مغامرة المنزل ذي الأسقفِ المُحدَّبة الثلاثة

لا أعتقد أن أيًّا من مغامراتي مع السيد شيرلوك هولمز بدأت تلك البداية المفاجئة للغاية والشديدة الدرامية التي ارتبطَت بمغامرة منزل الجمالونات الثلاثة. لم أكن قد رأيت هولمز لعدَّة أيام ولم يكن لديَّ فكرة عن المنحى الجديد الذي أخذَتْه أنشطته. إلا أنني وجدته راغبًا في الثرثرة ذلك الصباح؛ إذ أجلسني في المقعد البالي، المنخفض ذي الذراعين، على أحد جانبَي المدفأة، بينما جلس هو ضامًّا ساقَيه واضعًا غليونه في فمه على المقعد المواجِه لي حتى جاءنا زائر. ولن أكون مبالغًا إن وصفته بثور هائج حين دخل علينا.

فُتح الباب فجأة واندفع رجلٌ زنجي ضخم البِنية إلى داخل الحجرة. وكان من الممكن النظر إليه كشخصية هزلية لولا مظهره المُرعب؛ فقد كان يرتدي حُلَّةً رمادية مبهرجة للغاية ذات نقوشٍ مربعة مع رابطة عنق متهدِّلة ذات لون برتقالي شاحب مائل إلى الزهري الفاتح. هكذا اندفع بوجهه العريض وأنفه المُفلطح وهو يجول بيننا بعينيه الداكنتَين المتجهمتَين اللتين التمعت فيهما ضغينةٌ متأججة.

ثم سأل: «أيُّكما السيد هولمز أيُّها السيدان؟»

أجابه هولمز بأن رفع غليونه مُبتسمًا ابتسامة فاترة.

قال الزائر، وقد خطا خطوة غير مرغوب فيها خلسة عند زاوية الطاولة: «أوه! إنه أنت، أليس كذلك؟ أصغِ إليَّ يا سيد هولمز، فلترفَع يدَيكَ عن شئون الآخرين، واتركهم ليُديروا أمورهم. هل فهمت هذا يا سيد هولمز؟»

قال هولمز: «استمِرَّ في الكلام. لا بأس.»

تذمَّر الرجل الهمجي وقال: «حقًّا! لا بأس بالنسبة إليك، أليس كذلك؟ لن يظلَّ الأمر كذلك إن أوسعتُك ضربًا؛ فقد تعاملت مع أناسٍ على شاكلتك من قبلُ، ولم يكونوا في أفضل حالٍ حين انتهيت منهم. فلتَنظر إلى هذه يا سيد هولمز!»

ثم لوَّح بقَبضةٍ ضخمةٍ بها نتوءات إلى أسفل أنفِ صديقي الذي تفحَّصها بتمعُّن واهتمامٍ شديد، ثم بادره سائلًا: «هل وُلدِتَ هكذا؟ أم صِرت هكذا تدريجيًّا؟»

ربما كان ما اتَّسم به سلوك صديقي من برودٍ شديدٍ أو ما سبَّبتُه من ضجة خفيفة حين التقطتُ قضيب المدفأة. على أيِّ حال، فقد صار سلوك زائرنا أقل حدَّة.

فأجابه قائلًا: «حسنًا، لقد أعطيتُكَ إنذارًا عادلًا. فلديَّ صديق مُهتمٌّ بمسألة طريق هارو — وأنت تعلَم ما أعنيه — ولا يريد منك أن تتدخل في الموضوع. هل فهمت؟ فأنت لا تُمثِّل القانون ولا أنا أيضًا، فإن تدخَّلت في الأمر ستجدني متصديًا لك. إياك أن تنسى هذا.»

قال هولمز: «منذ مدة طويلة وأنا أودُّ مقابلتك. ولن أطلب منك الجلوس؛ فرائحتك لا تروق لي، لكن ألستَ أنت ستيف ديكسي، الملاكم؟»

«هذا اسمي يا سيد هولمز، وسوف تلقى مني أغلظ عقابٍ إنْ حدَّثتني بوقاحة.»

ردَّ هولمز على الزائر وهو يُحدِّق في فمه البشع قائلًا: «لا شك أنك لن ترضى بذلك. لكن ماذا عن مقتل الشاب بيركنز خارج هولبورن بار … ماذا! ألن ترحل؟»

تَراجَع الزنجي فجأةً وقد كسا الشحوبُ وجهَه. ثم قال: «لن أَستمع إلى هذا الحديث. ما علاقتي بهذا الشخص المدعو بيركنز يا سيد هولمز؟! فقد كنتُ أتدرَّب في منطقة بول رينج في برمنجهام حين أحدقَت بهذا الفتى المتاعب.»

أجابه هولمز قائلًا: «أجل، فلتُخبِر القاضي بهذا يا ستيف؛ فقد كنتُ أُراقبُكَ أنت وبارني ستوكديل …»

«فليُساعِدْني الرب! سيد هولمز …»

«يكفي هذا. فلتَغرُب عن وجهي. سوف أذهب إليك حين أُريدك.»

«طاب صباحك يا سيد هولمز. أرجو ألا تكون قد تضايَقْتَ من هذه الزيارة؟»

«سأُصبح كذلك إن أخبَرتَني من أرسلك.»

«هذا ليس سرًّا يا سيد هولمز؛ فهو السيد نفسه الذي ذكرتَ اسمه للتوِّ.»

«ومن الذي حرَّضه على ذلك؟»

«يا إلهي! لا أعلم يا سيد هولمز. فهو لم يَقُل لي إلا: «اذهب لمقابلة السيد هولمز يا ستيف، وأخبِرْه أن حياته ستَصير في خطر إن ذهَب إلى طريق هارو.» وهذه هي الحقيقة الكاملة.» ثم اندفع الزائر إلى خارج الحجرة فجأةً مثلما دخل إليها، دون انتظار المزيد من الأسئلة. أفرغ هولمز رماد غليونه ضاحكًا ضحكة صامتة.

«يَسرُّني أنك لم تُحطِّم رأسه الأجعد يا واطسون؛ فقد لاحظتُ مُناوراتك مع قضيب المدفأة. لكنه شخص غير مؤذٍ حقًّا؛ فإنما هو طفل ضخم مَفتول العضلات أحمق مُتبجِّح، لكن يُمكنك إخضاعه بسهولة كما رأيت. إنه أحد أفراد عصابة سبنسر جون، وقد ضَلَع مؤخرًا في بعض الأعمال المشبوهة التي سأَكشِف عنها حين يُتاح لي الوقت. أما زعيمه المباشر، بارني، فهو شخص أكثر فِطنة، وقد ضلعوا في حوادث الاعتداء والترهيب وما شابه. ما أريد معرفته الآن هو مَن الذي يُحرِّضهما في هذه الواقعة تحديدًا.»

«لكن لماذا يُريدون ترهيبك؟»

«الأمر يتعلَّق بقضية هارو ويلد. وهذا يزيد من تصميمي على التمعن في الأمر، فلا بد أن ثمة شيئًا ما بها، ما دام هناك مَن تجشَّم كلَّ هذا العناء من أجل إيقافي.»

«لكن ما هو؟»

«كنتُ سأُخبرك قبل أن يداهمنا هذا الفاصل الهزلي. ها هي رسالة السيدة مابيرلي. إن كنت تود أن تأتي معي سنُرسل لها برقيةً ونذهب في الحال.»

[قرأتُ] عزيزي السيد شيرلوك هولمز

توالت عليَّ أحداث غريبة لها علاقة بهذا المنزل، وأرى نفسي بحاجة ماسَّة إلى مشورتك. ستجدني في المنزل في أي وقتٍ غدًا، وهو يقع على مسافة قريبة سيرًا من محطة ويلد. أعتقد أن زوجي الراحل، مورتيمر مابيرلي، كان أحد عُملائك القدامى.

المخلصة
ماري مابيرلي

كان العنوان «منزل الجمالونات الثلاثة، هارو ويلد».

قال هولمز: «هذا ما في الأمر! والآن، إذا كان لديك متسعٌ من الوقت يا واطسون، دعنا نمضِ في سبيلنا.»

وصلنا إلى المنزل بعد رحلة قصيرة بالقطار ورحلة أقصَر منها بالعربة، فوجدناه فيلَّا من القرميد والخشب، مبنية على فدان خاص بها من المروج البِكر. وبدت النتوءات الثلاث الصغيرة فوق نوافِذِه العلوية في محاولةٍ واهنة لتعليل الاسم الذي يَحمله. وكان يقع خلفه بُستان مُوحِش، نَمَت فيه أشجار صنوبر غير مكتملة النمو، وساد المكانَ جوٌّ من الفقر والكآبة. ورغم ذلك وجدنا المنزل مؤثَّثًا جيدًا، وكانت السيدة التي استقبلتنا مُسِنَّةً ذات شخصيةٍ شديدة الجاذبية، اجتمعت فيها كلُّ سمات الرقيِّ والثقافة.

قال هولمز مخاطبًا إياها: «أتذكَّر زوجكِ جيدًا يا سيدتي، رغم مرور سنواتٍ عدَّة على استعانته بخدماتي في أحد الأمور البسيطة.»

«قد يكون اسم ابني دوجلاس مألوفًا أكثر لك.»

حينذاك رمَقَها هولمز باهتمام شديد.

«يا للهول! أنتِ والدة دوجلاس مابيرلي؟ إنَّ معرفتي به محدودة، لكن لندن بأَسْرِها كانت تعرفه بالطبع. كم كان شخصًا رائعًا! أين هو الآن؟»

«لقد تُوفِّي يا سيد هولمز، تُوفِّي! فقد كان ملحَقًا في السفارة في روما، ومات بالالتهاب الرئوي هناك الشهر الماضي.»

«أنا آسف. من الصعب تصوُّر وفاة رجل مثله؛ فلم أُقابل في حياتي رجلًا بمثل نشاطه وحيويته. لقد عاش حياةً حافلةً؛ بكل ذرة في كيانه!»

«حافلة للغاية يا سيد هولمز، وهذا ما أَودى بحياته. فأنت تتذكره كما كانت طبيعته الأصلية؛ لطيفًا ورائعًا، لكنك لم ترَه حين صار شخصًا مُتقلِّب المزاج ونَكِدًا وكئيبًا؛ فقد تحطَّم قلبه. وفي خلال شهر واحد رأيتُ ابني الهُمام وهو يتحوَّل إلى رجل ناقِم مُنهَك القوى.»

«هل كان وراء هذا علاقة حبِّ؛ أيِ امرأة؟»

«أو شيطان. حسنًا، لم أَطلُب منك الحضور لأتكلم عن فتاي المسكين يا سيد هولمز.»

«أنا والدكتور واطسون في خدمتكِ.»

«لقد وقَعَت بعض الأحداث الشديدة الغرابة. إنني أقيم في هذا المنزل منذ أكثر من عام، ولمَّا كنت أرغب أن أعيش حياةً هادئة، فقد أقللتُ من الاختلاط بجيراني. ومنذ ثلاثة أيام زارني رجل قال إنه سمسار عقاراتٍ، وإنَّ هذا المنزل يُلائم أحد عملائه، وإننا لن نختلف على المال إن كنت مُستعدَّةً للتخلي عنه. وقد أثار هذا استغرابي للغاية؛ حيث إنَّ السوق به عدة منازل خالية تبدو على هذا القدر نفسه من المميزات، لكن ما قاله أثار اهتمامي بطبيعة الحال. لذا فقد حدَّدتُ مبلغًا يفوق ما دفعته بخمسمائة جنيه. وقد وافق على السعر في الحال، لكنه أضاف أن العميل يرغب في شراء الأثاث كذلك، لذا عليَّ تحديد سعر له. وحيث إنني جئتُ ببعض من هذا الأثاث من منزلي القديم، وهو كما ترى في حالة جيدة للغاية، فقد حدَّدتُ مبلغًا كبيرًا، وقد وافق عليه على الفور أيضًا. لطالَما أردتُ السفر، ولمَّا كانت الصفقة مجزية للغاية بدا حقًّا أنني سأَصير سيدة قراري فيما تبقَّى لي من العمر.

ويوم أمسِ أتى الرجل ومعه العقد مكتوبًا بالكامل. ولحُسن الحظ عرضتُه على السيد سوترو، محاميَّ الخاص، الذي يعيش في هارو، فقال لي: «هذه الوثيقة غريبة للغاية. هل تُدركين أنكِ إن وقَّعتِها لن تستطيعي قانونًا أن تأخذي أيَّ شيءٍ من المنزل؛ ولا حتى أغراضكِ الخاصة؟» وقد أشرتُ إلى هذا الأمر حين عاد إليَّ الرجل مرةً أخرى في المساء، وأخبرتُه أنني قصدت بيع الأثاث فحسب.

فقال: «لا، لا، كلُّ شيء.»

«لكن ماذا عن ملابسي؟ ومجوهراتي؟»

«حسنًا، حسنًا، قد نتنازل بعض الشيء فيما يخصُّ أمتعتكِ الشخصية، لكن لن يخرج أيُّ شيءٍ من المنزل دون فحصِه. هذا العميل رجل مُتفتِّح جدًّا، لكن لديه تقاليع وطريقة خاصة في فعل الأشياء. فهو إما أن يحصل على كلِّ شيءٍ أو لا شيء.»

فقلت له: «إذن، فلن يَحصل على أي شيءٍ. وقد انتهى الأمر عند هذا الحد، لكن بدا لي الأمر برمَّته شديد الغرابة حتى إنني اعتقدت …»

هنا تعرَّضنا للمُقاطعة على نحوٍ غريب للغاية.

فقد رفع هولمز يده طالبًا منا التزام الصمت. ثم عبَر الحجرة في خطواتٍ سريعة، وفتح الباب، وجذب سيدة ضخمة وهزيلة أمسك بها من منكبَيها. فدخلت الحجرة وهي تقاوم مقاومةً رعناء مثل دجاجة ضخمة خرقاء تصيح بعد انتزاعها من قفصها.

صرخت السيدة قائلة: «اتركني لشأني! ماذا تفعل؟»

«ماذا هناك يا سوزان؟»

«حسنًا يا سيدتي، لقد أتيتُ لأسأل إن كان الضيوف سيَمكُثون حتى وقت الغداء حين انقضَّ عليَّ هذا الرجل من الحجرة.»

«كنتُ أسمعها طوال الدقائق الخمس الماضية، لكنني لم أُرِد أن أقاطع روايتكِ المُثيرة للاهتمام. إنكِ تُصدِرين صوت أزيزٍ حين تتنفَّسين قليلًا يا سوزان، أليس كذلك؟ فصوتُ تنفُّسك مرتفع بعض الشيء ولا يتناسَب مع هذا النوع من العمل.»

نظرت سوزان بوجهٍ مُندهش رغم تجهُّمه إلى الرجل الذي أمسك بها، ثم قالت: «مَن أنتَ على أي حال، وبأيِّ حق تَجذبني هكذا؟»

«كلُّ ما في الأمر أني أردتُ أن أطرح سؤالًا في وجودكِ. هل ذكرتِ يا سيدة مابيرلي لأي شخصٍ أنكِ ستبعَثين إليَّ رسالة وتَستشيريني؟»

«لا يا سيد هولمز، لم أفعل.»

«ومَن الذي أرسل خطابك بالبريد؟»

«سوزان.»

«بالتأكيد. والآن يا سوزان، مَن الذي كتبتِ إليه أو أرسلتِ إليه رسالةً لإخباره أن سيدتكِ لجأت إليَّ للمشورة؟»

«هذا كذب، فلم أبعث أيَّ رسائل.»

«كما تَعلمين يا سوزان، الأشخاص الذين يصدرُ عنهم أزيزٌ عند التنفُّس قد لا يعيشون طويلًا. والكذب من الآثام. مَن الذي أخبرتِه؟»

هنا صاحت سيدتها قائلة: «سوزان! أعتقد أنكِ امرأة خائنة شرِّيرة. أتذكَّر الآن أني رأيتكِ تتحدَّثين مع شخصٍ ما عبر سياج الشجيرات.»

قالت السيدة عابسةً: «كان ذلك أمرًا يَخصُّني.»

قال هولمز: «ماذا إن أخبرتكِ أن الرجل الذي كنتِ تتحدَّثين معه كان بارني ستوكديل؟»

«حسنًا، إن كنتَ تعلم فلماذا تسأل؟»

«لم أكن متأكدًا، لكنَّني تأكدتُ الآن. حسنًا يا سوزان، سأعطيكِ عشرة جنيهات إن أخبرتِني مَن الذي يُحرِّض بارني.»

«شخصٌ يستطيع أن يدفع ألف جنيه مُقابل كل العشرات التي لديك.»

«إنه رجلٌ ثري إذن؟ لا؛ لقد ابتسمتِ … إنها سيدة ثرية إذًا؟ والآن لقد قطعنا شوطًا كبيرًا، فلتُخبريني بالاسم وتَحصُلي على الجنيهات العشرة.»

«سأراكَ في الجحيم قبل ذلك.»

«سوزان! انتبهي لألفاظكِ!»

«سأرحل مِن هنا! فقد نلتُ ما يَكفيني منكم جميعًا. وسوف أرسل في طلب أمتعتي غدًا.» ثم انطلقت متجهةً إلى الباب.

«إلى اللقاء يا سوزان. عليكِ بصبغة الأفيون الكافورية؛ فهي العلاج المناسب.» ثم استطرد قائلًا، وقد تحوَّل فجأةً من الحماس إلى الجدِّية حين انغلق الباب خلف السيدة محتقنة الوجه من الغضب: «هذه العصابة جادَّة فيما تفعله. انظرا إلى السرعة التي يتحرَّكون بها؛ فالوقت المسجل بختم البريد على خطابكِ كان العاشرة مساءً، ورغم ذلك أبلغت سوزان بارني بالخبر. ووجد بارني الوقت للذهاب إلى الشخص الذي كلَّفه بالعمل ليتلقَّى منه التعليمات؛ فوضع أو وضعت الخطة، وأرجِّح من ابتسامة سوزان، حين ظنَّت أني أخطأت، أنه امرأة. وهكذا أرسلوا في طلب ستيف الأسود وحذَّرني في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي. هذا أداءٌ سريع.»

«لكن ماذا يريدون؟»

«أجل، هذا هو السؤال. مَن كان يَمتلُك المنزل قبلكِ؟»

«قبطان مُتقاعد يدعى فيرجسون.»

«هل شاع عنه شيءٌ جدير بالملاحظة؟»

«ليس في حدود ما سمعت.»

«كنت أتساءل ما إذا كان دفَن شيئًا. بالطبع صار الناس هذه الأيام يَدفنون الكنوز إن وُجدَت في صناديق توفير البريد، لكن يظل هناك بعض المجانين؛ فالعالم سيَصير مُضجِرًا من دونهم. خطرَ لي في البداية أنه قد تكون ثمة أشياء ثمينة مدفونة. لكن لماذا يُريدون الأثاث في هذه الحالة؟ هل لديكِ إحدى لوحات رافاييل أو إحدى المطويات الأولى لأعمال شكسبير دون أن تعلمي؟»

«لا، لا أعتقد أني أملك شيئًا نادرًا عدا طقم شاي كراون ديربي.»

«هذا لا يكفي لتفسير كل هذا الغموض. علاوةً على هذا، لماذا لا يَبوحون صراحةً بما يُريدونه؟ إن كانوا يبتغون طقم الشاي خاصتك فبوسعِهم بالتأكيد دفع ثمنه دون شراء منزلك بكامل محتوياته. لا، حسبما أرى، ثمة شيءٌ لا تَعلمين بحيازتكِ له، ولن تتنازلي عنه إن كنتِ تعرفين بأمره.»

حينذاك أردفتُ قائلًا: «وأنا أيضًا أرى هذا.»

«يتفق الدكتور واطسون معي في الرأي، وهذا يحسم الأمر.»

«حسنًا يا سيد هولمز، ماذا قد يكون هذا الشيء؟»

«لنرَ إن كنا سنستطيع الوصول إلى استنتاجٍ أدق بالتحليل الذهني المحض. هل مضى عام على إقامتك في هذا المنزل؟»

«عامان تقريبًا.»

«هذا أفضل، وخلال هذه المدة الطويلة لم يطلب أحدٌ منكِ شيئًا. وفجأة في خلال ثلاثة أو أربعة أيام جاءتك طلباتٌ ملحَّة. فما الذي تَستنتجينَه من هذا؟»

فأجبتُ أنا قائلًا: «لا يعني هذا سوى أن ذلك الغرض، أيًّا كان، وصَل إلى المنزل للتوِّ.»

قال هولمز: «مرةً أخرى نتَّفق في الرأي. والآن، هل وصل إليكِ أيُّ غرض مؤخرًا يا سيدة مابيرلي؟»

«كلا، لم أشترِ شيئًا جديدًا هذا العام.»

«حقًّا! هذا جدير بالملاحظة؛ حسنًا، أعتقد أن من الأفضل أن نترك الأمور تتطوَّر أكثر قليلًا إلى أن تتوفَّر لنا معلوماتٌ أوضح. هل محاميك الخاص رجلٌ ضليع؟»

«السيد سوترو ضليعٌ للغاية.»

«هل لديكِ خادمة أخرى، أم كانت سوزان الجميلة التي صفَقَت بابكِ الخارجي للتوِّ، بمفردها؟»

«عندي فتاة شابة.»

«حاولي أن تجعلي سوترو يقضي ليلةً أو اثنتين في المنزل، فعلى الأرجح ستَحتاجين للحماية.»

«ممَّن؟»

«مَن يدري؟ فالمسألة يكتنفها الغموض دون شكٍّ. وما دمتُ لا أستطيع أن أعرف ما الذي يسعون وراءه فلا بد أن أعالج المسألة من الناحية الأخرى وأُحاول الوصول إلى الزعيم. هل أعطاكِ سمسار العقارات أيَّ عنوان؟»

«لم يُعطِني إلا بطاقته التي لم يَرِدْ فيها إلا مهنته. هينز جونسون، بائع بالمزادات ومُثمِّن.»

«لا أعتقد أننا سنجده في الدليل، فرجال الأعمال النُّزهاء لا يُخفون مقرَّات أعمالهم. حسنًا، فلتُطلعيني على أي تطوراتٍ جديدة. لقد قَبِلتُ قضيتكِ ويمكنكِ الاطمئنان إلى أنني سأستمر فيها حتى النهاية.»

وفي أثناء مرورنا بالبهو وقعت عينا هولمز، التي لا يَفوتها شيءٌ، على عدة صناديق وحقائب مكدَّسة في إحدى الزوايا، وقد وُضِعَتْ عليها ملصقاتٌ.

««ميلانو، لوسِرن.» إنها من إيطاليا.»

«إنها أغراض دوجلاس المسكين.»

«ألم تُفرغي محتوياتها؟ منذ متى وهي لديك؟»

«لقد وصلت الأسبوع الماضي.»

«لكنكِ قلتِ … مهلًا، بالتأكيد قد تكون هذه هي الحلقة المفقودة. ما الذي يجعلنا نَعتقِد أنها لا تحوي شيئًا ثمينًا داخلها؟»

«هذا غير مُمكن يا سيد هولمز. فلم يكن دوجلاس المسكين يَملك سوى راتبه ودخلٍ سنوي زهيد. فما الشيء الثمين الذي قد يملكه؟»

استغرق هولمز في التفكير.

ثم قال أخيرًا: «لا تُؤجِّلي الأمر أكثر من هذا يا سيدة مابيرلي. فلتجعلي أحدهم يصعد بهذه الأغراض إلى حجرتكِ، وافحصيها بأسرع ما يُمكن وانظري ما بها. وأنا سآتي غدًا لأسمع روايتك.»

بدا جليًّا تمامًا أن منزل الجمالونات الثلاثة كان تحت مراقبةٍ مشدَّدة، حيث إننا حين وصلنا إلى السياج العشبي المرتفع الموجود في نهاية الممر وجدنا الملاكم الزنجي المحترف واقفًا في الظل. لقد تعثَّرنا فيه فجأة وبدا لنا مُتجهمًا ومتوعِّدًا في هذا المكان المُوحِش. وعند رؤيته راح هولمز يُربِّت بيده على جيبه.

«هل تبحث عن مسدَّسك يا سيد هولمز؟»

«لا، عن زجاجة عطري يا ستيف.»

«إنك تتمتَّع بحسِّ الفكاهة يا سيد هولمز، أليس كذلك؟»

«لن تجد في الأمر فكاهة إن لاحقتُك يا ستيف، وقد حذَّرتك هذا الصباح.»

«حسنًا يا سيد هولمز، لقد فكرتُ فيما قلتَه ولا أريد التحدث أكثر من هذا في مسألة السيد بيركنز. افتَرِض أني أستطيع مساعدتك يا سيد هولمز، وسأفعل.»

«حسنًا، لتُخبرني إذن من يُحرِّضك في هذه المهمة.»

«يا إلهي ساعدني! لقد أخبرتُك بالحقيقة من قبلُ يا سيد هولمز. أنا لا أعلم. فرئيسي، بارني، هو من يُعطيني الأوامر، وهذا كلُّ ما في الأمر.»

«حسنًا، فلتضع في اعتبارك يا ستيف أن تلك السيدة التي في ذلك المنزل وكل ما يُوجد تحت ذلك السقف في حمايتي. فلا تنسَ هذا.»

«حسنًا يا سيد هولمز. سأتذكر.»

حين استأنفنا السير قال هولمز: «استطعتُ أن أُثير خوفه تمامًا يا واطسون. وأعتقد أنه كان سيبوح باسم الشخص الذي استأجَرَه لو كان يعرف مَن هو؛ فقد حالَفني الحظ بمعرفة بعض المعلومات عن جماعة سبنسر جون وأن ستيف كان واحدًا منهم. أما الآن يا واطسون فسوف أذهب للقاء لانجديل بايك، فهذه القضية تقع ضمن دائرة اختصاصه، ربما تتَّضح لي المسألة أكثر حين أعود.»

لم أرَ هولمز طوال النهار، لكن بوسعي أن أتخيَّل تمامًا كيف قضاه؛ فقد كان لانجديل بايك بمثابة مرجع بشري لكل ما يتَّصلُ بفضائح المجتمع. كان هذا الشخص العجيب الخامل يَقضي ساعات يقظته في النافذة الناتئة لأحد ملاهي شارع سانت جيمس، حيث كان بمثابة جهاز استقبال لكل أحاديث النميمة في العاصمة وجهاز إرسال أيضًا. ويُقال إنه يَتقاضى دخلًا بالآلاف مقابل الفقرات التي يُسهِم في كتابتها أسبوعيًّا في الصحُف التافهة التي تُرضي أذواق الفُضوليِّين من عامة الناس. فمتى نشأت في أعماق حياة لندن العَكِرة أيَّة دوامات أو تيارات غريبة، كان هو المؤشر البشري الذي يُشير إليها بدقة آلية. وكان هولمز يساعد لانجديل خُفْية في الحصول على المعلومات، ويتلقَّى مساعدته في المقابل أحيانًا.

حين التقيتُ بصديقي في حجرته في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، أدركتُ من حركاته أن كلَّ شيءٍ كان على ما يرام، لكن رغم ذلك كان ثمَّة مفاجأة غير سارة في انتظارنا، جاءت في شكل البرقية التالية:

احضُر في الحال أرجوك؛ فقد تعرَّض منزل عميلتك للسرقة ليلًا. الشرطة تُحكِم سيطرتها على المكان.

سوترو

هنا أطلق هولمز صافرة، ثم قال: «لقد تأزَّمَتِ الدراما، وبأسرع مما توقَّعت. ثمة قوة محرِّكة هائلة خلف هذه المسألة يا واطسون، وهذا لا يُدهشني بعد ما سمعته. بالطبع سوترو هذا هو محاميها الخاص، لكن أخشى أني أخطأت حين لم أَطلُب منك أن تُمضي الليلة في حراسة المنزل؛ فقد تبيَّن أن هذا الشخص لا يُمكن الاعتماد عليه. حسنًا، لا مفرَّ من الذهاب في رحلةٍ أخرى إلى هارو ويلد.»

وجدنا منزل الجمالونات الثلاثة في حال مختلفة تمامًا عن ذلك المنزل المنظَّم الذي رأيناه في اليوم السابق؛ إذ اجتمعت مجموعة صغيرة من المتسكِّعين عند بوابة الحديقة، بينما كان ثمة شرطيان يتفحَّصان النوافذ وأحواض زهور إبرة الراعي. والتقينا داخل المنزل بسيدٍ عجوز أشيب قدَّم نفسه بصفته المحامي، ومعه محقِّق نشيط متورِّد الوجه حيَّا هولمز كأنه صديقٌ قديم.

«حسنًا يا سيد هولمز، أخشى أنه لا مكانَ لك في هذه القضية. فهي لا تعدو كونها جريمة سطو عادية، باستطاعة قوى الشرطة الهَرِمة الضعيفة تناولها، ولا تحتاج إلى خبراء.»

أجابه هولمز: «أنا متأكِّد من أن القضية في أيدٍ أمينة جدًّا. أنت تقول إنها جريمة سطو عادية فحسب؟»

«بالتأكيد؛ فنحن نعلم جيدًا مَن هم الجناة وأين نجدهم. إنها عصابة بارني ستوكديل، التي بين أفرادها ذلك الزنجي الضخم؛ فقد شوهدوا في الجوار.»

«ممتاز! ما الذي أخذوه؟»

حسنًا، لا يبدو أنهم أخذوا الكثير. فلقد خُدِّرت السيدة مابيرلي والمنزل كان … آه! ها هي السيدة بنفسها.»

دخلت السيدة صديقتنا التي رأيناها أمس وقد بدا عليها شحوبٌ وإعياءٌ شديدان، متَّكئة على خادمة صغيرة.

قالت السيدة وهي تبتسم في حزن: «لقد أسديتَ إليَّ نصيحة سديدة يا سيد هولمز، لكنَّني لم أعمل بها للأسف! فلم أشأ أن أُزعِج السيد سوترو، لذا لم أجد مَنْ يحميني.»

قال المحامي موضِّحًا: «لم أسمع بالأمر إلا هذا الصباح.»

«نصحني السيد هولمز باستضافة أحد أصدقائي في المنزل، لكنَّني تجاهلتُ نصيحتَه ودفعتُ ثمن ذلك.»

قال هولمز: «يبدو عليكِ الإعياءُ لدرجة مُؤسِفة. ربما لستِ مستعدَّة لتخبريني بما جرى.»

قال المحقق وهو يربِّت على مفكرة كبيرة: «كلُّ شيءٍ مكتوب هنا.»

«رغم ذلك إن لم تكن السيدة مُتعَبة جدًّا …»

«لا أملك الكثير لأقوله. ولا يُساورني شك في أن سوزان الشريرة هي التي هيَّأت لهم طريقًا ليدخلوا المنزل. فلا بد أنهم كانوا يَعرفون كلَّ تفاصيل المنزل. لقد بقيتُ يَقِظة للحظةٍ بعد وضع قطعة القماش المُشبَعَة بمُخدِّر الكلوروفورم على فمي، لكني لا أدري كم من الوقت لبثتُ فاقدةً الوعي. وحين استيقظت وجدت رجلًا بجوار الفراش ورجلًا آخر يَنهض برزمة أوراق في يده من بين أمتعة ابني التي فُتح بعضها وتبعثَرَت على الأرض. لكني انتفضتُ واقفة وأمسكتُ به قبل أن يهرب.»

قال لها المحقِّق: «كانت تلك مجازفة كبيرة.»

«لقد تعلقتُ به لكنه تملَّص مني، وعلى الأرجح وجَّه إليَّ الرجل الآخر ضربةً بشكلٍ ما؛ إذ لا أستطيع تذكُّر أكثر من هذا. سمعت الخادمة ماري الجلبة وبدأت بالصراخ من النافذة، وهذا ما جعل الشرطة تأتي، ولكن بعد أن فرَّ هؤلاء الأوغاد.»

«وما الذي أخذوه؟»

«حسنًا، لا أعتقد أنهم أخذوا أيَّ شيءٍ ذي قيمة؛ فأنا متأكدة من أن حقائب ولدي لم يكن بها شيء ذو بال.»

«ألم يَترُكِ الرجال أثرًا؟»

«كان ثمة ورقة ربما انتزعتُها من يد الرجل الذي تَشبثتُ به. لقد وجدتُها مجعَّدة تمامًا وملقاة على الأرض. إنها بخط يد ابني.»

قال المحقق: «هذا معناه أنها ليست ذات فائدة كبيرة. فلو كانت كذلك لصارت في حوزة السارق …»

قال هولمز: «بالضبط، يا له من منطق ضليع! ورغم ذلك يساورني فضول لأراها.»

أخرج المحقق ورقة فلوسكاب مطوية من مفكرته.

وقال المحقق بشيء من الخُيَلاء: «أنا لا أغفل أيَّ شيء أبدًا مهما كان تافهًا، وأنصحك بهذا يا سيد هولمز؛ فقد تعلمتُ هذا من خبرتي في المجال طوال خمسة وعشرين عامًا؛ فدائمًا ما يكون ثمة احتمالُ وجود بصمات أصابع أو شيء من هذا القبيل.»

تفحَّص هولمز الورقة.

ثم قال: «ماذا تكون في رأيك أيُّها المحقق؟»

«أعتقد أنها تبدو كنهاية روايةٍ غريبة.»

قال هولمز: «قطعًا قد يتراءى أنها نهايةٌ لرواية غريبة. فقد لاحظتَ الرقم الموجود أعلى الصفحة، إنه مئتان وخمس وأربعون. فأين الصفحات المئتان والأربع والأربعون الأخرى؟»

«حسنًا، أعتقد أنَّ اللصوص أخذوها. ما نفعُها بالنسبة إليهم!»

«يبدو غريبًا أن يقتحم أحدهم منزلًا ليسرق أوراقًا كتلك. هل يوحي لك هذا بأي شيء أيُّها المحقق؟»

«نعم يا سيدي، هذا يوحي بأن المجرمين انتزعوا أول ما وقع في أيديهم في غمرة الاستعجال. فليَهنئوا بما حصلوا عليه.»

هنا تساءلت السيدة مابيرلي: «ولماذا يَعبثون بأغراض ابني؟»

«حسنًا، فهم لم يجدوا شيئًا ذا قيمة بالطابق السُّفلي؛ لذا جرَّبوا حظَّهم في الأعلى. هكذا أرى الموقف، ما رأيك أنت يا سيد هولمز؟»

«لا بد أن أفكر قليلًا في الأمر أيُّها المحقق. تعالَ إلى النافذة يا واطسون.» وبينما نحن واقفان راح هولمز يقرأ المكتوب في قصاصة الورق، حيث بدأ الكلام فيها من منتصف جملة، وجاء على النحو التالي:

… سالت الدماء غزيرة على الوجه إثر الجروح والضربات، لكن هذا لم يكن يُقارَن بنزيف قلبه حين رأى ذلك الوجه الجميل؛ الوجه الذي كان على استعداد لأن يُضحِّيَ بحياته من أجله، والذي يُشاهِد ما يُكابد من ألمٍ ومهانة. لقد ابتسمَت؛ أجل، بحق السماء! لقد ابتسمت، تلك الشيطانة عديمة الرحمة، حين ارتفع بصرُه إليها. وفي تلك اللحظة تمامًا مات الحب ووُلدت الكراهية. فلا بد للمرء من العثور على هدف يحيا من أجله. فإنْ لم أحيَ حتى يَضمَّني ذراعاكِ يا سيدتي، فسأعيش لأقضيَ عليكِ ولآخُذَ بثأري كاملًا.

قال هولمز مُبتسمًا وهو يُعيد الورقة إلى المحقق: «يا له من استخدام غريب لقواعد اللغة! هل لاحظت كيف تحوَّل فجأةً من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؟ لقد انجرف الكاتب مع أحداث قصته حتى إنه تخيَّل نفسه البطل في لحظة الذروة.»

قال المحقق وهو يُعيد الورقة إلى مفكرته: «بدت لي قصةً واهنة للغاية. حسنًا! هل ستذهب يا سيد هولمز؟»

«لا أعتقد أن لديَّ ما أقدمه الآن وقد صارت القضية في يدٍ أمينة. بالمناسبة يا سيدة مابيرلي، ألم تَذكُري أنكِ تودِّين السفر؟»

«لطالما كان هذا حلمي يا سيد هولمز.»

«إلى أين تودِّين الذهاب؛ القاهرة، ماديرا، الريفييرا؟»

«أوه، لو كان لديَّ المال لسافرت حول العالم.»

«أهكذا إذن، حول العالم. حسنًا، طاب صباحُكِ. قد تتلقَّين مني برقية في المساء.» وفي أثناء مرورنا بالنافذة لمحتُ المُحقِّق وهو يبتسم ويهز رأسه. وقد قرأت في ابتسامته ما يقول: «دائمًا ما يتسم هؤلاء الأشخاص الأذكياء بلمحة جنون.»

قال هولمز حين عُدنا إلى صخب وسط مدينة لندن مرةً أخرى: «أصبحنا الآن في المرحلة الأخيرة من رحلتنا القصيرة يا واطسون. أعتقد أنه من الأفضل أن نَستوضِح المسألة في الحال، وسيكون من المستحسَن أن تأتي معي، حيث إن اصطحاب شاهد عند التعامل مع سيدة مثل إزادورا كلاين لهو الحل الآمن.»

استقلَلْنا سيارة أجرة مسرعين إلى عنوانٍ في ميدان جروفنير، وكان هولمز مستغرقًا في التفكير، لكنه انتبه على حين غِرَّة.

«بالمناسبة يا واطسون، أعتقد أنك مُدرِكٌ لكل ما يحدث، أليس كذلك؟»

«لا، لا أستطيع القول إني كذلك. فكلُّ ما أعلمه أننا ذاهبان لرؤية السيدة المسئولة عن كل هذا الإيذاء.»

«بالضبط! لكن ألا يُوحي لك اسم إزادورا كلاين بأي شيءٍ؟ كانت بالطبع جميلة الجميلات، فلم تكن أيُّ امرأة لتُضاهيها في حسنها. إنها إسبانية أصيلة، من سلالة المُستعمِرين الإسبان، وظلَّ قومها قادةً في ولاية بيرنامبوكو لأجيال. تزوَّجَت من ملك السكَّر الألماني العجوز، كلاين، والآن صارت أغنى وأجمل أرملة في العالم. ثم عاشَت عدة مغامراتٍ لفترة من الزمن إشباعًا لرغباتها. فارتبطت بعدة رجال في علاقاتٍ عاطفية، من بينهم دوجلاس مابيرلي، أحد أبرز الرجال في لندن. وحسب أقوال الجميع، لم تكن علاقتُها به مجرَّد مغامرة. لم يكن من رجال المُجتمع العابِثين، وإنما كان رجلًا قويًّا معتدًّا بنفسه، يُخلِص في العطاء ويتوقَّع المثل. أما هي فامرأة فاتنة عديمة الرحمة، كالتي تُذكر في الروايات، حين تُشبع نزواتها ينتهي الأمر. وإن لم يَقبل الطرف الآخر بمُرادها فهي تعلم كيف تُقنِعه به.»

«كانت تلك إذن قصته …»

«آه! ها أنت تُلملمُ شتات القصة الآن؛ فقد سمعتُ أنها على وشك الزواج من دوق لوموند الشاب، الذي يكاد يكون في عمر ابنها. فربما تَتغاضى والدة سعادته عن فرق السن، لكن الأمر سيَختلف حين توجد فضيحة كبرى؛ لذا من الحتمي … آه! ها قد وصلنا.»

كان أحد أفخم المنازل التي تقع في زاوية بين شارعَين في منطقة ويست إند. وهناك أخذ بطاقتينا خادمٌ يَتصرَّف كالآلة ثم عاد ليُبلغنا أنَّ السيدة ليست في المنزل. فقال له هولمز بمرح: «إذن سننتظرها حتى تعود.»

هنا تعطَّل الخادم الآلي.

ثم قال: «ليست في المنزل يَعني أنها ليسَت في المنزل لمُقابلتك أنت.»

أجابه هولمز قائلًا: «جيد، هذا يعني أننا لن نضطرَّ إلى الانتظار. أرجوك أعطِ هذه الرسالة لسيدتك.»

ثم كتَب سريعًا ثلاث أو أربع كلماتٍ على ورقة من مفكَّرته، ثم طواها، وأعطاها للرجل.

سألته: «ماذا قلتَ فيها يا هولمز؟»

«قلت ببساطة: «هل أترك الأمر للشرطة إذن؟» أعتقد أن هذا كفيلٌ بأن يَجعلنا ندخل.»

وقد حدث، بسرعة مذهلة؛ فبعد دقيقة كنا في حجرة استقبال على غرار قصص ألف ليلة وليلة؛ فسيحة ومُذهلة، شبه معتمة يُضيؤها مصباح كهربائي وردي صغير. وشعرتُ أن السيدة قد بلَغَت العمر الذي تُرحِّب فيه حتى أكثرُ النساء اعتزازًا بجمالهنَّ بالإضاءة الهادئة. ما إن دخلنا حتى نهضَت من إحدى الأرائك، فوجدتها ذات قوامٍ فارعٍ مثالٍ يَليق بملكة، ووجهها جميل يخلو من أي تعبير، عيناها إسبانيتان بديعتان، سدَّدت إلينا نظراتٍ قاتلة.

سألتنا، ممسكةً بالورقة: «ما هذا التطفُّل، وأيُّ رسالة مُهينة هذه؟»

«لستُ بحاجة إلى الشرح يا سيدتي. فما أكنُّه من احترامٍ لذكائكِ يُغنيني عن فعل هذا؛ رغم اعترافي بأن هذا الذكاء أخطأ لدرجةٍ تدعو للدهشة مؤخرًا.»

«كيف هذا يا سيدي؟»

«بافتراض أن الفتوَّات الذين استأجرتِهم قد يُرهبُونني ويدفعونني إلى التخلِّي عن عملي. قطعًا ما كان لرجل أن يَختار مهنتي إن لم يكن يَنجذِب لما بها من خطر. وبذلك كنتِ أنتِ مَن دفعني لتَحرِّي قضية مابيرلي الشاب.»

«لا أدري عمَّ تتحدَّث. فما علاقتي أنا بفتوَّات مأجورين؟!»

أشاح هولمز بوجهه ضجرًا.

ثم قال: «أجَل، لقد استهنتُ بذكائكِ. حسنًا، طاب مساؤكِ.»

«انتظر! إلى أين أنت ذاهب؟»

«إلى سكوتلاند يارد.»

ما كاد الطريق إلى الباب يَنتصِف بنا حتى أدركَتْنا وأمسكت بذراعه، وقد تحوَّلت في لحظة من امرأة فولاذية إلى امرأة غاية في الرقة.

«تفضَّلا بالجلوس يا سادة، ودعونا نُناقش هذا الأمر. يُخالجني شعور أن بإمكاني أن أكون صريحة معك يا سيد هولمز، فأنت تتَّصف بصفات الرجل النبيل، وما أسرع غريزة المرأة في اكتشاف هذا! لذلك سأُعاملك كصديق.»

«لا أستطيع أن أَعِدَكِ بالمثل يا سيدتي. فأنا لا أُمثِّل القانون، ولكني أمثِّل العدالة بقدر ما تَسمح قواي الواهنة بذلك. إنني مُستعدٌّ للإصغاء على كل حال، وبعد ذلك سأُخبركِ كيف سأتصرَّف.»

«مما لا شكَّ فيه أنَّ مِن الحماقة أن أُهدِّد رجلًا شجاعًا مثلك.»

«الحماقة بحقٍّ أنكِ وضعتِ نفسكِ في قبضة مجموعة من الأوغاد قد يَبتزُّونك أو يَشُون بكِ.»

«كلا، كلا! فلستُ بهذه السذاجة. وبما أني وعدتُ بأن أكون صريحة، فلا بد أن أقول إنه ليس لدى أحد منهم أدنى فكرة عمَّن استأجَرَهم، عدا بارني ستوكديل وزوجته سوزان. أما بالنسبة إلى بقيتِهم، حسنًا، هذه ليست أول …» ثم ابتسمت وأطرقَت برأسها بودٍّ في فتنة ودلال.

«فهمت، لقد اختبرتِ ولاءَهم من قبلُ.»

«إنها كلابٌ مُطيعة تُطارد فريستها في صمت.»

«هذه الكلاب المطيعة — آجلًا أو عاجلًا — تعضُّ اليد التي تُطعِمها. وسوف يُلقى القبض عليهم بسبب جريمة السطو هذه؛ فالشرطة تلاحقهم بالفعل.»

«سيرضخون لما سيُلاقونه. فهذا ما يَتقاضَون عليه أجرًا. فلن يأتي ذكري في القضية.»

«إلا إنْ ذكرتُكِ أنا.»

«لا، لا، لن تفعل ذلك. فأنت سيدٌ نبيل، وهذا سرُّ امرأة.»

«يجب أولًا أن تُعيدي هذا المخطوط.»

هنا انفجرت في نوبة من الضحك وسارت حتى المدفأة، حيث كانت توجد كُتلة مُتفحمة أخذت تُفتِّتها بقضيب المدفأة، ثم تساءلت قائلة: «هل أعيد هذا؟» كم بدت غايةً في الخبث والبَهاء، وهي تقف أمامنا مبتسمة ابتسامة تحدٍّ، حتى إني شعرت بأنها أكثر مَنْ سيجد هولمز صعوبةً في مواجهتِه بين كل من واجَههم من مجرمين. إلا أنه كان محصَّنًا ضد العاطفة.

قال هولمز ببرود: «هذا يَحسِم مصيركِ. إنكِ متسرعة جدًّا في تصرُّفاتكِ يا سيدتي، لكنكِ تجاوزتِ الحدَّ هذه المرة.»

لدى سماعها هذا ألقَت القضيب، فصدر عن سقوطه ضجيج.

ثم صاحت: «كم أنت قاسٍ! هل يُمكنني إخبارك بالقصة كاملةً؟»

«بل أعتقد أن بإمكاني أنا إخباركِ بها.»

«لكن يجب أن تَراها بعينيَّ يا سيد هولمز. لا بد أن تَعِيَها من وجهة نظر امرأة ترى كلَّ ما طمحت إليه في الحياة على وشك أن يُدمَّر في آخر لحظة. فهل يُمكن إلقاء اللوم على هذه السيدة إن ذادت عن نفسها؟»

«أنتِ من أخطأتِ في البداية.»

«أجل، أجل! أعترف بهذا. كان دوجلاس فتًى محبَّبًا، لكن تصادف أنه لم يكن يتلاءم مع ما خططتُه؛ فقد أراد الزواج — الزواج يا سيد هولمز — أرادني أن أتزوَّج رجلًا مُفلسًا من عامة الشعب. فلم يكن ليَرضى بأقل من هذا. ثم صار مُلحًّا. لأنني كنت أمنحه نفسي فقد ظنَّ أني يجب أن أظلَّ كذلك، وله وحده. كان هذا لا يُطاق. وأخيرًا كان يجب أن أجعله يُدرك ذلك.»

«باستئجار مُجرمين ليَضربوه أسفل نافذتكِ.»

«يبدو أنك تُحيط حقًّا بكل شيء علمًا. حسنًا، هذا صحيح. لقد أبعده بارني والفِتيان عني وأعترف أنهم كانوا قساة بعض الشيء. لكن ما الذي فعله حينذاك؟ فلم أكن أصدق أن رجلًا نبيلًا قد يُقدِم على مثل هذا التصرف. لقد ألَّف كتابًا يَسرد فيه قصته، فكنت أنا الذئب وكان هو الحمَل بالطبع؛ فقد ذكر كلَّ شيءٍ بأسماء مُختلفة بطبيعة الحال؛ لكن مَنْ كان سيَغفُل عن إدراكها في لندن بأسرها؟ ما رأيك في هذا يا سيد هولمز؟»

«حسنًا، لم يكن في ذلك مُخالفة للقانون.»

«بدا كأن هواء إيطاليا قد تسلَّل إلى دمائه جالبًا معه الروح الإيطالية القاسية القديمة؛ فقد كتب لي خطابًا وأرسل نسخة من كتابه حتى أُعانيَ ويلات ترقُّب ما سيقع. وقال لي إن ثمة نسختَين، واحدة من أجلي والأخرى للناشر.»

«وكيف عرفتِ أن نسخة الناشر لم تصل إليه؟»

«كنت أعرف الناشر الذي يتعامل معه، فلم تكن تلك روايته الوحيدة. وعرفتُ أنه لم يَتلقَّ شيئًا من إيطاليا. ثم جاءت وفاة دوجلاس المفاجئة. وشعرت أني لن أنعم بالأمان ما دام هذا المخطوط الآخر موجودًا في العالم. وبالطبع لا بد أن يكون بين أغراضه التي ستعود إلى والدته. وهكذا جعلت العصابة تباشر العمل. فدخلت واحدةٌ منهم المنزل بصفتها خادمة. وأردت أن أنجز الأمر بأمانة، أردتُ ذلك حقًّا؛ فقد كنت على استعداد لشراء المنزل بكل ما فيه، وكنتُ سأدفع أي مبلغ تطلُبه والدته. ولم ألجأ إلى الطريقة الأخرى إلا بعد أن فشلَت كلُّ المساعي. والآن يا سيد هولمز أعترف أنني كنتُ شديدة القسوة مع دوجلاس — ويعلمُ الربُّ كم أنا نادمة على هذا — لكن ماذا عساي أن أفعل وقد صار مستقبلي على المحك؟!»

هزَّ شيرلوك هولمز منكبَيه.

ثم قال: «حسنًا، حسنًا، أعتقد أني سأُضطرُّ إلى تسوية هذه الجناية كالمُعتاد، كم يتكلَّف السفر في رحلة من الدرجة الأولى حول العالم؟»

أخذت السيدة تُحدِّق مندهشة.

ثم سألها مرةً أخرى: «هل من الممكن أن يتكلَّف هذا خمسة آلاف جنيه؟»

«حسنًا، قطعًا، أعتقد ذلك!»

«جيدٌ جدًّا. أعتقد أن عليكِ أن تُحرِّري لي شيكًا بهذا المبلغ، وسأَحرص على أن يصل إلى السيدة مابيرلي. فأنتِ مدينة لها بقليل من تغيير الجو.» ثم رفع سبابته مُحذِّرًا وقال: «في الوقت نفسه توخَّي الحذر يا سيدتي! توخَّي الحذر! فلا يُمكنكِ الاستمرار في اللعب بأدواتٍ حادَّة دون أن تُصاب تلك اليَدان الرَّقيقتان بأذًى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤