محمد المويلحي

figure

كانت للحياة الأدبية في القرن الماضي مؤامراتها ودسائسها التي تشبه المؤامرات والدسائس في حياة القصور الملكية، والصواب أن مؤامرات الأدب ودسائسه كانت في باطن أمرها فرعًا من فروع المؤامرات المعهودة في كل حاشية ملكية؛ لأن الأدباء كانوا على اتصال قريب أو بعيد بحاشية الأمير، وكان للقصر أشياع ودعاة بين أصحاب الأقلام كما كانت له خصوماته معهم على حسب الظروف والعلاقات التي تتغير بينهم جميعًا من حين إلى حين، وربما كان حامل قلم عونًا على حامل قلم آخر مرضاة للسياسة أو مرضاة للمنافسة المعهودة بين أبناء الصناعة.

وكان لمحمد المويلحي صاحب «عيسى بن هشام» نصيب واف من مؤامرات القصور، ولعله استحقها بقدم الصلة بين أسرته وبين الأسرة الخديوية من عهد مؤسسها محمد علي الكبير، وقد عاش أبوه إبراهيم في معمعان سياسة القصور بين عابدين بالقاهرة ويلدز بالآستانة، وكان صاحب القلم الوحيد الذي اصطحبه الخديو إسماعيل إلى منفاه، سفيرًا له في علاقاته بعد المنفى بالسلطان عبد الحميد.

ولم يسلم المويلحيان معًا من مؤامرات عابدين، ولم يسلم عابدين ويلدز معًا من مؤامرات المويلحي الكبير على الخصوص، وكان حامل القلم الذي اختارته حاشية عابدين للنكاية بالمويلحيين صحفيًّا من أقرب الناس إليهما وأشدهم إعجابًا بهما ومحاكاة لهما في أسلوبه، وهو صاحب «الصاعقة» أحمد فؤاد، وما كان يرجو لصاعقته حظًّا في ميدان الصحافة أعظم من مقارنة «مصباح الشرق» صحيفة المويلحيين في هذا الميدان.

وقد كانت وقيعة «أحمد فؤاد» بالمويلحي الكبير ألوانًا لا تحصى من الشائعات والأراجيف و«القفشات» التي كان ينشرها على الأندية والقهوات، وكانت وقيعته الكبرى بالمويلحي الصغير أنه كان يجرده من ملكة الكتابة الأدبية، ويزعم أن «عيسى بن هشام» من قلم أبيه، وأنه كان يرى مسودات المقالات بخطه في مطبعة المصباح! وكانت وقيعته بأبيه أنه طامع في إمارة الشعر بقصر الأمير.

أما المويلحي إبراهيم، فكان أكثر من ند «لأحمد فؤاد» في ألوان الوقيعة؛ إذ كان يفل الحديد بالحديد، ويكيل لتلميذه المتمرد بالكيل الذي يكيل به ذلك التلميذ، ويزيد.

وقد سكت عنه حتى أوهمه الصلح والرضا، ثم أوفده برسالة إلى الآستانة من تلك الرسائل التي كانت تغدق الهيل والهيلمان على حامليها بين عابدين ويلدز وبين يلدز وعابدين، ثم بادر فأبلغ الخبر إلى مدير «الشحنة» بالآستانة، فتلقى هذا صاحبنا أحمد فؤاد على «أسكلة الميناء» وانتزع منه أوراقه انتزاعًا، فإذا هي في سبيله إلى السجن بدلًا من دار الضيافة!

وأما المويلحي محمد، فقد كان على مشابهته لأبيه في كثير من خصاله أقرب إلى عزلة التصوف وترفع الوجاهة والإمارة، فلم يكن يعنيه من أحاديث أحمد فؤاد وأمثاله إلا أن يعقب عليها بنكتة لاذعة أو سخرية واسعة، ونسميها بالسخرية الواسعة لأنها كانت تتسع حتى تشمل السخرية بالشهرة الأدبية نفسها، فماذا لو لم يكن المويلحي الصغير كاتب «عيسى بن هشام» أو كاتبًا على الإطلاق؟ ذلك خطب هين كما كان المويلحي الصغير يقول، ولم يكن في الواقع يبالغ في تكلف السخرية بالشهرة الأدبية؛ لأنه كان يرتضي لنفسه منزلة أحب إليه وأرفع عنده من منزلة الأديب الصحفي المشهور، وهي منزلة الوجيه الحكيم العزوف عن الدنيا والناس.

ولقد شاعت وقيعة أحمد فؤاد في حينها، فلم نكد نسمع أحدًا يتكلم عن «حديث عيسى» إلا وهو يتقبلها أو يتساءل متشككًا: أحقًّا كتبه المويلحي الصغير ولم يكتبه له أبوه؟

وكنا نحن نعلم من أخبار «محمد المويلحي» أنه أوفر اطلاعًا من أبيه، وندرك الفارق البعيد بين ملكته الأدبية وملكة أبيه المرتجلة، ونعرف خلال سطوره مدى اطلاعه على كتب اليونان وكتب الأوروبيين المتأخرين، مما توفر عليه ولم يتوفر عليه أبوه من قبله، ولا بعد اشتراكه معه في حياته الأدبية، فكنا نعجب لشيوع تلك الوقيعة ولا نستطيع أن نفسره بغير هوى النفوس لاستماع الوشايات والاغترار في تفرقتهم بين ملكة الأب وملكة الابن بالتفرقة بين اسم المويلحي الكبير، والمويلحي الصغير.

ولكننا لقينا صاحب «عيسى بن هشام» بعد العلم به من طريق المطالعة وطريق السماع، فعرفنا سببًا أدعى من ذلك السبب لرواج الوقيعة التي أذاعها صاحب «الصاعقة»، فقد كان «محمد المويلحي» أصدق مثل رأيناه لقول القائل: «سماعك بالمعيدي خير من أن تراه»، حتى كنا نروي المثل بعد ذلك: «سماعك بالمويلحي خير من أن تراه»، وقد نزيد عليه: المويلحي الصغير توكيد للنسخة الجديدة من ذلك المثل القديم!

كان صديقنا المازني يقول عن مشهور من مشاهير الشرق الحديث بغير حق: «إنك لا تحتاج إلى أكثر من خمس دقائق في محادثته لتنزل به إلى مكانه من الاحتقار.»

والمويلحي الصغير تراه خمس دقائق، فلا تحتقره ولا تشعر من سمته ورصانته أنه قابل للاحتقار، ولكنك تقدر له ما شئت من الصناعات الموقرة غير صناعة القلم أو صناعة الكتابة الفنية، فإذا تكلم زادك إيمانًا بأنه من أبعد خلق الله عن الكتابة، ولا سيما كتابة اللباقة الفكاهية؛ لأنه يتعثر في كلامه وتعترضه فأفأة قد تطول، حتى تضطره إلى اختتام الكلام والإشاحة بوجهه علامة الضجر من الحديث أو الرغبة في السكوت، وإنما هو استحياء من تلك العثرات التي تعترضه أحيانًا خلال الحديث.

رأيت أول مرة — كما رأيته آخر مرة — بكساء «البونجور» الذي لا يغيره في الشتاء ولا في الصيف، وإن غيره من لون إلى لون ومن نسيج إلى نسيج.

ورأيته بعد المقابلة الأولى أسابيع متوالية لم أكن أسمع منه خلالها غير الكلمات التي يفوه بها رئيس العمل وهو يوقع الأوراق الرسمية أو يعيدها للمراجعة والاستيفاء، ولكنني كنت في كل مقابلة من تلك المقابلات القصار أخرج من مكتبه وقد ازددت علمًا بسرعة خاطره وسداد ملاحظته وقدرته على إيجاز القول والكتابة بما يفيد على البديهة، بغير كلفة ولا إطالة روية.

•••

لقيت «محمد المويلحي» لأول مرة في ديوان الأوقاف وهو يومئذ مدير قسم الإدارة، ويتبعه تحرير مجلس الديوان الأعلى ومجلسه الآخر الذي كان يسمى بمجلس الإدارة أو المجلس الإداري، ومن أقلامه قلم «السكرتارية»، وهو يومئذ ندوة المنشئين والمترجمين والأدباء والمحررين، يعملون «رسميًّا» في إعداد المذكرات التي ترفع إلى المجلسين وتهذيب أسلوبها وتصحيح لغتها، ولا يفرغ منهم لهذا العمل في الواقع غير اثنين أو ثلاثة، مع الاستعانة — قليلًا أو كثيرًا — بمعارف الأدباء اللغوية، إذا التبس عليهم الأمر في صحة كلمة أو سلامة أسلوب، وقد كان في قلم السكرتارية من المنشئين والشعراء والمترجمين والمشتغلين بالأدب والتحرير رهط منظور إليه في الديوان كله من طراز عبد العزيز البشري، وعبد الحليم المصري، وأحمد الكاشف، وحسين الجمل، وحسن الدرس، وأمين الدولة، ومحمد فكري، وغيرهم فئة قليلة من الكتاب الديوانيين غير معروفين بين أكثر الموظفين، وغير هؤلاء رهط آخر في الديوان ولكن في غير قلم السكرتارية، نذكر منهم صديقينا الشاعرين المجيدين علي شوقي، ومحمود عماد.

وكانت كتابتي الأدبية — السياسية — طريقي إلى وظائف الديوان، والفضل في ذلك لخصلة من خصال الفضول المحمود عند صديقنا الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة «البيان» طيب الله ثراه.

كان من دأبه أن يطمئن إلى تحرير مجلته بإهدائها إلى شيوخ الأدب والصحافة وسؤالهم عن موضوعاتها كلما زارهم أو زاروه في مكتب المجلة، وكان ممن يسألهم في ذلك حافظ عوض ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد المويلحي، وهو قليل الزيارة، لا يزار في غير مكتبه بالديوان، فلاحظ حافظ عوض أن اسم الكتاب الذي أترجم بعض فصوله لا يطابق أصله باللغة الإنجليزية، وهو «الأكاذيب المتفق عليها، في مدنيتنا» والمجلة تذكره باسم «الأكاذيب المقررة في مدنيتنا الحاضرة».

فزاد انتقاده من ثقة الشيخ بكاتب هذه السطور؛ لأنني ترجمت العنوان كما ذكره الأستاذ حافظ، ولكنه هو اقترح تسجيع العنوان لأنه أجمل بعناوين الكتب، فلما جاءه النقد من بعيد — وهو على عادته سريع التصديق — قال لي إنه لن يرفض رأيًا لي مطاوعة لرأي السجعة بعد الآن!

وكنت أسمع من البرقوقي غير مرة أنه يحفل برأي مصطفى صادق الرافعي في البلاغة العربية، ولكنه لا يحفل به، بل يرفضه، في أذواق الأدب الحديث ومباحثه الفكرية، وقد أنحى الرافعي على «ماكس نوردو» صاحب الكتاب وعلى كاتب هذه السطور مترجم فصوله، فكانت هذه الشهادة المعكوسة خيرًا من الثناء في تقدير الشيخ.

ثم سأل المويلحي — وهو يعلم عنه كثرة الاطلاع على أمثال هذه المؤلفات الأوروبية — فعاد المويلحي يسأله: بماذا يشتغل هذا الشاب؟

قال الشيخ: بلا شيء!

قال: أتراه يعيش على شيء من ميراث جده العقاد؟

فأفهمه الشيخ أنني لا أنتمي إلى السيد حسن موسى العقاد المشهور، وأنني أعيش بالقليل مما يردني من أهلي وبالقليل من أجور المقالات أو فصول الكتب المترجمة، فقال المويلحي مبتسمًا: إنه أولى بالوظيفة من أكثر «التنابلة» عندنا، فشجعني ما سمعت على طلب الوظيفة في الديوان، فطلبتها فأجيب طلبي لساعته بغير امتحان، وبدأت العمل فيه مساعدًا لكاتب المجلس الأعلى بقلم السكرتارية، وهي وظيفة من أخطر وظائف الديوان في تلك الفترة، قبيل تحويل الديوان إلى وزارة ذات «ميزانية» ملحقة بميزانية الدولة.

وتتابعت المناسبات التي كانت تدعوني إلى مراجعة «المدير» في بعض الأوراق، فلا أذكر أنني سمعت منه حديثًا غير الذي يصدر من «مدير الإدارة» وهو يملي توقيعاته ويوجه مرءوسيه، إلا مرة واحدة كان الحديث فيها دائرًا بينه وبين بعض زواره حول مسألة تتصل بالسياسة وطلب الدستور، فجرى ذكر الفيلسوف «هربرت سبنسر» وعلمت من إشارته الوجيرة إليه أنه كان على إلمام بكتابه عن «الإنسان والدولة».

على أن الأحاديث التي تتعاقب عن مسائل فنية تتعلق بتحرير المذكرات وإملاء التوقيعات لا تخلو بطبيعتها من دلالة على مبلغ اقتدار الرئيس الإداري في فن الكتابة الأدبية، وكل ما أستحضره اليوم من إشارات المدير المجملة، وتصحيحاته العاجلة، وتوقيعاته المبرمة، أنها من إيحاء «معلم» في صناعة القلم على هينة وفي غير كلفة ولا مشقة.

فكان على أناته في الحديث يملي التوقيع المصحح للعبارة الرسمية فلا يتوقف في الإملاء، ولا ينسى ضرورة التوفيق بين العرف الديواني وبين العبارة العربية الفصيحة، ولا يبدو عليه أنه ينتقل من الارتجال إلى الروية وهو يمضي في إملائه على من حوله، وقد يتعدد هذا الإملاء في وقت واحد.

ومما روجع فيه حكمه الفني — والديواني معًا — كلمة طال عليها الخلاف بين أنصار العرف الديواني وأنصار الابتكار والتجديد في أساليب الموظفين؛ فقد كان المألوف بعد إقرار المذكرة أن تذيل بكلمات قليلة لا تتغير لتوقيع المدير عليها، وهي: «محول على مجلس الإدارة»، أو «محول على المجلس الأعلى».

وخطر لأديب من أدباء السكرتارية أن يخرج على هذه الوتيرة؛ حبًّا للتصرف الذي يليق بأمثاله، وأنفة من «التقليد» الذي يلتزمه الموظف العتيق، فذيل المذكرات المعروضة على الجلسة كلها بكلمة «محال على المجلس»، ولم يذكر صفته اكتفاء بعنوان الديباجة. واحتكم المختلفون إلى المدير، فكانت إحدى الفتاوى التي ظهر فيها صاحب «عيسى بن هشام» من وراء صاحب العزة البيك المدير.

قال المويلحي: الحق أنني لا أرى صيغة «التحويل» إلا ذكرت محطة باب الحديد، وذكرت «محولجي» الرصيف!

ولا بأس بصيغة «محال» بدلًا من صيغة «التحويل» فهي صحيحة مليحة، ولكن يخشى إذا قيل «محال على المجلس» أن يفهم المجلس أنها مستحيلة عليه، وتبتعد هذه الشبهة إذا قيل «محال إليه».

ثم سأل: ولماذا لا يذكر اسم المجلس الذي تحال إليه؟

فقال صاحب التعديل: لأنه معروف من ديباجة العنوان.

فحكمت «النكتة» حكمها على صاحب «عيسى بن هشام» وقال للأديب المتحذلق: وهل تكتب على ظرف الجواب «ملحق بما تقدم» بدلًا من العنوان السابق فيما تقدم من الجوابات؟ إن الوثائق الرسمية لا تعرف الملل من التكرار، فاكتبوا اسم المجلس كاملًا في ذيل كل مذكرة ولا «تدوشونا» بمشكلة «محول ومحال» في جلسة أخرى، فلا حرج من تكرار صحيح في أمثال هذه الأوراق!

•••

وربما لمحنا صاحب «عيسى بن هشام» قبل صاحب العزة المدير في هذه الملاحظة الديوانية، فمنها نلمح ذوقه في اجتناب ما يتحرى اجتنابه من الكلمات المطروقة، وتلك على الأكثر كلمات اللغة الفصحى التي تسري إلى اللهجة العامية فتجري على ألسنة الناس مجرى العبارات التي يختلط فيها الابتذال بالإفصاح، ثم تتلبس — مع تداعي الخواطر — بكلمات معلقة بأحاديث السوق أو أحاديث الصناعة اليومية، وأظهرها هنا مادة التحول الفصحى، التي «تحولت» مع الاستخدام الحديث إلى تحويلة الرصيف وإلى قافية «المحولجي» — على حد التعبير الدارج بين «شخصيات» عيسى بن هشام.

وإنك لترجع إلى كتابات محمد المويلحي، فلا تلبث أن تلاحظ إذا التفتَّ إلى هذه العادة القلمية عنده، أنه أقل كتَّاب عصره إساغة للكلمات المطروقة من هذا القبيل، إلا على سبيل النكتة والدعابة، وقد كانت هذه الكلمات المطروقة تتخلل المقالات في عصره بالعشرات والمئات، ولكنك تحسبها في كتابات المويلحي فلا تراها تزيد على أصابع اليدين، وقد تعمدت أن أراجعها في كتابه «علاج النفس»، وهو في أكثر من مائتي صفحة، فوجدت منها قوله: «انصرافهم بكليتهم نحو المستقبل»، أو قوله: «فترى الواحد منا إذا اضطجع فوق فراشه»، أو قوله: «إن الفضل فيها بينهم ليس للشخص»، إلى عبارات كهذه لا يخطر للقارئ أنها من قبيل اللفظ الدارج المطروق، إلا إذا علم أنها قد سلكت سبيلها إلى الشارع والسوق.

وربما كان الابتذال أبغض شيء إلى الرجل في كل خصلة من خصاله، وفي كل شاغل من شواغل حياته، فمن مراقبتي لمسلكه المطبوع قرابة سنتين أستطيع أن أفهم أنه كان — كما تقدم — يرتضي لنفسه سمتًا واحدًا لا يعلوه عنده سمت يظهر به الإنسان بين الناس، وذلك هو سمت السري الحكيم العزوف عن مواطن الزحام، فهو عنده أعز وأكرم من سمت الرئيس الملقب والأديب المشهور، وهو في طبيعته وراثة، قد زادها تمكنًا منه أنه لم يرث من أبيه طلاقة اللسان، التي كانت تحبب إليه غشيان المجلس أو مناوشة الجلساء بالكلام، كما كان يناوشهم بالقلم على صفحات الأوراق.

وروي عن أبيه أنه مر بدكان تاجر كبير — وهو راكب — فحياه، فلم ينهض لرد تحيته ودعوته إلى النزول لديه، فمضى قليلًا، ثم عاد إلى التاجر يسأله عما عنده من فناجين القهوة، حتى عرض عليه التاجر فنجانًا ثمنه عشرة مليمات، فألقاه من يده على الأرض فانكسر، وناول التاجر قرشًا وهو يقول ويهم بالانصراف: إن من يقيمه ويقعده قرش لا يحق له أن يترفع عن رد التحية على كائن من كان.

وقد كان عزوف محمد أشد من عزوف أبيه، وكان يلزم داره شهورًا لا يفارقها، إذا صفرت يده من المال الذي يجاري به أقرانه في مجال الإنفاق خارج الدار، واستقال من وظيفته بديوان الأوقاف بعد إعلان الحرب العالمية الأولى — وهو لا يستغني عن مرتب وظيفته — لأنه أحس أن أعوان السلطان الجديد يغضون من قدره ولا يعاملونه بما هو أهله، وعكف على داره بقية حياته لا يبرحها إلا لرياضة أو عمل يلجئه إلى الخروج.

وفي اعتقادنا أن هذه الأنفة إنما كانت وليدة اعتزازه بنسبه وعقله قبل اعتزازه بأدبه وعلمه، وأن مواجهة أقرانه بهذه الأنفة قد أصبحت عدته الكبرى لحفظ مكانته بالكرامة الملحوظة، بعد أن زالت ثروة البيت التي كانت تغنيه — لو بقيت — عن إحضار هذه المناظرة في ذهنه، بين أناس من ذوي البيوتات أقدر منه على مظهر البذخ والجاه.

وأشد ما تكون هذه المناظرة حين يتنافس أبناء «الذوات» من الطبقتين المتقاربتين في ذلك العهد: طبقة «الذوات» أبناء العرب، وطبقة الذوات «أبناء الترك» أو طبقة الوجاهة «البلدية» وطبقة الوجاهة «الأتركة».

فإنك لا تقلب صفحتين من حديث «عيسى بن هشام» إلا لمست فيها هواه من أبناء البلد وسخريته — بل استجهاله واستحماقه — لنفخة الذوات من الطبقة الأخرى، وهو لا يعفي أبناء البلد من دعابته وغمزه، ولكنه يداعبهم ويغمزهم كما يفعل أبناء الأسرة الواحدة في مناوشات الدار بغير زراية ولا نقمة، وعلى غير هذا النحو كان منحاه إذا كتب عن الآخرين.

بل نحسب أنه لم يكن يألف موضوعًا للكتابة إلا ما يحسب من موضوعات الناقد المترفع أو المشرف المتبسط في ساعات فراغه، فكل ما كتبه في «حديث عيسى بن هشام» فهو نظرات إلى الدنيا والناس من هذه الشرفة المطلة عليها وعليهم، وكل ما اتخذه من أدوار هذا النقد الاجتماعي، فإنما هو دور «فرجة» لا دور صناعة قلمية، مهما يبلغ من شأنها، فما بلغ في عرف مناظريه من ذوات «الأتركة» أن تقارن منزلة الوجاهة والرئاسة.

وهذه العصبية بين «ذوات» البلد وذوات «الأتركة» هي التي ضمته مع أسرته جميعًا إلى معسكر الثوار وأبعدته عن معسكر «الخديو» وأعوانه من الجراكسة وخدام الدولة، وقد كان بيت المويلحي أقرب إلى بيت محمد علي منذ قيامه في الحكم من أكثر البيوتات الوطنية.

ولما فرغ من نشر «عيسى بن هشام» لم يعمد إلى إتمامه و«تقفيله» كما يقال في اصطلاح التأليف، ولكنه عمد إلى موضوع آخر من موضوعات الحكمة والتهذيب تليق بتلك الشرفة التي يستوي عليها الناقد الاجتماعي، فألف كتابه «علاج النفس» الذي طبع بعد وفاته، وساقه مساق الواعظ الحكيم للمتأدب المستمع، وإن كان قد تلطف في تقديمه فقال إنه ليس «في منزلة أوامر الطبيب للمريض، بل في منزلة دواء مجرب من مريض إلى مريض، ومن عاجز مستزيد إلى طالب مستفيد».

ولا نرى أن الأمر في لياذه بتلك «الشرفة» كان أمر وجاهة وسمعة وكفى، فإنه كان في لبابه أقرب إلى قداسة الدين لما فيه من حفظ أمانة الانتساب إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين؛ إذ كان بيت المويلحي ينتسب إلى الحسين — رضي الله عنه — وكانت له بهذا النسب سيادة مرعية في بلاد العرب، وولاية على محلة «المويلح» لا ينساها خلفاؤه الأدباء في عهد المناظرة والمنازعة بين سلالة العرب الأقدمين، وسلالة الترك المحدثين.

•••

إن المويلحي الصغير قد أصبح أكبر المويلحيين في العصر الحاضر، وإنما يذكر ﺑ «حديث عيسى»، وقلما يذكر بكتابه الآخر عن «علاج النفس»، وهو على هذا طبقة في بابه لا تقصر على طبقة عيسى بن هشام في بابه، ولكن مزية هذا أنه فاتحة منفردة في الأدب العربي الحديث، تذكر بها حقبة كاملة سجلها فأبدع في صدق تسجيله وحسن تمثيله، وكان فيها الكفاية لذكر كاتبها بين الرعيل الأول من رواد عصره وما بعد عصره من عصور الآداب العربية المقبلة، وسيظل هذا الكتاب نموذجًا يقتدي به من يطلب التجديد، ويتعلم الابتداء به على نهجه القويم؛ فهو مثال من النقد الاجتماعي يضارع أبلغ المثل في الآداب الأوروبية المعاصرة، ولكن المؤلف لم يقطعه مبتورًا من جذوره بموطنه ليغرسه غريبًا بين مواطن الضاد على غير منبته، بل تناول جذور المقامة العربية فأقامه عليها وأحسن تناولها وإقامتها لفظًا ومعنى، فهو مقامة يرتضيها «بديع الزمان» ومنهج من النقد العصري يرتضيه «سويفت» و«لي هنت» و«هايني» و«أناتول فرانس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤