أحمد لطفي السيد

figure

١

كان في فكرته «أفلاطونيًّا» بجميع معاني هذه الكلمة، ومن معانيها «الأفلاطونية» التي هي فكرة بغير منفعة أو بغير داعٍ من دواعي الأثرة والأنانية، كالحب العذري كما تفهم بالعربية.

ومن معانيها، وهو أقرب إلى ما نعنيه في هذا المقال، أن الرجل العام ينبغي أن يعيش للمصلحة العامة تطوعًا وحسبة بغير جزاء، وألا يشتغل بخاصة أموره «الشخصية»؛ لأن الدولة التي يتجرد لخدمتها هي التي تتكفل له بكل وسائل التفرغ لتلك الخدمة، وليس له بعد ذلك حق في وقته الخاص لغير القيام بحقوقها.

وهذا هو دستور الحكم الأفلاطوني كما شرحه الفيلسوف اليوناني في كتابه الموسوم باسم «الجمهورية»، وقد اشتهر في العالم القديم والعالم الحديث باسم «جمهورية أفلاطون».

ولقد كان «لطفي السيد» يعيش فعلًا على وفاق هذا الدستور، وكان — من زمن بعيد — يعهد في زراعة أرضه وتثميرها إلى بعض أقربائه، ولا يتعرض لتفصيلات حسابها، مكتفيًا بما يقدمه وكيله عليها من حساب مجمل عن غلاتها ونفقاتها. وكانت طريقته في تدبير نفقات البيت كطريقته في تدبير حساب ضيعته، وهي الضيعة التي أبى أن يملكها كلها حين أراد أبوه أن يختصه منها بخمسمائة فدان لا تدخل في تقسيم الميراث بينه وبين إخوته، فأبى ذلك وأصر على الإباء، ولم يقبل من الميراث غير حصته التي يستحقها مع سائر الورثة على سنة المساواة.

يفكر للكون كله

طال حديث اللغة والمجمع يومًا حتى وصلنا إلى نادي «محمد علي»، وكان النادي على مقربة من المجمع اللغوي؛ إذ كان مقره بأول شارع القصر العيني، فدعاني إلى إتمام الحديث في مجلسه المختار بالنادي، حيث كان يقضي أوقات الفراغ ويتناول أحيانًا طعام الغداء أو العشاء.

وحضر إلى النادي صديقه الدكتور «بهي الدين بركات»، فعلم منه عرضًا أنه ينوي السفر إلى عزبته لبعض أعمال زراعية تستدعي حضوره، فسأله مصطنعًا الجد كعادته في توجيه بعض الأسئلة التي يريد أن يستطرد منها إلى مناوشة من مناوشاته الفلسفية، قال يخاطب الدكتور «بهي الدين»: وهل من حق «الرجل العام» أن يفرغ لخاصة شئونه.

ففهم الدكتور مقصده من هذه المقدمة التي تعودها منه — على ما يظهر — كما تعودها محدثوه، وقال ما معناه: وهل العمل في الأرض محرم في شريعة الحكمة؟

قال: أنا لم أقل هذا.

وأردت أن أشترك في المناوشة فقلت: إنما هو سؤال ليس إلا.

قال الدكتور «بهي الدين»: أهو سؤال بريء؟

قال الأستاذ: أما أنه سؤال بريء فلا!

ومضى الدكتور «بهي الدين» يتحدث عن العمل الذي يسافر إلى العزبة من أجله، ومنه مشروعات للتعاون والخدمة الاجتماعية لمصلحة الفلاحين.

فعاد الأستاذ يقول: أما هذا فمرخص به للرجل العام.

وقد كان أقدم زملائه وأصدقائه من أيام الدراسة الثانوية «عبد العزيز فهمي» باشا يداعبه كثيرًا من هذه الناحية، ويقول كلما خالفه في رأي من آرائه الفلسفية أو اللغوية: إنك يا «لطفي» تفكر للكون كله، ولا يعنيك أمر الزمن القريب ولا أمر هذه الخلائق الفانية.

وكان أمتع ألوان الحديث بين الرجلين الكبيرين تلك الأحاديث التي كانت تجري بينهما في السيارة أثناء الطريق من دار المجمع إلى «مصر الجديدة»، حيث يقيمان وأقيم على مقربة منهما، ويتفق كثيرًا أن يدعواني إلى صرف سيارتي ومصاحبتهما بعد انتهاء جلسات المجمع، ولا سيما الجلسات التي يطرأ عليها بعض الخلاف بيني وبين «عبد العزيز باشا» في مسائل اللغة أو الأدب، وحدث ذلك كثيرًا أيام المناقشة على كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وهو موضوع شغل صاحبنا القانوني الكبير يومئذ عدة شهور، ولم يكن يطيق المعارضة فيه.

فقال لي مرة، وقد أنس من الأستاذ «لطفي» شيئًا من الميل إلى ترجيح رأيي: «اوع تطلع فيها يا عقاد على طريقة أستاذنا «لطفي»، إن «لطفي» ينظر إلى هذه الأمور التي نشتغل بها نظرة الأرباب، قل له: ما رأيك إذا كتبت العربية غدًا بالحروف الصينية؟ يقل لك على الأثر: «ويجرى إيه؟»»

فقال لطفي: «ويجرى إيه؟!»

وعاد «عبد العزيز» يكرر الحديث عن نظرة الأرباب وصديقه يكاد يهم بالتأفف من هذا التكرار، حتى قال متأثرًا: ألا ترى أنك تسخر مني بهذا الحديث عن الأرباب والنظرات الكونية؟

فأسرع «عبد العزيز» يرد على صديقه بلهجة جافة، كلهجة الدائن الذي يخاطب المدين المماطل: ما هذا التجني يا أخي؟!

فصرف لطفي موضوع هذه المناقشة قائلًا: ليكن حديث أرباب، دع الأرباب هي التي تحتج عليك هذه المرة!

معركة ولي العهد

وأشهد أنني ما عرفت خليقة الحلم في «لطفي السيد»، ولا فضل هذا الحلم في دوام الصداقة بينه وبين أصدقائه وأخصهم «عبد العزيز فهمي»، إلا من أمثال هذه المساجلات التي تنتهي بالجفاء في الخطاب، وقد اشتد بعضها حتى بلغ من الشدة أن «يقفل» «عبد العزيز فهمي» التليفون في وجه صديقه، على أثر محادثة سريعة كان موضوعها أيضًا ذلك الموضوع الشائك عن الحروف اللاتينية.

روت إحدى الصحف عن الأمير «محمد علي توفيق» أنه يستنكر الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، فثارت عليه ثائرة «عبد العزيز فهمي»، وبسط لسانه فيه بكلام حاد على مسمع من أعضاء نادي «محمد علي»، وقد كان الأمير «محمد علي» رئيسه يومذاك، وكان أيسر ما قال في تلك الحملة خطابه لسامعيه وهم يجتهدون في تهدئته: أتحسبون أنني لا أحترم الأمير «محمد علي»؟ أتحسبون أنه حين يتكلم عن الكتابة بألفاظه الفصيحة «كخذروف الوليد» يستحق مني غير الاحترام؟ كلا، إنني مطالب باحترام ولي العهد بحكم الدستور!

ثم خرج من النادي توًّا إلى قصر عابدين فكتب اسمه في دفتر التشريفات، وجعل مناسبة هذه الكلمات في غير موعد من مواعيد التهنئة أو المعايدة: أنه يسأل الله أن يرزق الملك ولي عهد رشيدًا تقر به عيناه!

وسمع «لطفي السيد» بهذه الجملة، فخاطبه تليفونيًّا ليرجوه أن يترك الأمير وشأنه على الأقل في أحاديث النادي، فوضع «عبد العزيز» سماعة التليفون بعنف شديد ولم يعتذر من هذا المسلك مع صديقه إلا بعد أيام، وإن كان على هذا في سائر أحواله عظيم الإكبار له عظيم الثناء عليه.

•••

ولا شك أن كلام القاضي الكبير عن نظرات صديقه الكونية لم يخل من أسلوب الدعاية التي تبيح بعض المبالغة، ولكنها — بعد السماح للمبالغة بحصتها في وصف هذه النظرات — لم تخل من العدل في تقرير الواقع إلى حد محدود.

ﻓ «لطفي السيد» كان ينظر إلى المسائل الفكرية والاجتماعية نظرة محيطة واسعة، يوشك أن تتعادل فيها جميع الجوانب والأطراف، ولكنه كان من أشد المفكرين اهتمامًا بما يعتقد فيه الخير والصلاح، وكنا نلمس على محياه أمارات الغم الصامت كلما خولف اعتقاده وجرت الأمور على غير ذلك الاعتقاد في الحياة العملية.

إلا أن الأمر الذي كان يبيح لصديقه أن يحسبه من الأرباب في تفكيره، أنه على كل إيمانه بعقائده العقلية والخلقية لا يرى من المستحيل أن يكون لغيره الحق في إيمان كهذا الإيمان على خلاف ما يراه بعقله ووجدانه.

وكان كثيرًا ما يقول لمن يحتم أمرًا من الأمور: وهل في هذه الدنيا شيء ضروري؟ وهل في هذه الدنيا أحد ضروري؟ وهل يمتنع غدًا أن تتساوى النتائج وتتلاقى الأضداد التي نحسبها الآن على افتراق بلا لقاء؟

رأي ﻟ «سعد زغلول»

وهذه النظرة المحيطة هي سر «ديمقراطيته» في مسلكه بين الناس ومسلكه بين زملائه في العمل، وإن خالفوه أبعد المخالفة في الآراء، ولا أذكر مرة واحدة في نحو عشرين سنة قضيناها معه بمجمع اللغة العربية، أنه حاول بالتصريح أو التلميح أن يؤثر في اتجاه المناقشة أو يقاطع صاحب رأي يعارضه وينفر منه، وإنما كان على الدوام يصغي باهتمام إلى نهاية المناقشة ولا يشعر المخالفين له بعد ذلك أنه كان معهم على خلاف.

تلك السماحة الواسعة في تقدير وجوه الخلاف التي جعلته مرجعًا للمشورة الصادقة بين أصدقائه وتلاميذه من المشتغلين بالحكم والقائمين بأعمال الوزارات، فقد كان يمحضهم الرأي من جميع جوانبه ويوازن لهم بين جميع احتمالاته، ويتركهم أحرارًا فيما يختارون، وإن كان ليتركهم أحيانًا أخرى على باب التيه يحارون بين مضطرب الأفكار ومفترق الظنون والتقديرات، ولا أدري ممن سمعت — أمن «سعد زغلول» أم من «محمد محمود» — أن «لطفي السيد» قوي الفكر، ولكنه قد يكون في بعض تقديراته واحتمالاته قوتان متعارضتان، فيقف به هذا التعارض دون العمل المستطاع، أو يقف به دون الحماسة لرأي من الرأيين؟ ولا بد من الحماسة «ذات النظر الواحد» لمن يريد أن يمعن إمعان الجد والعناد في طريق مقصود إلى غرض محدود، ولم يكن «لطفي السيد» قط ذا نظر واحد يحجب عن تفكيره سائر الأنظار.

فلم يكن من طبعه أن يصادم أحدًا أو يصطنع في الخصومة قسوة ولددًا، ولكنه كان يثبت في مكانه ويترك لمن يخالفه أن يصطدم به إذا شاء، ولا سماحة فيما وراء ذلك إذا سامته السماحة أن يتحول عن مكانه الذي استقر عليه. فهو عند رأيه لا ينحرف عنه وإن أعطاه من الصور الفكرية ما يدفع عنه شر الضغينة والافتراء.

مصر للمصريين

كان من مبدأ «لطفي السيد» — كما هو معلوم — أن استقلال مصر مقدم على الاعتراف بالسيادة العثمانية، وكان هذا معنى شعاره وشعار زملائه في الرأي والعقيدة: أن مصر للمصريين.

ووقعت الجفوة بينه وبين الخديو «عباس الثاني»؛ لأن الخديو وجده على غير ما كان يرتضيه حين اختاره عضوًا في الجماعة السرية التي تنشر الدعوة إلى القضية الوطنية في الديار الأوروبية. واتفقا مع أعضاء هذه الجمعية على سفر «لطفي» من مصر وإقامته بسويسرا سنتين لاكتساب الجنسية السويسرية والانتفاع بهذه الحماية في مكافحة الاحتلال، فلم يستحسن «لطفي السيد» هذه الحيلة، ولم يلبث أن تنحى عن الجماعة حين أحس أن الخديو يريد أعضاءها خدَّامًا لشخصه وأعوانًا لسلطانه على غير المبادئ الدستورية، وتمت القطيعة بينه وبين القصر بعد ولاية «لطفي» لتحرير «الجريدة» لسان حال حزب الأمة، فتحمل القصر وحاشيته معاذيرهم لرفع الدعوى الجنائية عليه، واتخذوا من مناداته الصريحة بالاستقلال التام دليلًا «قانونيًّا» على «خيانة» السيادة المعترف بها للخليفة العثماني والمتفق عليها في العلاقات الدولية، بمقتضى المعاهدات التي يقرها المحتلون ولا يستطيعون «قانونًا» أن يسقطوا العقوبة عمن يخرج عليها.

وخطر للطفي السيد أن يحبط هذه المكيدة بعد أن جهرت بها الصحف الموالية للقصر، ومنها «المؤيد» الذي كان له وزنه ونفوذه في الصحافة العربية.

قال «لطفي السيد» مدافعًا عن رأيه: إنه يدعو إلى استقلال مصر ولا ينكص عن هذه الدعوة، ولكن التمام غير الكمال، وقد يقال إن الطفل إنسان تام، ولكن الإنسان الكامل لا وجود له بين الأطفال ولا بين الكبار، وكان من حجته التي أعدها للدفاع عن رأيه أن بقاء الخلافة لا يقتضي أن تكون مصر مسلوبة السيادة، ولا أن يكون استقلالها ناقصًا غير تام.

وشاءت المصادفات في دراسات المجمع أن تعرض مسألة الفرق بين التمام والكمال، وأن أذكر رئيسنا برأيه القديم، فابتسم وقال: لعله من الوجهات السياسية رأي مقبول، ولكنني لم أندم على شيء ندمي على ذلك التفسير الذي أحبطت به دسيسة القوم، ووددت لو أنني تركتهم يدعون ما يدعون ولم ألحق مبدأ «الاستقلال التام» بأي تفسير.

وبقي الرجل على شعار «مصر للمصريين» ومبدأ «الاستقلال التام» بغير تفسير، وكان هو ثالث ثلاثة وضعوا صيغة توكيل الوفد في طلب الاستقلال التام، أما الاثنان الآخران فهما صديقاه «عبد العزيز فهمي» و«سعد زغلول»، ولولا أنه لم ينتخب عضوًا للجمعية التشريعية، لكان ثالثهما في زيارة دار الحماية للمطالبة بإلغاء الحماية البريطانية والاعتراف لمصر بالاستقلال التام، مع إنكار السيادة العثمانية والحماية البريطانية على السواء.

المرشح الديمقراطي

وقصة سقوطه في انتخابات الجمعية التشريعية إحدى أعاجيب الدعاية الانتخابية التي تعرض لها من جراء المناداة بالحقوق الديمقراطية؛ إذ كان منافسه يشيع عنه أنه يطلب للمرأة الحق في الجمع بين أزواج أربعة؛ لأنه يطلب لها المساواة الديمقراطية، ويسألونه: هل أنت حقًّا من طلاب الديمقراطية؟ فيجيبهم بالتأكيد ويعيد لهم الشرح من جديد.

ومما أذكره أنني ذهبت إلى مكتبه بالجريدة لمؤاساته في هذه الخيبة المؤسفة، فوجدته قد تلقاها بصبر الحكماء وفكاهة العظة والاعتبار، وهو لا يخفي إعجابه بذلك «الريفي» الماكر الذي غلبه باسم الديمقراطية! ثم حضر «الشيخ طه حسين» وأنا عنده، وكان شابًّا يلبس العمامة لا يزال، فإذا بالأستاذ يتبسط معه ويعزيه؛ لأن زميله في ترجمة بعض الكتب — الأستاذ «محمد رمضان» — قد خرج بمثل هذه الهزيمة من معركة الانتخاب، وكان الشاب «طه حسين» كفؤًا لهذه الدعابة، فكان جوابه للأستاذ: إنني أتقبل التعزية ولكنني أرجو يا أستاذنا ألا ترفضها!

وهذه الديمقراطية التي نادى بها لطفي السيد — فكرة وقولًا — قد عاش لها وعاش بها عملًا وإيمانًا، وقد كانت هي الطابع الذي طبع عليه بمزاجه قبل أن يطبع عليه بتفكيره ودراسته، ولم تمنعه شيمته التي تتمثل فيها كل خلائق الوجاهة الفطرية أن يكون «أرستقراطيًّا» بالشكل ديمقراطيًّا بالموضوع، إذا جاز هذا التعبير.

كان هذا الرجل الممتاز بشخصيته وخلقه فكرة في حياة، أو حياة ملكتها الفكرة في خاصة شأنه وعامة عمله وقوله، وإخالنا نقيمه في مقامه الوطيد بين مفكري العصور حين نقول إنه في عصرنا هذا زميل عربي «لأرسطو» اليوناني، تجدد مع الزمن في مدرسة الثورة الفرنسية؛ مدرسة «فولتير»، و«روسو»، و«مونتسكيو». وعاش بعدهم فتقبل من حكمة العصر ما كانوا يتنزلون إلى قبوله من حكمة القرن العشرين، ولكنه لم يزل بعد منتصف هذا القرن العشرين على نمطه السلفي الأفلاطوني، فكرًا في إهاب إنسان.

حول مذكرات عبد العزيز فهمي

بعد وفاة «لطفي السيد» — رحمه الله — ظهرت لزميله وصديقه «عبد العزيز فهمي باشا» مذكرات عن تاريخ حياته، تكلم فيها عن أعمالهما في الحياة العامة، وفي حركة الوفد المصري الذي كانا عضوين فيه، واستوقفني خلال المذكرات بعض مواضع للملاحظة والتصحيح ولم يتسع المجال للتعقيب عليها جميعًا، فاكتفيت بما جاء منها عن مقدمات الحركة وهو كاف للإبانة عن مدى الاختلاف بين الواقع والرواية في سائر المذكرات، وهذا هو التعقيب كما نشرناه في صحيفة الأخبار:

قرأنا في مذكرات الأستاذ «عبد العزيز فهمي باشا» فصلًا عن تأليف الوفد المصري، وعن الأعضاء الثلاثة الذين قابلوا المندوب البريطاني «سير ريجنالد ونجت»، قال فيه: «هؤلاء الثلاثة هم سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي، ومما تجب ملاحظته هنا أن اختيار هؤلاء الثلاثة إنما وقع بطريق المصادفة والاتفاق، وإلا فباقي إخوانهم فيهم من هو أكفأ في النضال المنطقي وأولى بالسفارة، مثل رجلنا الكبير أحمد لطفي السيد، ولعل التقدم في السن كان هو السبب الطبيعي الذي أدى إلى اختيارهم.»

هذا ما جاء في المذكرات بنصه منقولًا عن أحد الأعضاء الثلاثة، يليه كلام عن المناقشات التي دارت بين «سعد» وزملائه حول الاستعداد لإثارة القضية المصرية أمام مؤتمر الصلح، يدل كله على ضرورة «التبييض» في كل كلام يتعرض لمسائل الخلاف في السياسة؛ لأنه يحتمل السهو والنسيان كما يحتمل التأثر بالميول والخصومات، ولكننا نكتفي هنا بالفقرة الأولى من هذه القصة كلها؛ لأن الحقيقة فيها أظهر من أن تحتاج إلى المراجعة والمناقشة، وهي تتعلق بسبب اختيار الأعضاء الثلاثة لمقابلة ممثل الدولة البريطانية دون غيرهم من المشتركين في الوفد بعد تأليفه.

لم يكن اختيار هؤلاء الأعضاء الثلاثة مصادفة واتفاقًا، ولم يكن للتقدم في السن على سائر الأعضاء، ولكنهم كانوا هم نواب الجمعية التشريعية بين الأصدقاء الخمسة الذين تألفت منهم نواة الوفد في المرحلة الأولى، وهم كما ذكرهم الأستاذ «أحمد لطفي السيد» في قصة حياته: «سعد زغلول» و«عبد العزيز فهمي» و«علي شعراوي» و«محمد محمود» و«لطفي السيد»، ولم يكن الاثنان الأخيران من أعضاء الجمعية التشريعية، فتقرر الاكتفاء «بسعد» وكيلًا للجمعية و«شعراوي» و«عبد العزيز» العضوين فيها، ليكون للثلاثة صفة الكلام بالنيابة عن الأمة.

وقد كان الانتخاب للجمعية التشريعية أهم أسباب هذا الاختيار باتفاق الأعضاء، ولكنه لم يخل من أسباب أخرى لوحظت فيه — كما سمعنا من «سعد» بعد ذلك — ومنها أن «علي شعراوي» يمثل أعيان الفلاحين، وأن «عبد العزيز فهمي» — الذي كان نقيبًا للمحامين — يمثل طائفة المتعلمين، وأن الأول من الوجه القبلي والثاني من الوجه البحري، فهم صالحون لتمثيل الناخبين في أوسع نطاق.

ولما تقرر القبض على الزعماء الأربعة ونفيهم إلى جزيرة مالطة، لم يكن هذا الاختيار أيضًا من قبيل المصادفة والاتفاق في نظر الجهات الرسمية، ولكنه كان عند هذه الجهات موافقًا لتقاليد «البروتوكول» في نظام الأولية، فكان «سعد زغلول» رئيس الوفد ووزيرًا سابقًا، وكان «إسماعيل صدقي» عضوًا يليه في الأسبقية الوزارية، وكان «محمد محمود» مديرًا من كبار الموظفين، وكان «أحمد الباسل» يحمل لقب الباشوية ويمثل رؤساء العشائر في البلاد.

فلم يكن هنالك محل للمصادفة، ولا لاعتبارات السن، في اختيار الزعماء من جانب الوفد أو من جانب السلطات الرسمية، ولكنه عمل من أعمال النظام متفق عليه، وقد سها عن ذلك رجل من أولى الناس بذكر مسائل النظام فضلًا عن كونه أحد هؤلاء فكيف بسائر الروايات؟ وكيف بسائر الرواة؟

أما بقية الكلام على المناقشات التي دارت عند التفكير في إثارة القضية الوطنية، فهي أحوج من هذه القصة إلى التعقيب، وهي لحسن حظ التاريخ مما يكفي للتعقيب عليه مجرد البيان الوجيز.

٢

كان حزب الأمة يضم بين أعضاء مجلس إدارته وسائر أعضائه البارزين فئة كبيرة من السروات وأصحاب الجاه والثراء في البلاد، وكانت الصلة الجامعة بينهم كافة أنهم من «غير المرضي» عنهم في قصر الأمير، وأرادوا أن يتخذوا لحزبهم صحيفة على «أوجه» طراز بين الصحف الأوروبية، وبخاصة صحافة «فرنسا» التي كان معظم المتعلمين من رؤساء الحزب يتثقفون بثقافتها ويفضلون صحفها على صحف «إنجلترا» دولة الاحتلال، فاختلفوا زمنًا على اختيار إحدى الصحفيتين الكبريين في باريس مثالًا لصحيفة الحزب اليومية، وهما «الطان» و«الجرنال».

أما «الطان» فكان المرجح لها عند العارفين بالشئون الصحفية أن ترجمة اسمها «الزمان» تجعلها أصلح للنداء عليها في اللغة العربية.

ولكن «الطان» صحيفة شبيهة بالرسمية وعلى صلة بالدواوين العليا، فليس من الموافق لحزب يسمى بحزب الأمة ويتجنب الاتصال بقصر «عابدين» وقصر «الدوبارة» على السواء، أن يتخذها مثالًا لصحيفته القومية.

فانتهى الخلاف إلى اختيار «الجورنال» نموذجًا لصحيفتهم، و«الجريدة» هي ترجمة اسم الجورنال.

وظهرت «الجريدة» على مثال الجورنال في الصبغة «غير الرسمية» وفي نظام التحرير وترتيب الصفحات، وأظهر ما كان في هذا النظام فتح صفحات «الجريدة» للكتابة الأدبية، بأقلام ناشئة الجيل الحديث، وربما أفسحت في صفحتها الأولى — إلى جانب المقال الافتتاحي — موضعًا بارزًا لقصيدة عاطفية أو مقال طريف من مقالات الوصف والنقد اللغوي، وترددت على صفحاتها أسماء «هيكل» و«عبد الرازق» و«طه حسين» و«محمد السباعي» و«شكري» و«المازني» و«القاياتي» وكاتب هذه السطور، وغيرهم وغيرهم كثيرون.

وكان «اللواء» لسان حال الحزب الوطني، و«المؤيد» لسان حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية يتقبلان الكتابة بأقلام الناشئين، ولكنهما يقصرانها على الناحية السياسية ولا يرحبان بالكتابة الأدبية، إلا إذا كانت بأقلام الشعراء والكتاب النابهين من طراز «شوقي» و«حافظ» و«مطران» و«المويلحي» و«المنفلوطي» وأمثالهم بين أدباء الجيل المتقدم، فاتجه الأدباء الناشئون إلى «الجريدة» ولا سيما الطلبة والموظفون؛ إذ كانت الكتابة في السياسة محظورة عليهم، وكانوا يكتبون فيها أحيانًا إلى الصحف عامة — ومنها الجريدة — بتوقيع مستعار.

وكنت أرسل مقالاتي أو مقطوعاتي الشعرية بالبريد فتنشر بعد يوم أو يومين من وصولها، ولكني قدرت لإحدى المقالات أنها لا تحل عند قلم التحرير محل الترحاب إذا وصلت إليه محولة من مدير التحرير، فتعمدت أن أسلمها إلى المدير يدًا بيد، ولم أجد صعوبة في لقائه عندما قصدت إلى مكتبه على غير ميعاد.

كانت المقالة على ما أذكر نقدًا لكتاب الأستاذ «محمد لطفي جمعة» عن «كلمات نابليون»، وكان الأستاذ «جمعة» قد نقل بعض الكلمات كلما ترجمتها بحروفها ولم يشر إلى هذه الترجمة، فلما نبهت إلى ذلك في تعليقي على كتاب الأستاذ «محمد لطفي جمعة»، تذكرت أنه صديق لأكثر المحررين «بالجريدة». فكان ذلك من دواعي التفكير في لقاء الأستاذ «أحمد لطفي السيد» لتسليمه المقالة، ولإرضاء فضول الشباب برؤية ذلك «الفيلسوف» الكبير الذي كنا نقرأ له ولا نراه.

واستقبلني مدير الجريدة استقبال الرعاية والترحاب، ثم تصفح المقالة على عجل وأمر بإرسالها إلى المطبعة على الأثر، وهو يقول مبتسمًا: ألا تخاف من نابليون يا بني؟!

قلت وأنا أعلم أن كلمة الديمقراطية من أحب الكلمات إليه وأكثرها ترددًا على لسانه وقلمه: الحمد لله على نعمة الديمقراطية!

ولفت نظري أن إمام الديمقراطية المصرية يلبس «البونجور»، ويحرص على السمت «الأرستقراطي» في زيه وتقاليد سلوكه المهذب مع زواره ومرءوسيه، فثبتت في ذهني هذه الصورة ولا تزال ثابتة إلى اليوم، فإذا ذكرت «لطفي السيد» في غيبته، فلست أذكره إلا وهو يلبس «البونجور»، بعد أن رأيته عشرات المرات بالزي «الإفرنجي» المألوف.

وعزز هذه الصورة عندي أنني رأيته بعد ذلك يخطب بدار الجريدة وهو يلبسها، ورأيته وهو يلبسها بديوان الأوقاف؛ إذ حضر يومًا لزيارة وزيرها «محمد محب باشا» وكنت في حجرة استقباله، لأسلم مدير المكتب بعض المذكرات التي تعرض على مجلس الإدارة.

أما أن «لطفي السيد» ديمقراطي المبدأ في تفكيره وسياسته ودعوته الوطنية، فلا مراء في ذلك ولا خلاف.

وأما أنه «أرستقراطي» السمت والشارة في مظهره ووجاهته، فذلك أيضًا مما لا مراء فيه ولا خلاف.

ولم تطل بي الحيرة للتوفيق بين الحالتين ولا أراهما نقيضين.

لأنني لم ألبث أن شعرت من مراقبته ومراقبة الوجهاء من أبناء الفلاحين أنهم جميعًا ديمقراطيون على هذا المثال، فهم كلهم ديمقراطيون؛ لأنهم ينكرون سيادة الطبقة التركية واستئثارها بشرف الوجاهة الاجتماعية، وقد كان الوجيه التركي يأبى على أكبر الوجهاء الفلاحين أن يساويه أو يصاهره أو يتخذ من المظاهر الاجتماعية مثل مظهره، وقد سمعنا الكثير من تعليقات البيوتات التركية على قبول رئيس الوزارة لمصاهرة «سعد زغلول»، وهو — على وجاهته بين أبناء الفلاحين — علم مشهور من أعلام القانون في عصره.

قال لي «عبد العزيز فهمي باشا» مرة: إن «لطفي» ديمقراطي الرأي والعقيدة، ولكنه طول عمره أرستقراطي بين الأرستقراطيين، وحكى لي أنه كان يقتني جوادًا خاصًّا يتنقل به من بلد إلى بلد للتحقيق والتفتيش وهو وكيل للنيابة، ولا يكلف نفسه أن يطلب جوادًا من خيل الشرطة كغيره من وكلاء النيابات، وأنه كان يتحدى عظمة التركي بعظمة الفلاح، فيلبس قفطان الوجيه الريفي، وهو في الدار.

إن «أحمد لطفي السيد» أشهر المنادين في الصحافة بمبدأ مصر للمصريين، قد كان ديمقراطيًّا ليساوي المصريين بغيرهم من أصحاب السيادة في بلادهم، وكان أرستقراطيًّا ليتحدى الأرستقراطيين من أولئك السادة المتغطرسين، وقد أصهر إلى أسرة رجل كان من أقران الخديو «إسماعيل» في زمانه، وهي أسرة المفتش «إسماعيل صدقي».

فليست ديمقراطية «لطفي السيد» إلغاء للعرف الاجتماعي في آداب الطبقات، ولكنها ديمقراطية المساواة بين أبناء كل طبقة من المصريين وغيرهم من الغرباء، كل الغرباء في الأصل؛ لأنهم شركاء الطبقة في المجتمع وأجانب من جميع الأجناس على عهد سيادة المحتلين.

والديمقراطية على هذه السنة بجميع معانيها هي المبدأ الواسع الذي كان يلحظه هذا الفيلسوف الوجيه في حقوق الرأي وفي حقوق الطبقة، فليس إيمانه بتغليب رأي الكثرة مانعًا عنده للقلة أن تبدي رأيها وتقبل به آراء الأكثرين من المخالفين.

كان شعار «الجريدة» كلمة الفيلسوف الأندلسي «ابن حزم»، وهو من قرائه في مسائل الأخلاق والعقائد واختلاف الطوائف والعبادات.

وكان «ابن حزم» يقول: «من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق، وإن آلمتها لأول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكبر من مدحهم إياه.»

وقد وضع هذا الشعار تحت عنوان «الجريدة» منذ صدورها في شهر مارس سنة ١٩٠٧ إلى احتجابها بعد ذلك بنحو ثماني سنوات؛ لأنه كان في طوال هذه المدة يعلم أن معارضيه بالرأي أضعاف مؤيديه، وكان أنصار الأحزاب من القائلين بالسيادة العثمانية والمشايعين للحاشية الخديوية والجانحين من الطرف الآخر إلى مشايعة السلطة الفعلية أو مشايعة الاحتلال، كل أولئك الأنصار كانوا أضعاف أنصاره في حزب الأمة، وقد فارقه شطر كبير من هؤلاء الأنصار في منتصف الطريق، وجنحوا إلى ناحية القصر احتجاجًا على ما سموه «استبداد محرر الجريدة بسياستها»، وفيها ما فيها من مناصبة الأمير.

وهذا الديمقراطي الذي أباح للقلة أن تعلن رأيها في غير مداراة ولا مواربة، هو هو الديمقراطي، الذي يسلم للكثرة بحقها عند مفترق الطريق، وعند مفترق الطريق هذا سلم للكثرة من أعضاء اللجنة السياسية بما قررته في المفاوضات التي أجرتها وزارة «أحمد ماهر»، وهو على رأي في تلك المفاوضات غير ما تراه.

ولقد هنأني في الصباح الباكر على مقال كتبته بالأهرام مؤيدًا فيه خطة الوزارة «الماهرية»، فلما وافق اللجنة أخيرًا على قرارها، سألته في ذلك ونحن عائدان في سيارته من المجمع إلى مصر الجديدة، فقال: «إذا كانت كثرة اللجنة وكثرة أهل البلد على هذا القرار؛ فالكثرة لها حكمها الذي لا حيلة لنا فيه.»

وذكرته يومئذ — مازحًا — بمخالفته للزعيم «سعد زغلول» بعد مفاوضات «لورد ملنر»، فقال: «بل هذا — أيها الأخ — من ذاك؛ فقد خالفت سعدًا، ولكني لم أخالف كثرة الوفد في النهاية.»

على أن المبالاة بالعرف الغالب لم تكن شيئًا هينًا في تقديرات هذا السري الفيلسوف؛ فقد كان يولي ذلك العرف فوق حقه من المبالاة، إلى جانب تقديراته الفكرية أو تقديراته المنطقية، فلم تزل رعايته للفكر مع المراسم والتقاليد أرجح عنده من هذه الرعاية له إلى غير الجانب الموافق لتلك المراسم والتقاليد.

وليس من التناقض أن يكون «لطفي السيد» الفيلسوف كذلك، وهو الثائر على الجمود والرجعية بلا مراء، فإنه في ثورته يقف إلى جانب مجتمع كبير، ولا يقف إلى جانب الشذوذ والانفراد، وإنما كان إيمانه بمبادئ الحرية على قواعد الثورة الفرنسية إيمانًا أيده مع الزمن أضعاف من خالفوه.

•••

لقد كانت لهذا الثائر تقاليده التي يثور عليها ويعلن الحرب على أنصارها.

ولكنه لم يكن يحاربها إلا من أجل تقاليد أخرى يسالمها ويقرها ويعمل على إقرارها.

وإنما كان يفضل بعضها على بعض بشفاعة الواقع، أو بشفاعة «قانون» التقدم، كما آمن به الثائرون العلميون في إبان القرن الماضي، وثبتت عليه بقيتهم إلى هذه الأيام من القرن العشرين.

•••

لقيته بمكتبه وهو مدير لدار الكتب لتجديد رخصة الاستعارة، وقدم زميله العالم الجغرافي «رأفت بك» مدير المتحف العربي التابع لدار الكتب في بناء واحد. فحيا تحية مقتضبة يلوح عليها شيء كثير من الامتعاض والابتئاس، والتفت إليه الأستاذ «لطفي» يسأله: كيف حال متحفك وآثارك يا «رأفت بك»؟ قال «رأفت بك» ولم يفارقه امتعاضه وابتئاسه: إنها أثر بعد عين، شباب هذا العصر لا يحفلون بماض لا وحاضر، لا يقرءون، لا يدرسون، افتقدْهم في متحف آثار أو معرض فنون، فلا تجدهم ولا تسمع خبرًا عنهم، ولكنهم موجودون ليلًا ونهارًا بين المراقص، والقهوات، والبارات، زفت وقطران، زفت وقطران. ألا يسمع هؤلاء الشبان بأحوال أندادهم في البلاد الأوروبية؟ ألا يسمعون بأندادهم من الأوروبيين في بلادنا؟ ألا يعرفون المفازة والغابات ومصاعد الجبال التي ينطلق إليها الشباب يستجلون فيها جمال الطبيعة وينشدون فيها صحة الجسد والذوق؟

فنظر إليه الأستاذ «لطفي» مليًّا، وقال له معاتبًا في لهجة لا تخلو من التأنيب اللطيف: الله، ومالك منفعلًا ثائرًا هكذا يا سيدنا البك؟

فهدأ «رأفت بك» ثم قال بصوت كصوت الصدى يحاكيه في لهجته: عفوًا يا سيدنا البك.

قال الأستاذ «لطفي»: يغضبني ذلك أكثر مما يغضبك، ولكن الحق على من في هذه التقاليد الرثة؟ أرأيت هناك شابًّا يخرج إلى المفازة والغابات وحده؟ ألا يخرج الفتى ومعه الفتاة أو تخرج الفتاة ومعها الفتى؟ ألا يعرفون الحب بينهم قبل أن يعرفوا حب الجمال في السهول والجبال؟

وشاركت الأستاذين في الحديث قائلًا: وهل يبتعد الفتيان عندنا عن البنات حيث يذهبون إلى المراقص والبارات؟

قال الأستاذ «لطفي»: وماذا يصنعون؟ إنهم يسرقون الحرية في المرقص والبار، وإن نصيبهم من الحرية المشروعة لا يزيد عن نصيب الفتيات في الخدور.

وهنا نلتقي «بالجنتلمان» الديمقراطي في مجلسه وفي تفكيره، إنه لم يستطع أن يجيز لزميله ذلك «الانفعال» الممنوع في قانون «الإتكيت»، ولم ينتصر للثورة على التقاليد الرثة إلا لأنه ينتصر لتقاليد أخرى لا تزال في ثوبها القشيب. ولكنها، على أية حال، تقاليد لها شفاعة من «قانون» التقدم المتفق عليه. وقد ظل الفيلسوف السري على إيمان بهذا التقدم المتفق عليه حتى نهاية حياته، وحتى بعد تعديل ذلك القانون بقانون آخر ينسخ منه مادة مرفوضة كلما أقر منه مادة مقبولة، وهو قانون التطور الذي لا يقول بالتقدم المطلق المطرد في كل سبيل، ولا يستلزم أن يكون كل حديث في عصرنا أصلح من كل قديم في ماضي العصور، وبخاصة في مسائل الأخلاق والآداب.

وكلما أباح فيلسوفنا لنفسه أن يمضي مع «ابن حزم» في شجاعة الرأي ومخالفة الإجماع، عاد إلى رأيه المخالف، فلم يتقبله إلا لأنه قانون الغد المتفق عليه سلفًا، لو سارت الأمور حيثما ينبغي أن تسير. وقد قال في ذلك من نصائحه للشباب: «كل ما تفكر فيه أو تلفظه أو تفعله، انظر هل ترضى أن يكون قانونًا للعالم أولًا، فإن رضيت فافعله في غير خوف، وإن لم ترض فلا تفعله أبدًا.»

•••

وقد رأيت «أحمد لطفي السيد» مديرًا للجريدة ومديرًا لدار الكتب ومديرًا للجامعة وعضوًا بمجلس الشيوخ ووزيرًا ورئيسًا للمجمع اللغوي ورئيسًا للجمعية الخيرية، فلم تحجب عني خصلة من خصلتيه في وظيفة من هذه الوظائف الملاحقة، وهما السمت الوجيه والديمقراطية الصادقة، وكانت «ديمقراطيته» أجمل ما تكون في مجال الرأي ومباحث التفكير، وقد شهدناه نحو عشرين سنة في هذا المجال، بعد أن عملنا منه عضوًا بمجمع اللغة العربية، ثم رئيسًا للمجمع بانتخاب أعضائه، فكان أقدر رئيس عرفناه في مجمع من مجامع البحث العلمي؛ دانت له ديمقراطيته بغير كلفة، ودان لها زملاؤه احترامًا لحق الحرية الفكرية، واحترامًا لرئاسته الأبوية، تلك الرئاسة التي كان لها سند من العطف المتبادل أقوى من أسناد المراسم والتقاليد.

وكان — رحمه الله — يشترك في المناقشة ويورد الشواهد في أثنائها من محفوظاته الكثيرة، وأولها القرآن الكريم، وفي جملتها قصائد الشعراء الأقدمين من الجاهليين والمخضرمين والأمويين والعباسيين، وربما حفظ للمحدثين كما يحفظ للأقدمين، ولكنه يقصر شواهده في مقام الاحتجاج بالسند المقبول، على الأولين دون الآخِرين.

وكان إجماع الأعضاء على توقيره وحبه يريحه كثيرًا من كلفة الرجوع إلى النظام في رعايته لسنة المساواة التامة بين الأعضاء عند إبداء الآراء، ولكنه كان يعمد إلى الصمت الوديع؛ كلما احتدم النقاش، وحميت وقدة الخلاف، وتكلم من يتكلم، ورد عليه من يرد، واعترض عليهما من يعترض دفعة واحدة. تختلط فيها الأصوات، وتحار معها الأسماع.

ويميل الرئيس إلى أقرب الأعضاء إليه يسأله مستسلمًا: هل آمنت معي بأننا في المجمع اللغوي؟ ويتفق أن أكون إلى جواره فأقول: بغير شك يا أستاذنا، وتسكين الغين في هذه الساعة!

ويعود النظام توًّا في لمحة عين. وقبل أن يحوجه الأعضاء إلى دق الجرس؛ لأنهم يفهمون من همسته في أذن جاره أو انطوائه على صمته أنه يدق لهم أبلغ الأجراس!

وقد عرفناه من قبل، ومن بعد، على صورته التي لا تتغير ولا يختلف مظهر منها عن مخبر؛ لأنها صورة المفكر الذي تتجلى أعمق أفكاره في مسالك حياته، والذي يعيش لفكره وبفكره وعلى وفاق فكره، ثائرًا محافظًا على قدره، وديمقراطيًّا في قرارة طبعه، يزيده من الديمقراطية ولا ينقصها عنده أنه لم ينسها قط وهو في سمت العلية وفي عزوف الحكيم الفيلسوف.

٣

كان «لطفي السيد» من المرحبين بالظاهرة الأدبية التي تمثلت في فن «المنفلوطي»، أو في أسلوبه الإنشائي، عند ظهورها في عالم الصحافة وبعد جمع المقالات في كتاب «النظرات»؛ لأن المقالة الإنشائية كانت «قالبًا لفظيًّا» لا عناية فيه بالمعنى قبل «المنفلوطي»، وقبل «محمد المويلحي» في فصول «عيسى بن هشام» على التخصيص، فكانت كتابة «المنفلوطي» على عهد «الجريدة» التي كان يحررها «لطفي السيد» ظاهرة ملحوظة بين المنشئين.

وقد كتب في تقريظ مقالات «النظرات» يقول:

من الكتَّاب من هو ضنين بشخصيته لا يدعها تتلاشى في بيئة الكتاب، لا يتكلف تقليد شيخ من أشياخ الكتابة ولا يكتب للكتابة، بل لا يكتب إلا إذا قامت بنفسه أغراض واضحة يجب أن يبرزها للناس في الثوب الذي يناسبها على تفصيل «مودة» الأذواق الحاضرة، وحسبما يقتضيه الفصل الزمني للأفكار. وكتاب هذا الصنف قليلون عادة في كل أمة وفي كل جيل، إلا أن كتاباتهم على قلتها هي المربي الوحيد للأمم والعلل الأولى التي تدفعها إلى الأخذ بكل نوع من أنواع الرقي والنجاح، وهي خير اللغات وأبقاها.

ثم ينتقل من هذا التمهيد فيقول عن أسلوب «المنفلوطي» بين هذه الأساليب:

من أشياخ البيان عندنا السيد «مصطفى المنفلوطي». أكاد لا أجد له في طريقته مثيلًا بين كتَّابنا، فإنه يمتاز بالمساواة، وقل من يعرف المساواة. يمتاز باستعمال ألفاظ الخصوص، فلا يلبس معنى الألفاظ الذي لا يكاد يشاركه فيه معنى آخر.

والمساواة والخصوص في هذا السياق كلمتان من تعبيرات «لطفي السيد»، لم يكن معناهما غنيًّا عن التفسير عند استخدامهما للمعنى الذي أراده؛ فقد أراد بالمساواة أن تكون العبارة اللفظية مساوية للغرض الفكري الذي تؤديه، وأراد بالخصوص أن يكون اللفظ على قدر معناه، أو يكون باصطلاح العرف الحديث كثوب «التفصيل»، وليس كالثوب المجهز لكل لابس على التقريب بعد القص والتوسيع، وقد يصح أن يقال عن أسلوب المساواة والخصوص إنه هو أسلوب «القصد» بمعنييه: معنى الاقتصاد ومعنى الإرادة؛ لأن أسلوب القصد هو الأسلوب المحكم الذي لا فضول فيه، وهو الأسلوب الذي يؤدي به الكاتب لفظه؛ لأنه يقصده بذاته وفاقًا لغرضه ولا يقصد غرضًا سواه، ولولا أن كلمة القصد أقرب إلى الإحكام والتقدير منها إلى التسوية والتنسيق، لكان فيها الغنى عن كلمتي المساواة والخصوص.

والتفات «لطفي السيد» إلى هذه «الخاصة» في الأسلوب الإنشائي لم يكن بالأمر الغريب من كاتب «القصد المحكم» في اللفظ والمعنى؛ لأن تحديد ما يريد بالكلمة كان هو طبيعة عقله الغالبة على تفكيره وتعبيره، بل على تقديره للأمور وتقديره للأعمال، فلم يكن للعمل عنده شأن أكبر من شأن المطابقة للكلمة والمطابقة للفكرة التي تدل عليها، وكانت حياته لفكرته هي الحياة الأولى التي تتلوها بعد ذلك كل حياة عملية تعنيه.

وكانت مرانة عقله على تحديد عباراته تشغله للتسلية والرياضة كما تشغله للجد والتدبير، كأنه الجبار الرياضي الذي يداعب صحبه بالضغط على أكفهم عند المصافحة أو بالشد على ظهورهم عند المعانقة، يوهمهم أنها ملاكمة ومصارعة وليست بمصافحة وعناق، وكذلك كان «لطفي السيد» يصنع بتحديد معاني الألفاظ كلما طابت له الدعابة مع صاحب أو زميل، بين يدي عمل من أعمال الفكر والنظر أو أعمال الإدارة والتنفيذ.

دخل إلى مكتبه بوزارة الداخلية وكيل الوزارة يتأبط ملفات الحركة الإدارية فبادره قائلًا: ماذا تتأبط يا حسن؟ خيرًا؟!

قال حسن: نعم خير إن شاء «الله»، الحركة الإدارية!

قال «لطفي السيد» متجاهلًا: حركة؟ وهل هذه حركة في الزمان أو في المكان؟

ربما كان الكلام على حركة الزمان والمكان أول كلام من نوعه ورد على مسمع وكيل الداخلية الحائر في أمره بين يدي هذا الفيلسوف الوزير، فعاد يقول: بل هي حركة التنقلات بين المديرين ووكلاء المديريات والمأمورين وموظفي الإدارة على العموم.

قال الفيلسوف: وهل هي حركة بغير مقتض؟ ولماذا يتحركون؟ هل طلبوا منك أن تحركهم؟

ثم انقضت هذه المحادثة كما شاء الوكيل أن يقضيها، وكانت فكاهة الليلة في مجلس رئيس الوزراء «محمد محمود»!

•••

وعاد إلى مصر مع ثلاثة أعضاء من «الوفد» لمراجعة الأمة في المقترحات البريطانية، فقابله الصحفيون على الميناء وسأله أحدهم: هل أنتم قادمون بمهمة سياسية؟ فكان جواب الصحفي القديم على الصحفي الناشئ: ماذا تعني بالسياسة: دبلوماسية أو بوليتيقية؟

وحاول صاحبنا أن يخلص من الورطة بقوله: أعني الاثنتين!

قال الفيلسوف: ليس لنا مهمتان، ولسنا سفراء فتكون لنا مهمة دبلوماسية، ولا وزراء فتكون لنا مهمة بوليتيقية! ولقد ذهب الصحفي الحائر فكتب هذا اللغز الفلسفي كما استطاع، وبدل فيه وعدَّل كما أراد.

•••

ولما ألَّف أصدقاؤه «الأحرار» الدستوريون حزبهم كان هو معارضًا لهذه التسمية، وظل معارضًا لها بعد تأليف الحزب بزمن طويل، وإنما كان اقتراحه أن يسمى الحزب باسم «الحريين الدستوريين»، وحجته في تفضيل هذه التسمية أن كلمة الحريين هي التي تقابل كلمة «ليبرال» بالفرنسية والإنجليزية، وإلا فماذا نسمي المحافظين خصوم الأحرار؟ هل نسميهم «بالعبيد» وهم لا يقنعون بالحرية وحدها دون السيادة على العالمين؟!

ولم يكن يكرثه أن يداعبه إخوانه من ظرفاء الحزب قائلين: أهلًا بالحري، سلامًا على الحري، ذهب الحري، جاء الحري، ولا لزوم للتسمية مع هذا التحديد.

قال «لطفي السيد» في قصة حياته:

نشأت من الصغر ميالًا إلى العلوم المنطقية والفلسفية، ولقد لفت نظري في «أرسطو» أنه أول من ابتدع علم المنطق وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب، ولما كنت مديرًا لدار الكتب المصرية تحدثت مع بعض أصدقائي في وجوب تأسيس نهضتنا العلمية على الترجمة قبل التأليف كما حدث في النهضة الأوروبية. ولما كانت الفلسفة العربية قد قامت على فلسفة «أرسطو»، فلا جرم أن آراءه ومذهبه أشد المذاهب اتفاقًا مع مألوفاتنا الحالية، والطريق الأقرب إلى نقل العلم في بلادنا وتأقلمه فيها؛ رجاء أن ينتج في النهضة الشرقية مثل ما أنتج في النهضة الغربية.

والحق أن «لطفي السيد» كان «أرسطيًّا» قبل أن يعرف «أرسطو» أو يفكر في ترجمته؛ لأن تكوين عقله المنطقي هو الذي حبب إليه منطق «أرسطو» حين اطلع عليه، وحبب إليه صاحب المنطق حتى كان يتحدث عنه متبسطًا فيسميه «سيدنا أرسطو رضي الله عنه». وقد استفاد من أرسطو ما كان مستفيده من مراجعة عقله بغير اصطلاحات المنطق وألفاظه «المخصوصة» على حد تعبيره، فإن الفكرة المحددة كان ديدنًا طبيعيًّا عنده، ولم تكن من الدروس التي تكتسب بالتعلم، وقد كان حرصه على حد الفكرة أشد وأكمل من حرصه على حد العمل؛ لأنه عرف بالتجربة أن نتائج الأعمال قد تختلط بينها وقد تتناقض المقدمات والنتائج فيها، لكثرة العوامل المنطقية وغير المنطقية التي تحيط بها، ولكن حدود الفكرة في ذهنه لم تكن تلتبس بين معنى ومعنى، ولم تكن تخرج على حدود المساواة بين أغراضها وعباراتها، وقد كانت كلمة «يجرى إيه؟» تجري على لسانه — كما لاحظ صديقه «عبد العزيز فهمي» — عند التسوية بين نتائج الأعمال، ولو كانت في ظاهرها على أبعد ما تكون من التناقض والاختلاف، ولكن «يجرى إيه؟» كانت تنقلب إلى «يجرى كل شيء»، إذا حدثت التسوية بين كلمة وكلمة لا تتساويان في النتيجة المنطقية؛ لأن حدود المنطق واضحة أمامه بمقياس الشعرة وبغير لبس ولا اختلاف بين أقرب النتائج وأشدها شبهًا في ظاهرها.

وقد ذكرت في غير هذا المقال أن أستاذ الجيل كان يتجنب التصريح برأيه أثناء مناقشات المجمع اللغوي؛ تورعًا منه عن التحيز إلى جانب من جوانب المناقشة، ولكنه كان في اللجان التي تعد القرارات للفصل فيها يشترك في المناقشة ولا يترخص في رأيه عند المعارضة بين اقتراحه واقتراحات غيره، بل أذكر في جلسة من جلسات اللجان أننا قضينا نصف الوقت في الخلاف على كلمتي المفكرة والمذكرة، أيهما أصلح للترجمة عند التفرقة بين اليومية والقائمة والمدونة والمذكرة، فكانت معارضته لكلمة «المفكرة» طويلة في غير هوادة، واستغرقت نحو نصف الوقت كما تقدم؛ لأنه — كما قال — لا يفهم كيف ينسب التفكير إلى المفكرة وكيف يكون الخلط بين مدلول التفكير ومدلول التذكير.

•••

في أوائل عهدي بالصحافة قرأت مقالات لبعض الرحالين السياسيين، حكموا فيها على إحدى الأمم الشرقية حكمهم الذي يداخله الهوى كما يداخل أحكام الساسة على العموم. ثم قرأت نقدًا للرحلة ولأمثالها من الرحلات يدور على فكرة واحدة، وهي أن رحلة الأسابيع المعدودة في أمة من الأمم — كبيرة كانت أو صغيرة — لا تكفي للحكم عليها.

وقرأت النقد كما قرأت الرحلة، فوافقت الناقد في تخطئته لكثير من أحكام كاتب الرحلة، ولكنني عدت إلى نفسي أسألها: أمن الحق أن الأمم لا تعرف من سياحة أسابيع بين ربوعها؟ وهل إقامة السنين تكفي من ليس لديه مقياس صحيح للعلم بأحوال الأمة التي قام فيها؟

وظلت هذه الخاطرة تشغلني زمنًا طويلًا حتى انتهيت منها إلى الرأي الذي أعتقده اليوم، وهو أن العبرة بالمقياس وبمن يقيس، وليست العبرة بطول الوقت أو قصره عند فقدان المقياس الصحيح، وصح عندي أن شيئين اثنين قد يعينان الناظر على العلم بنصيب الأمة والفرد فلا يصعب الوصول إلى تقدير هذا النصيب في بضعة أيام، فضلًا عن الأسابيع.

هذان الشيئان هما: تقدير الكلمة وتقدير الوقت، فلا شك في تقدم الأمة التي تعرف للكلمة قيمتها وتعرف للوقت قيمته، ولن تكون الأمة التي تستخف بالكلمة أو تستخف بالوقت على نصيب من التقدم أو من قوة الخلق وسلامة الفطرة، ولو أعجبتنا جميع ظواهرها الأخرى.

وليس من الصعب أن نعرف نصيب الأمة من تقدير الكلمة وتقدير الوقت بعد يومين نقضيهما بين أبنائها، ففي عناوين الدكاكين ونداءات الباعة ومواعيد المواصلات ومواعيد الزيارات مادة كافية للقياس الصحيح في جميع الحالات.

وقد درجت — منذ وقرت في نفسي هذه العقيدة — على قياس العظماء وغير العظماء بهذين المقياسين: ما قيمة الكلمة عند هذا العظيم أو عند هذا الأديب أو عند هذا الإنسان كائنًا من كان؟ وما قيمة الوقت عنده فيما يعنيه؟ ولا أعرف أنني أخطأت تقدير إنسان أمكنني أن أعرف قدره بهذين المقياسين.

وكذلك تعرف قيمة الكلمة على حسب معدنها المأثور عند من يقدرها ويحرص عليها، فإذا كان هناك تفاوت بين عظيمين يقدران الكلمة ويحرصان عليها، فمعدن الكلمة هو موضع التفاوت بين ذينك العظيمين.

ولقد خطر لي يومًا أن أقابل بين «لطفي السيد» وبين أناس ممن عرفتهم من أبناء جيله وهم: «سعد زغلول» و«عبد العزيز فهمي» و«محمد محمود»، فظهر لي مرة أخرى أن الكلمة هي الرجل كما قيل.

وكانت الكلمة عند «سعد زغلول» كائنًا عضويًّا يكاد ينضح بالدورة الدموية، وكان هو يفهمها هكذا من كلام غيره كما كان يفوه بها من كلامه على غير تعمد منه، فلا يسمعها السامع إلا أحس أنه سيحضر معها أثرها «الحيوي» انفعالًا نابضًا في نفس المخاطب بها فردًا كان أو جماعة.

وكانت الكلمة عند «عبد العزيز فهمي» «حيثية» في حكم قضائي، يعنيه منها قبل كل شيء ماذا تقرر من الحكم وماذا تدفع من وجوه الأشكال أو الاعتراض، وقد يسمع الكلمة فلا يستريح إليها؛ لأنه يحس أن هناك اعتراضًا قد يرد عليها، وإن لم يتضح له هذا الاعتراض لأول وهلة، ثم يعرف السبب فلا يلبث أن يبدل الكلمة المقبولة بالكلمة المعترض عليها، وله على ذلك قدرة المرانة على التمييز بين النصوص وقدرة الاطلاع على كتب الأدب والقانون.

وكانت الكلمة عند «محمد محمود»، بل كانت كلمات اللغة كلها، تصريفًا لكلمة واحدة هي كلمة «الكرامة» أو الوجاهة، وربما التقى في هذا التصريف قاموس السيد الصعيدي وقاموس «الجنتلمان».

أما «لطفي السيد» فالكلمة عنده «حد منطقي» في قضية كاملة، ولا التباس عنده بين حد وحد من الوجهة المنطقية الصميمة، وإنما يعرض لها اللبس حين تتعرض للنزاع بين المنطق العقلي والمنطق «السيكولوجي»، أو منطق الوعي الخفي والوجدان العاطفي؛ لأنه — على تسليمه الدائم بجوانب الضعف الإنساني — لم يكن من طبيعة عقله أن يسمح للضعف أن ينتقل إلى كفة الميزان في موازنته بين الحقائق الفكرية، وربما جاء من هذا العزل بين منطق الفكر ومنطق النفس أن روح الفكاهة في كتابته تختفي وراء الرأي الممحص والتقدير المحكم بالقياس الصحيح.

•••

ولقد كان يستطيب «القفش الحلو» كما سماه في بعض مقالاته، ولكنه لم يكن سريعًا إلى «لقط» النكتة، ولم تكن له تلك الضحكة العميقة التي تملأ الأفواه كما تملأ الصدور، وقد يشترك المجلس كله في الضحك ولا يشاركهم فيه، فيحيل الخطأ على نفسه ويقول معتذرًا: لا مؤاخذة! إنني بطيء في فهم النكتة!

ومما أذكره نماذج شتى من النكات «البلدية» التي كانت تضحك جلساءه ولا تضحكه، ومنها حديثٌ أطرفنا به الأستاذ «عبد الوهاب خلاف» — رحمه الله — عن صاحب له ولنا من الشيوخ المعممين الملتحين الذين لا يعطون المشيخة ولا اللحية كل حقهما من التزمت والحشمة، وكانت مناسبة الحديث «دردشة» عارضة — على حد تعبير رئيسنا — فيما يقال قبل انعقاد جلسات اللجان الخاصة بالمباحث اللغوية في موضوع من الموضوعات، وكان موضوع الجلسة تعريب المصطلحات الموسيقية أو تهذيبها.

وقال الأستاذ «عبد الوهاب» عن ذلك الشيخ المرح إنه شوهد وهو يتأبط ذراع الموسيقي المعروف «سامي الشوا» فسئل: ما الذي يجمع هذا على ذاك؟ وما الذي يقرن بين زمرة الأولياء وزمرة الطرب والغناء؟

قال الشيخ غير متلعثم: ولم لا؟ هذا شيخ «كمان»!

وشوهد الشيخ في إحدى سهراته وأمامه كأس من الوسكي، فسأله الزائر الطارئ مستنكرًا: أما تستحي لهذه العمامة فوق هذه اللحية التي وخطها الشيب؟!

فقال كذلك غير متلعثم: وماله، هذه أيضًا «بلاك آند هوايت!»

وكان يقول للمازحين من أصحابه كلما ذكروه بوقار اللحية: إنها لا تربيني، أنا الذي أربيها!

وقد كان الرئيس — خلال هذه الدردشة — يبتسم ولا يضحك، ويعود فيلقي اللوم على تقصيره هو في هذا المجال.

وعلينا أن ننصفه من نفسه في هذا اللوم؛ لأن النكتة الجناسية في الواقع ليست من أجود النكات ولا من أصدق ألوان الفكاهة، وليس بالمستغرب من العقل المنطقي ولا من صاحب القلم الحريص على «ألفاظ الخصوص» ألا يأنس إلى لعب الجناس «اللفظي»، وألا يشغل باله بعد استيفاء شروط العقل بحواشي المشابهات في الآذان، وقد مرت بنا فيما نقلناه من تقريظه لأسلوب «المنفلوطي» كلمة من الكلمات الجناسية يتحاشاها في مكانها من يلقي باله إلى مشابهاتها، ولكنها لم تكن مما يتحاشاه «أرسطو المصري» في لغة الجد والتحقيق.

إنه يقول عن كتاب الخصوص:

إن كتاباتهم — على قلتها — هي المربي الوحيد للأمم والعلل الأولى التي تدفعها إلى الأخذ بكل نوع من أنواع الرقي والنجاح.

وكم من نكتة جناسية في هذه «العلل» لمن يشاء أن يحكم «القافية» في لغة التفكير والتعبير!

إلا أن الإنصاف الذي يعفي فيلسوفنا من اتهام نفسه بالتقصير في مجال النكتة، لا يمنع المنصف أن يلاحظ أن نصيب الروح الفكاهية في كتاباته قليل، يشكو الحرمان من جور الجد المنطقي عليه.

•••

وبعد، فإن الكلمة عند «لطفي السيد» هي موضوع مقالنا، ولكننا ذكرنا في عرض المقال مقياسًا آخر للأمم وللرجال غير مقياس الكلمة وهو مقياس الوقت، فلا ننسى أن نضيف هذا المقياس إلى ذلك المقياس، ولا نرانا بحاجة إلى كلمات كثيرة لنقول إن الكفة ستبقى على رجحانها في الحالين.

لقد تولى «لطفي السيد» رئاسة مجمع اللغة وهو يقارب التسعين، فلم يتخلف عن المجمع يومًا واحدًا وهو قادر على الخروج من داره، ولم تأت الساعة الحادية عشرة في يوم من أيام حضوره وهو بعيد من كرسيه بقاعة الجلسة، ولا تتم الدقيقة التاسعة والخمسون ويده بعيدة عن جرس التنبيه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤