«صداقة» توماس برنهارد

تتنوع الأشكال والأجناس الأدبية لدى توماس برنهارد١ (٩ / ٢ / ١٩٣١–١٢ / ٢ / ١٩٨٩م)، لكن أغلب أعماله تدور في فلكٍ واحد: المرض والجنون والموت. بدأ برنهارد حياته الأدبية شاعرًا، ثم اتجه إلى النثر، وفي مطلع الثمانينيات لمع اسمه في دنيا المسرح في البلاد الناطقة بالألمانية. وعندما توفي في الثامنة والخمسين من عمره، كان قد أمسى من أنجح «المهمشين» على ساحة الأدب الألماني المعاصر.

ولد توماس برنهارد في إحدى مدن هولندا، إلا أنه قضى طفولته عند جده في الريف النمساوي، وهي فترة أثرت في حياته تأثيرًا كبيرًا. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قطع دراسته وبدأ العمل لدى أحد تجار السلع الغذائية في مدينة سالزبورغ. وفي عام ١٩٥٢م شرع في دراسة التمثيل والإخراج في أكاديمية موتسارت الفنية بسالزبورغ، إلا أن اهتمامه في الأكاديمية كان منصبًّا بالأحرى على الموسيقى لا على التمثيل. بعد التخرج في الأكاديمية عمل مراسلًا لإحدى الصحف الاشتراكية، حيث تخصص في كتابة النقد الأدبي والمسرحي والسينمائي، وكان يهتم اهتمامًا خاصًّا بكتابة الريبورتاج الصحفي عن القضايا الجنائية من داخل قاعات المحاكم. غير أن الأعوام الحاسمة في حياة توماس برنهارد لم تكن تلك التي عمل خلالها صحفيًّا، ولا تلك التي درس أثناءها في الأكاديمية. في عام ١٩٤٩م أُصيب برنهارد بالسل الرئوي الذي لم يفارقه حتى وفاته، وأجبره مرارًا على الإقامة في المستشفيات والمصحات. الموت الذي تراءى لعينيه آنذاك ظل مهيمنًا على أفكاره، فأشعره بالعجز أمام سلطته القاهرة، وبهشاشة الوجود الإنساني وعبثيته: «عندما تفكر في الموت يبدو كل شيء مدعاةً للضحك!» يقول برنهارد في خطاب ألقاه عام ١٩٦٨م.

بالإضافة إلى معايشة المرض العضال الذي كان يُدنيه من الموت، تعرف برنهارد إلى شخصين تركا أعمق الأثر عليه، كاتبًا وإنسانًا: الجد ورفيقة حياته.٢

كان يوهانيس فرويمبيشلر، جد توماس برنهارد من ناحية أمه، كاتبًا فاشلًا، وشخصًا مستبدًّا ينتظر من العائلة كلها أن تضحي في سبيل مجدٍ أدبي لم يحصل عليه أبدًا. كثيرًا ما رافق الصبي برنهارد جده في نزهات بين الحقول، كان توماس خلالها ممنوعًا من الكلام. كان عليه أن يصغي فحسب إلى مونولوجات الجد الطويلة الشاكية اللاعنة؛ وهي مونولوجات تجد سبيلًا لها فيما بعد إلى عدد من أعمال برنهارد (مسرحية «مصلح الكون» على سبيل المثال).

أما الشخصية المهمة الثانية فهي هدفيغ شتافيانتشك، رفيقة دربه، أو «إنسان حياته» كما يدعوها برنهارد في «صداقة». كانت له أمًّا رءومًا منذ أن التقته وهي في الخمسين، في حين أنه لم يكن قد بلغ العشرين (أي بعد فترة وجيزة من إصابته بالسل). وسرعان ما أضحت القارئ الأول والناقد الأول لما يكتبه، كما كانت خير سند له ومعين في الأدب والحياة. وعندما توفيت عام ١٩٨٤م بعد أن بلغت التسعين، لم يستطع برنهارد أن يحيا بدونها سوى خمسة أعوام، ثم لحق بها.

نشر برنهارد أول أعماله الأدبية عام ١٩٥٧م، وكان ديوان شعر بعنوان: «على الأرض وفي الجحيم». أشعار هذا الديوان تغلب عليها نبرة اليأس الناجمة عن الشعور بغياب الرب، ومعاناة البشر في العالم، ويتضح فيها تأثير الشاعر النمساوي غيورغ تراكل. في عام ١٩٦٣م تحول برنهارد إلى النثر، ونشر باكورة رواياته «صقيع»، وفيها — وكذلك في مجموعته القصصية اللاحقة «تصحيح» — يعرض أزمة الإنسان الفرد، فنانًا كان أو عالِمًا، الإنسان الذي لا يرى في الحياة إلا ما ينذره بفناء الكون كله. أما الوسيلة الفنية التي يستخدمها لتوضيح ذلك فهي الحوار الذاتي الطويل الذي يلقيه البطل، ولا يمل تكرار أفكاره فيه. وتتميز شخصيات برنهارد القصصية بالحساسية البالغة، إنها شخصيات تحيا على حافة الجنون، ولا تأمل من الناس سوى التفهم والقبول.

مع مرور السنوات تتزايد في أعمال الكاتب لهجة نقدية حادة حيال وطنه النمسا، وهو نقد يعبر في رأيي عن حب جارف له، ويتكرر في أعماله رمز معين هو رفض تسلم ميراث ضخم، يشير إلى رفض التسليم بسلطة الماضي. لم يعد الشاعر يجد الوطن إلا في الفن، وفي بعض الأعمال الفلسفية، لا سيما في مؤلفات مونتين وفولتير ونوفاليس وشوبنهاور.

في سبعينيات القرن العشرين اتجه برنهارد إلى المسرح، وتُعتبر أعماله الدرامية «مسرحةً» لرواياته التي تشيع فيها أجواء الكآبة والبرودة. ومن مسرحياته «قبل التقاعد» (١٩٧٩م)، و«المظاهر خدَّاعة» (١٩٨٣م)، و«ساحة الأبطال» التي عُرضت لأول مرة على مسرح بورغ في فيينا في نوفمبر ١٩٨٨م قبل أشهر من وفاته. وتحمل هذه المسرحية اسم ساحة مشهورة في قلب فيينا، سار فيها هتلر عام ١٩٣٨م حيث استقبلته الجماهير بحفاوة بالغة. أثارت «ساحة الأبطال» ضجةً كبيرة ولغطًا هائلًا في العاصمة النمساوية وخارجها، بسبب الهجوم الضاري الذي شنه برنهارد على فساد السياسيين وخواء المثقفين، وسخريته اللاذعة من وطنه الذي يعاني تضخمًا في الإحساس بالذات. النمسا في رأي برنهارد لم تبرأ بعدُ من تاريخها النازي، ولا من تعصبها الكاثوليكي. ولموقفه من وطنه أصر برنهارد في وصيته على ألا يُنشر أي عمل من أعماله أو يُعرض في النمسا، حتى تنتهي فترة حقوق المؤلف.٣ هذا الموقف النقدي من النمسا تبنته أيضًا الكاتبة النمساوية إلفريده يلينك التي حصلت عام ٢٠٠٤م على جائزة نوبل للآداب.

في «صداقة» يتحدث توماس برنهارد عن علاقته بباول فيتغنشتاين، ابن شقيق الفيلسوف المشهور لودفيغ فيتغنشتاين. وكانت أواصر الصداقة قد جمعت بينهما عام ١٩٦٧م، عندما كان الكاتب يُعالَج في مصحة لأمراض الرئة، بينما كان باول نزيلًا على بعد خطوات منه في مستشفى الأمراض العقلية. كان باول في مطلع حياته من الأثرياء، فهو سليل عائلة من أغنى عائلات النمسا، غير أنه بعثر نقوده بلا حساب على أصدقائه وعلى الفقراء، إلى أن انتهى به الحال معدمًا وحيدًا، لا تربطه صداقة إلا بقلائل من الناس. في نَفَسٍ سردي لا ينقطع يصف الكاتب السنوات الأخيرة من عمر صديقه، التي تعكس أيضًا جزءًا من السيرة الذاتية لتوماس برنهارد، وتأملاته حول الحياة والموت، والأدب والفن، والعقل والجنون.

هذا الكتاب اعتبره الناقد الألماني المشهور مارسيل رايش رانيتسكي الأكثر عذوبةً ودفئًا إنسانيًّا من بين كل ما كتب برنهارد، وهو حكم في رأيي صحيح.

سمير جريس
١  لمزيد من المعلومات عن حياة برنهارد وأعماله انظر الفصل الذي كتبه برنهارد زورغ عن الأديب في المرجع التالي:
Bernhard Sorg: Thomas Bernhard, in: Deutsche Dichter, Band 8, Reclam, Stuttgart 1994. (S. 482-492).
٢  عن التأثير العميق الذي تركه هذان الشخصان تحديدًا، انظر:
Thomas Bernhard und seine Lebensmenschen. Der Nachlass. Herausgegeben von M. Huber u.a. Suhrkamp, Frankfurt/M. 2002.
٣  انظر أيضًا الفصل الخاص عن أدب النمسا في كتاب: «عصور الأدب الألماني» من سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدد ٢٧٨. الكتاب من تأليف باربارا باومان وبريغيته أوبرله، وترجمته د. هبة شريف، وراجع الترجمة د. عبد الغفار مكاوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥