ميرزا محمد مهدي خان

زعيم الدولة ورئيس الحكماء
figure

نشرت في صحيفة «الدستور» سلسلة من الفصول عن شعراء الفرس النابهين، معتمدًا فيها على قصائدهم وأخبارهم المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، وحدث في صيف سنة ١٩٠٩ أن شاه الفرس أراد أن يلغي الحياة النيابية فنشبت الثورة في البلاد، واضطر إلى النجاة منها بنفسه، فبايعت الأمة ولي عهده وهو في نحو الحادية عشرة من عمره، ونقلت الأنباء البرقية عنه أنه بكى حين بويع بالملك بين تلك الزعازع المرهوبة، فكتبت يومئذ مقالًا في صحيفتي «الدستور» و«مصر الفتاة»، وجهت فيه الخطاب إلى الشاه الصغير، وقلت في مفتتحه: «أنت في الشرق، بين أمة الشعر والشعور.» ثم قلت: «إنك إن لم تضمر لهم سوءًا ولم تحمل عليهم ضغنًا، فالعرش أوثر من المهد، وحجر الأمة ألين ملمسًا من حجر الأم، وأنت مع ذلك أسعد أسلافك؛ لأنك أول من رفعته إيران إلى عرشها بيدها، وأيمن شاه؛ لأنك توليت الحكم في العهد الذي سيذكر التاريخ أنه أول عهد وافق نهضة الإسلام من جديد.»

ولقيني غير واحد من صحبي بعد نشر هذا المقال وهم يقولون لي: «إن مقالك قد أعجب الدكتور «مهدي خان» وهو يحب أن يراك.»

فمن هو هذا الدكتور «مهدي خان»؟

لقد كانت القاهرة يومئذ تموج بالتيارات السياسية، بين ظاهرة وخفية. كانت كأنها مرصد الحوادث في الشرق الإسلامي كله؛ فكان فيها دعاة من العرب، ودعاة من الترك، ودعاة من الفرس، ومن آسيا الوسطى على اختلاف شعوبها، ومنهم من يعمل للحرية والتجديد، ومنهم من يعمل في خدمة المستبدين، بل في خدمة الاستعمار.

وكان الدكتور «مهدي خان» في ذلك الحين علمًا من الأعلام المشهورة بين أولئك الدعاة.

كان يعرف في بلاده باسم «الدكتور ميرزا محمد مهدي خان زعيم الدولة ورئيس الحكماء»، وكان مولده في أوائل القرن التاسع عشر، وكان قد ناهز التسعين حين لقيته، وكان نموذجًا صادقًا لثقافة القرن التاسع عشر في زمنه وفي وطنه؛ لأنه تعلم الطب في فارس، ثم حضر دروسًا مختلفة في علم الأديان المقارنة على أساتذة من الألمان، وكان ينظم الشعر الفارسي أحيانًا، ويكتب العربية والتركية، ويتكلم الألمانية مع أهلها، وربما كان على معرفة بالفرنسية؛ ولهذا كان يشترك في مباحث الفلسفة كما طرقها أولئك الفلاسفة الأطباء.

ولست على يقين من تفصيلات برنامجه السياسي، ولكنني أعلم أن صحيفته «حكمت» كانت تصادر أحيانًا في بلده، وكان يرسلها سرًّا في كثير من الأوقات إلى جهات من بلاد الدولة العثمانية تنقل منها إلى إيران وبعض بلاد المسلمين الذين كانوا تابعين يومئذ للحكومة القيصرية.

وكان شديد السخط على الحركة البابية، ويعتقد أنها تخدم مآرب الإنجليز والأمريكيين في إيران.

ولم ألقه على أثر كتابة مقالي إلى الشاه الصغير، ولكنني لقيته بعد ذلك بفترة وجيزة، وعرفني إليه صديقنا الشاعر المجيد الأستاذ «علي شوقي» رئيس قلم النظارة بوزارة الأوقاف.

كان من أسباب ترحيبي بمعرفة الدكتور «مهدي» أنه مرجع موثوق به في الشعر الفارسي خاصة، وقد تحققت منه مما كنت أرجحه ترجيحًا عن خطأ الترجمات الأوروبية لشعر الخيام وغيره من شعراء الفرس المترجمين، فإذا هي في الواقع محشوة بالأغاليط؛ عن جهل باللغة تارة، وعن رغبة من المترجمين في التزويق تارة أخرى.

وكان للرجل فضل في تمكننا من حضور ليلة عاشوراء بالتكية الفارسية، ولم يكن ذلك ميسورًا لكل راغب فيه، فلم يكن في التكية ليلة شهدنا الحفلة أحد من المصريين غير «حسين رشدي باشا» وثلاثة من الزملاء والأدباء هم: الأستاذ «المازني»، والأستاذ «علي شوقي»، والأستاذ «عبد الرحمن البرقوقي» — رحمه الله.

على أنني مدين له بالفضل في الوقوف على أسرار مسألة من أخطر مسائل السياسة الشرقية في أيامها، وهي مسألة المطبعة العثمانية التي يتوقف على العلم بها تقدير أناس يحسبون الآن من أبطال الحرية والدعوة الوطنية.

فقد كنت أرى الرجل كلما زرته في مكتبه شديد الحذر على أوراق صحيفته، وعلى أسماء المشتركين فيها من المقيمين في إيران وروسيا على الخصوص.

وكنت أعيب عليه هذا الحذر، وكان يقول لي: إنك يا بني لا تعلم أنها مسألة خطرة على حياة المئات. ومن يدري؟ فقد تتعرض لما تعرض له أصحاب المطبعة العثمانية من حيث لا نعلم، وذلك غاية ما نخشاه.

أما مسألة المطبعة العثمانية هذه فيستطيع من شاء أن يراجعها في الصحف المصرية (أبريل سنة ١٩٠٢)، وخلاصتها كما سمعتها من هذا الرجل العليم بها — دون أن نتوسع هنا في تفصيلاتها — أن أحرار الترك نشطوا يومئذ لنشر الدعوة إلى الدستور والحكومة النيابية، وأصدروا بالقاهرة صحيفة كانوا يرسلونها خفية إلى أنصار هذه الحركة في أنحاء الدولة العثمانية، وقلق السلطان «عبد الحميد»، واشتدت رغبته في الوقوف على أسماء هؤلاء الأحرار من رعاياه المقيمين في بلاده، وجزاؤهم — لو أنهم عرفوا — قضاء بالموت أو بالعذاب في غيابات السجون، فإذا بقضية تدبر في القاهرة للحجز على المطبعة العثمانية؛ ظاهرها أنها دعوى مدنية، وباطنها أنها حيلة للاستيلاء على الأوراق التي فيها الأسماء والعناوين.

ويفزع أحرار الترك حذرًا من سوء العاقبة على إخوانهم الغافلين في بلادهم، فيلجَئون إلى الوكالة البريطانية!

وتتخطى الوكالة البريطانية القانون، فتأمر بكسر الأختام وتسليم الأوراق إلى أصحابها وترك ما في المطبعة ما عدا ذلك محجوزًا عليه، وتكسب بذلك ولاء طائفة من أحرار الترك، ومعاكسة السلطان «عبد الحميد».

وهنا يقرأ العجب من شاء الرجوع إلى الصحف في تلك الأيام: بين الغيرة على الأختام، والغيرة على أرواح المئات من طلاب الحرية والدستور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤