكتب بإشارة من أحد.

ثم ذكرت لهم سابقة «سعد» مع اللورد «جورج لويد» حين حملت على اللورد من أجل زياراته للأقاليم، وثار «اللورد» ثورته التي أوشكت أن تعصف بالبرلمان، وأرسل إلى «سعد» من يقول له إن «اللورد» يعتقد أنه هو الموعز بتلك الحملة، فقال سعد كلمته المأثورة: «إنها تهمة لا أدفعها أو شرف لا أدعيه.» ولم يفاتحني في الأمر حتى انقضت الأزمة، لكي لا أفهم أنه يقترح علي الكف عن الكتابة في هذا الموضوع!

ولكنهم لم يقتنعوا وقالوا إن صدور البيان من «الوفد» أمر لا محيص عنه، فإن شئت فاسمعه لتقترح تغييره أو تعديله فيما لا يرضيك.

قلت: «لن أسمعه، ولن أسكت عن الرد عليه.»

في ذلك المساء زارني «مكرم عبيد باشا»، والمرحوم «صبري أبو علم باشا»، وسألاني: ماذا صنعت؟

قلت: كتبت ردًّا على البيان سينشر في عدد الغد من جريدة «مصر» — وكانت من الصحف الصباحية — وفيها كنت أكتب مقالاتي كل يوم.

فحاولا وقف المقال.

فقلت لهما: إذا كنت لم أستطع أن أقنعكم بوقف بيانكم، فلن تستطيعوا إقناعي بوقف المقال.

ثم قلت لهما: إنني أملك أن أنشره في غير الصحيفة الوفدية، إذا حيل بيني وبين نشره فيها.

وكان قد جاءني فعلًا من يعرض علي العروض الطوال العراض لأعطيه المقال وينشره حيث يشاء.

وبعد مناقشة طويلة قال «مكرم باشا»: إننا كنا نود لو قبلت رجاءنا وعدلت عن نشر مقالك، أما وأنت مُصر على نشره فاقبل منا رجاء آخر.

قلت: ما هو؟

قال: أن يخلو المقال من الملام الشديد.

قلت: إنني إذا ذكرت الحقائق كما حصلت، فلا حاجة بي إلى ملام شديد.

ومضت سنوات ثلاث أو نحوها و«الهلباوي بك» لا يقع لي في طريق.

وحدثت في خلال ذلك جفوة بيني وبين المرحوم «عبد القادر حمزة» لمناقشة دارت بيني وبينه حين كنت أكتب في صحيفة «الجهاد».

ثم زارني يومًا بعد طول القطيعة، وهو يقول لي: لقد مررت بدارك وأنا في «مصر الجديدة» فحمدت هذه الفرصة وقلت لنفسي: فلنزره إن كان هو لا يزورنا، فما رأيك؟

قلت: إنه فضل لك سبقتني به، وعلي أن أشاركك فيه.

وزرته في دار «البلاغ» — بعد يوم أو يومين — فإذا «بالهلباوي بك» هناك، فكدت أهم بالرجوع.

بيد أن «الهلباوي بك» كعادته هجَّام لا يتردد، فجذب يدي وبدأني بالحديث.

ولقد خطر لي في تلك اللحظة أن واقعتي معه آخر ما يذكره في تلك المقابلة، ولكنها على عكس ذلك كانت أول ما ذكره وأسهب فيه، وجعل يقول وهو يضحك: كنت والله يا رجل أحب أن يكتب الله لي ثواب إخراجك من تلك الجماعة، ولكنه فاتني، وأراك خارجًا منها على التسعين!

وبعد حديث متشعب، دعاني والأستاذ «عبد القادر» إلى قضاء سهرة في منزله فاعتذرت، وخرج معي حين انصرفت حتى افترقنا عند دار «محمد محمود باشا» — رحمه الله.

ويظهر أن رغبته في زيارتي له بقيت تساوره زمنًا حتى صدرت صحيفة «روزاليوسف» اليومية وواليت الكتابة فيها، فدعانا جميعًا إلى قضاء السهرة عنده، وذهبنا إليه مع السيدة «روزاليوسف» والدكتور «محمود عزمي»، وكانت في الحق من أمتع السهرات؛ لأن الرجل محدث ظريف لا يمله المستمع إليه.

ولقد كانت أحاديثه في تلك الليلة أكثر من أن تذكر، إلا أنني أذكر من طرائف السهرة أن السيدة «روزاليوسف» كانت تخاطب قرينته وهي تظن أنها زوجة ابنه، لبعد الفارق بينها وبين زوجها في السن، ولم تزل على ظنها حتى نبهها إلى خطئها بنكتة من نكاته التي تناسب المقام.

نابغة من نوابغ عصره لا مراء، كان يسلم من كثير مما يؤخذ عليه، لولا تلك الحيوية التي أقلقته وباعدت بينه وبين الصبر والاستقرار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤