محمد فريد

figure

محمد فريد من أكبر أعلام الوطنية المصرية، بل من خيرة شهدائها الذين يستحقون التمجيد والتخليد في صفحاتها الباقية.

عرفته في أسوان قبل أن ألقاه في القاهرة بسنوات عديدة.

عرفته من قضية «المؤيد» التي اشتهرت بقضية التلغرافات.

وعرفته من مؤلفاته التاريخية؛ لأن كتابه في تاريخ الدولة العثمانية كان أول كتاب قرأته في تاريخ هذه الدولة.

وقد كان في هذا الكتاب مؤرخًا واسع المصادر حريصًا على التحقيق، مع عطف واضح على الدولة وكراهة لأعدائها.

وقد كان شأنه في ذلك شأن جميع الشرقيين أو جميع المسلمين خاصة؛ لأن الدولة العثمانية كانت إحدى الدول القلائل التي بقي لها استقلالها في الشرق، وكانت إلى جانب هذا دولة الخلافة الإسلامية، فكان لها نصيب كبير من عطف الشرقيين الطامحين إلى استقلالهم، ومن عطف المسلمين الذين بايعوا آل عثمان بالخلافة، بعد زوال الخلافة العباسية.

وهنا موضع إيضاح لا غنى عنه في سياق هذه الفصول؛ فقد تقدم غير مرة أننا كنا ننكر السيادة العثمانية، ونكره أن يكون الاعتراف بها مبدأ من مبادئ الوطنية المصرية، فمن الواجب أن نلفت الأنظار هنا إلى الفارق بين كراهة الدولة العثمانية وكراهة سيادتها، وإنما كان استقلال مصر مطلوبًا عندنا كاستقلال الدولة العثمانية، بل كان استقلال مصر مقدمًا بالطلب على استقلال الدولة إذا وجبت المقارنة بين المطلبين.

وأذكر في هذا السياق أنني كنت أعتقد أن تشبث الدولة العثمانية بسيادتها على الأمم الأخرى يضيع عليه جهودها في غير طائل، ويعرضها للمتاعب على غير جدوى.

ومن المصادفات العجيبة أن الرأي الذي أخذ به «مصطفى كمال» زعيم الترك العظيم بعد الحرب العالمية الأولى في سنة ١٩٢٠، كان هو الرأي الذي دعوت إليه قبل ذلك بثماني سنوات، وهو اعتماد الدولة على بلادها الآسيوية، وإعفاء نفسها من المشكلات والجهود التي يسوقها إليها الاحتفاظ بالسيادة على أمم البلقان، فكتبت في مجلة «البيان» — سنة ١٩١٢ — مقالًا بعنوان «مستقبل الدولة العثمانية» قلت فيه: «كذلك زلزلت الصدمة قلوب العثمانيين فيئسوا من الدنيا، كأن أوروبا هي كل الدنيا، ولو كانت الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوروبا، لحق لهم ألا يرجوا منها بعد الآن ثمرًا، ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، وما هذه الولايات الأوروبية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها منها. وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها، فلا تتحول أنظار محمد الفاتح البتة إلى القسطنطينية.»

وهذا رأينا القديم في مسألة السيادة العثمانية على الأمم الأجنبية، فأحرى به أن يكون هو رأينا الأقدم في مسألة السيادة على هذه البلاد.

لقد كنت أومن بهذه العقيدة وأنا أشد ما أكون غيرة على الدولة العثمانية واهتمامًا بماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومن أجل ذلك شغلت نفسي بقراءة مئات الصفحات في ذلك التاريخ وأنا لا أعدو الرابعة عشرة، ومن أجله كتبت ما كتبت عن مستقبلها؛ لأنه — على ما اعتقدت — هو المستقبل الوطيد الذي تستقر فيه على أساس المنعة والتقدم والسلام.

وجئت إلى القاهرة وأنا أسمع اسم «محمد فريد» الوطني المخلص، ولا أنسى اسم «محمد فريد» العالم المؤرخ!

ولقيته مرات في المجتمعات الكبيرة والمجتمعات الصغيرة، ولكني لم أتحدث إليه في مجلس خاص غير مرة واحدة.

وكان ذلك في مكتب صحيفة «الدستور».

كان هذا المكتب في منزل بدرب الجماميز إلى جوار ديوان المعارف العمومية.

وكان الدور الأرضي منه مخصصًا للمطبعة، والدور الثاني على قسمين: أحدهما مسكن الأستاذ الجليل محمد فريد وجدي بك صاحب الدستور، والآخر مكتب التحرير والإدارة.

وكان الأستاذ وجدي بك يؤثر الكتابة في مسكنه، وقلما يجلس في مكتبه إلا لاستقبال زائر أو مراجعة عمل من أعمال الصحيفة، وإذا ﺑ «محمد فريد بك» يحضر إلى الدار ذات يوم على غير موعد، فجلست معه أتحدث إليه ريثما يرتدي الأستاذ وجدي بك ويحضر للقائه.

ولست أذكر تاريخ اليوم على التحقيق، ولكني أذكر أنه كان بعد أوائل شهر مايو سنة ١٩٠٨؛ لأن حديثي مع «سعد» — رحمه الله — كان مدار الكلام في تلك الفترة، وقد جرى حديثي مع «سعد» حوالي ذلك التاريخ، وكان أول حديث لصحفي مصري مع أحد الوزراء المصريين.

قال «فريد بك» — رحمه الله — بعد أن عرفني: «إنك لتحفظ لجارك في درب الجماميز حق الجوار.»

ففهمت ما أراد، وقلت: «وهو حقيق بحفظ الجوار.»

ثم انتقل الكلام إلى تعليم اللغة العربية، فقلت: إن تحويل التعليم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية في جميع مراحل التعليم لا يتأتى في شهر واحد ولا في سنة واحدة؛ لأنه خطوة لا بد أن تسبقها خطوة أخرى من تخريج المعلمين وتأليف الكتب أو ترجمتها.

ووافق ما قلت أن سعدًا قد أمر في تلك السنة نفسها بتعيين المتخرجين من مدرسة المعلمين للتدريس في المدارس الثانوية، والابتداء بالتعليم باللغة العربية في السنة الأولى من تلك المدارس، ثم في السنة الثانية.

ولاح لي أن «فريد بك» لا يصر كثيرًا على قوله في هذا الموضوع، ويحيل فيه إلى ما يذكره الشيخ عبد العزيز جاويش.

ثم حضر الأستاذ وجدي واستأذنت في الذهاب إلى مكتبي، وانصرف فريد بك بعد قليل.

تلاحقت الضربات على ذلك الزعيم الكريم وذهب الاضطهاد الظالم بثروته العريضة، وهي تقدر يومئذ بمئات الألوف.

وغادر الرجل القطر ليستطيع العمل في حرية وطلاقة، واستقر به المطاف في عاصمة الدولة العثمانية.

وهنا تتجلى بطولة «فريد».

لقد كان «فريد» يناصر الدولة العثمانية وهو في غنى عنها، ولعلها هي التي كانت في حاجة إلى مناصرته، وكان رأيه في علاقة مصر بالدولة العثمانية ذلك الرأي الذي أعلنه حزبه في تقريره عن حوادث سنة ١٩٠٧، وهو أولًا «استقلال مصر كما قررته معاهدة لوندرة في عام ١٨٤٠ وضمنته الفرمانات السلطانية، ذلك الاستقلال الضامن عرش مصر لعائلة محمد علي، والضامن للاستقلال الداخلي للبلاد».

وهو أخيرًا «بذل الجهد لتقوية علاقة المحبة والارتباط والتعلق التام بين مصر والدولة العلية».

ولقد غادر «فريد» وطنه، والعداء بينه وبين الخديو عباس على أشد ما يكون العداء. وقد علم وهو في الآستانة أن العسكريين من رجال الدولة يقصدون بالحملة على مصر، في أثناء الحرب العالمية الأولى، أن يغيروا نظام الحكم في البلاد المصرية، ويتعرضوا لحقوقها وحقوق عرشها. علم هذا وهو في قبضة أيديهم، ولعله في حاجة ماسة إلى كل معونة منهم، ولا ملاذ له من غضبهم في مصر؛ لأنها موصدة أمامه، ولا في أوروبا؛ لأنها تضطرب بأهوال الحرب في كل بقعة من بقاعها، فلم يحفل بشيء مما يصيبه من جراء غضبهم، وراح يعلنهم باستنكاره لخطتهم واحتجاجه عليهم، وعلق في عروة كسائه شعار «مصر للمصريين»، وقد كان أبغض شعار إلى القائمين بالأمر في الآستانة يومذاك!

حدثني صديقي الفاضل الدكتور حسين همت بك — وهو ممن شهد تلك الأيام في الآستانة — أن طلعت باشا — أخطر رجال الدولة التركية في عهده — كان يمتعض كلما لمح ذلك الشعار الذي يحمله فريد وصحبه، وكان يعجب لأنهم ينكرون على الترك حكم مصر، وإنهم ليتكلمون التركية خيرًا مما يتكلمها أهل الآستانة!

ومع هذا ظل فريد وصحبه يحملون شعارهم، ويعلنون استنكارهم حتى تعذر عليه البقاء في العاصمة التركية، فهجرها إلى أوروبا لينتقل بين ربوعها على غير هدى، ويشقى بتلك المعيشة الضنك في ظلمات تلك الغاشية العالمية، بغير أمل وبغير عزاء.

نعم المثل للوطنية الصادقة ذلك الشهيد الكريم — رحمه الله وخلد ذكراه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤