رجال حول «مي»

figure
مي.

في سجل الأدب «الخاص» من عصر النهضة العربية الحديثة مكان فسيح لصفحات جميلة لا تزال مطوية إلى اليوم، وإن كان منها ما يهم أن يطلع إلى عالم النور من طيات الخفاء.

ونعني بالأدب الخاص، ذلك الأدب الذي لم يقصد للنشر، وإن كان فيه ما يشوق الاطلاع عليه كثيرين غير أصحابه في حياتهم الخصوصية. وعلى رأس هذه الصفحات صفحة «الندوة» التي كانت تعقدها نابغة جيلها «ماري زيادة»، وقد اختارت لتوقيعها الأدبي اسم «مي» من الحرفين الأول والأخير في اسمها بدفتر الميلاد، وتأتي هذه الصفحة على رأس أمثالها بين صفحات هذا الأدب الخاص، لمكان «مي» من نهضة الأدب ونهضة المرأة في آن.

لو جُمعت الأحاديث التي دارت في ندوة «مي»، لتألفت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة «العقد الفريد» ومكتبة «الأغاني» في الثقافتين الأندلسية والعباسية.

ولو جُمعت الرسائل التي كتبتها «مي» أو كُتبت إليها من نوع هذا الأدب الخاص لتمت بها ذخيرة لا نظير لها في آدابنا العربية، وربما قل نظيرها عند الأمم الأوروبية التي تصدرت فيها المرأة مجالس الأزياء الأدبية والأزياء الاجتماعية، إلا أن يكون ذلك في عصر «الصالونات» أو عصر النهضة منذ القرن السابع عشر إلى ما قبل القرن العشرين.

أذكر هذا بعد قراءة الرسائل التي نشرتها مجلة «الهلال» للعلامة المفضال أستاذ الجيل «أحمد لطفي السيد»، فإن هذه الرسائل تعرفنا بصورةٍ «للطفي السيد» لا نعرفها من كتابته في الجريدة ولا في كتابته في تراجم «أرسطو»، ولا في كتابته بدواوين الوزارة، وفيها من طابع الشخصية، وطابع الندوة، وطابع العصر ما تحسبه خاصًّا إن شئت، وتحسبه ملكًا عامًّا، من ناحية الفن، لقراء الأدب الذي اقترن باسم «لطفي السيد»، واسم «مي»، وأسماء كتَّاب الندوة وأدبائها الكثيرين.

وعند «مي» — على ما نعلم — أنماط عديدة من الرسائل التي تسللت في عداد هذا الأدب الخاص ولا ندري أين موضعها الآن، وإن كنا نخشى أن تكون قد أحرقتها أو ردتها إلى كتَّابها لتسترد منهم كتبها إليهم، كما صنعت في غمرة من غمرات الحزن، غلبتها على صبرها بعد وفاة والديها.

ولكن الذي بقي منها في موضعه أو عند أصحابه، يساوي الجهد الجميل الذي يبذل في جمعه، وإنقاذه، وتسليمه لأصحاب الحق الأخير فيه، وهم قراء الآداب ومحبو الفنون.

كم كان زوار تلك الندوة العالية؟ وكم كان كتَّاب الرسائل منها وإليها؟

إنني أعد ممن رأيتهم غير مرة نحو الثلاثين، أذكرهم كما ترد أسماؤهم على القلم في هذه الساعة: «لطفي السيد»، «عبد العزيز فهمي»، «شبلي شميل»، «سليمان البستاني»، «أحمد شوقي»، «خليل مطران»، «أنطون الجميل»، «داود بركات»، «نجيب هواويني»، «توفيق حبيب»، «توفيق إسكاروس»، «أمين واصف»، «مصطفى عبد الرازق»، «مصطفى صادق الرافعي»، «هدى شعراوي»، «إحسان القوصي»، «إدجار جلاد»، «سليم سركيس»، «يعقوب صروف»، «حافظ إبراهيم»، «إسماعيل صبري»، «إدريس راغب»، «فؤاد صروف»، «عبد القادر حمزة»، «منصور فهمي»، «طه حسين»، «ملك حفني ناصف»، «مجد الدين حفني ناصف»، «عبد الستار الباسل»، ونخبة من هذا الطراز على اختلاف التشكيل ومع حفظ المقام. كما يقال في هذا المقام.

وكل زائر من هذه النخبة كان حقًّا له أن يزور الندوة في موعدها في أصيل يوم الثلاثاء، وكان يرى من حقه، أو واجبه، أن يعتذر لفوات موعده منها بعض الأيام، بل كان من حقه أن يكتب رسائل الاعتذار أو رسائل السؤال والتحية، وإن لم يكن من مطمعه دائمًا أن يتلقى الجواب.

أكُلُّ هؤلاء عشاق؟

وعلى كل من هؤلاء ينبغي ﻟ «مي»، إذا أجابت، أن تجيب جواب المحبوبة التي تتقبل العشق ممن يدعيه.

هذا هو الخاطر العاجل الذي يسبق إلى الوهم كلما ذكرت تحيات الرسائل، أو القصائد أحيانًا، من غير واحد في هذه الزمرة المختارة.

وهذا هو الخاطر الذي تصححه لمحة سريعة أيضًا، إلى طبيعة الندوة وطبيعة التحية «العرفية» التي تناسبها، بل تستوجبها بقانون الشعر والفن، وإن لم نقل بقانون الجنتلمانية والفروسية!

فتاة جميلة أديبة، يزورها أدباء وشعراء وكتاب قصة وأصحاب ذوق في جمال الكلمة وجمال الطلعة.

إن فات أحدًا من هؤلاء واجب التحية المناسبة للمقام، فما هو بزائر صالح لمثل هذه الزيارة، ولو لم تكن زيارة عشق ومناجاة.

وإن فات «ميًّا» أن تتقبل هذه التحيات، أو وجب عليها — كما قد يخطر على بال الأقدمين — أن تصدها بالعبوس والغضب، فليست هي زيارة «ندوة» إذن، ولكنها زيارة واحدة قد تنتهي كما تبتدئ عند باب الدار.

وهذا هو تأويل الرسائل على أسلوب الفن العاطفي، أو العاطفة الفنية، بين صاحبة الندوة وأكثر من زائر من نخبة هؤلاء الزوار.

ولكل منهم أسلوبه في تعبيره داخل هذا الإطار من التحية.

«لطفي السيد» وأسلوب الجنتلمان الفيلسوف.

و«عبد العزيز» وأسلوب الصمت الخجل، كأنه الصبي في مجلس الفتيات القريبات.

و«أنطون الجميل» وأسلوب بائع الجواهر في معرض الهوانم.

و«شبلي شميل» وأسلوب المصارع في حلبة الفكر والشعور.

و«خليل مطران» وأسلوب «موليير» على غير مسرح التمثيل.

و«سليم سركيس» وأسلوب الدعاية للبيوتات في صالونات من أشهر صالونات البيوت.

و«مصطفى صادق الرافعي» وأسلوب المفاجأة بالكتابة التي يغني الاطلاع عليها عن السماع.

و«إسماعيل صبري» وأسلوب الشاعر الذي يعلم أن حق الغزل الصريح أولى بالرعاية من حق الكناية والتلميح، وهو الذي كان يكتب الأبيات قبل يوم الزيارة مستئذنًا في الحضور:

إن لم أمتع بمي ناظري غدًا
لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء

و«أحمد شوقي» وأسلوب الإيماء من بعيد، وعليه تعليق الفيلسوف المعجب بالطرفين!

تتألف لجنة من لجان المحافل الثقافية، فيخرج «شوقي» من صمته مرة واحدة ليشترط أن تكون «مي» سكرتيرة اللجنة، وإلا فلا احتفال.

ويدركه «لطفي السيد» ليسأل: أهذ اقتراح شعري أو اقتراح في النظام؟!

وغير ذلك من الأساليب كثير على كل لون، ومن كل طراز، ولكنها كلها أساليب التهذيب واللباقة التي تناسب الزوار وصاحبة الدار.

وبين الزائرين الذين كانت لهم زلفى الرعاية الطويلة «إدريس راغب» رئيس المحافل الماسونية إلى عهد الملك «أحمد فؤاد»، ولم تكن «مي» من أعضاء المحافل الماسونية على ما أعلم، ولكن «إدريس راغب» كان يملك مطبعة المحروسة وينزل لوالد «مي» «إلياس زيادة» عن حق إدارتها وإصدار الصحيفة منها، وكانت ﻟ «إدريس راغب» هواية صحفية تمكنت منه على الخصوص بعد عزله عن وظائف الإدارة على أثر القضية المعروفة بقضية أرض المطرية بين الخديو «عباس» و«حسن موسى العقاد»، فاقتنى المطابع لإصدار الصحف الفرنسية والعربية، وخص والد «مي» بالإشراف على المطبعة العربية دون أن يقيده بسياسة يمليها عليه، وكانت زيارته لندوة «مي» أشبه بالزيارات العائلية كلما اصطحب معه إحدى كريماته الفضليات، وإن أبت عليهم محافظة الأسرة أن يجلسن مع الزوار، فإذا حضر منفردًا عرفنا ذلك من سؤال «مي» عن آل بيته السيدات، ومن جوابه بالاعتذار عنهن، أو دعوتها إلى زيارتهن في موعد قريب.

وكانت الآنسة «مي» حريصة على تقاليد العرف في الصالونات العائلية إلى حد التكلف، فهي تعقد ندوتها الأسبوعية للأدب والأدباء، ولكنها لا تنسى برنامج الصالون المصطلح عليه في البيوت، ولا تحب أن يظن الزوار العائليون أن أدبها ينسيها تقاليد «ربة الصالون» في مجتمع الأسرة، وأن مادة الثرثرة الاجتماعية «نمرة» منتظرة في كل صالون يحضره أناس من أصدقائها الأدباء، الذين تعرفهم معرفة عائلية وتقابل زوجاتهم وأخواتهم في بيوتهم وفي ندوتها، وقد كان يلوح لي غير مرة أنها كانت تنتظر من أولئك الزوار العائليين خبرًا أو أخبارًا عما يجري فيه الحديث بينهم في شئون الزواج والطلاق والخلاف والوفاق، وتعقب عليه بملاحظة عابرة أو نكتة فكهة، إلا أن يكون فيه شيء من المساس الصريح بالأخلاق المرعية، فهي في هذه الحالة تتابعه بالصمت أو تصرفه بكلمة عابرة.

قال أحد الحاضرين يومًا: أسمعتم أن الأستاذ «حافظ رمضان» قد تقدم لطلب الزواج من السيدة «هدى شعراوي»؟

فقالت: «إنه خطيب كفؤ للزوجة المخطوبة»، والتفتت إليَّ كالمتسائلة عن رأيي في رأيها هذا، لأن الخطيبين لهما شأن في الحياة العامة، فقلت بغير اكتراث كأنني أساق سوقًا إلى الحديث: إن الأمر يعنيهما، وبارك الله للعريس في العروس وللعروس في العريس!

وقد كانت «الحشمة الصعيدية» لا تفارقني بحكم العرف الذي نشأت عليه، وكنت أشهد مجلس والدي في صباي فلا أسمع خبرًا من هذه الأخبار التي تدور على الحريم وكل ما يتصل به من سر أو علانية، فإذا عرض اتفاقًا فإنه يعرض ليصرف على الأثر ولا يعاد إليه، وكانت — رحمها الله — مولعة بالإلحاح عليَّ في هذه الأحاديث خاصة، وهي تنظر إلى تحرجي من الخوض فيها نظر الحضري إلى الريفي «الخام» القادم من القرية صباح يومه!

سألتني مرة: هل صحيح أن الأستاذ «عبد القادر حمزة» تزوج من السيدة «منيرة ثابت» صاحبة «الأمل»؟

قلت: لا أعلم، ولم ينشر الخبر في البلاغ على الأقل!

قالت متهافتة: أَوَلَا تعلم من أخبار زملائك في البلاغ إلا ما ينشر في الصحيفة؟

قلت: أو ما يعنيني أن ينشر!

فعادت تقول في شيء من التخابث المصطنع: لا لا يا أستاذ، لعل الخبر لا يرضيك لأمر يعنيك!

وكانت تتحدث قليلًا جدًّا عمن يخطبونها كأنها تعتذر لرفض الخطبة بعد الخطبة، لغير سبب وجيه في رأي الأصدقاء الذين قد يلومونها على إعراضها الدائم عن الزواج.

قالت مرة لمن سألها عن خطبة شاب من أسرة غنية ذات لقب غير مقبول: أتريد أن تناديني غدًا باسم مدام «بعجور»؟! ونحن نذكر اسم «بعجور» هنا بدلًا من اسم الأسرة الصحيح، رعاية لشعور أبنائها الأحياء.

وخطبها طبيب لبناني، فعاتبها صديق له؛ لأنها ردته بشيء من الجفاء، فقالت: إنه لطيف لا خلاف، ولكن اللطف الذي قد يسميه من شاء «تأنثًا» لا يعجبني.

وخطبها صحفي ثرثار كانت تصفه «بيبوسة المخ»، فلم تزد في جواب السائلين على السماح للخطيب المرفوض يومًا من أيام الندوة بالانطلاق في الحديث عن عادته من اللجاجة والعنت، فكاد الحاضرون أن ينصرفوا جميعًا، وكان هذا هو جوابها الغني عن البيان!

وتحدث بعضهم عن فتيات لاهيات متطرفات في الحرية الاجتماعية، وأبدى إشفاقه من فوات حظهن في الزواج بمن يناسبهن، فقالت ساخرة: ولكن هؤلاء وأمثالهن، يا أستاذ، هن اللواتي يسرع إليهم الأزواج من الأكفاء، وفوق الأكفاء!

ولقد كان لكل من رواد ندوتها العائليين، دور «عائلي أدبي» ملحوظ على منهجه المألوف.

كان للدكتور «شميل» دور الأب العصري الذي يحض فتاته على التحرر من قيود التربية العتيقة، وكان رفع الكلفة مع الناس جميعًا طبعًا من طباع الدكتور «شميل» لا يتكلفه مع أحد، فإذا استقبلته يومًا في الندوة، فلمح على محياها أثرًا من آثار الوجوم والاحتجاز، صاح بها صيحة الغضنفرية: ما هذا يا صغيرتي؟!

أنا حاضر هنا إلى صغيرة مثل بناتي، فماذا أرى؟ شيخة أناديها يا «أم شولي»؟

وكان «شميل» يملك حريته كلها في الندوة، كأنه صاحب الدار وصاحبته هي الضيفة الزائرة فيه، فرفع عصاه ذات يوم على الخطاط المشهور «نجيب هواويني» ولم يدعه حتى أخرجه من الباب، وذنبه الذي استحق عليه هذا الطرد العنيف أنه كتب قصيدة كان الدكتور يلقيها ويقول فيها على ما أذكر:

ماذا دهاك وكنت دين سياسةٍ
ورئاسةٍ يا أيها الإسلام

فكتب الخطاطُ «الكسلانَ» بدل الإسلام، وثارت ثورة الدكتور على الرجل الذي يبلغ من غبائه أن يكتب في القصيدة الواحدة قافية بالنون بعد قافية بالميم، وأبى أن يكون لمثل هذا حق في حضور ندوة يحضرها من يقرءون ويكتبون!

وكثيرًا ما كان «شميل» يحمل على «الأدباء» في عصره حملاته المنكرة، ويصيح بهم كأنهم حاضرون أمامه يخاطبهم ويخاطبونه: فُضُّونا من غلبتكم يا أدباتية يا أولاد الكلب!

وكانت الآنسة تجيبه ضاحكة كلما صاح هذه الصيحة: قلمك يقول إننا أولاد القرد ولسانك يقول إننا أولاد الكلب، فمن من الوالدين الكريمين تستقر نسبتنا إليه؟!

وكان للأستاذ «داود بركات» مثل هذا الدور الأبوي المتحرر من الفتاة الرصينة المتحرجة، وقد يتجاوز النصيحة الكلامية إلى الأخذ بيدها في محافل العائلات التي يسمح فيها بمراقصة الفتيان والفتيات، ليجذبها جذبًا إلى مراقصة هذا أو ذاك من زوار الدار، وكانت هي تتملص من يده بلطف ووداعة، ولكن بعناد وإصرار.

والأستاذ «الجميل» كان كصديقه «شبيلي» و«بركات» في هذه الأبوة الأدبية، ولكنه كان يؤثر نصيحتها برعاية صحتها وراحتها على النصيحة بالتحرر والانطلاق من قيود التحرج والاحتجاز، وقد كانت له شدة تبلغ منه غاية ما يستطيعه بمزاجه «الدبلوماسي» المطبوع، كلما لحظ عليها نوبات العناد والإصرار في أيام مرضها الأخير، فربما قال لها وهو يظهر قلة المبالاة: ماذا تظنين وأنت تهملين صحتك هذا الإهمال؟! أتظنين أن العالم الأدبي يجفل في احتجاجك الصامت هذا ويجلس للبكاء عليك أو للضراعة بين يديك؟! التفتي إلى نفسك، التفتي لمصلحتك، وإلا فأنت الباكية وحدك لما يصيبك من هذا الإهمال، وهذا العناد.

أما الأستاذ «خليل مطران» فقد كان دوره في الأبوة الأدبية كهذا الدور بعينه، ولكن من ناحيته الفنية الشعرية، ولعله كان دور «الأب» الممراح في صورة من صور أبطال «موليير» تلقى القبول والاختيار؛ حيث تكون الأبوة هناك أبوة جد وإلزام.

كانت طريقته معها طريقة الدعابة السمحة والنقد المباح، وكان في دعابته أحيانًا يضع تكلفها الاجتماعي أو العاطفي موضع «الرياء» المتفق عليه، ويغايظها بإبراز هذا الرياء للعيان، فلا تغضب منه ولا تأباه، بل تضحك منه كما يضحك الزوار.

خرجت يومًا لتودع سيدة جليلة وكريماتها من أصدقاء «مطران» فخرج معهن، وطال بهن الموقف عند باب الندوة بين التوديع، وإعادة التوديع، والحزن للفراق والرجاء في قرب اللقاء، فلما انقضى هذا «الفصل» الذي لا حيلة في تمثيله على البداهة أو على الروية، سبقهم الشاعر الكبير عائدًا إلينا وهو يفرك يديه ويتباكى من الحسرة والأسى، وراح يقول وهو ينظر إلى الآنسة: يا سلام! يا سلام! «الجماعة دول وداعهم مؤثر. مؤثر قوي!»

فقلت له متشككًا كأنني أقتص من دعابته التمثيلية: «مش باين» يا أستاذ.

قال: رحمتك يا أخ، أتريد أن ألطم؟

وحضر في أثناء ذلك زائر كبير من زوار الندوة وهو يغالب الضحك على خلاف عادته من الوقار، فقال «مطران»: الحمد لله، ماذا يُضحك يا أستاذنا الجليل؟!

وكان الزائر الحاضر هو العالم الفيلسوف الأمثل الأستاذ «مصطفى عبد الرازق»، وقد مر ببار اللواء في طريقه إلى دار الآنسة، فاستوقفه صديقه الإداري الأديب «أمين واصف» وحدثه عن رئيسها «أحمد شفيق باشا» في جماعة الرابطة الشرقية، وراح يحكيه وهو يمشي إلى محطة العاصمة بملابسه التي اخترعها لتوحيد الأزياء الشرقية، وكان من حديثه عنه أنه لم يسلم عليه حين رآه للوهلة الأولى؛ لأنه حسبه في ذلك الزي مسجونًا يسفرونه تحت الحراسة إلى الليمان!

وانقلب «التباكي» القريب إلى «انفجارة» مندفعة من ضحك القوم جميعًا؛ لأنهم كلهم يعرفون أضاحيك «أمين واصف» ومراسم الشيخ المتزمت الغالي في التزمت «أحمد شفيق».

وثاب الشيخ «عبد الرازق» إلى وقاره بعد هنيهة، فقال كالمعتذر من هذه الثورة الضاحكة إلى الآنسة ربة الدار: ما هذا؟! إننا نضحك هذا الضحك مرة واحدة، فلا تؤاخذينا، فالعتب على القافية.

ولحقه «مطران» بغير أناة وهو يواصل ضحكه ويقول للشيخ: اضحك، اضحك يا مولاي، من الذي يطول ضحكة من هذه الضحكات في هذه الأيام؟!

•••

وكان مطران أخبر زوار الندوة باللغة التي يجيب بها عن أسئلتها كلما سألت عن أحد، أو عن أمر، لا يسمح المقام بالصراحة «التامة» في الحديث عنه، جرى ذكر شيخ من كبار المستهترين في زمانه فضحكنا، فسألت: لماذا تضحكان من سيرة هذا الشيخ؟ ومن هو؟!

قلت: إنه شيخ متعبد وشرب الخمر أخف معاصيه.

قالت: يا حفيظ!

والتفتت إلى «مطران» ففهم أنها تستزيد البيان، فقال: هو رجل مستريح الضمير!

وربما كانت الألفة «العائلية» أقرب من ألفة الأدب في ترجيح دور «مطران» في الندوة؛ لأن والدة الآنسة «مي» — وهي سيدة ذكية حازمة — كانت تعرف أهله كما تعرفه وتستمع إليه وإن لم يتحدث عن الأدب والفلسفة.

وانطلق ذات ليلة في نوادره ومداعباته وأخباره، لا يكاد يسكت أو يؤذن السامعين بالسكوت، فهمست في أذن الآنسة أقول: يحق للسيد «خليل» أن يعجبه كلامه كما يعجبنا، فإنه محدث ظريف خبير بأفانين السمر.

وسمعت والدتها هذه الملاحظة الهامسة فابتسمت وقالت بصوت مسموع: إنه كأمه تمامًا، أمه مثله كلمة كلمة!

وقد كنت — كلما ازددت معرفة ﺑ «مي» وبحياتها في ندوتها وفي بيتها — أشعر بحنان هؤلاء الأفاضل الأبويين نحوها، فإنهم — ولا ريب — كانوا يقصدون التسرية عنها، ويدركون من بواكير صباها أن فرط التزمت في طويتها يجاوز حده المأمون، وإنما يوشك أن تعاني كثيرًا من عادة العزلة النفسية التي جنت عليها في أخريات أيامها، وأنها تغالب شجنًا كمينًا لانطوائها الشديد على ذاتها، يخيل إلي أنه مزيج من الصدمة العاطفية وشعور التبتل العميق في سليقتها الدينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤