إسماعيل أبو العرب أعظم صيادي البرية

الملاحظ أن دائرة المعارف اليهودية، تؤكد ما جاء به هذا النص الشفهي من أن إسماعيل تزوج زوجتين، وكانت الزوجة الأولى مصرية، اختارتها له هاجر أمه، وأنه أنجب منها أربعة ذكور وبنتًا، وفي قول آخر اثني عشر شيخ قبيلة أو أمير، لكنه تخلى عنها وطلقها١ حين لم تحسن معاملة أبيه إبراهيم، فقال: إن إسماعيل أنجب ١٢ أميرًا، وتزوجت ابنته «عيسو» أو العيص٢ ابن أخيه إسحاق، الذي أنجبته سارة، بعد أن كبرت وشاخت.
وينسب لإسماعيل سكان الحجاز «العدنانيون» أو المعديون، وعرب اليمن ويسمون القحطانيين، ويقال إنه كان أمهر من ضرب بالنبل، كما يعده العرب أول صانع للسهام والرماح، وأعظم صيادي البرية، وابنه قيدار أبو العرب، الذي أصبح أمَّة — كما تشير أساطير أرض الميعاد العربية وتعدد الآلهة — وذلك من وجهة نظر تلك القبائل العبرية أو اليهودية، أو قبيلة الإلهة «الأنثى» الأم سارة، على أقل تقدير، وتمشِّيًا مع ذلك الصراع المحتدم بين الإلهتين الضرتين، أي سارة وهاجر، خاصة عقب إنجاب — الجارية المضطهدة أو المهانة — هاجر لإسماعيل، والتغريب أو الاتصال الذي أفضى بإسماعيل وقبيلته لأن يصبح أمَّة لها هجراتها، ولها بالتالي أسطورة أرض ميعاد مصاحبة، على عادة ما هو متبع بالنسبة للأقوام السامية بلا استثناء، في ملازمة أسطورة أرض الميعاد أو الحِمى لتواجدها وتوحدها العقائدي والطوطمي، خاصة عقب الكوارث المفضية إلى الهجرات القبائلية، مثلما حدث عقب وصول فلك نوح إلى أرض ميعاده، وإعادة تملك الأرض،٣ وعقب خراب بابل وبرجها الكبير وتبلبل الألسن وانقسامها إلى ٧٢ لسانًا والهجرات المصاحبة، وكذا عقب خراب سد مأرب باليمن، وهجرات قبائل حمير وهمدان، وهي الهجرة التي أعادت تشكيل البنيان السكاني في الشام وفلسطين وما بين النهرين وشمال الجزيرة العربية، وكذا الأساطير المصاحبة للقبائل العبرية، والتغرب في مصر ثم فلسطين والسطو على أرض فلسطين وشعبها.

وتشير أسطورة أرض ميعاد يعرب بن قحطان بن هود الذي أرسله الله إلى أرض بابل نبيًّا وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف: ٦٥]، إلى كيف أن هودًا رأى رؤيا «كأن أتيًّا أتاه فقال له: يا هود، إذا ضربت رائحة المسك إليك، وإلى أحد من ولدك من ناحية من نواحي الأرض، فلتتبع تلك الناحية من رائحة المسك، ذلك النسيم حتى إذا كف عنه نزل، فذلك مستقره.»

يقول وهب بن منبه الحميري: «وإن يعرب بن قحطان بن هود وجد رائحة المسك، فقال له هود: أنت ميمون يا يعرب، أنت أيمن، ولدي مر، فإذا سكن عنك ما تجده، فانزل بأرض اليمن لا تمر، فإنها لك خير وطن.»

خلاصة القول: إنه ما من شعب أو رهط أو قبيلة، لم يحفظ لها تراثها وتاريخها أسطورة أرض ميعاد، تحدد لها أرضها ووطنها عبر بحثها عن الزرع والضرع، ومنها سيرتنا الشعرية هذه «سارة وهاجر» المصاحبة لأرض ميعاد إسماعيل أو الهاجريين.

لكن مشكلة المشاكل هي في ضياع وافتقاد هذا التراث على مر عصور الاضمحلال الطويلة الثقيلة القاسية.

•••

ويقال إن تشكك اليهود في يهودية هاجر، قد تزايد عقب اختيارها زوجة مصرية لابنها إسماعيل، وقد يلقي هذا النص بعض الضوء على دفع إبراهيم لإسماعيل لأن يتخلى عنها ويطلقها حين طلب منه هذا عن طريقها: «قوليلو غير العتبة يا صاحب العطايا.»

كما تنسب المصادر اليهودية — خارج التوراة — هذه الحكاية التي تؤكد خروج هاجر على ما تدين به قبيلة إبراهيم ووثنيتها، أو ارتدادها إلى الوثنية.

فيقال إن سارة حسدت ذات مرة إسماعيل، إذ وقع بصرها عليه، وهو يمرح ويلعب البرجاس٤ «وكان أعظم صيادي البرية، فسلطت عليه عين حسود، سقط على إثرها مشرفًا على الموت، حتى إنَّ هاجر دفنته تحت رمل الصحراء وصليا» هاجر لأصنامها، وإسماعيل لربه إلى أن حدثت المعجزة التي قام على إثرها، واسترد عافيته.
كما تضيف هذه المصادر٥ أنه «ما تزال بالأردن قبيلة تسمى الهاجريين»، وتنسب التوراة لإسماعيل أنه أول إنسان جرت له عادة الطهارة من البشر، وذلك حين عاهد الله إبراهيم:٦ يُختن منكم كل ذكر، فتُختنون في لحم غُرلتكم، فيكون عهد بيني وبينكم، «فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع ولدان بيته، وجميع المبتاعين بفضته، وكل ذكر من أهل بيت إبراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه كما كلمه الله.»

وكما هو معروف، فإن عادات الختان وأخذ الوش ما هي في مداها البعيد إلا مترادفات شعيرة التضحية ﺑ «الأول» أو «البدء» أو «فاتح الرحم» أو «البكري» أو «أولي الثمار» أو «أول قطفة» … إلخ.

وكل هذا في النهاية يرجح كفة أن الضحية كانت إسماعيل.

ويصف هذا النص الشفهي نزول الوحي أو الملاك جبريل على إبراهيم الخليل مرتين؛ الأولى حين أعلنت الجوقة هبوطه من السماء؛ ليبلغ إبراهيم بطرد ابنه إسماعيل الطفل وأمه، تنفيذًا لإرادة سارة:

وقتها انشقت السموات، وارتخت الستاير
وانهبط جبريل من الدرجة العليا.

ليبلغ إبراهيم قضاء الله، وليؤكد بشكل ضمني مشيئة سارة:

ربك يهديك السلام والتحية
ربك يقريك السلام، ويقولك يا خليل
اركب وسافر على الدرب الطويل.

وفي المرة الثانية، ليبلغه أمر الله، واستجابته لدعاء «البطرق» القادم ابنه إسماعيل «خسارة يا شيخ وأعزه ع الرحيل.»

ولو أن حادث عودة قبيلة إبراهيم من جديد إلى الجزيرة العربية، إلى حيث توجد بئر إسماعيل أو زمزم، الواقعة جنوب شرق الكعبة، وهو المكان الذي فيه نبتت قبيلة إسماعيل وما جاورها مثل بني جرهم، وذلك قبل انتقال إسماعيل واستيطانه برية فاران المتاخمة لمصر، فمعنى هذا أن هذه السيرة الشفهية تكتفي بالسرد والتأريخ لقبيلة إسماعيل أو الهاجريين — كما يروق للبعض تسميتهم — متوقفة عند حادث التضحية بإسماعيل وفدائه بكبش الضحية، وتأديته الدور المنقذ لأبيه وآل بيته، بما يطابق بينه وبين الدور الذي لعبه يوسف عقب بيعه٧ للمديانيين الذين حملوه إلى مصر، ثم كيف نما وأصبح نائب فرعون، ولجوء إخوته وأبيه يعقوب له، وهي أيضًا تضمينة شائعة في الأساطير والفولكلور تمتد مترافاتها منذ قصة يوسف وأبي زيد الهلالي حتى ملك شكسبير «لير»، والدور المنقذ الذي لعبته الأخت الصغرى بعامَّة الذي عادة ما يلعبه أصغر الأبناء.

•••

فرسالة الملك جبريل لإبراهيم: «خذ سارة»، ثم لكي «يطمن خوفك»، وجبريل هنا إنما يعبر عن تلك القوى العليا التي جاء بها هذا النص، وهي «رب البرية» و«الجليلي»، بما يعني رغبة تلك القوى العليا — في هذا النص — في إذابة قبيلة سارة في قبيلة إسماعيل أو الهاجريين، وذلك بعد تضخم قبائلها وتفجر الماء من الأرض لها، حين ضربها إسماعيل بكعبه، فنبعت بئر زمزم «وصارت في كل وادي»، ويقابله في بعض المصادر والمدونة، مثل «اليعقوبي» الذي يقول: إن «هاجر بعد أن صعدت الصفا، رأت بقربه طائرًا أسود يفحص الأرض برجله»، وبعدها تفجرت بئر زمزم.

وهذا الطائر الأسود رمز ورسول شائع جدًّا في الفولكلور العربي، والسامي بعامة.

أما وصول «جمع المسافرين» وتساؤلهم عن كيفية مجيء الماء هذا المكان الجدب:

كم خطونا من هنا ألف خطوة
لم رأينا عين ولا شفنا مويه.

ثم كيف أخبرتهم «بنت»، حين سألوا عن صاحب البيت، فقالت لهم: «صاحب البيت طفل صغير، اسمو إسماعيل، وأبوه الخليل، نَبَعِتْلُو زمزم بإذن الجليلي.»

ويبدو أنَّ وفد المسافرين هذا هم قبائل جرهم٨ والعماليق الفلسطينيين، كما يقول المسعودي، حين اشتكى إبراهيم لربه: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: ٣٧] فآنس الله وحشتهم بجُرهم والعماليق، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.
وكما ذكرنا، فإن جرهم والعماليق ينتميان في شجرة — أو نخلة — الإنسان السامية، التي تصل في أنسابها ما بين العرب المستعربة والعاربة والعرب البائدة، فالبائدة قوم عاد،٩ وكانتا دولتين، عاصرتا حكم فرعون الأسرة ١٨ تحتمس الثالث؛ إحداهما في اليمن وعمان وحضرموت وهي دولة «هود»، ثم ثمود التي تملكت الشام والحجاز وفلسطين، وكان إلههم الطوطمي هو — أو الأصح هي — الناقة، التي عقروها لنبيهم «صالح»، فأفنتهم السيول أو الرعاف كعقاب، وكانوا ينحتون بيوتهم ومدافنهم في الجبال.

وفي أخبار الكلدانيين ومؤرخهم الحبر البيروزي أن قوم عاد استولوا على العراق، وتملكت طسم وجديس اليمامة.

أما العماليق، الذين تعاصروا مع إسماعيل، فيقال إنهم تفرقوا أممًا في البلاد، فمنهم الفلسطينيون، وأشهرهم الملك الكائن الخرافي «عوج بن عناق»، كما يقال إن منهم فراعنة مصر، وجبابرة الشام الكنعانيين، كما أن منهم بني الأرقم في الحجاز ونجد، كما يذكر أن بقايا العمالقة لهم ملك في دولة الروم.

•••

فلما مات يعرب بن قحطان، ولي أخوه جرهم الحجاز، إلا أنَّ جرهم طغت حين صار لها الملك، فأكلوا مال الكعبة — كما يتواتر — وكان عمرو بن لحي الجرهمي، وهو ملك كاهن مداح جعله العرب إلهًا، يأتي لهم بآلهة، ويطعم الناس في المواسم، وزعم لهم أن اللات لم يمت، لكنه داخل الصخرة، وروي أنه خرج إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مؤاب من أرض البلقاء وجد أهلها يعبدون الأصنام وأخذ منهم هبل، وحكمه دام ٣٠٠ سنة.

«وهكذا كبر إسماعيل وأصبح أمَّة.»

ويحفظ سفر الخروج أنه أول من «ختن في غرلته».

وبما أن إسماعيل هو الابن البكري، كما هو مقطوع به في كل المصادر؛ لذا فمن المرجح أن يكون هو الضحية، لا إسحاق كما ترى المصادر اليهودية.

وحتى لا تغرقنا هذه المناظرة عن أيهما الضحية إسحاق أم إسماعيل، وهو ما لا يتصل بموضوعنا الخاص بمحاولة إبداء بعض الملاحظات الإثنوجرافية على هذا النص الشفهي المدائحي «سارة وهاجر»، نعود إلى موضوع استبدال الضحية البشرية، بالفداء الذي هو «الكبش» في هذا النص، فهو — بلا شك — العمود الفقري ليس فقط بالنسبة لهذا النص، بل في كل المصادر التي جاءت بقصة إبراهيم الخليل، وإقدامه على ذبح ابنه ترضية للرب، ثم نزول الفداء، ممثلًا في الكبش أو الخروف، ذلك الحدث الهائل، أو هو ذلك التحول الحضاري الذي — وللمزيد من حفظ وتكريم هذا الحدث — عُرف منذ يوم حدوثه الأول بالعيد الكبير أو عيد الضحية أو عيد اللحم، أو العيد الكبير المتوافق مع الدورة التقويمية العربية أو الهجرية القمرية مع شعائر الحج والطواف حول الكعبة، التي شادها للمرة الأولى كلا المضحي والضحية، وحيث يوجد «حجر» إسماعيل الأسود المقدس، الذي ما يزال إلى أيامنا، يُلحس بعشرات ملايين الألسن والأمم.

١  قد يكون هذا أقدم نص وصلنا عن تعدد الزوجات والطلاق.
٢  يرى المسعودي، مروج الذهب: ١–٤٦ أن الخضر ينحدر من نسل العيص، واسمه خضرون بن عميائيل النفير بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم.
٣  الموعودة أو الجديدة، باعتبار أن الطوفان، ما هو سوى انتقال حضاري.
٤  لعبة فروسية شعبية شائعة حتى أيامنا.
٥  التلموذ الأورشليمي أو الفلسطيني.
٦  (تكوين.)
٧  سكان شبه جزيرة سيناء.
٨  المسعودي: مروج الذهب، ص٤٤.
٩  تاريخ العرب القدامى والأمم التي جاورتهم، محمد فخر الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤