صداقة

مع ابن شقيق فيتغنشتاين
في عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين وضعت إحدى الممرضات الراهبات اللاتي يعملن بلا كلل في مبنى «هِرمان» الصغير التابع لقسم «تل حديقة الأشجار» على سريري كتابي الصادر حديثًا «ذهول»، الذي ألفته قبل عام في بروكسل، بشارع «دو لا كروا» رقم ٦٠، لكني كنت خائر القوى، ولم أستطع الإمساك بالكتاب، إذ كنت قد أفقت قبلها بدقائق من تخدير استمر ساعات، وضعني تحت سطوته الأطباء الذين فتحوا رقبتي لاستخراج ورم في حجم قبضة اليد من قفصي الصدري. أتذكر أن حرب الأيام الستة كانت دائرة، وكنتيجة للعلاج الراديكالي بالكورتيزون الذي أُخضعت له أضحى وجهي متورمًا ومستديرًا كالقمر، كما تمنى الأطباء تمامًا. أثناء عيادتهم لي كانوا يعلقون على وجهي القمري تعليقاتٍ مرحة تدفعني دفعًا إلى الضحك؛ أنا الذي، حسب قولهم، لم يتبقَّ من عمري سوى أسابيع، وفي أفضل الأحوال شهور. ضم مبنى «هِرمان» في الطابق الأرضي سبع غرف فقط، كان يرقد فيها نحو ثلاثة عشر أو أربعة عشر مريضًا لا ينتظرون سوى الموت. كانوا يسيرون بتثاقل في الممر، يجرون أقدامهم جرًّا، رائحين غادين بثياب النوم التابعة للمستشفى، ثم يغيبون ذات يوم إلى الأبد. مرةً في الأسبوع كان البروفيسور المشهور زالتسر، أعظم الفطاحل في مجال جراحة الرئة، يظهر في ردهات المبنى، مرتديًا كعادته قفازًا أبيض، وماشيًا على نحو يترك أثرًا بالغ الاحترام في نفس كل مَن يراه، ومِن حوله تحوم بلا صوت تقريبًا الممرضات الراهبات اللائي يرافقنه — وهو الطويل جدًّا والأنيق جدًّا — إلى غرفة العمليات. هذا البروفيسور المشهور زالتسر، الذي يتهافت المرضى الأثرياء عليه ليُجري لهم عملياتهم، إيمانًا منهم بشهرته (أنا شخصيًّا طلبت من رئيس أطباء القسم إجراء العملية لي، وهو شخص ممتلئ القامة يتحدر من عائلة فلاحين من منطقة «فالدفيرتل» في النمسا السفلى)، هذا البروفيسور كان خال صديقي باول، وصديقي هو ابن شقيق ذلك الفيلسوف صاحب «الرسالة المنطقية الفلسفية»١ المعروفة لدى كل الدوائر العلمية، أو لنقل بالأحرى: لدى كل الدوائر التي تدَّعي العلم. عندما كنتُ أرقد مريضًا في مبنى «هِرمان»، كان صديقي باول يرقد على بعد مائتي متر في مبنى «لودفيغ» الذي لا يتبع قسمَ أمراض الرئة مثل مبنى «هِرمان»، وبالتالي «تل حديقة الأشجار»، بل مستشفى المجانين المسمى ﺑ «الفناء الحجري». هكذا أطلقوا أسماء رجال على تلك المباني المقامة على جبل فيلهلمينه بامتداداته اللانهائية غربي فيينا؛ كان الجبل مقسمًا منذ عشرات السنين إلى قسمَين: قسم لأمراض الرئة، كما ذكرْنا، يُطلق عليه ببساطةٍ «تل حديقة الأشجار»، وهناك كنت أقيم، وقسم آخر للأمراض العقلية يعرفه العالم باسم «الفناء الحجري»؛ «تل حديقة الأشجار» إذن هو الأصغر، و«الفناء الحجري» هو الأكبر. كان غريبًا وعجيبًا أن ينزل صديقي باول في مبنًى يحمل اسم عمه «لودفيغ» دون غيره من الأسماء. في كل مرة أرى فيها البروفيسور زالتسر يسير صوب غرفة العمليات دون أن يلتفت يمنةً أو يسرة، كنت أتذكر أن صديقي باول أطلق على خاله مرةً عبقريًّا وأخرى قاتلًا؛ هكذا بالتناوب، وعند رؤية البروفيسور داخلًا أو خارجًا من غرفة العمليات كنت أتساءل: هل الذي يدخل الآن عبقري أم قاتل؟ أيخرج قاتل أم عبقري؟ ينبعث من هذا الطبيب المشهور إشعاع ساحر كان يأسرني. حتى إقامتي في مبنى «هِرمان» — الذي ما زال إلى اليوم مخصصًا لجراحة الرئة فحسب، وما زال أطبَّاؤه متخصصين بالمقام الأول في جراحة الأورام السرطانية بالرئة — كنت قد رأيت أطباء عديدين، قمت بإخضاعهم جميعًا للفحص والدراسة، لكن البروفيسور زالتسر ألقى بهم كلهم إلى دائرة الظل في اللحظة التي رأيته فيها. لم أستطع أبدًا أن أحيط علمًا بجوانب عظمته المتعددة. كنت أعتبره مزيجًا من شائعات، ومن إنسان أتأمله وأعجب به. يقولون إن البروفيسور زالتسر كان يأتي بالمعجزات طوال سنوات، تمامًا كصديقي باول، وإن مرضى بلا أدنى أمل في الشفاء قد عاشوا عشرات السنين بعد العملية التي أجراها لهم. من ناحيةٍ أخرى ثمة مرضى — مثلما يدعي صديقي باول بين الحين والآخر — لقوا حتفهم تحت مشرطه الذي يغدو عصبيًّا تحت تأثير التقلبات الفجائية للطقس. أيًّا كان الأمر. لم أسمح للبروفيسور زالتسر بأن يجري لي العملية، لأن شخصيته كانت تأسرني أسرًا، وأيضًا لأن شهرته العالمية لم تزرع في قلبي سوى الخوف الذي لا شفاء منه، وهو ما حملني في نهاية الأمر، وبسبب ما سمعته من صديقي باول عن خاله زالتسر، أن أختار رئيس الأطباء الممل المتحدر من الريف النمساوي ليجري لي العملية، وأرفض النابغة الساكن في الحي الأول في فيينا. كما أنني لاحظت أكثر من مرة خلال الأسابيع الأولى التي قضيتها في مبنى «هِرمان» أن المرضى الذين وافتهم المنية بعد الجراحة كانوا تحديدًا أولئك الذين أعملَ فيهم زالتسر مبضعه. ربما كانت فترة سوء حظ صادفت العبقري العالمي، إلا أنها رسخت في قلبي الخوف، وحملتني على اختيار طبيب الأرياف، وهو اختيار حالفني فيه التوفيق، مثلما تبين لي لاحقًا. ولكن مثل هذه التكهنات عديمة الجدوى. وبينما كنت ألمح البروفيسور زالتسر مرة في الأسبوع على الأقل، حتى وإن كان تلصصًا من خلال شق الباب، فإن صديقي باول لم يرَ البروفيسور زالتسر — وهو خاله في نهاية الأمر — مرةً واحدة طوال الشهور التي أقام فيها في مبنى «لودفيغ»، رغم أن زالتسر، كما تناهى إلى علمي، كان يعلم أن ابن أخته نزيل في مبنى «لودفيغ»، وبالتأكيد كان من السهل عليه — هكذا كنت أعتقد آنذاك — أن يسير تلك الخطوات القليلة من مبنى «هِرمان» إلى مبنى «لودفيغ». لم أعرف الأسباب التي منعت البروفيسور زالتسر من زيارة ابن أخته باول. ربما كانت أسبابًا لها وزنها، وربما كان الكسل فحسب هو الذي حال دون أن يزور ابن أخته الذي دخل المصحة غير مرة أثناء إقامتي الأولى في مبنى «هِرمان». على الأقل مرتين في العام خلال العشرين سنةً الأخيرة في حياته كان على صديقي — دائمًا بدون تمهيد أو مقدمات، وفي كل مرة تحت أبشع الظروف — أن ينتقل إلى مستشفى «الفناء الحجري» للمجانين. بمرور الأعوام كانت الفترات الزمنية الفاصلة بين دخوله هذه المصحة تتناقص. أما إذا فاجأته النوبة أثناء تواجده في النمسا العليا — بالقرب من بحيرة تراون حيث وُلد وشب، وظل حتى وفاته يتمتع بحق السكن في بيت قديم من بيوت الفلاحين كان ملكًا لآل فيتغنشتاين — فقد كان يُنقل إلى ما يسمى بمستشفى «فاغنر ياوريغ» بالقرب من مدينة لنتس. مبكرًا جدًّا ظهرت على باول أعراض المرض العقلي، أو بالأحرى ما يزعمون أنه مرض عقلي، وتحديدًا عندما بلغ الخامسة والثلاثين. هو لم يتحدث عن ذلك إلا لمامًا، ولكن ليس من العسير بعد كل ما أعرفه عن صديقي أن أكوِّن فكرةً عن نشوء هذا المرض العقلي المزعوم. هذا المرض العقلي المزعوم، الذي لم يحدد كنهه أحد، ظهرت بوادره على الطفل باول. أصابه المرض العقلي المزعوم وهو بعدُ وليد، وظل يُحكِم قبضته عليه طيلة العمر. تعايش باول مع هذا المرض العقلي المزعوم كما يعيش غيره بدون مثل هذا المرض العقلي. لقد أثبت هذا المرض العقلي المزعوم قلة حيلة الأطباء والعلوم الطبية كلها، أثبت ذلك على نحوٍ يجعل من المرء فريسةً للإحباط الكامل. حاول المعالجون مداراة فشلهم الطبي والعلمي بإعطاء المرض العقلي المزعوم لصديقي باول أكثرَ الصفات إثارة، ولكن دون العثور أبدًا على التسمية الصحيحة، لأنهم ببلادتهم عاجزون عن ذلك، وكل التسميات التي أطلقوها على مرض باول العقلي المزعوم كان يتضح سريعًا أنها خاطئة وسخيفة. كل وصف جديد كان يلغي ما قبله على نحوٍ مخجل ومحبط في آنٍ واحد. كان الأطباء النفسيون المزعومون يتخبطون في وصف مرض صديقي، فيقولون مرةً إنه هذا، وأخرى إنه ذاك، دون أن يمتلكوا الشجاعة للاعتراف أنه ليس ثمَّة وصف صحيح لهذا المرض، ولا لغيره من الأمراض، هناك دائمًا أوصاف خاطئة، ودائمًا مضللة، لأنهم في نهاية المطاف، ككل الأطباء الآخرين أيضًا، يستسهلون الأمر بإطلاق أوصاف جديدة خاطئة للمرض، ولا ينشدون في النهاية سوى راحتهم الشخصية، وليذهب المريض إلى الجحيم. في كل لحظة يكررون كلمةَ عُصاب، ثم كلمة اكتئاب، ودائمًا يخطئون. في كل لحظة يهربون (مثل كل الأطباء الآخرين!) إلى كلمةٍ علمية أخرى، لكي يوفروا الحماية والأمن لأنفسهم (وليس للمرضى!). مثل كل الأطباء تحصَّنَ معالجو باول أيضًا خلف اللغة اللاتينية التي استخدموها جدارًا منيعًا يفصل بينهم وبين مرضاهم، وبمرور الوقت يمسي كل همهم — وكما فعل أسلافهم منذ قرون — مداراة عجزهم وفشلهم وشعوذتهم. فور بدء العلاج يقيمون بالكلمات اللاتينية بينهم وبين ضحاياهم جدارًا، صحيح أنه لا يُرى، لكنه يفوق كل شيء مناعةً. أما عن طرق العلاج فهي تتنوع، وكما نعلم جميعًا، بين لا إنسانية، وإجرامية، ومدمرة. الطبيب النفسي أشد الأطباء خيبة. إنه أقرب إلى السفاح المتلذذ بالدماء منه إلى العالم. لم أخشَ في حياتي شيئًا مثل وقوعي في يد الأطباء النفسيين، ومقارنةً بهم فإن خطر الأطباء الآخرين ضئيل، حتى وإن كانوا هم أيضًا لا يجلبون في نهاية المطاف سوى المصائب. يرجع ذلك إلى أن الأطباء النفسيين في مجتمعنا هذا لا يختلطون بسواهم، ولهذا يتمتعون بحصانة تجاه النقد. وبعد أن درست طرقهم العلاجية الدنيئة التي طبقوها لسنوات على صديقي باول، فإن خوفي منهم زاد وتعمق. إن الأطباء النفسيين شياطين هذا العصر الحقيقيون. إنهم يمارسون تجارةً سرية بكل معنى الكلمة، يمارسونها بأخس الوسائل وبعيدًا عن طائلة القانون والضمير، ودون أن يستطيع أحدٌ النيل منهم. عندما أصبح بإمكاني أن أنهض وأذهب إلى النافذة، بل وأتمشى أيضًا في الممر، ثم أن أقطع المبنى جيئةً وذهابًا مع الآخرين المرشحين للموت والقادرين على المشي، ثم عندما استطعت أخيرًا الخروج من عتبة مبنى «هِرمان»، حاولت الوصول إلى مبنى «لودفيغ». غير أنني كلفت نفسي ما لا طاقة لها به، وهكذا وجدتني مجبرًا على التوقف أمام مبنى «إرنست». كان لا بد من جلوسي على المقعد المثبت في السور هناك لألتقط أنفاسي قبل أن أتمكن من مواصلة السير عائدًا إلى مبنى «هِرمان» دون مساعدة أحد. عندما يرقد المرضى في الفراش أسابيع، ناهيك عن شهور، فإنهم يبالغون مبالغةً عظيمة في تقدير قواهم بمجرد أن يستطيعوا الوقوف على القدمَين، وببساطةٍ يكلفون أنفسهم فوق طاقتها، فينتكسون، وتقذف بهم مثل هذه الحماقة أسابيع إلى الوراء. بل إن عديدين جلبوا لأنفسهم بمثل هذا الطيش الموتَ الذي فرُّوا من وجهه لتوهم بعد نجاح الجراحة. ومع أنني مريض متمرس، تعايشت طوال حياتي مع أمراض مؤلمة قاسية، أصبحت توصف في النهاية بأنها تستعصي على الشفاء، فإنني كثيرًا ما كنت أقع في فخ ادعاء المعرفة بطبيعة المرض، مُرتكبًا حماقات لا تُغتفر. على المرء في البداية أن يسير بضع خطوات، أربعًا أو خمسًا، ثم عشرًا أو إحدى عشرة، عندئذٍ ثلاث عشرة أو أربع عشرة، وأخيرًا عشرين أو ثلاثين، هكذا يجب على المريض أن يفعل، لا أن ينهض فجأةً ثم يخرج ماشيًا، فالعواقب لتلك الرعونة غالبًا ما تكون مميتة. لكن المريض المحبوس شهورًا يلح أثناء تلك الشهور كي يخرج، ولا يستطيع انتظار اللحظة التي يُسمح له فيها بمغادرة غرفته، لهذا لا يرضى ببضع خطوات في الممر، كلا، إنه يخرج إلى الهواء الطلق، وينتحر. يموت كثيرون، ليس لفشل فنون الطب، بل لأنهم غادروا الفراش قبل الأوان. يمكن أن نتهم الأطباء بأشياء عديدة، بقلة الاكتراث أو انعدام الضمير أو البلادة، لكننا لن ننكر أنهم لا يريدون في النهاية سوى أمر واحد: أن تتحسن حالة المريض. ولكن على المريض أن يقوم بواجبه أيضًا، لا أن يفسد جهود الأطباء بأن ينهض مبكرًا (أو متأخرًا!) عن اللازم، أو أن يغادر غرفته مبكرًا، ويذهب إلى أبعد من المسموح؛ مبنى «إرنست» كان بالنسبة لي أبعد مما ينبغي. كان عليَّ أن أعود عند مبنى «فرانتس»، ولكنني كنت أريد رؤية صديقي بأي ثمن. خائر القوى، مبهور الأنفاس، جلست على المقعد أمام مبنى «إرنست»، مرسلًا النظر عبر جذوع الأشجار إلى مبنى «لودفيغ». قلت لنفسي: ربما لن يسمحوا لي على الإطلاق بالدخول إلى مبنى «لودفيغ»، فأنا مصدور لا مجنون، إذ كان من الممنوع منعًا باتًّا على مرضى الرئة أن يغادروا منطقتهم ويذهبوا إلى مرضى العقل، والعكس أيضًا. صحيح أن سورًا شبكيًّا يفصل بين المنطقتين، إلا أن الصدأ هاجمه في مواضع عدة مُخلفًا فتحات واسعةً يمكن للمرء من خلالها النفاذ — على الأقل زحفًا — من منطقة إلى أخرى؛ وأتذكر أن مرضى العقل كانوا في كل يوم يجيئون إلى منطقة مرضى الرئة، والعكس أيضًا، كان مرضى الرئة يذهبون إلى منطقة مرضى العقل. إلا أنني آنذاك، عندما حاولت لأول مرةٍ الذهاب من مبنى «هِرمان» إلى مبنى «لودفيغ»، لم أكن أدري شيئًا عن ذلك الاتصال اليومي بين المنطقتين. فيما بعدُ ألفت رؤية مرضى العقل يوميًّا في «منطقة الرئة». وفي المساء كان الحراس يمسكون بهم، ويلبسونهم قميص المجانين، وبالهراوات الكاوتشوك يسوقونهم — وهو ما رأيته بعينَي رأسي — من منطقة الرئة إلى منطقة العقل، دون أن يخلو الأمر من صرخات بائسة ظلت تطاردني حتى في أحلامي الليلية. كان مرضى الرئة يغادرون منطقتهم صوب مرضى العقل مدفوعين بالفضول فحسب، يحدوهم الأمل في رؤية شيء خارق للمألوف ينقذهم من الملل القاتل وأفكار الانتحار التي تراودهم يوميًّا. وبالفعل لم يخِب أملي، وصدقت توقعاتي عندما غادرت منطقة الرئة وقصدت مرضى العقل الذين كانوا ينزعون أرقامهم بمجرد أن يلمحهم المرء. ربما أتجرأ في كتاب آخر على تسجيل ما عايشته كشاهد عيان على أحوال نزلاء قسم الأمراض العقلية. كنت أجلس في تلك اللحظة على المقعد أمام مبنى «إرنست» وأقول لنفسي: سيتوجب عليَّ انتظار أسبوع كامل حتى أستطيع أن أعيد محاولة الذهاب إلى مبنى «لودفيغ»، لا مفر من العودة اليوم إلى مبنى «هِرمان». من فوق المقعد تتبعت بعيني السناجب التي كانت تقفز بخفة على غصون الأشجار قبل الوثوب إلى الأرض، وكأنها لا تستمتع إلا بشيء واحد: خطف المناديل الورقية المبعثرة التي ألقى بها مرضى الصدر في كل مكان، ثم العدْو بها متسلقةً الأشجار. في كل مكان كانت تجري وبأفواهها المناديل الورقية، من وإلى كل جهة، حتى إن المرء لم يعد يرى أثناء الغسق سوى النقاط البيضاء لتلك المناديل الورقية في أفواه الحيوانات المهرولة. كنت أجلس هناك مستمتعًا بذلك المنظر الذي سيطر بطبيعة الحال على تأملاتي، وألهَمَ أفكاري. كنا في شهر يونيو، وكانت نوافذ المبنى مفتوحة، ينساب منها — بإيقاع عبقري التتابع حقًّا — سعال المرضى، كأنه موسيقى متناغمة تُحيي المساء المقبل. لم أرِد أن أستنفد صبر الممرضات، فنهضت راجعًا إلى مبنى «هِرمان». خطر على بالي أن تنفسي قد تحسن بعد العملية بالفعل، بل إنني أستطيع أن أتنفس بطريقة أفضل جدًّا من ذي قبل، لقد تحرر القلب، ولكن المستقبل لم يكن ورديًّا، كلمة كورتيزون، والعلاج المرتبط بهذه الكلمة، جعلت أفكاري تتجهم على الفور. لم يكن اليأس يستحوذ عليَّ طيلة اليوم. كنت أستيقظ يائسًا، ثم أحاول الهروب من هذا اليأس، وأهرب منه فعلًا حتى الظهيرة، ثم يبدأ اليأس في العصر يتحرش بي ثانية، إلا أنه كان يختفي مع حلول المساء، أما عندما أستيقظ في الليل فإنه يكون قد عاد إليَّ بكل قسوة. ولأن الأطباء عالجوا المرضى — الذين رأيتهم يحتضرون — كما يعالجونني، ولأنهم تبادلوا معهم الكلمات نفسها والأحاديث عينها، بل حتى النكات ذاتها، فإنني اعتقدت أن طريقي لن يختلف كثيرًا عن طريق أولئك الذين قضوا نحبهم. لقد ماتوا في مبنى «هِرمان» دون أن يلفتوا الأنظار، بلا صرخة وبلا استغاثة، معظمهم لفظ أنفاسه الأخيرة في هدوءٍ تام. في الصباح كان الفراش الشاغر يُرى في الممر، عليه ملاءة نظيفة تستعد لاستقبال المريض التالي. تبتسم الممرضات عندما نمر بهن، من غير أن يزعجهن معرفتنا بالأمر. أحيانًا كنت أسأل نفسي: لماذا أريد أن أوقف المسار الذي لا بد أن أسيره؟ لماذا لا أستسلم كغيري؟ لماذا أبذل جهدًا عندما أستيقظ كي أتشبث بالحياة، لماذا؟ بالطبع ما زلت أقول لنفسي كثيرًا حتى اليوم: أليس من الأفضل أن أستسلم؟ لأنني عندئذ سوف أسير مساري خلال زمن قصير، سوف أموت خلال بضعة أسابيع، أنا متأكد من ذلك تمامًا. لكنني لم أمت، وعشت، وما زلت أعيش حتى اليوم. وأرى أنه كان فألًا حسنًا، أنَّ صديقي باول كان نزيلًا في مبنى «لودفيغ» في الوقت الذي كنت أنا نزيلًا في مبنى «هِرمان»، في حين أنه لم يكن يعلم في البداية — عندما كنت في مبنى «هِرمان» — أنني الآن نزيل مبنى «هِرمان»، إلى أن باحت له بذلك ذات يوم صديقتنا المشتركة الثرثارة إرينا، التي كانت تتناوب على زيارتنا. كنت أعرف أن صديقي يقضي منذ سنوات طويلة عدة أسابيع أو أشهر في «الفناء الحجري»، وأنه في كل مرة كان يخرج ثانية، نعم، لا يمكن مقارنته بي على أية حال. ولكنني كنت أتوهم أنني سأقضي عدة أسابيع أو شهور ثم أخرج، مثله تمامًا. ولم تكن هذه الفكرة خاطئةً في نهاية المطاف. بعد أربعة شهور تمكنت من الخروج من «تل حديقة الأشجار»، لم أمت مثل الآخرين، وهو كان قد خرج من المستشفى منذ وقت طويل. بالرغم من ذلك كانت هواجس الموت مسيطرةً عليَّ أثناء سيري من مبنى «إرنست» إلى مبنى «هِرمان». لكثرة ما رأيته وسمعته في مبنى «هِرمان» لم أكن أعتقد أنني سأغادره حيًّا. كانت تنتابني مختلف المشاعر إلا الشعور ببصيص أمل. حمرة الشفق لم تهوِّن عليَّ الأمر كما يعتقدون، على العكس زادته صعوبة، بل أمست غير محتملة. بعد أن أنَّبتني الممرضة على سلوكي الأرعن، وبعد أن شرحت لي عواقب جريمتي الحمقاء، ألقيت بنفسي على الفراش واستغرقت لفوري في النوم. لكنني لم أستطع أن أنام ليلةً واحدةً على «تل حديقة الأشجار» نومًا متواصلًا، كنت غالبًا ما أستيقظ في مبنى «هِرمان» بعد مرور ساعة واحدة، إما أن أقوم مفزوعًا من حلم قادني ككل أحلامي إلى حافة هاوية وجودي، وإما أن توقظني أصوات في الممر، عندما يحتاج أحد في غرفة مجاورة إلى إغاثة عاجلة أو إذا مات، أو عندما يستخدم جاري في الغرفة وعاء البول الذي لم يكن يستخدمه أبدًا بدون ضوضاء على الرغم من شرحي له مرارًا كيف يستخدمه بهدوء، على العكس كان غالبًا ما يخبط الوعاء بالطاولة الحديدية بجوار فراشي، ليس فقط مرةً واحدة، بل مرات عدة، ولذلك كان مجبرًا في كل مرة على سماع محاضرة غاضبة مني أشرح له فيها كيف يستخدم الوعاء دون أن يوقظني، ولكن من غير جدوى. وحتى الجار الآخر بجوار الباب — فقد كنت أرقد أنا بجانب الشباك — كان يستيقظ من نومه في كل مرة. كان اسم جاري السيد إمرفول، وهو شرطيٌّ يعشق لعب الورق ومنه تعلمت لعبة ١٧ و٤، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لم أستطع أن أقلع عن اللعب، وهو ما يدفعني في بعض الأحيان إلى حافة الجنون. كما يعلم الجميع، لا يستطيع المريض الذي لا ينام إلا بفعل الأقراص المنومة، لا سيما في مستشفًى كهذا حيث تتراوح حالة المرضى بين الصعبة والمستعصية على الشفاء، أقول لا يستطيع أن ينام ثانيةً إذا استيقظ من نومه. كان جاري الذي يدرس اللاهوت شخصيةً أفسدتها التربية تمامًا، وهو ابن قاضٍ وقاضية من حي «غرينتسينغ»، وتحديدًا من «شرايبرفيغ»؛ أي في أحد أرقى أحياء فيينا وأغلاها. لم يسبق له أن سكن مع آخرين في غرفة واحدة، وكنت أنا بالتأكيد أول من يلفت نظره إلى شيء بديهي للغاية، إلى وجوب أن يراعي المرء مشاعر الآخرين الساكنين معه في الغرفة نفسها مراعاةً تامة، لا سيما وأنه طالب لاهوت. ولكن هذا الإنسان لم يكن يتقبل النصح، على الأقل في البداية. هو أيضًا حالة ميئوس منها، جاء عقب مجيئي إلى الغرفة بعد أن فتحوا رقبته — مثلما حدث معي ومع الآخرين — وأخرجوا ورمًا خبيثًا. خلال العملية فلَتَ المسكين من الموت بأعجوبة، كما يقولون. أجرى له العملية البروفيسور زالتسر. ولكن هذا لا يعني بالطبع أنه ما كان سيفلت من الموت بأعجوبة أيضًا مع جرَّاح آخر. عندما دخل هذا الإنسان الغرفة قلت لنفسي: على المرء أن يكون طالب لاهوت؛ فالممرضات الراهبات كن يدللنه على نحوٍ مقزز. وبينما كن يدللنه بكل الوسائل، أهملْنني، كما أهملْن الشرطي إمرفول بالإصرار نفسه. كانت الممرضة الليلية، على سبيل المثال، تعطي صاحبنا طالب اللاهوت كل ما تحصل عليه أثناء الليل هديةً من المرضى — شوكولا ونبيذ وكل أنواع الحلويات، ومن أفخر محلات المدينة بالطبع، من «ديميل» و«ليمان»، ومن ذلك المخبز الشهير «سلوكا» بجانب دار البلدية — كن يضعن تلك الأشياء في الصباح الباكر على الطاولة الصغيرة بجانب سرير صاحبنا. كما كن لا يعطينه كوبًا واحدًا من الحليب الساخن ممزوجًا بالبيض، مثلنا جميعًا وكما تقضي التعليمات، بل كان يحصل على كوبَين من هذا الحليب الذي ما زلتُ حتى يومنا هذا أحبه. كان توزيع الحليب أمرًا مألوفًا في مبنى «هِرمان» الذي لم يكن يضم سوى مرضى في أواخر أيامهم، والحليب بالبيض الذي يُحضر إلى فراش المريض هو دائمًا علامة على قرب ساعته. ولكنني استطعت سريعًا جدًّا أن أجعل صاحبنا يقلع عن عادات سيئة كثيرة، لهذا كان جاره — الشرطي إمرفول — شاكرًا لي، لأن صاحبنا كان بأنانيته يسبب له ولي من الضيق أكثر مما يُحتمل. إن ذوي الأمراض المزمنة — مثلي ومثل إمرفول — يستسلمون لأقدارهم سريعًا ويعتادون دورهم في الحياة، دور المتواضع، الخافت الصوت، المُراعي دومًا غيره، لأن هذا الدور وحده هو الذي يهون من حالة المرض الدائم، أما الجموح والوقاحة والعصيان فإنها تضعف البدن ولا تجلب مع الوقت إلا الموت. لا يستطيع صاحب المرض المزمن أن يتجرأ على التحلي بهذه الصفات طويلًا. ولأن صاحبنا طالب اللاهوت كان يستطيع بالفعل أن ينهض ويذهب إلى دورة المياه، فقد منعته ذات يوم من استخدام وعاء البول. على الفور حصدت عداوة الممرضات، اللاتي كن بالطبع يحملن وعاء طالب اللاهوت بكل سرور إلى خارج الغرفة، إلا أنني أصررت على أن ينهض ويخرج من الغرفة إلى دورة المياه، لأنني لم أفهم لماذا يجب عليَّ وعلى إمرفول أن ننهض ونذهب إلى المرحاض كي نتبول، بينما يبقى طالب اللاهوت في فراشه ويتبول في الوعاء، وهو ما أفسد هواء الغرفة الذي كان من الأصل لا يُطاق. نجحت في مسعاي، وعرف طالب اللاهوت — الذي نسيت اسمه، أعتقد كان يُدعى فالتر — طريقه إلى المرحاض، أما العاقبة فهي أن الممرضات لم يعطفن عليَّ بنظرة واحدة لعدة أيام. لكن الأمر لم يهمني. كنت أتحرق شوقًا إلى اليوم الذي أستطيع فيه مفاجأة صديقي باول بزيارتي له. لكن فشل محاولتي الأولى، الذي أجبرني على التوقف والعودة عند مبنى «إرنست»، جعلني أرى هذا اليوم مؤجلًا إلى المستقبل البعيد. كنت أرقد على فراشي مرسلًا النظر إلى الخارج، متأملًا في المنظر الذي لا يتغير: هامة شجرة الصنوبر الضخمة. من خلفها كانت الشمس تشرق وتغرب، دون أن تواتيني الشجاعة طيلة أسبوع على مغادرة الغرفة. وأخيرًا جاءت صديقتنا المشتركة إرينا لزيارتي، بعدما زارت صديقي باول. كنت قد تعرفت إلى باول فيتغنشتاين في شقة إرينا في «بلومنشتوك-غاسه» كنت قد وصلتُ وسط نقاشٍ ساخن حول سيمفونية هافنر التي عزفها أوركسترا لندن الفيلهارموني بقيادة شوريشت، وهو ما أثار حماستي، لأنني — كجميع المشاركين في الحديث — استمعت في اليوم السابق في نادي الموسيقى إلى هذه السيمفونية بقيادة شوريشت، وتولَّد لديَّ عندئذ الانطباع بأنني لم أُصغِ طوال وجودي الموسيقي إلى كونسير أكثر من هذا كمالًا. جمعَنا — إذن — نحن الثلاثة ذوقٌ موسيقيٌّ مشترك، أنا وباول وصديقته إرينا، وهي امرأة فائقة الحساسية الموسيقية، وواحدة من أكثر المتعمقات في فهم الفن على الإطلاق. في هذا النقاش — الذي لم يدُر بطبيعة الحال حول البديهيات، بل حول الفروق الدقيقة الحاسمة التي لم تلفت انتباهنا نحن الثلاثة بالقدر نفسه — نمَت خلال ساعات، ومن تلقاء نفسها، صداقتي لباول. لسنوات عديدة كنت أراه كثيرًا، ولكنني لم أتحدث معه بكلمة. هنا — في «بلومنشتوك-غاسه»، في الطابق الرابع من بنايةٍ بدون مصعد شُيدت أوائل القرن العشرين — كانت بداية تعارُفنا. كانت الغرفة هائلة الاتساع، مفروشةً بأثاث بسيط، لكنه مريح. هناك جلسنا نحن الثلاثة، وتحدثنا عن شوريشت، الأقرب بين قادة الأوركسترا إلى قلبي، وعن سيمفونية هافنر، الأحب بين السيمفونيات إلى فؤادي، وعن ذلك الكونسير الذي كان حاسمًا في أمر صداقتنا، تحدثنا ساعات طويلة، حتى الإعياء التام. على الفور استحوذت على انتباهي أحاسيس باول فيتغنشتاين تجاه الموسيقى، وهو في مشاعره لم يكن يراعي أحدًا أو شيئًا، وهي العاطفة نفسها التي ميزت صديقتنا إرينا أيضًا، وكذلك معرفته الفائقة بأعمال موتسارت وشوبرت الأوركسترالية، ناهيك عن تعصبه الأعمى لفن الأوبرا الذي أدخل بسرعةٍ الرعب إلى قلبي؛ ذلك التعصب الذي كان معروفًا في فيينا كلها، ولم يكن يُخشَى فحسب، بل كان مرضيًّا، وقاتلًا في بعض الأحيان؛ ثقافته الرفيعة، ليس فقط في مجال الموسيقى، بل في كافة مجالات الفن عمومًا. كان يتميز عن كل من عرفتهم بأمور عديدة، مثلًا من خلال مقارناته التي لا تنتهي، والتي يستطيع أن يثبت لك صحتها في كل وقت؛ تلك المقارنات المستمدة من مقطوعات موسيقية سمعها، أو حفلات حضرها، أو المعزوفات المنفردة أو الأوركسترالية التي درسها، مقارنات تأتي دومًا في مكانها الصحيح، كل هذا جعلني أطيل النظر إليه، وأعترف به صديقًا جديدًا خارقًا لكل ما هو مألوف. صديقتنا إرينا — التي تلقت من لطمات القدر ما لا يقل عمَّا تلقَّاه باول، هذه الصديقة التي خُطبَت كثيرًا، وتزوجت أكثر مما يستطيع المرء أن يعدَّ على أصابع يديه — كانت تكثر من زيارتنا في تلك الأيام الصعبة على جبل فيلهلمينه. كانت تظهر على الجبل مرتديةً جاكت تريكو أحمر، غير مكترثة بأوقات الزيارة. للأسف، وشت ذات يوم لباول — وكما ذكرتُ — بأنني أنزل في مبنى «هِرمان»، وبذا أفسدت عليَّ عنصر المفاجأة الذي خططتُ له عندما أزوره زيارةً سريعة في مبنى «لودفيغ». أدين بفضل صداقتي مع باول إذن إلى إرينا التي تحيا في منطقة بورغنلاند ذات الطبيعة الساحرة، والتي تزوجت رجلًا يطلقون عليه باحثًا موسيقيًّا. كنت قد تعرفت إلى صديقي قبل عامين أو ثلاثة من مجيئي إلى مبنى «هِرمان»، ولا أعتبر لقاءنا على جبل فيلهلمينه من المصادفات، بعد أن وصل كلانا مرةً أخرى إلى نهاية المطاف في الحياة، ولكنني لم أُقِم وزنًا كبيرًا لهذه الحقيقة. كنت أفكر وأنا في مبنى «هِرمان» أن لي صديقًا في مبنى «لودفيغ»، وبالتالي فلن أشعر بالوحدة. ولكني في الحقيقة ما كنت سأشعر بالوحدة على «تل حديقة الأشجار» في تلك الأيام والأسابيع والشهور، حتى بدون صديقي باول؛ فقد أنعمت عليَّ الدنيا في فيينا، وإثر وفاة جدي، بإنسان حياتي، أعني صديقة عمري التي لا أدين لها بالكثير جدًّا فحسب، بل، بصراحة، ومنذ تلك اللحظة التي ظهرت فيها إلى جواري قبل ما يزيد عن ثلاثين عامًا، أدين لها بكل شيء تقريبًا. لولاها ما كنت سأبقى على قيد الحياة، وما كنت أبدًا سأصبح ما أنا عليه اليوم، بكل جنوني وتعاستي، وسعادتي أيضًا. مَن يعرفني عن قرب، يعلم ماذا أعني بكلمة إنسان حياتي. مِن ذلك الإنسان أستمدُّ منذ ثلاثين عامًا القوة لمواجهة الحياة، كما أستمد منه المرة تلو الأخرى القدرة على الاستمرار في الحياة، من هذه المرأة وحدها، هذه هي الحقيقة. هذه المرأة الذكية التي أعتبرها مثالًا يُحتذى في كل شيء، والتي لم تتخلَّ عني أبدًا في أي لحظة حرجة؛ هذه المرأة التي تعلمت منها كل شيء تقريبًا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، أو على الأقل تعلمت منها أن أفهم، وما زلت أتعلم منها حتى اليوم كل الأشياء الجوهرية، هذه المرأة كانت تعودني آنذاك يوميًّا تقريبًا، وتجلس على فراشي. كانت تحمل جبالًا من الكتب والصحف في عز الحر، صاعدةً بها إلى «تل حديقة الأشجار»، وفي أجواء تعرفها مسبقًا. ولا ننسى أن إنسان حياتي كان آنذاك قد تجاوز السبعين. وأنا متأكد أنه كان سيتصرف اليوم بأعوامه السبعة والثمانين على النحو نفسه بالضبط. لكن إنسان حياتي ليس محور هذه الملاحظات التي أدونها عن باول، حتى وإن كان لذلك الإنسان الدور الأهم في حياتي آنذاك، عندما كنت نزيلًا على جبل فيلهلمينه، معزولًا ومستبعدًا ومنسيًّا؛ محور هذه الملاحظات هو صديقي باول الذي كان في ذلك الوقت أيضًا نزيلًا على الجبل، معزولًا ومستبعدًا ومنسيًّا، صديقي الذي أسعى من خلال هذه السطور إلى أن أراه أمامي بوضوح، وأن أستدعيه إلى الذاكرة عبر شظايا الذكريات هذه التي تبين لي الآن أن اليأس الذي أطبق على صديقي كان قد أطبق عليَّ أنا أيضًا؛ وكما وصلت حياة باول آنذاك مرةً أخرى إلى طريق مسدود، هكذا حدث لي، أو بالأحرى هذا ما دُفعت إليه دفعًا. مثل باول — لا بد أن أعترف — كنت قد بالغت في حياتي، متجاوزًا كل قدراتي، فعلت ذلك بكل اللامبالاة المَرَضيَّة حيال نفسي وحيال كل ما دمر باول في يوم ما، وكل ما سوف يدمرني في يوم من الأيام، تمامًا مثل باول؛ كما هلك باول لمبالغته في تقدير ذاته وتقدير العالم، فسوف أهلك يومًا — آجلًا أو عاجلًا — بسبب مبالغتي المَرَضيَّة في تقدير ذاتي والعالم. مثل باول استيقظت أنا أيضًا على فراش المرض في جبل فيلهلمينه، لأكتشف أنني نتاج مدمَّر كليًّا لتقديري للذات وللعالم. كان منطقيًّا تمامًا أن ينتهي المطاف بباول في مصحة الأمراض العقلية، وبي في مصحة الأمراض الصدرية، يعني باول في مبنى «لودفيغ»، وأنا في مبنى «هِرمان». مثلما اندفع باول عبر سنوات نحو جنونه حتى الموت تقريبًا، اندفعتُ أنا أيضًا حتى الموت نحو جنوني. وكما تحتم أن ينتهي المطاف بباول مرارًا في مصحة الأمراض العقلية، وأن يصل طريقه هناك إلى نهايته، هكذا تحتم أن ينتهي بي المطاف في مصحة الأمراض الصدرية، وأن يصل طريقي هناك إلى نهايته. مثلما مارس باول مِرارًا أقصى درجات الجموح والعناد ضد ذاته وضد من حوله، كنت أمارس أنا أيضًا أقصى درجات الجموح والعناد ضد ذاتي وضد من حولي، إلى أن يدخلوني مصحة الأمراض الصدرية. مثل باول، الذي لم يعد يتحمل نفسه أو العالم، وهو ما كان يتكرر — كما يمكن للمرء أن يتوقع — بفواصل زمنية آخذة في التناقص، كنت، وبفواصل زمنية آخذة في التناقص، لا أستطيع تحمل ذاتي والعالم إلى أن أعود إلى نفسي — كما يمكننا أن نقول — في مصحة الأمراض الصدرية، مثلما كان باول يعود إلى ذاته في مصحة الأمراض العقلية. وكما دمر أطباء المجانين باول في نهاية الأمر، ثم استثاروا طاقاته إلى أن تعافى، دمرني أطباء الرئة، ثم استثاروا طاقاتي إلى أن تعافيت. وكما تركَت المصحات العقلية آثارًا لا تُمحى عليه، لا بد أن أعترف بذلك، فقد تركَت مصحات الرئة، حسب اعتقادي، آثارها التي لا تُمحى علي. وكما قام المجانين بتربيته خلال فترات طويلة في حياته، قام مرضى الرئة بتربيتي. وكما تطورت شخصيته في نهاية الأمر في صحبة المجانين، تطورتُ أنا أيضًا في صحبة مرضى الرئة، ولا يختلف التطور بين المجانين كثيرًا عنه بين مرضى الرئة. بكل حسمٍ علَّمه المجانين الحقائق الأساسية عن الحياة والوجود، وبالحسم نفسه تعلمتُ من مرضى الرئة. تعلم باول من الجنون، وتعلمتُ أنا من مرض الرئة. هكذا، وكما أصبح باول ممن يُطلق عليهم «مجانين»، لأنه فقَدَ ذات يومٍ التحكم بنفسه، أُصبتُ بمرض في الرئة لأنني فقدت أيضًا ذات يومٍ التحكم بنفسي. جُن باول، لأنه فجأةً قاوم كل شيء، ولهذا أُطيح به بطبيعة الحال، كذلك أُطيح بي ذات يوم لأنني — مثله — قاومت كل شيء. جُن باول للسبب نفسه الذي أمرضَ رئتي. ليس باول أكثر جنونًا مني، جنوني يساوي على الأقل جنونَ باول، على الأقل وفق مفهوم الناس للجنون، إلا أنني أُصبت — إضافةً إلى الجنون — بمرضٍ في الرئة. الفارق الوحيد بين باول وبيني أن باول ترك الجنون يُحكم قبضته عليه إحكامًا كاملًا، بينما لم أسمح أبدًا لجنوني — العظيم كجنونه — أن يتحكم فيَّ تحكمًا كاملًا؛ لقد التهمه جنونه، في حين أنني استغللتُ جنوني طوال عمري، وتحكمت فيه. باول لم يتحكم أبدًا في جنونه، وربما كان جنوني لهذا السبب أكثر جنونًا من جنون باول. لم يعانِ باول إلا من الجنون، ومنه استمد وجوده؛ أما أنا فقد جمعت بين الجنون ومرض الرئة، واستغللت كليهما معًا، جاعلًا منهما نبع وجودي، ويومًا ما معنى حياتي بأكملها. ومثلما عاش باول لعشرات السنين مجنونًا، عشت لعشرات السنين مصدورًا؛ وكما مثَّلَ باول لعشرات السنين دور المجنون، مثلت أنا أيضًا لعشرات السنين دور المصدور؛ ومثلما استغل الجنونَ ليصل إلى أغراضه، فقد استغللت أنا أيضًا المرض الصدري لأصل إلى أغراضي. وكما يحاول الآخرون العناية بممتلكاتهم العظيمة، أو بفن رفيع أو شبه رفيع، وتأمين مثل هذا الفن على الدوام وطيلة حياتهم، ساعِينَ إلى استغلال هذه الممتلكات، أو هذا الفن، بكل الوسائل وتحت كل الظروف، جاعلين منه مضمون حياتهم الأوحد؛ هكذا تعامل باول مع جنونه طيلة حياته، حافظ عليه واستغله وجعل منه، تحت كل الظروف وبكل الوسائل، مضمون حياته؛ تمامًا كما فعلت بمرض رئتي وبجنوني، إلى أن استمددت من الجنون ومن المرض ذلك الشيء الذي يسمونه «الفن». ولكن، كما تعامَل باول مع جنونه دون مراعاة لأحد، وكما ازدادت هذه اللامبالاة مع الوقت، فقد تعاملت مع مرضي الرئوي ومع جنوني بلا مبالاة متزايدة. وهكذا، في الوقت الذي تعاملنا فيه مع مرضَينا بلا مبالاة متزايدة، تعاملنا مع البيئة المحيطة بلا مبالاة متزايدة، وكان من الطبيعي أن نُواجَه أيضًا — وفي المقابل — بلا مبالاة متزايدة، والنتيجة أن يُلقى بنا كل فترة زمنية آخذة في التناقص في المستشفيات المختصة، فيذهب باول إلى مصحة الأمراض العقلية، وأنا إلى مصحة الأمراض الصدرية. عادةً ما كنا نذهب إلى المصحات الخاصة بنا في فترات زمنية مختلفة، إلى أن وصلنا معًا عام ١٩٦٧م إلى جبل فيلهلمينه، وهناك، فوق الجبل، تعمقَت صداقتنا. لو لم نتقابل عام ١٩٦٧م على جبل فيلهلمينه، لما كنا — ربما — عمَّقنا صداقتنا على هذا النحو. بعد سنوات عديدة من الامتناع الإجباري عن ممارسة صداقتنا، أصبح لدي فجأةً صديق حقيقي يستطيع فهم التخاريف المجنونة التي تطوف برأسي المعقد بحق، بل يعرف كيف يتعامل بجرأة مع تلك التخاريف، وهو ما عجزت عنه البيئة المحيطة بي، لأنها لم ترغب في ذلك يومًا. بمجرد أن نتجاذب — كما يقولون — أطراف الحديث حول موضوع، فإنه ينمو ويتطور داخل رأسينا في الاتجاه الصحيح. ليس فقط إذا تحدثنا عن الموسيقى، تخصص باول وتخصصي الأول والأسمى، وإنما في كل الموضوعات الأخرى أيضًا. لم يسبق لي أبدًا أن تعرفت إلى إنسان حاد الملاحظة، ومتوقد الذهن، وثري الفكر مثله. ولكن باول لم يتوقف عن بعثرة ثروته الفكرية، مثلما بعثر ثروته المالية. وفي حين استنفد باول ثروته المالية سريعًا مُلقيًا بها من النافذة، فإن ثروته الفكرية كانت حقًّا لا تُستنفَد. كان لا يتوقف عن الإلقاء بها من النافذة، وكانت (في الوقت ذاته) تتكاثر دون توقف. كلما ألقى مزيدًا من ثروته الفكرية من نافذة «الرأس»، كلما ازدادت تلك الثروة، هذا هو ما يميز أولئك الذين يوصفون أولًا بالخبل، ثم أخيرًا بالجنون؛ ما يميزهم هو بعثرة ثروتهم الفكرية من نافذة «رءوسهم» على نحو مطرد لا يتوقف، وفي الوقت ذاته، وبالسرعة نفسها، تتكاثر ثروتهم الفكرية داخل رءوسهم. يلقون دومًا بالمزيد من الثروة الفكرية من نافذة «الرأس»، ومع ذلك تتكاثر الثروة في الوقت ذاته داخل رءوسهم، وتزداد خطورةً بطبيعة الحال، وفي نهاية الأمر يتخلفون عن مسايرة السرعة التي يلقون بها الثروة الفكرية «من رءوسهم»، ثم لا يتحمل الرأس هذه الثروة الفكرية المتزايدة والمختزنة في الرأس، فينفجر. هكذا انفجر، بكل بساطة، رأس باول، لأنه تخلف عن تفريغ الثروة الفكرية المتجمعة «في رأسه». هكذا انفجر رأس نيتشه. هكذا انفجرت في نهاية الأمر كل تلك الرءوس الفلسفية المجنونة، لأنها تخلفت عن تفريغ ثرواتها الفكرية. داخل تلك الرءوس تتجمع ثروةٌ فكرية حقيقية، لا تنفك تنمو دون توقف أو انقطاع، وبسرعة كبيرة مهولة، يتخلفون إزاءها عن إلقاء بعضٍ منها من نافذة «الرأس»، ويومًا ما ينفجر الرأس ويموتون. هكذا انفجر ذات يوم رأس باول أيضًا ومات. كنا متشابهين، ولكن مختلفين إلى أقصى حد. كان باول، على سبيل المثال، يهتم بأمر الفقراء، ويرق قلبه لهم؛ أما أنا فكنت أهتم بهم دون أن يرق قلبي لهم، لأن قلبي لم يكن يستطيع — بسبب آليات تفكيري في هذا الموضوع القديم قدم العالم — أن يرق على النحو الذي يشعر به باول. وحتى اليوم لست قادرًا على ذلك. كان باول ينفجر باكيًا عندما يرى طفلًا يقرفص على شاطئ بحيرة «تراون»، حيث وضعته هناك أم لئيمة ماكرة، لهدفٍ مقزز بغيض، كما كان واضحًا لي على الفور، ألا وهو استثارة شفقة العابرين وتأنيب ضميرهم حتى يفتحوا محافظهم النقدية. خلافًا لباول لم تقتصر رؤيتي على الطفل البائس المُستَغَل من أمه الجشعة، بل رأيت أيضًا تلك الأم المستغِلة لطفلها أبشع استغلال، القابعة خلف الشجيرات وهي تعد رزمةً كاملة من الأوراق النقدية في نهمٍ تجاري مقزز. لم يرَ باول غير الطفل وبؤسه، غافلًا عن الأم القابعة في الخلف تحصي النقود، بل لقد انتحب وولْوَل، ومنح الطفل — وكأنه يخجل من وجوده في هذه الحياة — ورقةً بمائة شلن. رأيت أنا المشهد كله وفهمت اللعبة، بينما لم يرَ باول إلا ما ظهر على السطح من بؤسٍ يعانيه الطفل البريء، ولم ينظر إلى الأم الوضيعة في الخلفية. ظل الاستغلال الوضيع والشاذ لطيبة قلب صديقي أمرًا خافيًا عليه، أما أنا فكان لا بد أن أراه. هذا هو ما يميز صديقي: إنه يرى ما يظهر على السطح فحسب، صورة الطفل الذي يعاني، لذا كان لا بد أن يهبه ورقةً بمائة شلن. بينما أعتقد أنني كشفت تلك الوقاحة القميئة التي صبغت المشهد بأكمله، لذا لم أعطِ الطفل شيئًا. كان مما يميز علاقتنا أنني احتفظت بملاحظاتي لنفسي حتى أحمي صديقي، لم أقل له إن خلف الشجيرات أُمًّا وضيعةً منحطةً تحصي النقود، بينما أُجبرَ الطفل على تمثيل تراجيديا البؤس والشقاء. تركته يرى المنظر على السطح، وتركته يهب الطفل ورقةً بمائة شلن، وهو يولول وينتحب، ولم أصارحه — حتى فيما بعد — بكل أبعاد المشهد. كم من مرةٍ استعاد مشهده ذلك مع الطفل على شاطئ بحيرة «تراون»، وكم من مرة كان يحكي (في حضوري) أنه وهب طفلًا صغيرًا وحيدًا فقيرًا ورقةً بمائة شلن، دون أن أصارحه بما حدث بالفعل في ذلك المشهد. فيما يتعلق بالبؤس، أو ما يُسمى بؤس البشر (والبشرية)، لم يكن باول يرى إلا الظاهر، تمامًا كظاهر المشهد على شاطئ البحيرة، لم يرَ أبدًا المشهد كله، كما كنت أفعل، وأعتقد أنه كان يمتنع طيلة حياته عن رؤية المشهد بأكمله، وأنه — حمايةً للذات — يكتفي بالظاهر فحسب. أما أنا — وأيضًا حمايةً للذات — فلم أكتفِ أبدًا بما يظهر على سطح مثل هذا المشهد. هذا هو الفارق. في النصف الأول من حياته ألقى باول بالملايين الكثيرة من النافذة، اعتقادًا منه أنه يساعد المعوزين (وبذا يساعد ذاته!)، بينما هو في الحقيقة وفي الواقع ألقى بهذه الملايين في أفواه السفلة وغير المستحقين على الإطلاق، ولكنه بذلك ساعد نفسه حقًّا. استمر باول يلقي نقوده إلى مَن يبدو أنه بائس ومحتاج إلى أن أفلس تمامًا، وإلى أن جاء اليوم الذي أصبح فيه تحت رحمة أقربائه، يفعلون به ما حلا لهم. أظهر أقرباؤه تجاهه الرحمة لمدة قصيرة، ثم تخلوا عنه سريعًا، لأن مفهوم الرحمة كان بالنسبة إليهم مفهومًا غريبًا. يتحدر باول من إحدى أغنى ثلاث أو أربع عائلات في النمسا، هكذا عاقبه القدر. نمت ملايين عائلته أثناء فترة الإمبراطورية النمساوية عامًا بعد عام، هكذا من تلقاء نفسها تقريبًا، إلى أن أدى إعلان الجمهورية إلى تجمد ثروة آل فيتغنشتاين. بدد باول نصيبه من الثروة مبكرًا، اعتقادًا منه أنه بهذه الطريقة يحارب الفقر. وهكذا قضى الشطر الأعظم من حياته معدمًا تقريبًا، مُعتقِدًا — كعمه لودفيغ — أن عليه توزيعَ ما يسميه الملايينَ القذرة على الشعب الطاهر، وبذلك ينقذ الشعب الطاهر، وينقذ ذاته. كم من مرةٍ انطلق باول إلى الشارع برزم من أوراق المائة شلن، ولا هدف له سوى توزيع هذه الرزم القذرة على الشعب الطاهر. ولكنه لم يكن يوزع نقوده إلا على أمثال أولئك الأطفال على شاطئ البحيرة السابق وصفهم. كل الذين تلقوا هبات باول لا يختلفون في شيء عن أولئك الأطفال على شاطئ بحيرة تراون. كان باول يوزع عليهم نقوده غصبًا، ليساعدهم ويرضي ذاته. وعندما أفلس باول قدم له أقرباؤه العون والمساعدة لفترةٍ قصيرة، انطلاقًا من مفهومٍ شاذ للشرف، وليس أبدًا من منطلق الكرم، ناهيك عن أن يكونوا فعلوا ذلك لأنه شيء بديهي؛ فهم — ولا بد من أن نعترف بذلك — لم يروا ظاهر وضعه فحسب، بل أدركوا الموقف بكل أبعاده الفظيعة. عبر قرونٍ كان آل فيتغنشتاين ينتجون الأسلحة والآلات، إلى أن أنتجوا في النهاية لودفيغ وباول؛ الفيلسوف الرائد الذي أصبح عَلَمًا على حقبةٍ بأكملها، والمجنون الذي لم يقلَّ عن الفيلسوف شهرة، على الأقل في فيينا، بل ربما فاقه هناك. في الحقيقة لم يكن باول يقل عن عمه تفلسفًا، كما لم يكن الفيلسوف لودفيغ أقل جنونًا من بأول، ابن أخيه. الأول — لودفيغ — اتخذ من الفلسفة أساسًا لشهرته، والثاني — باول — اختار الجنون. ربما يكون الأول أكثر عمقًا فلسفيًّا، وربما يكون الثاني أكثر جنونًا، ولكن من المحتمل أن نعتقد أن هذا — المتفلسف لودفيغ — فيلسوف لمجرد أنه قام بتدوين فلسفته على الورق ولم يدون جنونه؛ وربما نعتقد أن ذاك — باول — مجنون لأنه قمع فلسفته ولم ينشرها على الناس، ولم يعرض عليهم سوى جنونه. كلاهما تميز بالتفرد والعبقرية والخروج عن المألوف، الأول نشر عقله على الناس، أما الثاني فلم يفعل. بل يمكنني القول: نشر الأول عقله، بينما مارس الثاني عقله. وأين يكمن الفارق بين العقل المنشور والعقل الناشر؟ بين العقل المُمارَس والمُمارِس؟ طبعًا كان باول سينشر — لو كان قد نشر — أعمالًا أخرى تمامًا غير لودفيغ؛ كما أن لودفيغ كان حتمًا سيمارس جنونًا مختلفًا تمامًا عن باول. ولكن في كل حالة يضمن اسم فيتغنشتاين مستوًى عاليًا، بل أعلى المستويات. لا شك أن المجنون باول قد وصل إلى مستوى الفيلسوف لودفيغ. الأول يمثل ذروةً مطلقةً في الفلسفة وتاريخ الفكر، والثاني يجسد ذروةً مطلقةً في تاريخ الجنون، هذا إذا نظرنا إلى الفلسفة الخالصة، والفكر المحض، والجنون الحقيقي باعتبارها مفاهيمَ تاريخيةً شاذة. صحيح أنني في مبنى «هِرمان» كنت أبعد مائتي متر فقط عن صديقي، لكنني كنت منفصلًا تمامًا عنه. لم أشعر بشوقٍ عارم وجارف إلى شيء مثلما كنت أشتاق إلى لقائنا مرةً أخرى، بعد كل هذه الشهور التي حُرِمتُ فيها من رأس باول، شهورٌ كدت أختنق خلالها وسط مئات من الرءوس التي يمكن وصفها بأنها عقيمةٌ تمامًا. دعونا نتحدث بصراحة: نحن لا نهتم كثيرًا بالرءوس التي تصل إلى قامتنا، إننا نشعر عندئذٍ وكأننا نجلس مع حبات بطاطا متضخمةٍ تستريح فوق أجسادٍ ترتدي ملابس تخلو غالبًا من أي ذوق، مستنفدةً أيام وجودها في بؤس لا يستحق أية رحمة للأسف الشديد. ولكن ها هو يأتي، اليوم الذي سأزور فيه باول، هكذا كنت أعتقد، ولهذا دونتُ بعض الملاحظات عما أنوي التحدث فيه، كل ما لم أستطع التحدث عنه مع إنسان عبر شهور طويلة. بدون باول لم أكن آنذاك أستطيع على الإطلاق التحدث عن الموسيقى، ولا عن الفلسفة، أو السياسة أو الرياضيات. عندما كنت أشعر بوجداني يحتضر، لم أكن أحتاج إلى شيء غير زيارة باول، حتى ينتعش، على سبيل المثال، تفكيري الموسيقي من جديد. المسكين — هكذا كنت أفكر — محبوس في مبنى «لودفيغ»، بل ربما ألبسوه قميص المجانين، وهو الذي يعشق الذهاب إلى الأوبرا. باول من أكثر مَن عرَفَتهم فيينا عشقًا وولهًا بالأوبرا. هذا أمر يعلمه كل عشاق هذا الفن. كان من المتعصبين للأوبرا، بل لقد ظل حتى إفلاسه التام مواظبًا على الذهاب إلى الأوبرا يوميًّا، حتى عندما صبغت المرارة أيامه الأخيرة، ولم تسمح حالته المادية بشراء أكثر من تذكرة تسمح له بالوقوف في آخر البلكون. هذا المريض مرضَ الموت كان يتحمل الوقوف ست ساعاتٍ متصلة لمشاهدة أوبرا تريستان، وكانت لديه الطاقة في نهاية العرض على أن يصرخ بأعلى صوته بصيحات الإعجاب، أو أن يطلق صفير الاستهجان، كما لم يفعل قبله أو بعده إنسان في دار أوبرا فيينا. كان يُحسَب له ألف حساب إذا حضر حفل الافتتاح. كان بحماسته يلهب مشاعر الآلاف ويدفعهم إلى التصفيق، لأنه كان يبدأ قبل الجميع، وبعد ثوانٍ معدودة من انتهاء العرض. من ناحيةٍ أخرى، وتحت وابل صفيره المستهجن، كانت أعظم العروض وأغلاها تنتهي إلى الفشل الذريع، لأنه هكذا أراد، وهكذا كانت حالته النفسية. أستطيع أن أصنع نجاحًا إذا أردتُ، وإذا كانت الشروط متوافرة، وهي دائمًا متوافرة، يقول باول؛ وأستطيع أيضًا أن أتسبب في فشل، إذا كانت الشروط متوافرة، وهي دائمًا متوافرة. يتوقف ذلك على شيءٍ واحد: هل سأكون أول من يصيح «برافو!»، أم من سيطلق الصفير. عبر عقود لم يلحظ أهل فيينا أن الفضل الأول والأخير في نجاح عروض الأوبرا التي شاهدوها إنما يرجع إلى باول، كما يعود إليه الفضل في حالات الفشل والإخفاقات الذريعة والمدوية التي شهدتها دار الأوبرا الفييناوية، لا لشيء غير أن باول أراد ذلك. لم يكن لاستحسانه أو معارضته أي علاقة بالموضوعية، بل بمزاجيته وسرعة تقلباته وجنونه. كم من قادة أوركسترا، لم يكن يطيقهم، وقعوا في فخاخ باول عندما جاءوا إلى فيينا، بعد أن أشبعهم صفيرًا وصراخًا بفمٍ يرغي ويزبد بكل معنى الكلمة. لم يخفق باول إلا مع هربرت فون كرايان الذي كان يمقته. كان العبقري كرايان أعظم من أن يضطرب أو أن يأبه لباول. لقد تابعتُ كرايان عقودًا طويلة دارسًا ما يقدمه، وأعتبره أهم قائد أوركسترا خلال القرن العشرين بجانب شوريشرت الذي أحببته. منذ الطفولة — لا بد من الاعتراف — كنت من المعجبين بكارايان، وإعجابي ينبع عن خبرة ومعرفة. كنت أُكن له تقديرًا عظيمًا، مثل كل العازفين الذين أُتيحت لهم فرصة العمل تحت قيادته. أما باول فكان يكره كرايان بكل ما أُوتي من قوة معتبرًا إياه دجالًا ومشعوذًا. كنتُ أنظر إلى كارايان، وبعد عشرات السنين التي شاهدته فيها، باعتباره ذروةً فريدةً بين قمم الموسيقى في كافة أنحاء العالم. وكلما ازدادت شهرة كرايان، زاد تألقه وتفوقه، وهو أمرٌ لم يكن صديقي ولا باقي العالم الموسيقي يريد الاعتراف به. منذ الطفولة وأنا أتابع العبقرية الكاريانية وهي تتطور إلى أن بلغت الذروة المطلقة، كما كنت شاهدًا على كل البروفات تقريبًا التي كان يجريها لفرقته استعدادًا للحفلات الموسيقية والأوبرالية التي قدمها في سالزبورغ وفيينا. الحفلات الموسيقية الأولى في حياتي كانت تحت قيادة كارايان، وكذلك الأوبرات الأولى. وهكذا — لا بد أن أعترف — أُتيح لي منذ البدء أساس جيد لتطوري الموسيقي. كان اسم كارايان يضمن على الفور خلافًا ضاريًا بيني وبين باول. لشد ما اختلفنا طيلة حياة باول حول كارايان. لم أستطع إقناع باول بحججي فيما يخص العبقري كارايان، ولا هو استطاع إقناعي بأن كارايان دجال. كانت الأوبرا بالنسبة إلى باول — حتى وفاته — هي ذروة العالم، دون أن تُخِلَّ مشاعرُه الموسيقية بالمنظومة الفلسفية لديه. أما بالنسبة إليَّ فقد كانت، حتى في ذلك الوقت، مجردَ عاطفةٍ مبكرة أخذت تتوارى، فنًّا ما زلتُ أحبه، لكنني أستطيع الاستغناء عنه لسنين طويلة. طيلة أعوام وباول يجوب أنحاء الأرض — هذا عندما كان لديه المال والوقت — متنقلًا من دار أوبرا إلى أخرى، إلى أن يعود في النهاية إلى أوبرا فيينا التي ظل يعتبرها الأعظم. أوبرا «مت» في نيويورك، و«كوفنتغاردن» في لندن، و«سكالا» في ميلانو: كل هذه الدور لم تكن شيئًا أمام فيينا. ولكن بالطبع — كان يضيف — فإن أوبرا فيينا تتألق مرةً واحدة في العام وحسب. مرة واحدة في العام، لكنها على كل حال مرة. كان بمقدور باول أن يقوم برحلة مجنونة تستمر ثلاث سنوات، يطرق خلالها أبواب كل دور الأوبرا التي يطلقون عليها عالمية، الواحدة تلو الأخرى. وبهذا تعرَّف إلى جميع قادة الأوركسترا العظماء تقريبًا، وإلى الكبار والمهمين حقًّا، وتعرَّف أيضًا إلى ما ربت أيديهم ودللت من مغنين ومغنيات. رأس باول كان رأسًا أوبراليًّا، أما حياته فقد تحولت تباعًا — وفي السنوات الأخيرة بسرعة رهيبة — إلى وجودٍ فظيع وبشع، إلى أوبرا، أوبرا عظيمة بالطبع ذات نهايةٍ تراجيدية للغاية. في اللحظة الراهنة كانت أوبرا حياته معروضةً مرة أخرى في «الفناء الحجري»، وفي مبنى «لودفيغ»، وهو — وكما رأيت بعينَي رأسي — من أكثر المباني المهملة هناك. السيد البارون، كما أطلقوا عليه كلهم، خلع «الفراك» الأبيض الذي — أعرف ذلك — فصَّله عند الخياط «كنيتسه»، والذي كثيرًا ما كان يرتديه في سنواته الأخيرة ليلًا، من وراء ظهري، وبخاصة في بار عدن؛ البارون خلع الفراك ولبس قميص المجانين مرةً أخرى. مثلما استبدل هذا الطعام البائس الذي يُقدم في أوعيةً من صفيح على المائدة المرمرية في مبنى «لودفيغ» بذلك العشاء الفاخر الذي كان يتناوله في فندق «زَخر» أو «إمبريال» حيث ما زال أصدقاؤه العديدون يدعونه بين الحين والآخر، الأصدقاء المقتدرون، أو الأثرياء فاحشو الثراء، الأرستقراطيون أو غير الأرستقراطيين. كما استبدل الجوارب الصوفية الخشنة اللازم ارتداؤها في مبنى «لودفيغ» والشباشب الصوفية المفرطحة بالجوارب الإنكليزية الأنيقة، والأحذية التي كان يشتريها من «ماغلي» أو «روسيلي» أو «جانكو». كان قد عُولج بعدَّة جلسات من الصدمة الكهربائية التي وصفها لي، عندما سُمح له بالخروج ثانيةً من «الفناء الحجري»، وصفًا لا يخلو من سخريةٍ وتهكم، بكل التفاصيل المرعبة والمهينة والحقيرة، أي اللاإنسانية. كان باول يُودَع في «الفناء الحجري» عندما يشعر المحيطون به بعدم الأمان من ناحيته، عندما يهدد فجأةً الجميع بالقتل، وعندما يعلن لأشقائه أنه ينوي، على الأقل، أن يخنقهم أو أن يفتح عليهم النار. وكان يُطلَق سراحه بعد أن يكون الأطباء بجنون عظمتهم الطبي قد دمروه تمامًا، عندما يذوي كل ما بداخله ويخمد، عندما لا يستطيع أن يرفع رأسه أو صوته. عندئذ كان ينسحب إلى بحيرة «تراون»، حيث ما زالت ممتلكات عائلته تتناثر بين الغابات، مُشرِفةً على ألسنة بحيرات ووديان وهضاب غايةٍ في الروعة، فيلات ومنازل ريفية ما زال آل فيتغنشتاين يلتمسون فيها حتى اليوم بعض الراحة الإجبارية من عناء الثروة وتبعاتها. أضحى مبنى «لودفيغ» الآن قصرَه. وفجأةً، انقض عليَّ التردد، وسألت نفسي: هل من الحكمة أن أقيم علاقةً بين مبنى «هِرمان» ومبنى «لودفيغ»، وهل ستفيدنا هذه العلاقة أم ستضرنا؟ مَن يعلم حقيقة حالة باول الآن؟ ربما يكون في حالةٍ لن تجلب لي إلا الضرر، ربما يكون من الأفضل ألا أحاول الاتصال به حاليًّا على الإطلاق، ألَّا أمدَّ حبل الوصال بين مبنى «هِرمان» ومبنى «لودفيغ». على العكس، قلت لنفسي، ربما كان لظهوري، المفاجئ، في مبنى «لودفيغ» عواقب وخيمة على صديقي. وبالفعل استولى عليَّ الخوف فجأةً من لقاءٍ يجمعني بصديقي، وفكرت في أن أدع صديقتنا إرينا تقرر ما إذا كان مد الجسور بين مبنى «هِرمان» ومبنى «لودفيغ» ملائمًا أم لا. لكنني تخليت عن هذه الفكرة سريعًا، لأنني لم أرد أن تواجه صديقتنا صعوباتٍ قد تنشأ بسبب قرار يخصنا. ثم إن الوهن بلغ بي الآن درجةً لا تسمح لي بالسير إلى مبنى «لودفيغ»، هكذا قلت لنفسي، ولهذا تخليت تمامًا عن فكرة زيارة مبنى «لودفيغ»، لأنها بدت لي عبثيةً تمامًا. وأخيرًا وليس آخرًا، ربما يظهر باول يومًا ما هنا بدون مقدمات، قلت لنفسي، بعد أن أخبرته صديقتنا الثرثارة أنني الآن نزيل مبنى «هِرمان». تخوفت من هذه الإمكانية. إذا ظهر هنا فجأةً، في مبنى «هِرمان»، في هذا القسم الذي ينتظر الموت، والذي يُدار بصرامةٍ بالغة تبحث لها عن شبيه؛ إذا ظهر بملابس المجانين وخُف المجانين، قلت لنفسي، بقميص المجانين، وجاكت المجانين، وبنطلون المجانين. خِفت من ذلك كله. لم أعرف كيف أقابله، أو كيف أستقبله، وكيف أتعامل معه. قلت لنفسي: من الأسهل عليه أن يزورني، لا العكس. بمجرد أن يقدر على الحركة فسيكون أول من يظهر هنا. وفكرت في أن زيارةً كهذه سوف تنتهي بكارثة لا محالة. أقصيتُ الفكرة بعيدًا بعيدًا، وحاولت أن أفكر في شيء مختلف تمامًا، لكنني لم أستطع بطبيعة الحال. أمست فكرة زيارة باول لي كابوسًا. أحسست أن الباب قد ينفتح في أية لحظة ويدخل باول بملابس المجانين. وتخيلت كيف يعثر عليه الحراس هنا، ويلبسونه قميص المجانين، ويدفعونه بعصيهم إلى حيث أتى، إلى «الفناء الحجري». استقرت هذه الصورة المخيفة في ذهني. قلت لنفسي، إنه أرعن، ومن الممكن أن يرتكب خطأً ويزحف من تحت القضبان متسللًا إلى مبنى «هِرمان»، ثم يهجم على سريري ويعانقني. في حالاته الحرجة كان باول يُسرع إلى الشخص الآخر ويعانقه بعنفٍ لدرجة أن الآخر كان يعتقد أنه سيختنق في حضنه، ثم ينفجر باول شاكيًا، ويبوح بهمومه على صدر المُعانَق. كنت أخشى بالفعل أن يهجم عليَّ فجأة، ويعانقني، وينفجر شاكيًا على صدري. كنت أحبه، لكنني لم أرد أن يعانقني، وكنت أكره أن ينفجر شاكيًا على صدري وهو في التاسعة والخمسين أو الستين من العمر. في مثل هذه الحالات كانت الرعشة تسيطر على جسده كله، ثم يأخذ في الهذيان. كان الزَّبد يغطي فمه وهو يتشبث بقوةٍ بمَن أمامه إلى درجة لا يستطيع المرء تحملها، إلى أن يحرر المرء نفسه منه عنوةً. كنت غالبًا أدفعه عني، وهو ما لم أكن بالطبع أريده، ولكن لم تكن هناك إمكانيةٌ أخرى، وإلا اعتصرني. في السنوات الأخيرة ساءت حالات العناق هذه، وكان الأمر يحتاج إلى أقصى درجات إنكار الذات، وقدرة تفوق طاقة البشر حتى يحرر الإنسان نفسه من معانقته. كان من الواضح منذ فترة طويلة أن الموت يسرع الخطو نحو هذا الإنسان. أن يختنق باول في نوبةٍ مفاجئة من نوبات العناق كانت مسألة وقت لا غير. أنت صديقي الأوحد، الإنسان الوحيد لي في الدنيا، كان يتلعثم بهذه الكلمات أمام المُعَانَق الذي لم يكن يدري كيف وبأي طريقةٍ يستطيع تهدئة هذا المسكين. كنت أخشى معانقاته، وأخاف من أن يهجم باول عليَّ فجأةً من الباب. لكنه لم يجئ. كنت أخشى كل يوم، كل ساعة أن يهجم عليَّ باول، لكنه لم يهجم. من إرينا علمتُ أنه يرقد كالميت فوق سريره الخشبي في مبنى «لودفيغ»، رافضًا أن يتناول أي طعام، وهو ما أنهكه إنهاكًا تامًّا، إلى أن تركه الأطباء في حاله بعد أن دمروه تدميرًا كليًّا. كانوا في كل مرة يطلقون سراحه بعد أن ينحف ويغدو هيكلًا عظميًّا، لا يستطيع حتى النهوض على قدميه. عندئذ كان ينطلق في سيارة أحد إخوته، أو وحده في سيارة أجرة إلى بحيرة «تراون»، ويتقوقع على ذاته عدة أيام أو أسابيع في بيت ريفي من أملاك آل فيتغنشتاين. بموجب عقد صارم الدقة كان يحق له السكن هناك وحتى موته، في ذلك البيت العتيق الذي بُني قبل قرنين في وادٍ يقع بين «ألتمونستر» و«تراونكيرشين». هناك كانت تعيش خادمة عجوز وفيَّة، أظهرت طوال عمرها الولاء لآل فيتغنشتاين، كانت تفلح قطعةَ أرضٍ زراعية تغطي احتياجات أفراد العائلة عندما يقضون هناك إجازاتهم الريفية. في مثل هذه الحالات كانت زوجته إديت تبقى في فيينا. كانت تعلم أنه لا يستجم ويستعيد قواه إلا إذا كان البيت يخلو من غيره، يخلو منها أيضًا، منها هي التي ظلت دومًا أقرب الناس إليه، وبقيت حتى وفاته حبيبته العاشقة. اعتاد باول زيارتي عندما يجيء إلى بحيرة «تراون». ليس في الأيام الأولى، ولكن فيما بعد، عندما يستعيد ثقته بنفسه، ويُقدِم على المشي وسط الناس، عندما يتغلب على خوفه من نظرات الدهشة واللامبالاة التي يسددها إليه العابرون، عندما يكون راغبًا من جديد في التحدث والتفلسف؛ عندئذ كان يظهر في «ناتال»، ويجلس وحيدًا في الفناء — إذا سمح الطقس بذلك — ويسمع بدايةً وهو مغمض العينين أسطوانة، أُديرها له من الطابق الأول، يصل نغمها إلى الفناء واضحًا رائعًا عبر النوافذ المفتوحة على مصراعيها. كان يقول: موتسارت من فضلك. شتراوس من فضلك. بيتهوفن من فضلك. كنت أعرف أي أسطوانة هي الصحيحة لأضعه في الجو النفسي الملائم. ساعات طويلة ونحن نصغي معًا إلى موسيقى موتسارت وبيتهوفن، دون أن ننطق بكلمة واحدة. كنا نعشق ذلك. وجبة عشاء صغيرة من إعدادي كانت تنهي اليوم، ثم أقود السيارة مساءً عائدًا به إلى منزله. لن أنسى تلك الأمسيات الموسيقية التي قضيتها معه دون كلمةٍ واحدة. كان يحتاج إلى حوالي أسبوعين حتى يصل — على حد تعبيره — إلى حالته العادية. كان يمكث هناك حتى يثير الريف أعصابه، وتتملكه رغبة العودة إلى فيينا. وهناك، كانت تنقضي أربعة أو خمسة أشهر إلى أن تبدأ أعراض مرضه في الظهور من جديد، وهكذا دواليك. خلال السنوات الأولى من عمر صداقتنا لم يكن باول يتوقف عن احتساء الخمر، ما كان يُسرع بحالته المرضية بطبيعة الحال. عندما توقف عن الشراب — وهو ما فعله دون أدنى اعتراض — ساءت حالته على نحوٍ مخيف، ثم ما لبثت أن تحسنت تحسنًا بالغًا. ولم يعد باول إلى الكحول مرةً أخرى. لم أرَ مثله في حب الخمر. زجاجات شمبانيا بأكملها كان يعبها عبًّا في فندق «زَخر»، بل إن ذلك كان أمرًا عاديًّا تافهًا لا يستحق الذكر. في «أوبناوس» — تلك الحانة الصغيرة في شارع فايهبورغ — احتسى باول في أمسيةٍ واحدة عدة لتراتٍ من النبيذ الأبيض. أما العاقبة فكانت وخيمة. أعتقد أنه توقف عن الشرب قبل وفاته بخمس سنوات أو ست. لو لم يفعل ذلك لكان، كما أظن، تُوفي قبلها على الأرجح بثلاث سنوات أو أربع. أمرٌ كان سيمثل لي خسارةً لا تُعوَّض، فهو لم يتطور ويصبح فيلسوفًا حقيقيًّا إلا في سنوات عمره الأخيرة، بعد أن كان حتى ذلك الحين مستهلكًا للفلسفة ومستمتعًا بها فحسب، لكنه — وهذا ما قربه من القلوب — كان يستمتع بها على نحوٍ لم أرَ له مثيلًا في حياتي. في مبنى «هِرمان»، ثم في غمرة خوفي من الموت، اتضحت لي القيمة الحقيقية لعلاقتي مع صديقي باول التي كانت في الحقيقة هي الأثمن بين كل صداقاتي مع الرجال، والوحيدة التي تحمَّلتها أطول من مجرد فترة قصيرة عابرة، والوحيدة التي لم أكن أريد الاستغناء عنها تحت أي ظرف من الظروف. فجأةً أحسست بالخوف على هذا الإنسان الذي غدا قريبًا إلى قلبي، حتى إنني لا أستطيع تخيل فقده، سواء بموته أو موتي. ومثلما كان الموت خلال تلك الأسابيع والشهور في مبنى «هِرمان» قد بات أقرب إليَّ من حبل الوريد، وهو ما شعرت به في نهاية المطاف، كان باول في مبنى «لودفيغ» يدنو من أجله أيضًا. اجتاحتني فجأةً مشاعر الشوق إلى هذا الإنسان، الوحيد بين الرجال الذي كنت أستطيع التحدث معه بطريقةٍ تلائمني، الوحيد الذي كنت أجد معه موضوعًا مشتركًا ينمو معنا أثناء الحديث، بغض النظر عن طبيعة الموضوع، حتى ولو كان من أصعب الموضوعات. يا له من وقتٍ طويل مضى عليَّ وأنا أفتقد تلك الأحاديث، تلك القدرة على الإصغاء والتوضيح، وفي الوقت نفسه القدرة على التلقي، هكذا فكرت، يا لطول الوقت الذي مضى على أحاديثنا حول الموسيقيين فيبرن وشونبرغ وساتيه، حول أوبرا تريستان وإيزولده، والناي السحري، حول دون جوان والاختطاف من السراي. يا لطول الوقت الذي مضى على استماعنا في الفناء في «ناتال» لسيمفونية الراين بقيادة شوريشرت. لم أدرك إلا الآن، في مبنى «هِرمان»، ما حُرمتُ منه، ما أُقصيَ عني بسبب مرضي الأخير، وما لا أستطيع الاستغناء عنه أبدًا إذا أردت البقاء على قيد الحياة. لدي أصدقاء، نعم، خيرة الأصدقاء، ولكن ليس لدي صديق يُقارن بباول في سعة خياله ورهافة حسه. منذ تلك اللحظة بذلت قصارى جهدي حتى أُعيد — وبأسرع ما يمكن — علاقتي الشخصية مع رفيق روحي التعس إلى ما كانت عليه. عندما يخرج كلانا بعد شفائنا، قلت لنفسي، سأعوض كل ما فاتني خلال الإقامة في «تل حديقة الأشجار». كنت أشعر، كما يقولون، بحاجة لا تُشبَع إلى التعويض الذهني. موضوعات لا تُحصى تراكمت داخل رأسي في انتظار شريكٍ أتحدث معه. لعله كان لا يزال يرقد — كما أخبرَتني صديقتنا إرينا قبلها بأيام — على مضجعه الخشبي، لابسًا قميص المجانين، رافضًا أن يتناول أي طعام، ومحملقًا على الدوام في سقف الحجرة التي يشاركه فيها أربعة وعشرون آخرون. قلت لنفسي: لا بد أن أذهب إليه بأقصى سرعة. كانت موجة الحر قد بلغَت في تلك الأسابيع أشُدَّها، وكان إمرفول يعاني من وطأتها بشكلٍ خاص. توقف عن ممارسة لعبة ١٧ و٤، إذ لم يعد في مقدوره — هكذا بين عشيةٍ وضحاها — أن ينهض من فراشه. فجأةً نحل وجهه، ودون سابق إنذارٍ تضخمت أنفه، وبرزت عظام وجنتيه حتى بات وجهه غريبًا يُدخل الرهبة على النفوس، أما بشرته فشفَّت عن لونٍ رمادي. لم يكن إمرفول يخجل من قضاء معظم الوقت راقدًا في فراشه مدفونًا تحت الغطاء، ثم في نهاية الأمر كانت ساقاه، اللتان خَلَتا تمامًا من اللحم، تنفرجان عن آخرهما. لم يعد يستطيع أن يأخذ وعاء البول بنفسه، لذا، ولأنه كان يبول على الدوام، ولأن الممرضات لم يكن في مقدورهن بطبيعة الحال أن يتواجدن بصورةٍ مستمرة في حجرتنا، فقد كنت أنا الذي أناوله وعاء البول. لم يكن بمقدوره حتى أن يبول داخل الوعاء. كان يرقد هنالك فاغرًا فاه معظم الوقت وقد سال منه سائل أصفر يميل إلى الخضرة. وعند الظهيرة يكون قد لوَّن فرشه. على حين غرةٍ صدرت منه تلك الرائحة التي أعرفها جيدًا: رائحة المُحتضِر. صاحبنا طالب اللاهوت كان يوليني أنا في تلك الأيام اهتمامًا أكبر من إمرفول، كان يقضي معظم وقته قارئًا في كتابٍ لاهوتي، فهو لم يكن يقرأ — هكذا كان انطباعي — كتبًا أخرى. كان والداه، عندما يأتيان لزيارته من حي غرينتسينغ، يجلسان على حافة فراشه، ولم يكن كلامهما يحيد عن إفهامه أنه الوحيد الذي تبقَّى لهما في هذه الدنيا، وأن عليه ألا يفارقهما، مع أنني لم أكن أشعر أنه يسير في ذلك الطريق. ذات ليلةٍ نقلوا إمرفول بسريره إلى الممر. غلبني النوم، ولم أشهد موته. كان سريره مفروشًا بملاءةٍ نظيفة عندما ذهبت في الصباح الباكر وفي يدي جدول قياس درجة الحرارة إلى قسم الإسعاف لقياس وزني. كنت قد أصبحت جِلدًا على عظم، باستثناء وجهي القمري وبطني المنتفخ الذي تحوَّل إلى كرةٍ بشعة ميتة الأحاسيس، كرة — هكذا كان انطباعي — قد تنفجر في أي لحظة، وفوقها تراكمت النواسير الصغيرة. عندما استمعت من مذياع جاري طالبِ اللاهوت إلى وقائع سباق سيارات في مونتسا، تذكرت أن صديقي باول كان لا يخلص في عشق شيء، إلى جانب الموسيقى، إلا لرياضة سباق السيارات. في شبابه اشترك باول في سباقات السيارات، ومن بين أفضل أصدقائه كوكبةٌ من أبطال العالم في هذه الرياضة التي كانت تنفرني دائمًا، لأنني أعتقد أنه ليس ثمة ما هو أكثر سخافةً أو بلادة منها. ولكن، هكذا كان صديقي: مزودًا بكل الإمكانيات تقريبًا. لا يمكن تصور أن يكون هذا الإنسان هو نفسه الذي صدرَت منه تعليقات حول رباعيات بيتهوفن للوتريات أعتبرها هي الأذكى، أن يكون هو الإنسان الوحيد الذي استطاع أن يفك شفرة سيمفونية هافنر جاعلًا منها إحدى المعجزات الموسيقية التي أشعر بها منذئذ. هذا الإنسان كان مشجعًا متعصبًا لرياضة سباق السيارات، إنسان، وكما أعلم، كان هدير السيارات المجنونة السرعة يشنف أذنيه كأنغام الموسيقى. في أصياف كثيرة كان آل فيتغنشتاين — وكلهم ما زالوا من المشجعين المتعصبين لرياضة سباق السيارات — يدعون نجوم سباق السيارات إلى استراحاتهم على بحيرة تراون. وأتذكر أنني قضيت مع جاكي ستيوارت وغراهام هيل، هذين الشابين المرحين، وأيضًا مع يوخن رينت الذي لقي مصرعه بعدها بقليل في مونتسا، قضيت معهم بناءً على طلب باول أُمسياتٍ بأكملها وأنصاف ليالٍ في منزله على هضبة بحيرة تراون. الآن، وبعد أن تجاوز الستين، أصبح يرى الأمور على نحوٍ مختلف بالطبع، هكذا قال. إنه ينظر إلى رياضة سباق السيارات على أنها بليدةٌ وسخيفة حقًّا، وكما وصفتُ تلك الرياضة أمامه دومًا. ولكن سباقات الفورمولا ١ كانت قد تغلغلت إلى أعماقه على نحوٍ لا تخطئه العين، حتى كان من المستحيل الجلوس معه دون أن يذكر في وقتٍ ما رياضة سباق السيارات التي كان يعشقها. كان باول يجد دائمًا فرصةً يُقحم خلالها سباق السيارات في الحديث، طبعًا دون أن يستطيع التوقف فيما بعد، ما يدفع المرءَ إلى التفكير بعمقٍ في كيفية الحياد به عن هذا الموضوع الذي يستبد به فجأة، بل لقد تحول هذا الموضوع لديه إلى جنونٍ فظيع، رافقه مدى الحياة. كان يعشق أمرَين، كانا في الوقت نفسه مرَضَيه الرئيسيَّين: الموسيقى وسباق السيارات. نصف حياته الأولى وهبها لرياضة سباق السيارات، والنصف الثاني للموسيقى. والقوارب الشراعية. ولكن أين هو الوقت الذي تبقَّى لديه الآن كي يمارس عشقه الرياضي؟ عندما تعرفت إليه كانت عواطفه الملتهبة تجاه رياضة سباق السيارات قد انطفأت وأمست محض عواطف نظرية. في الواقع لم يعد باول منذ زمن بعيد يشترك في أي سباق، ولا كان يبحر بقاربه الشراعي. لم تعد لديه نقود، وكان أقاربه يعطونه بالكاد ما يبقيه على قيد الحياة، إلى أن أودعوه — عندما تمكن منه الاكتئاب — في مؤسسة تأمين في شارع «شوتن-رينغ»، تلك المؤسسة التي يُطلَق عليها برج الرينغ. هناك تحتَّم عليه فجأةً ودون سابق إنذار — إذ لم يتبقَّ أمامه خيارٌ آخر — أن يكسب لقمة عيشه بعرق جبينه. ولم يكن ما يكسبه من حمل الملفات وإعداد القوائم — مثلما يمكن للمرء أن يتخيل — كثيرًا. كان متزوجًا، وكان عليه أن يدفع إيجار شقته التي تقع في الجهة المقابلة للمدرسة الإسبانية لتعليم ركوب الخيل. وإيجارات ذلك الحي الراقي في قلب المدينة هي أغلى الإيجارات. السيد البارون، الذي كان حتى ذلك الوقت حرًّا من كل قيد، أصبح مجبرًا على التواجد في المكتب في تمام السابعة والنصف من كل صباح، وهناك كان يتعرض لكل ما يمكن أن يتعرض إليه موظف في مكتبٍ كهذا. إلا أن الواقع الجديد لم يفلَّ من عزيمته، بل كان يتندر عليه في أغلب الوقت، وكان خياله ينتعش ويزدهر عندما تنتابه الرغبة في تصوير الأوضاع في مؤسسة التأمين المحلية تلك، وهو ما كان يقوم به على خير وجه. بهذه الحكايات وحدها كان يستطيع تسلية أصحابه أمسيةً بطولها. كان يقول إنه سعيد لاختلاطه أخيرًا بالشعب، كي يراه على حقيقته، ويرى تصرفاته دون زيف. أعتقِدُ أن أقاربه استطاعوا إيداعه في تلك المؤسسة التأمينية فقط لأن لهم علاقاتٍ بالمدير، فبدون علاقات، ما كانت ستقبله شركة التأمين، لا سيما في عمره، فلا توجد شركة تعين رجلًا يقترب من الستين في عملٍ كهذا. أن يُجبر على العمل حتى يكسب نقودًا يدبر بها أمور حياته، كان شيئًا جديدًا تمامًا عليه، لذا تنبأ الجميع بفشله. لكنهم أخطئوا التوقع، فقد ظل باول إلى ما قبل وفاته بقليل — عندما استحال عليه الذهاب إلى شركة التأمين في «شوتن-رينغ» — يذهب في الموعد المحدد، وينصرف في الموعد المحدد، كما يليق بأي موظف محترم. أنا موظف مثالي بكل معنى الكلمة، كان يقول ذلك دائمًا، ولم أشكَّ أبدًا في صحة قوله. إديت، زوجته الثانية — كان قد تعرف إليها، حسبما أعتقدُ، في برلين، وذلك، كما أظن، قبل أو بعد أو أثناء أحد عروض الأوبرا — إديت هي ابنة شقيق الموسيقار جوردانو الذي ألَّف مقطوعة «أندريه شانيه». أقارب زوجته كانوا يعيشون أساسًا في إيطاليا، وإلى هناك كانت تسافر كل عام، مع باول أو بدونه، وغالبًا بدون باول، زوجها الثالث. هناك كانت تستجم وتستعيد قواها. كنت أكن لها مشاعر إعزاز عميقة، وأبتهج لدى رؤيتها في كل مرة وهي تشرب قهوتها في مقهى «بروينرهوف». كنت أتبادل معها ألطف الأحاديث، فهي — بغض النظر عن أنها ابنة بيت من أعرق البيوتات — ذكيةٌ ذكاءً يفوق المتوسط بكثير، كما أنها تميزت بالجاذبية، وباعتبارها زوجة باول فيتغنشتاين كان بديهيًّا أن تتميز بالأناقة الراقية أيضًا. لم تشتكِ زوجته أبدًا في تلك السنوات التي مرت عليها، بدون شك، مريرةً كل المرارة، بعد أن ساءت حالة مرض زوجها بسرعةٍ فائقة، حتى إنه اقترب حثيثًا من موته الذي بدا محتومًا، لا سيما عندما تكررت نوباته على فتراتٍ زمنية آخذة دومًا في التناقص، لدرجة أنه كان يقضي في مصحة «الفناء الحجري» وفي مستشفى «فاغنر ياوريغ» في لنتس وقتًا أطول مما يقضيه في فيينا أو على بحيرة «تراون». لم تشتكِ أبدًا، رغم أن الظروف المحيطة بها، وحسبما أعرف، كانت بالغة القسوة. أحبَّت باول، ولم تتركه وحيدًا دقيقةً واحدة، مع أنها عاشت منفصلةً عنه في أغلب الأحيان؛ فهي تعيش في «شتالبورغ-غاسه»، في تلك الشقة الصغيرة التي بُنيَت مطلع القرن العشرين، بينما كان زوجها في قميص المجانين يقضي أيامه البائسة حيًّا لا يُرزَق في إحدى الصالات البشعة التي تمتلئ بأمثاله في «الفناء الحجري»، أو في مستشفى «فاغنر ياوريغ» في لنتس الذي كان معروفًا في الماضي باسم «نيدرنهارت». لم تنفجر نوباته دون سابق إنذار، بل كانت تُعلِن عن قدومها دائمًا قبلها بأسابيع، فتبدأ يداه في الارتعاش، ولا يعود بمقدوره إتمام جملةٍ بدأها، بالرغم من أنه لم يكن يتوقف عن الكلام، ساعاتٍ بأكملها وهو يتحدث دون أن يستطيع أحدٌ مقاطعته. كانت النوبات تعلن عن نفسها عندما يختل سيره فجأة، فيسير مثلًا عشر خطوات أو إحدى عشرة خطوة بسرعة فائقة، ثم ثلاث أو أربع أو خمس خطوات ببطءٍ ملفتٍ للنظر؛ عندما كان يبادر الناس بالحديث في الشارع دون سابق معرفة ودون سبب مفهوم، أو عندما يجلس مثلًا في فندق «زَخر» ويطلب في الساعة العاشرة صباحًا زجاجة شمبانيا، إلا أنه لا يشربها، بل يتركها تفقد برودتها ويمضي إلى حال سبيله. ولكن كل تلك الأشياء تافهة ولا تستحق الذكر. الوضع يسوء حقًّا عندما يقذف الصينية بما عليها من طعام الفطور — بعد أن يكون النادل قد أحضرها لتوه وبناءً على طلبه — في وجه الحائط المكسو بالورق الحريري. في ساحة «بيترس-بلاتس» في قلب فيينا ركب باول ذات مرة — وكما تناهى إلى علمي — سيارة أجرة، ولم ينطق سوى بكلمة واحدة: باريس؛ فما كان من السائق — الذي كان يعرفه — إلا أن انطلق بالفعل إلى باريس، حيث كان على إحدى عمَّاته المقيمة هناك أن تتولى دفع الأجرة. أكثر من مرة جاء إليَّ أنا أيضًا، إلى ناتال، مستقلًّا سيارة أجرة، ليقضي معي نصف ساعة لا غير، فقط كي أراك، كما كان يقول، ثم يعود ثانيةً إلى فيينا، أي إنه كان يقطع مسافةً تبلغ ٢١٠ كم في الاتجاه الواحد، أي إجمالًا ٤٢٠ كم. عندما ينضج، على حد تعبيره، لم يكن بمقدوره الإمساك بكأس، ففي كل دقيقة كان من المحتمل أن يفقد السيطرة على نفسه، ثم ينفجر باكيًا. كان باول يقابل الناس مرتديًا أفخر الثياب وأكثرها أناقة، ثيابًا ورثها من أصدقائه الراحلين، أو وهبه إياها أصدقاؤه الأحياء. هكذا كان يجلس على سبيل المثال في فندق «زَخر» في العاشرة صباحًا مرتديًا بدلةً بيضاء، وفي الحادية عشرة والنصف ببدلةٍ رمادية مقلمة في مقهى «بروينرهوف»، ثم في الساعة الواحدة والنصف ظهرًا في فندق «أمباسادور» ببدلةٍ سوداء، ثم في الثالثة والنصف عصرًا في «زَخَّر» مرةً أخرى ببدلةٍ بلون صفار البيض. حيثما يذهب أو يقف، كان يرفع صوته الواهي بغناء افتتاحياتٍ أوبرالية، ليس هذا فحسب، بل كان كثيرًا ما يغني نصف أوبرا «زيغفريد» أو نصف «فالكوره»، غير عابئ بمن يحيط به. في الشارع كان يخاطب أناسًا غرباء عنه تمامًا، سائلًا إياهم إذا كانوا يشاطرونه رأيه في أن سماع الموسيقى أضحى لا يُحتمل بعد وفاة كليمبرر، وأغلب مَن كان يسألهم لم يسمعوا في حياتهم عن المايسترو كليمبرر، ولا يفقهون شيئًا في الموسيقى، لكن ذلك لم يسبب له أي إزعاج. كان يحدث أن يخطر على باله أن يقف في منتصف الشارع ويلقي محاضرةً عن سترافينسكي أو عن أوبرا «امرأة بلا ظلال»، ثم يعلن نيته عرض «امرأة بلا ظلال» قريبًا على بحيرة تراون، على أن يعزف موسيقاها أفضل العازفين في العالم. كانت «امرأة بلا ظلال» لريشارد شتراوس أحب الأوبرات إلى نفسه، إذا غضضنا النظر عن أوبرات ريشارد فاغنر بالطبع. وبالفعل كان باول يسأل أشهر المغنيات والمغنين عن المكافآت التي يتقاضونها لقاءَ استضافتهم على بحيرة تراون ليقدموا «امرأة بلا ظلال». سأبني خشبة مسرح عائمة، كان كثيرًا ما يقول، وستعزف الفرقة الفيلهارمونية على خشبةٍ أخرى عائمة. لا بد من عرض «امرأة بلا ظلال» على البحيرة، لا بد أن تُمثل بين «تراونكيرشن» و«تراونشتاين». وفاة كليمبرر أصابت مخططاتي في مقتل، مع المايسترو كارل بوم ستصبح «امرأة بلا ظلال» مدعاةً للرثاء. ذات مرة طلب من كنيتسه، أشهر الخياطين في فيينا وأغلاهم، تفصيل بدلتَي سهرة (فراك) بيضاوين. عندما انتهى التفصيل بعث باول برسالةٍ إلى شركة كنيتسه يخبرهم أنه من العبث أن يرسلوا له بدلتَي سهرة بيضاوين، وهو لا يقدر على تفصيل بدلةٍ واحدة سوداء عندهم، هل تعتقد الشركة أنه مجنون أم ماذا؟ لكنه في الحقيقة ظل لمدة أسابيع يذهب إلى شركة كنيتسه، لا لسبب سوى طلب تغييرات دائمة في البدلتين اللتين أمر بتفصيلهما. ليس لأسابيع، بل لشهور كان باول يعذب الشركة برغباته في تغيير شيء ما في البدلتين، ثم في اللحظة التي انتهت فيها الشركة من تفصيل البدلتين البيضاوين، أنكر تمامًا أن يكون قد طلب منهم في يوم ما أن يفصلوا له بدلتَي فراك، فراك أبيض، ماذا يفكر هؤلاء، لست بمجنون حتى أطلب تفصيل بدلتي فراك، ولونهما أبيض، وفوق هذا وذاك عند كنيتسه! طالبت شركة كنيتسه — مدعومة بأكوام من الأدلة — بأجرة التفصيل التي تحتم على عائلة فيتغنشتاين دفعها بالطبع، لأن باول كان مفلسًا. لا حاجة إلى القول إن باول أُودع إثر هذه الحادثة في «الفناء الحجري» مرةً أخرى. كان أقرباؤه يفضلون رؤيته هناك على أن يتمتع بالحرية التي كان — في نظرهم — يستغلها أبشع استغلال. كانوا يكرهونه، رغم أنه، أو لأنه كان أكثر أفراد العائلة قربًا إلى قلبي. كان غريبًا أن نتواجد معًا، على الجبل الذي اختاره لنا القدر، جبل فيلهلمينه. أنا في القسم الذي يحق لي، قسم أمراض الرئة، وهو في القسم الذي يحق له، قسم المجانين. لم يكن باول يكل من محاولة أن يعدَّ لي على أصابعه المرات التي كان فيها نزيلًا في «الفناء الحجري» أو نيدرنهارت (مستشفى فاغنر ياوريغ)، إلا أن أصابع يديه لم تكفِ، ولم يستطع أبدًا حساب الرقم الصحيح. وبينما لم تلعب النقود أي دورٍ في نصف حياته الأولى، لأنها كانت تحت أمره، وتحت أمر عمه لودفيغ أيضًا، بكميات ضخمة — وكما بدا لكليهما — لن تنفد أبدًا، فقد لعبت في النصف الثاني من حياته — حيث لم يعد يملك أي نقود — الدور الأعظم. سنوات عديدة وباول يسلك في النصف الثاني من حياته كما كان يسلك في الأول، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى قطيعة عظمى مع أقربائه، بعد أن أصبح من غير المسموح له — على الأقل من الناحية القانونية — أن يطلب منهم أي شيء. عندما أفلس تمامًا، هكذا بين عشية وضحاها، قام بنزع اللوحات من جدران مساكنه، وباعها بأبخس الأثمان إلى تجار عديمي الضمير في فيينا وغموندن. كذلك اختفت معظم قطع أثاثه الثمينة في جوف عربات النقل العديدة التي أرسلها ما يُطلَق عليهم تجار الأنتيكات المهرة الذين لم يكونوا على استعداد لإعطائه سوى أقل القليل مقابل أنفس النفائس. كانوا لا يعطونه مقابل كومودينو من الطراز الجوسفيني أكثر من ثمن زجاجة شمبانيا، كان يشربها على الفور مع بائع الأنتيكات الذي اشترى الكومودينو. في نهاية المطاف كان لا يني يعرب عن رغبته في السفر على الأقل إلى فينيسيا، حتى يستطيع أن يشبع نومًا مرةً في فندق «غريتي»، ولكن أوان مثل هذه الرغبات كان قد فات وولى. عن إقامته في «الفناء الحجري» وفي مستشفى «فاغنر ياوريغ» حكى لي باول أشياء لا تُصدَّق، وتستحق أن تُروى للآخرين، ولكن مكانها ليس هنا. كنتُ صديقًا للأطباء طالما كان معي نقود، كان باول يقول لي كثيرًا، لكن عندما تخلو يدك من المال، فإنهم يعاملونك كما يعاملون الخنزير. وضع الممرضون السيد البارون في القفص، أي في واحد من مئات الأسرة المُسيَّجة بالقضبان الحديدة، ليس فقط في كل جوانبها، بل أيضًا في سقفها. يظل باول سجين القفص حتى تنكسر إرادته، وينهار تمامًا بعد أسابيع من العلاج بالضربات والصدمات. كنت أخاف من رؤيته ثانيةً. إلى أن جاء اليوم. بين الغداء ووقت الزيارات، حيث كان يسود الهدوء التام في مبنى «هِرمان»، استيقظت على يديه التي وضعها على جبهتي. وقف هناك وسألني إذا كان من الممكن أن يجلس. جلس على فراشي، ثم انتابته فجأةً موجة من الضحك المتشنج، لأنه استغرب هو أيضًا أن يكون معي نزيلًا على جبل فيلهلمينه، أنت في المكان المناسب لك، قال لي، وأنا في المكان المناسب لي. لم يمكث سوى فترة قصيرة. تواعدنا على أن نكثر من اللقاء، أنا أذهب إلى «الفناء الحجري» مرة، وهو يجيء من الفناء الحجري إلى «تل حديقة الأشجار» لزيارتي، أنا من مبنى «هِرمان» إلى مبنى «لودفيغ»، وهو من مبنى «لودفيغ» إلى مبنى «هِرمان». بيد أننا لم ننفذ ما عزمنا عليه سوى مرة واحدة. تقابلنا في منتصف الطريق بين مبنى «هِرمان» ومبنى «لودفيغ»، وجلسنا على مقعد يتبع منطقة مرضى الرئة. مهزلة، مهزلة! قالها باول وشرع في بكاء لم يستطع أن ينهيه. مر وقت طويل وجسمه كله ينتفض من البكاء انتفاضًا. رافقتُه حتى مبنى «لودفيغ» حيث كان حارسان ينتظرانه أمام الباب. عدت إلى مبنى «هِرمان» والحزن يكاد يمزق قلبي. هذه المقابلة على المقعد — كل منا في الزي الواجب عليه ارتداؤه، أنا في زي مرضى الرئة، وهو في زي مجانين «الفناء الحجري» — تركت أعمق الأثر فيَّ. كان من الممكن أن نتقابل ثانيةً بعد هذا اللقاء، لكننا لم نتقابل، لأننا لم نرد أن نعرض أنفسنا لهذا العبء الذي يكاد لا يحتمل. شعر كلانا أن هذه المقابلة جعلت لقاءً ثانيًا على جبل فيلهلمينه يدخل في عداد المستحيلات. لم نتكلم أبدًا عن هذا الموضوع. عندما خرجت أخيرًا من مبنى «هِرمان» ولم أمت، كما تنبئوا لي، ورجعت إلى ناتال، لم أسمع لفترة طويلة شيئًا عن باول. بذلت جهدًا عظيمًا حتى أصل إلى حالتي الطبيعية. لم يكن من الممكن أن أبدأ عملًا جديدًا، لكنني بذلت جهدي في إعادة النظام إلى المنزل الذي أُهمل إلى حد كبير أثناء غيابي، ثم ببطء، هكذا قلت لنفسي، ببطء شديد يمكنني أن أهيئ الظروف التي تسمح لي في يوم ما أن أبدأ عملًا جديدًا. إن المريض الذي ابتعد شهورًا طويلةً عن بيته، يعود إنسانًا يستغرب كل شيء. عليه أن يتصالح تدريجيًّا وبمشقة بالغة مع كل شيء، كما ينبغي عليه أن يستعيد كل شيء من جديد. لقد فقد كل شيء في تلك الأثناء، وعليه الآن أن يجد ما فقده. ولأن المريض دائمًا وأبدًا ما يُترك وحده — أي ادعاء آخر هو محض أكاذيب — فإنه يبذل جهدًا وطاقة تفوق قدرة البشر، إذا ما أراد أن يبدأ حيث توقف قبلها بشهور، أو كما في حالتي التي تكررت مرارًا، قبلها بسنوات عدة. هذه الأمور لا يفهمها السليم، إنه يفقد صبره على الفور، ويُثقل بنفاد صبره على المريض العائد ثقلًا عظيمًا، في حين أنه يريد أن يخفف عنه. لم يحدث أبدًا أن تعامل الأصحاء بصبر مع المرضى، ولا المرضى مع الأصحاء بطبيعية الحال، علينا ألا ننسى ذلك. فالمريض يتوقع من غيره الكثير، أكثر بكثير من السليم، الذي لا يطلب من غيره الكثير لأنه سليم. المرضى لا يفهمون الأصحاء، ولا الأصحاء يفهمون المرضى بالطبع، هذا الصراع كثيرًا ما يكون قاتلًا، صراعٌ لا يستطيع المريض أن يواجهه، ولا السليم أيضًا، الذي غالبًا ما يمرض بسبب صراع كهذا. ليس سهلًا أن تتعامل مع مريض عاد فجأة إلى حيث انتزعه المرض قبل شهور أو أعوام من كل شيء؛ وفي أغلب الأحيان لا يكون للأصحاء رغبة في تقديم يد العون إلى المريض، إنهم، في الحقيقة، ينافقون على طول الخط متظاهرين برحمة لا يشعرون بها، ولا يريدون أن يكتسبوها، أما نفاقهم فهو يضر المريض، ولا يفيده أدنى إفادة. المريض، في الحقيقة، وحيد دائمًا، والعون الذي يُقدم له من الخارج، يتضح فيما بعد — أكاد أقول دائمًا — أنه عقبة فحسب، أو على الأقل مضايقة، وكما نعلم جميعًا. يحتاج المريض إلى المساعدات التي لا تكاد تُلحظ، والتي لا يقدر الأصحاء على تقديمها. إنهم يضرون بالمريض في نهاية الأمر، بنفاقهم الأناني الذي يدَّعي المساعدة، ويصعبون عليه كل شيء، بدلًا من التخفيف عنه. المساعدون لا يساعدون المريض في أغلب الأحيان، بل يضايقونه. لكن المريض العائد إلى بيته لا يتحمل أي مضايقة. فإذا لفت المريضُ انتباهَهم إلى أنهم في الحقيقة يضايقونه بدلًا من أن يساعدونه، فإنه يتلقى صدمةً شنيعة من أولئك الذين يدَّعون تقديم العون له فحسب. يتهمونه بالتكبر، والأنانية المفرطة، بينما الأمر بالنسبة له دفاع عن وجوده. إن عالم الأصحاء يستقبل المريض العائد إلى منزله بلطف ظاهري فقط، برغبة ظاهرية في تقديم العون، باستعداد ظاهري للتضحية؛ ولكن إذا وضع هذا اللطف على المحك الحقيقي، وكذلك تلك الرغبة في تقديم العون، وذلك الاستعداد للتضحية، فعلى الفور تنكشف عن ظاهريتها، وادعائها. يستطيع المريض الاستغناء عن كل ذلك. ولكن ليس هناك بطبيعة الحال أصعب من اللطف الحقيقي والرغبة الحقيقية لتقديم العون، والاستعداد الحقيقي للتضحية، كما أن الحدود الفاصلة بين الحقيقي والظاهري يصعب تحديدها هنا أيضًا. لفترة طويلة نعتقد أننا أمام شيء حقيقي، بينما هو في الواقع ظاهري وقفنا أمامه عميانًا طوال الوقت. إن نفاق الأصحاء تجاه المرضى هو أكثر أنواع النفاق شيوعًا. ففي الحقيقة لا يريد السليم أن يتعامل من قريب أو بعيد مع المريض، وهو لا يحب على الإطلاق — وأنا أتحدث هنا عن الذين يعانون مرضًا عضالًا — رؤية المريض وهو يعود فجأةً إلى سابق حالته الصحية. إن الأصحاء هم الذين يعيقون عودة المرضى إلى صحتهم، أو على الأقل عودتهم إلى حالتهم الطبيعية، أو على الأقل تحسن حالتهم الصحية. لا يريد السليم — إذا كان صادقًا مع نفسه — أن يتعامل مع المريض، فهو لا يريد أن يتذكر المرض ونتيجته الحتمية: الموت. يريد السليم أن يبقى مع نفسه ومع أمثاله. إنه في الحقيقة لا يحتمل وجود المريض. كان دائمًا من الصعب عليَّ أنا شخصيًّا أن أعود من عالم المرضى إلى عالم الأصحاء. في زمن المرض، أي في الوقت الانتقالي، يُعرِض الأصحاء عن المريض كل الإعراض، ييأسون من شفائه، متبعين في ذلك غريزة البقاء لديهم. أما الآن، فإنهم يرون فجأةً ذلك الذي شطبوه من حساباتهم واعتبروه منتهيًا يعود مرةً أخرى مطالبًا بحقوقه. وبالطبع فإنهم يُفهِمونه على الفور أنه في حقيقة الأمر لا يتمتع بأي حقوق. لم يعد للمرضى، في نظر الأصحاء، أي حقوق. لا أتحدث هنا إلا عن الذين يعانون مرضًا عضالًا، الذين يرافقهم المرض طيلة حياتهم، كما هو الحال معي ومع باول فيتغنشتاين. يصبح المرضى قاصرين بسبب مرضهم، لا يُسمح لهم إلا بتناول خبز الرحمة الذي يتفضل به الأصحاء. يخلي المريض مكانه عندما يمرض، وها هو الآن يطالب بمكانه السابق، وهو ما ينظر إليه الأصحاء دائمًا على أنه من أفعال الوقاحة المطلقة. وهكذا فإن المريض العائد يشعر دائمًا أنه يزاحم فجأة للوصول إلى مكان ليس له فيه ناقة ولا جمل. العملية معروفة في العالم كله: المريض يذهب ويختفي، والأصحاء يحتلون على الفور مكانه، بل ويعلنون حيازتهم للمكان؛ وفجأة يعود المريض الذي لم يمت، كما اعتقدوا، ويريد أن يعود إلى مكانه السابق، ويحتله، ما يثير غضب الأصحاء، لأنهم يشعرون مرة أخرى بتقييد حريتهم بسبب ظهور ذلك الذي تخلصوا منه. ظهور المريض يخالف إرادتهم عظيم المخالفة، ويتطلب من المريض طاقة تفوق طاقة البشر، أعني أن يعود إلى مكانه السابق ويحتله. من ناحية أخرى نعلم أيضًا أن الذين يعانون مرضًا عضالًا يبدءون على الفور، بمجرد عودتهم إلى المنزل، في استعادة ما يملكونه دون أدنى اعتبار لأحد. أحيانًا تكون لديهم القوة على إزاحة الأصحاء من طريقهم، والتخلص منهم كليةً، نعم، بل وقتلهم. لكن هذه حالات نادرة للغاية، أما الحالة التي تحدث يوميًّا فهي ما شرحته آنفًا: المريض العائد إلى بيته لا يريد إلا أن يعامله الآخرون بالحيطة والاحتراس، لكنه لا يجد في نهاية الأمر سوى النفاق الوحشي، الذي يكشفه المريض على الفور ببصيرته. لا بد من مقابلة المريض العائد إلى منزله، أعني المريض الذي يعاني مرضًا عضالًا، بالحيطة والاحتراس. ولكن هذا أمر صعب للغاية، ويندر أن يحدث. على الفور يعطيه الأصحاء الإحساس بأن مكانه لم يعد بينهم، ويحاولون بكل السبل — في حين أنهم يدَّعون العكس — أن يطردوا المريض العائد إلى بيته. إلا أنني لم أواجه كل هذه الصعوبات آنذاك، لأنني عدت إلى بيت يخلو تمامًا من الناس. أما باول، الذي خرج من المصحة أيضًا في تلك الأثناء، فقد عاد لحسن الحظ إلى زوجته إديت. ربما لم أتعرف أبدًا في حياتي إلى إنسان خدوم مثل زوجة صديقي باول التي ظلت تحوطه بحنانها إلى أن أصيبت ذات يوم، قبل وفاته بنصف عام، بجلطة في المخ، بقيت بعدها تعاني الشلل الجزئي. بعد إقامة طويلة في المستشفى كانت — بين الحين والآخر — تظهر طيلة أشهر في مركز المدينة، إلا أنها لم تعد بطبيعة الحال إديت السابقة. أمست أكثر خجلًا من ذي قبل، وكانت تحاول دومًا أن تتسوق في أقرب مكان من منزلها. ولأن الطبخ كان يجهدها كثيرًا، كانت تتناول وجبة الغداء في فندق «غرابن» في «دوروتير-غاسه» حيث كان الطعام زهيد السعر، وكان يتميز — عكس اليوم — بالجودة الفائقة أيضًا. بعد أن توفي صاحبا فندق «غرابن»، اللذان كانا يمتلكان أيضًا فندق «ريغينا» وفندق «رويال»، وكلاهما توفي بالمرض المسمى بمرض باركنسون، بات الطعام في مطاعم كل هذه الفنادق الثلاثة لا يؤكل، لذلك لم أعد منذ زمن طويل أذهب إلى هناك، وهو أمر مؤسف، لأن المرء يجلس، خصوصًا في فندق «غرابن»، جلسة مريحة للغاية. لاقت إديت ذات يوم نَحبها، ووجد صديقي باول نفسه وحيدًا، فتدهورت حالته بسرعة شنيعة. أحيانًا كان يبدو لمن يراه وكأنه باول المعهود، لكن ملامح الموت، كما يقولون، ارتسمت على وجهه، وكان يعرف أنه لم يتبقَّ له ما يخسره في هذه الدنيا. حاول مرارًا أن يستجم في منطقة «زالتسكامرغوت»، لكن دون جدوى. لم يعد باول يستطيع أن يحيا دون إديت، وهو الذي كان يتركها أثناء حياتها معظم الوقت وحيدةً في الشقة التي تقع فوق مقهى «بروينرهوف». كان يولد انطباعًا بالضياع، ولم تعد تجدي معه أي مساعدة. كثيرًا ما كنت أصطحبه مع بعض الأصدقاء إلى أحد المطاعم، حتى، مثلما يُقال، نُسرِّي عنه قليلًا، ولكن دون طائل. دعاني هو عدة مرات مع أصدقائي بعد وفاة زوجته إلى فندق «زَخَّر» حيث طلب الشمبانيا كعادته، إلا أن النتيجة لم تكن سوى الوقوع في هوة اكتئاب أعمق. أخذ يُكثر من السفر وحده إلى الأماكن التي كان يقصدها في السنوات الأخيرة مع زوجته إديت، هذا في الأوقات التي لم يكن باول نزيلًا في «الفناء الحجري» أو في مستشفى «فاغنر ياوريغ» (كان العالم النفسي فاغنر ياوريغ الذي سُميت المصحة النفسية على اسمه أحدَ أقرباء باول أيضًا)، لكنه لم يجنِ من وراء ذلك إلا أوخم العواقب. كان يسير هائمًا على وجهه، منهارًا، لا يجد سندًا لدى أي إنسان، وإذا رآه المرء من بعيد، وجدَ اليأس مخيمًا على ملامحه. كانت الأماكن التي يعيش فيها — على التل بين ألتمونستر وتراونكيرشن، وفي المنزل الذي يمتلك نصفه أحدُ أشقائه الذي يعيش معظم الوقت في سويسرا — كانت دائمًا، أي طوال العام، باردةً إلى درجة أن المرء يشعر بمجرد دخوله أنه سيموت بردًا في غضون لحظات معدودة. بالإضافة إلى ذلك عُلقت على الحيطان العالية، التي كانت الرطوبة قد غزتها حتى السقف، أربعُ لوحات كبيرة سقيمة الذوق، يرتع الفطر في أنحائها، لوحات من عصر غوستاف كليمت، وإلى جوارها لوحة بفرشاة كليمت نفسه، كلَّفه بها آل فيتغنشتاين المنتجين للأسلحة، وكما فعلوا مع أساطين فن الرسم في عصرهم. كانت تلك هي الموضة السائدة أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لدى من يُطلق عليهم «الأثرياء الجدد» الذين كانوا يكلفون الرسامين برسمهم، ليظهروا بمظهر مشجعي الفنون ورعاتها. في الحقيقة لم يقع الفن أبدًا في دائرة اهتمامات آل فيتغنشتاين أو أمثالهم، لكنهم أرادوا أن يكونوا رعاةً للفن. في أحد أركان الغرفة احتل بيانو كبير من ماركة «بوزندورفر» مكانَه، وعليه — وكما يمكننا أن نتخيل — تناوب العزف كل مشاهير العزف المنفرد. كانت الغرفة باردةً إلى درجة التجمد، بالرغم من وجود مدفأة حجرية ضخمة في صدر هذه الغرفة الواقعة في الطابق الأرضي، لكنها كانت معطلةً منذ سنين طويلة، ولذلك لم تُستخدم في التدفئة منذ سنين طويلة، وهو ما جعل تأثيرها في الغرفة أقرب إلى الثلاجة منها إلى الدفاية. لم أرَ باول وإديت جالسين بالقرب من هذه المدفأة إلا وهما متدثران بمعاطف من الفرو. كان لا بد من إشعال المدفأة في المنزل الواقع في «زالتسكامرغوت» حتى شهر يونيو، ثم ابتداءً من منتصف أغسطس. إنها منطقة باردة وموحشة، ومن المفارقات الشاذة أن يطلق الناس على هوائها نسيم الصيف. لكن منطقة زالتسكامرغوت ليست باردةً وموحشة فحسب، إنها سم لكل مرهفي الحس. كل سكان زالتسكامرغوت يعانون أمراض الروماتيزم، وفي الشيخوخة تصيبهم جميعًا الالتواءات والتشوهات. على الإنسان أن يكون في عنفوان قوته حتى يستطيع العيش هنا. زالتسكامرغوت منطقة رائعة لتمضية عدة أيام، إلا أنها مدمرة لمن يبقى بها مدة أطول. كان باول يعشق هذه المنطقة لأنه قضى فيها طفولته، غير أنها كانت تصيبه باكتئاب يزداد مع الأيام عمقًا. كان يقصدها من فيينا آملًا في أن تتحسن حالة رئته، إلا أن رئته لم تكن تزداد هناك إلا سوءًا. ومع الأيام كانت وطأة المنطقة على روحه وجسده تزداد ثقلًا. ولم تُجدِ التمشيات التي قمتُ بها مع باول آنذاك في ألتمونستر شيئًا، صحيح أننا خضنا في أحاديث مثالية، ولكن بعد وفاة زوجته كانت كل الأحاديث تصل إلى طريق مسدود، أو على أي حال كانت الأحاديث مختلفةً عن المعتاد، كأنها أحاديث مقطوعة. كانت ضحكته، عندما يضحك، منتزعة قسرًا. وبغض النظر عن وفاة زوجته وحبيبته، كان باول قد وصل إلى عمرٍ يشعر فيه بأن كل شيء — مقارنةً بالسابق — قد أصبح فجأةً صعبًا صعوبةً مزدوجة. في الغرفة التي كنا نجلس فيها كان الهواء رطبًا وفاسدًا لدرجة أحسست معها أنني سأختنق حتمًا، بالرغم من سطوع الشمس في الخارج. أدركت لماذا لم يسكن مع زوجته في هذه الشقة إلا نادرًا، ولماذا كان يفضل عليها في أغلب الأحيان البنسيون الصغير في الشارع الرئيسي. هناك لم يكن عليهما أن يقوما بكل شيء، وابتداءً من عمر الستين لا يرغب أي إنسان في أن يفعل كل شيء بنفسه، وإديت كانت قد بلغت أعتاب الثمانين عند وفاتها. أتذكر أنه — يا للعبث — قام بالإبحار في قارب شراعي على صفحة بحيرة تراون معي ومع أخي. استولت الحماسة على المريض مرض الموت، واستعاد حالته السابقة، بينما أخذت أنا ألعن هذه الرحلة البحرية بسبب ارتفاع الأمواج. شجع أخي باول على القيام برحلات أخرى بالقارب الشراعي، إلا أن ذلك لم يتحقق. كان باول أضعف من أن يقوم بذلك. وإذا كان باول قد شعر بالسعادة بسبب النزهة بالقارب الشراعي على البحيرة، فقد أُصيب بالاكتئاب بمجرد أن حط على الشاطئ، مدركًا أنها نزهته الأخيرة. في كل موقف وكل مناسبة كان يقول: إنها المرة الأخيرة، حتى أصبح ترديد هذه الجملة من لوازمه. عندما يزورني أصدقاء لنقوم بتمشية، ثم ينضم إلينا باول، فقد كان يرافقهم ويرافقني، رغمًا عنه، إلا أنه كان يفعل. أنا أيضًا لست بمشَّاء، طيلة حياتي وأنا أذهب للتمشية رغمًا عني، ذهبت دائمًا رغمًا عني للتمشية، ولكنني أذهب مع الأصدقاء للتمشية، وأتمشى بطريقة تجعلهم يعتقدون أنني أعشق المشي، لأنني أتمشى بطريقة مسرحية تجعلهم يتعجبون. لم أكن في حياتي مشاءً، ولا محبًّا للطبيعة، ولا خبيرًا بها. ولكن إذا كان عندي أصدقاء فإنني أسايرهم على نحو يجعلهم يظنون أنني مشاءٌ، ومحبٌّ للطبيعة، وخبيرٌ بها. أنا لا أفقه في الطبيعة شيئًا، بل إنني أكرهها، لأنها تغتالني. أحيا في الطبيعة لأن الأطباء قالوا لي إن عليَّ — إذا أردت مواصلة الحياة — أن أحيا في الطبيعة، وليس لأي سبب آخر. في الواقع أنا أحب أي شيء إلا الطبيعة، الطبيعة تخيفني، لقد خبرت دهاءها وقساوة قلبها في بدني وفي روحي، ولأنني لا أستطيع تأمل جمالها إلا مقرونًا بدهائها وقسوة قلبها، فإنني أخشاها وأتجنبها حيثما وجدت إلى ذلك سبيلًا. أنا عاشق للمدن، وأحتمل وجود الطبيعة فحسب، هذه هي الحقيقة. إنني أعيش رغمًا عني في الريف، لأنه معادٍ لي على وجه الإجمال. بطبيعة الحال كان باول مثلي عاشقًا للمدن حتى أقصى درجات العشق، ومثلي لم ينل من الطبيعة إلا الإجهاد. ذات مرة كنت أريد شراء نويه تسوريشر تسايتونغ لأنني أردت أن أقرأ مقالًا عن أوبرا «زائيدة» لموتسارت أُعلن عن نشره في الصحيفة، ولأنني اعتقدت أنني لن أحصل على نويه تسوريشر تسايتونغ إلا في سالزبورغ التي تبعد عن هنا ٨٠ كم، فقد سافرت بسيارة إحدى الصديقات، معها ومع باول، إلى سالزبورغ، إلى تلك المدينة المشهورة في العالم كله بمهرجانها الفني. غير أنني لم أجد نويه تسوريشر تسايتونغ في سالزبورغ. عندئذ خطرت على بالي فكرة أن أشتري صحيفة نويه تسوريشر في مدينة باد رايشنهال. وهكذا سافرنا إلى باد رايشنهال، إلى ذلك المكان المشهور في العالم كله بنجاعته في الاستشفاء. إلا أنني لم أجد نويه تسوريشر تسايتونغ في باد رايشنهال أيضًا، وهكذا عدنا نحن الثلاثة محبطين إلى ناتال. وقبل أن نصل إلى ناتال قال باول فجأة إن علينا أن نسافر إلى باد هال، إلى ذلك المكان المشهور في العالم كله بنجاعته في الاستشفاء، لأننا سنحصل هناك بكل تأكيد على نويه تسوريشر تسايتونغ، وبالتالي على المقال عن أوبرا زائيدة. وبالفعل سافرنا ٨٠ كم من ناتال إلى باد هال. إلا أننا لم نجد حتى في باد هال نويه تسوريشر تسايتونغ. ولأن المسافة بين باد هال وشتاير لم تكن تزيد عن مرمى حجر، عشرين كم لا غير، فقد أكملنا السفر إلى شتاير. ولكننا لم نحصل في شتاير على نويه تسوريشر تسايتونغ. عندئذ جربنا حظنا في مدينة فلس، ولكننا لم نعثر على الصحيفة هناك أيضًا. سافرنا على وجه الإجمال ٣٥٠ كم، فقط لكي نشتري نويه تسوريشر تسايتونغ، وفي النهاية لم يكن لنا حظ. وهكذا اتجهنا ونحن — بالطبع — في حالة من الإنهاك التام إلى أحد المطاعم في فلس، لنأكل شيئًا ونستريح قليلًا، فرحلة المطاردة التي قمنا بها لاصطياد نويه تسوريشر تسايتونغ أوصلتنا إلى نهاية قدراتنا البدنية. في نقاط عديدة، هكذا أعتقد الآن عندما أتذكر حكاية نويه تسوريشر تسايتونغ هذه، أكاد أتشابه مع باول كل التشابه. لو لم يستولِ علينا الإنهاك التام، لكنا واصلنا رحلتنا بكل تأكيد إلى لنتس، وإلى باساو، بل ربما كنا أكملنا في ألمانيا إلى ريغنسبورغ أو إلى ميونيخ، وفي نهاية الأمر ما كان سيمنعنا شيء من شراء نويه تسوريشر تسايتونغ بكل بساطة في زيوريخ، ففي زيوريخ، حيث تصدر الصحيفة، كنا حسب ظني سنجدها بكل تأكيد. ولأننا لم نحصل على نويه تسوريشر تسايتونغ في كل تلك الأماكن الآنفة الذكر التي ذهبنا إليها في ذلك اليوم، لأن الصحيفة لا تورد إليها ولا حتى خلال شهور الصيف، فلا أستطيع وصف تلك الأماكن إلا بالبؤس والحقارة، إنها تستحق هذا اللقب بكل جدارة، هذا إن لم تكن تستحق لقبًا أكثر بؤسًا وحقارة. اتضح لي آنذاك أيضًا أن أي إنسان يهتم بالفكر لا يستطيع أن يتواجد في مكان لا يحصل فيه على نويه تسوريشر تسايتونغ. لقد حصلت على نويه تسوريشر تسايتونغ حتى في إسبانيا والبرتغال والمغرب، طوال العام، وفي أصغر الأماكن التي تضم فندقًا يقف وحيدًا في مهب الريح. أما عندنا فلا! ولأننا لم نستطع أن نحصل على نويه تسوريشر تسايتونغ في كل تلك الأماكن التي تدَّعي الأهمية، ولا حتى في سالزبورغ نفسها، فقد تفجَّر غضبنا ضد هذا البلد الرجعي والمتخلف وضيِّق الأفق، والمصاب في الوقت ذاته بجنون عظمة مقزز. قلت، علينا أن نعيش في الأماكن التي نجد فيها على الأقل نويه تسوريشر تسايتونغ، وهو ما وافقني عليه باول كل الموافقة. إذن لا يتبقى أمامنا داخل النمسا سوى فيينا، قال باول، لأن الصحيفة غير متوافرة في كل المدن الأخرى التي تدعي أن المرء يحصل فيها على نويه تسوريشر تسايتونغ. على الأقل ليس كل يوم، وخصوصًا عندما يريد المرء الحصول عليها لاحتياجه الشديد إليها. أتذكر الآن أنني لم أحصل حتى اليوم على ذلك المقال عن زائيدة. نسيت المقال بالطبع منذ زمن بعيد، وبطبيعة الحال استطعت مواصلة الحياة بدونه، لكنني في تلك اللحظة اعتقدت أنني لا بد أن أحصل عليه. آزرني باول في رغبتي المحمومة للحصول على هذا المقال، بل أكثر من هذا، لقد كان يدفعني دفعًا إلى البحث عن المقال، أي عن الصحيفة، عبر نصف النمسا العليا حتى وصلنا إلى بافاريا. حدث هذا، وهو أمر لا بد من التأكيد عليه، في سيارة مكشوفة، الأمر الذي كانت عاقبته الحتمية إصابتنا نحن الثلاثة بنزلة برد لم تفارقنا لمدة أسابيع، وقيدت باول على وجه الخصوص فترةً طويلةً في الفراش. تمشينا معًا طوال ساعات على ساحل بحيرة تراون، منطلقين من السد الصغير الذي يُطلق عليه «سد الفحم»، الذي يقع أعلى منطقة شتايرمول على بعد كليو مترين من بيتي؛ هناك ما زال ساحل البحيرة متنزها فريدًا من نوعه — ولكن ذلك، على حد علمي، لن يستمر طويلًا بسبب الجشع الفظيع لمالك الأرض الذي قام بتقسيمها وبيعها — يمتد ١٣ كيلومترًا حتى يصل إلى بحيرة تراون، وتحديدًا إلى الموضع الذي اعتبره السيد ريتس المشهور قبلة صيادي سمك السلمون المُرقَّط في العالم. في تلك المنطقة شبه الظليلة، كما يقولون، وفي صحبة النسيم المنعش الذي يهب من النهر، استطعنا دون عناءٍ التحدث كما كنا نفعل في السابق، وبطبيعة الحال، ووفقًا لتطور حالته، لم تعد الأوبرا الطويلة هي الموضوع الذي يشغله الآن، بل ما يُسمى بموسيقى الحجرة. ذهنيًّا كان باول قد ودَّع دور الأوبرا الكبيرة أيضًا. لم يعد يتحدث عن شاليابن وغوبي، عن دي ستيفانو والسيميوناتو، بل عن تيبو وكَسالس وقدرتهما الفنية. عن رباعي جوليار ورباعي أماديوس وثلاثي ترييستا الذين كان يحب الاستماع إليهم. الفارق بين أرتورو بنيدتي ميكل أنجيلي وبوليني، وبين روبنستاين وآراو وهوروفيتس، إلخ، إلخ. كان الموت يبدو، كما يقولون، مرسومًا على وجهه. عرفت باول ما يزيد عن عشر سنوات كان خلالها دومًا مريضًا مرض الموت، لدرجة أن الموت يرتسم على ملامحه. على جبل فيلهلمينه توثقت عُرى الصداقة بيني وبين باول إلى الأبد دون تبادل كلمة، على ذلك المقعد الذي لم ينطق عليه غير بكلمة مهزلة، مهزلة. من الصعب الآن التخيل أن باول كان يسافر قبل ثلاثة عشر أو أربعة عشر عامًا إلى كل أنحاء العالم وراء عشيقته السوبرانو الأمريكية التي غنت تقريبًا في كل دور الأوبرا الكبيرة في العالم دور ملكة الليل في أوبرا «الناي السحري» لموتسارت، ودور تسربينتا في أوبرا شتراوس، ثم في النهاية يتركها دون أن يتوقف عن الحلم بها. لم يكن من المتخيل أنه لم يمر وقت طويل على زيارته لأشهر سباقات السيارات في أوروبا، وأنه كان يشترك فيها أيضًا، أنه كان واحدًا من أفضل البحارة الشراعيين. لم يعد من الممكن أن نتخيل الآن أنه لعشرات السنوات لم يذهب ليلةً إلى الفراش قبل الثالثة أو الرابعة فجرًا، لأنه كان يقضي الشطر الأعظم من الليل في أشهر بارات أوروبا. وأخيرًا فلا يمكن تخيل أنه كان يومًا ما يراقص النساء مقابل أجر، مخالفًا بذلك كل تقاليد آل فيتغنشتاين، وأنه كان من أولئك السادة الذين يترددون على أفخم الفنادق العتيقة والحديثة في أوروبا. لم يعد من المتخيل الآن أنه كان ذلك الشخص الذي ظل طوال عقود يزأر في أوبرا فيينا بصيحات الإعجاب في العروض التي بلغت ذروة الذروة، أو يطلق صفير الاستهجان في العروض التي وصلت إلى حضيض الحضيض. كل ما عايشه لم يعد متخيلًا في ذلك الوقت الحزين من سنوات عمره الأخيرة. كان يجلس معي في ناتال بجوار السور في الفناء، ثم يحسب تحت أشعة الشمس الغاربة كم مرة كان في باريس ولندن وروما، وكم ألف زجاجة شمبانيا شرب، وكم امرأةً أغوى، وكم كتابًا قرأ. ولكن هذا الوجود السطحي عاشه إنسان لم يكن يومًا سطحيًّا، بل على العكس. نادرًا ما تحدَّث باول في موضوع سبب له صعوبات، ولا حتى أقل الصعوبات. كان يشارك المرءَ التفكير ويواصل معه التفكير. على العكس، كان كثيرًا ما يربكني في مجالات هي بالأحرى مجالات اختصاصي، مجالات كنت مقتنعًا بأنني حُجة فيها. إلا أن باول كان يكشف لي في معظم الأحيان أنني على خطأ. كم من مرة قلت لنفسي إنه هو الفيلسوف لا أنا، إنه هو ذو الذهن الرياضي، لا أنا، إنه هو الخبير، لا أنا. هذا إذا غضضنا النظر تمامًا عن أن ذهنه قد اتسع ليستوعب أي شيء في المجال الموسيقي. ليس هناك موضوع لا يشكل عنده بدايةً ومناسبةً لنقاشٍ موسيقي شيق. فوق هذا وذاك كان باول من البارعين المتميزين في التنسيق والتوفيق بين هذه الأنشطة الذهنية أو الفنية عمومًا. من ناحية أخرى هو أبعد ما يكون عن الإنسان الذي يكثر التحدث، ناهيك عن أن يكون ثرثارًا، وذلك في عالمٍ يبدو أنه لا يعرف سوى الخطباء الثرثارين. في يوم ما اقترحت عليه — ربما تحت تأثير حكاية من حكايات حياته الفذة وغير العادية — أن يبدأ في تسجيل كل ما يحكيه لي من أحاديث فلسفية، وألا يدع ذلك يضيع بمرور الأيام. احتاج الأمر إلى سنوات حتى حملته على الشروع في تسجيل خبراته ومشاهداته الشيقة، كي تتاح لكل إنسان. إذن، قال لي بعد أن اشترى رزمة ورق، لا بد أن يبتعد عن محيطه المألوف، أي أن يبتعد عن أنياب أقربائه البلداء المعادين للفكر والفن، وأن يرحل بالطبع من تلك المباني الفيتغنشتاينية المعادية للفكر والفن، وأن ينسحب إلى حيث لا يعثر عليه أحد. لا بد أن يؤجر غرفةً لهذا الغرض. وهكذا استأجر غرفةً في بنسيون صغير خارج تراونكيرشن. ولكنه سرعان ما تخلى عن الفكرة بعد أول محاولة. فيما بعد — قبل وفاته بعام ونصف — وظَّف فجأةً سكرتيرة لكي يملي عليها وقائع حياته العجيبة. لكن، وأيضًا بسبب ظروفه المالية حيث كان لا يعيش في سنواته الأخيرة إلا على أقل من الكفاف، فشلت هذه المحاولة على نحو يدعو للرثاء. وعد باول هذه السكرتيرة بالثروة، وكما عرفت منها شخصيًّا ومنه، ثروة طائلة، وذلك عندما يملي عليها وقائع وجوده العجيب. كان متأكدًا أن ذكرياته محدودة الأفق، كما كان يسميها، ستحقق نجاحًا عالميًّا هائلًا. على كل حال فقد أملى عليها باول عشر صفحات، أو خمس عشرة صفحة. ربما كان محقًّا في أنه سيحصد نجاحًا هائلًا، على حد تعبيره، لأن كتابًا كهذا كان سيحقق بالفعل نجاحًا هائلًا، لأنه سيكون بلا شك كتابًا — وكما يُقال — فريدًا من نوعه بحق. غير أن باول لم يكن بالإنسان الذي يعزل نفسه تمامًا لمدة عام على الأقل للوصول إلى هدف كهذا. لكم أشعر بالأسف الشديد لأنه لم يترك مزيدًا من الشذرات. لقد تعوَّد آل فيتغنشتاين أن يفكروا بالملايين إذا تعلق الأمر بأعمالهم التجارية، لهذا كان من الطبيعي أن يفكر ابنهم الضال باول بالملايين أيضًا عندما يتعلق الأمر بطباعة ما يمليه. كان يقول: سأكتب نحو ٣٠٠ صفحة، وليس من العسير أن أجد ناشرًا. كان يعتقد أنني سأعطي مخطوطه إلى الناشر المناسب. كان ينوي كتابة تقرير عن حياته يقطر فلسفة، بلا ثرثرة، على حد قوله. وكثيرًا ما كنت أراه بالفعل ممسكًا بأوراق تحت ذراعه، أوراق عليها كتابة. ربما يكون كتب أكثر مما ترك، وربما دمر في نوبة من نوباته العديدة أجزاء كبيرة من المخطوط، عندما سيطر النقد الذاتي المطلق على حالته الذهنية. سيكون ذلك، وحسبما أعرف باول، أكثر الأمور طبيعية. أو أن يكون ما كتبه فُقد على هذا النحو أو ذاك، على نحوٍ معادٍ للفن أو الفلسفة، ثم تم التخلص منه؛ فمن العسير أن نتخيل أن باول ظل عامين مشغولًا بعشر صفحات أو خمس عشرة صفحة لا غير، أو أنه كان — عدا ذلك — يهيم على وجهه في فيينا أو على شاطئ بحيرة تراون. لكن مَن يستطيع أن يستجلي حقيقة الأمر؟ في حلقات الأصدقاء كان باول يقول — عندما يكون في لياقة عالية — إنه، مقارنةً بي، هو الكاتب الأفضل، صحيح أنه معجب بما أكتب، لكنه لا يرقى إلى ذراه الفكرية، وصحيح أنني مثله الأعلى أدبيًّا وفلسفيًّا، إلا أنه فاقني وتجاوز أفكاري منذ فترة طويلة، لقد استقل عني منذ زمن بعيد، وخلفني وراءه. عندما ينشر كتابه، كان يقول، لن يستطيع عالم الأدب إغلاق فمه دهشةً. ثم أخيرًا، وقرب نهاية حياته، وبعد أن سُدت أمامه كل الطرق في الكتابة، نظمَ باول — بالتأكيد لأنه استسهل كتابة الشعر عن النثر — عدةَ قصائد موزونة تدفع حقًّا إلى الضحك بسبب جنونها وفكاهتها. كان باول يقرأ، غالبًا عندما يدنو موعد تسليمه إلى أحد مستشفياته المعهودة للمجانين، أطول قصائده الغريبة، دون أن يهمه أمام مَن. ثمة شريط مُسجَّل لهذه القصيدة التي تتمحور حول شخصه وحول فاوست غوته. مَن يسمع القصيدة مُلقاة، يُسر ويستمتع بها، ثم يتأثر حتى البكاء. يمكن أن أقص نوادر باول، هناك مئات، بل آلاف من النوادر تدور كلها حوله، وهي نوادر معروفة، واستطاعت أن تصيب بعض الشهرة في أوساط ما يُسمى بالطبقة الراقية في المجتمع الفييناوي التي كانت طبقته، والتي — حسبما هو معروف — تعيش منذ مئات الأعوام على النوادر ولا شيء آخر، ولكن ليس هذا مقصدي. كان باول قلقًا، عصبيًّا على الدوام، لا يتحكم في انفعالاته لحظةً واحدة. كان لا يتوقف عن التفكير، وعن التفلسف، وتوزيع اتهاماته على الآخرين. ولأن قدرته المدربة على الملاحظة كانت خارقة للمألوف، ولأنه في ملاحظاته — التي ارتقى بها عبر السنين إلى درجة الفن — لم يكن يراعي أحدًا، كانت لديه على الدوام أسبابه لكيل الاتهامات للآخرين. من يقع بصره عليهم، لا يسلمون من اتهاماته إلا لبرهة قصيرة؛ وبعدها يكونون قد جلبوا على أنفسهم شبهة ارتكاب جريمة، أو على الأقل جريرة، فيجلدهم بتلك الكلمات التي أستعملها أنا عندما أحتج أو أدافع عن نفسي، أو عندما أهاجم وقاحات هذا العالم الذي يبغي هزيمتي وتدميري. كنا نأخذ في الصيف مكاننا المعهود في شرفة فندق «زَخَّر»، ولم يكن يبقينا شيء على قيد الحياة سوى الاتهامات التي نوزعها على الآخرين. كنا نرمي بالاتهامات على العابرين أيًّا كانوا. ساعات طويلة نجلس في شرفة «زَخَّر» ونحن نوزع الاتهامات يمينًا ويسارًا. مع فنجان قهوة كبير كنا نكيل أفظع الاتهامات للعالم كله. نجلس في شرفة «زَخَّر» — في مؤخرة الأوبرا على حد تعبير باول، فالمرء إذا جلس أمام فندق «زَخَّر» في الشرفة ونظر أمامه، يقع بصره على الجزء الخلفي من الأوبرا — وعلى الفور تشرع ماكينات توزيع الاتهامات لدينا في العمل على إيقاع متناسق. يبتهج باول عند استخدامه تعبيرات مثل مؤخرة الأوبرا، وهو يعلم بالطبع أنه بذلك يصف الجزء الخلفي للمبنى العريق في «رينغ-شتراسه»، ذلك المبنى الذي لم يعشق مكانًا آخر مثله، ومنه استمد طوال عشرات السنين كل ما يحتاج إليه ليستمر على قيد الحياة. ساعات طويلة نجلس في شرفة «زَخَّر» ونتأمل العابرين. وحتى اليوم لا أشعر بمتعة (فييناوية) أعظم من أن أجلس في الصيف على شرفة «زَخَّر» وأتأمل العابرين. بل إنني لم أذق متعةً في حياتي أعظم من متعة تأمل الناس، أما تأملهم على شرفة «زَخَّر» فهي متعة خاصة طالما شاركني فيها باول. السيد البارون وأنا، كنا نختار زاويةً في شرفة «زَخَّر» مناسبة تمامًا لأغراضنا التأملية، نرى منها ما نريد، دون أن يرانا أحد. عندما أتجول معه فيما يُسمى بمركز المدينة كنت أندهش لكثرة من يعرفهم هناك، ولكثرة أقاربه بين هؤلاء المعارف. نادرًا ما تحدَّث باول عن عائلته، وإذا فعل فللتأكيد فحسب على عدم رغبته في أي علاقة تربطه بهم، مثلما كانت عائلته لا ترغب في أي رابطة معه. بين الحين والآخر يتذكر جدته اليهودية التي ألقت نفسها بنيَّة الانتحار من غرفة بيتها في ساحة «نوي-ماركت»، كما يتذكر خالته إرمينا التي شغلت في فترة النازية منصبًا أُطلق عليه قائدة فلاحي الرايخ، والتي تعرفت إليها خلال عدة زيارات في البيت الريفي على التل المشرف على بحيرة تراون. إذا لفظ باول كلمة إخوتي، فلم يكن يعني بها سوى مُعذبيَّ. لم يتحدث بحب إلا عن شقيقته التي تعيش في سالزبورغ. سيطر عليه الشعور بأن عائلته تهدد كيانه، وتتركه وحيدًا بلا مساعدة. لا يصفها إلا بالمعادية للفكر والفن، وبأنها تختنق في ملايين ثروتها. إلا أنها في النهاية هي التي أنجبت لودفيغ وباول، وهي التي نبذت لودفيغ وباول في اللحظة الملائمة تمامًا لها. كنت أجلس مع صديقي بجوار سور الفناء في ناتال وأفكر في الطريق الذي ساره باول طيلة سبعين عامًا. كان يحيا في بيئة ثرية تحوطه بكل أنواع الحماية، وهو ما لا يمكن أن يتوفر إلا لشخص واحد في عالمنا. قضى سنواته الأولى في النمسا التي يمكن أن نقول إنها كانت إمبراطوريةً لا حد لثرائها، تلقَّى تعليمه بالطبع في المدرسة الداخلية المشهورة «تريزيانوم»، ثم شق لنفسه بكل ثقة طريقًا مُخالفًا لطريق عائلته، تاركًا وراءه كل قيم آل فيتغنشتاين، أي — إذا نظرنا إلى الأمر بسطحية — أن تكون ثريًّا ومقتدرًا وتتمتع بالحماية، إلى أن عاش في النهاية حياة ذهنية أنقذ بها ذاته. هرب باول مبكرًا من عائلته وكأنه، مثلما يقولون، «فص ملح وذاب»، تمامًا كما فعل عمه لودفيغ قبلها بعقود. ترك باول، مثل لودفيغ، كل ما مكَّنه من أن يكون ما هو عليه، تركه خلفه وأضحى، مثل لودفيغ، عارًا على العائلة. أصبح لودفيغ الفيلسوف الوقح، بينما غدا باول المجنون الوقح. ولكن الفيلسوف يظل فيلسوفًا، ليس فقط إذا دوَّن فلسفته ونشرها على الملأ، مثل لودفيغ، إنه فيلسوف حتى لو لم ينشر تفلسفه على الناس، أي حتى لو لم يكتب حرفًا ولم ينشر سطرًا. النشر يُظهر قدرته على التفلسف فحسب، ويلفت الأنظار لما تم إظهاره، وهو ما لم يكن سيظهر دون نشر، ولن يلفت بالتالي نظر أحد. لودفيغ هو الناشر (لفلسفته)، أما باول فهو اللاناشر (لفلسفته)، وكما كان لودفيغ في نهاية الأمر ناشرًا بالسليقة (لفلسفته)، هكذا كان باول اللاناشر بالسليقة (لفلسفته). لكن كليهما — كلٌّ على طريقته — كان مفكرًا كبيرًا، ملفتًا للانتباه دائمًا، مفكرًا عنيدًا وثائرًا يفخر العصر بهما، ليس فقط عصرهما. مما يؤسف له بالطبع أن باول لم يخلف لنا، مثل لودفيغ، شواهد على فلسفته، مكتوبة ومطبوعة أي منشورة، في حين أن بأيدينا وفي رءوسنا مثل تلك الشواهد التي تركها عمه لودفيغ. إلا أنه من الخطل أن نعقد مقارنة بين لودفيغ وباول. لم أتحدث معه أبدًا عن لودفيغ، ناهيك عن فلسفته. أحيانًا — ما يفاجئني في كل مرة تقريبًا — يقول باول لي: أنت تعرف عمي لودفيغ، ولا يزيد كلمة. لم نتحدث مرة واحدة عن رسالته المنطقية الفلسفية. في يوم ما قال لي إن عمه لودفيغ كان أكثر الناس جنونًا في العائلة. ويسألني: ألا تعتقد أنه أمرٌ شاذ أن يعمل صاحب الملايين الكثيرة معلمًا في قرية؟ حتى اليوم لا أعرف شيئًا عن العلاقة الحقيقية بين باول وعمه لودفيغ، ولم أسأله عن ذلك قط. حتى إنني لا أعرف ما إذا كان كلاهما قد رأى الآخر يومًا ما. كل ما أعرفه هو أن باول لم يكن يدافع عن لودفيغ إلا عندما تكثر السكاكين التي يرفعها آل فيتغنشتاين على عمه، وعندما يتخذون من فلسفته مادةً لتسليتهم، وهو الذي كان طيلة حياته، على حد علمي، مصدر خجل لهم. كانت نظرتهم إلى لودفيغ فيتغنشتاين لا تختلف عن نظرتهم إلى باول فيتغنشتاين: النظرة إلى مخبول أصبح عظيمًا بفضل دول الخارج التي تصغي دومًا إلى غريبي الأطوار. في سخرية كانوا يضحكون على العالم الذي وقع في أحابيل مخبول العائلة، ويتعجبون من أن عديم النفع اشتُهر فجأةً في إنكلترا وأضحى من كبار المفكرين. بتعجرف رفض آل فيتغنشتاين بكل بساطة فيلسوفهم، غير مُظهرين أمامه أدنى احترام، بل إنهم يعاقبونه حتى اليوم بالازدراء. لم يروا في لودفيغ إلا خائنًا، تمامًا كباول. ومثلما لفظوا باول، هكذا فعلوا مع لودفيغ. وكما أظهروا خجلهم من باول طيلة حياته، فإنهم ما زالوا يخجلون من لودفيغ. هذه هي الحقيقة. وحتى الشهرة الكبيرة التي أصابها لودفيغ لاحقًا لم تغير شيئًا من احتقارهم المعتاد للفيلسوف، وذلك في بلد لم يزل فيه لودفيغ فيتغنشتاين حتى اليوم نكرة لا يعرفه أحد تقريبًا. إن أهل فيينا — هذه هي الحقيقة — لم يعترفوا حتى الآن بقدر سيغموند فرويد، بل — وهذا هو الواقع — لم يفهموا دراساته حق الفهم، وأنَّى للسفلة أن يفهموها؟ لا يختلف الأمر بالنسبة إلى فيتغنشتاين. عمي لودفيغ. هذا هو أقصى احترام يبديه باول تجاهه، دون أن يزيد حرفًا، مع أنه عانى الغبن مثله تمامًا. في الحقيقة لم أستجلِ أبدًا كنه علاقته بعمه الذي شبَّ في إنكلترا. علاقتي مع باول، والتي بدأت بفضل صديقتنا إرينا في الغرفة الكائنة في «بلومنشتوك-غاسه»، كانت بالطبع صعبة، كانت صداقة لا بد أن تناضل يوميًّا لاستعادتها ولتجديدها، صداقة أثبتت خلال السنين أنها الأكثر إجهادًا، وأنها وثيقة الارتباط بالقمم والسفوح وبراهين الصداقة. يخطر على بالي الآن الدور الذي لعبه باول مثلًا لدى ما أطلقوا عليه منحي جائزة غريلبارتسر. كان الوحيد، مع إنسان حياتي، الذي فطن إلى السخف والعبث اللذين رافقا منح تلك الجائزة، واصفًا المهزلة بالوصف الذي ينطبق عليها: مسرحية نمساوية وضيعة سافلة. أتذكر أنني اشتريت بدلةً جديدة خصوصًا لحفل منح هذه الجائزة في أكاديمية العلوم، لاعتقادي أن قدمي لا يمكن أن تطأ أكاديمية العلوم إلا في بدلة جديدة. وهكذا ذهبت مع إنسان حياتي إلى محل ملابس في ميدان «كول-ماركت»، وهناك اخترت بدلة ملائمة، ثم جربتها ولم أخلعها. كان لون البدلة الجديدة أسود يميل إلى الرمادي، لأنني اعتقدت أنني في هذه البدلة الجديدة، السوداء الرمادية، سأقوم بدوري في أكاديمية العلوم على نحو أفضل مما لو ارتديت بدلة قديمة. حتى صباح منح الجائزة كنت أعتبر هذا التكريم حدثًا مهمًّا، إذ إن ذلك اليوم وافق الذكرى المئوية لوفاة غريلبارتسر، وكنت أعتبر منحي جائزة غريلبارتسر في ذكرى وفاته المائة أمرًا غير عادي. ها هم النمساويون يكرمونني الآن، أهل بلدي — الذين لم يفعلوا حتى ذلك اليوم شيئًا غير دهسي بأقدامهم — يمنحوني جائزة غريلبارتسر، هكذا كنت أفكر. انتابني شعور بأنني وصلت إلى القمة حقًّا. ربما ارتعشت أصابعي في صباح ذلك اليوم، ولعل رأسي كانت محمومة. أن يمنحني النمساويون فجأة أرفع جوائزهم، وهم الذين تجاهلوني طيلة هذه السنوات وتهكموا عليَّ، ذلك شيء اعتبرته بالفعل تعويضًا نهائيًّا عما أصابني. خرجت بالبدلة الجديدة من محل الملابس وقلبي لا يخلو من فخر، وسرت في ميدان «كول-ماركت» كي أتوجه إلى أكاديمية الفنون على الرصيف المقابل. لم يحدث لي أن سرت في حياتي بمثل هذا الزهو في ميدان «كول-ماركت»، ثم دخلت في شارع «غرابن» مارًّا بتمثال يوهانيس غوتنبرغ. كنت أشعر بالزهو، لكنني لا أستطيع القول إنني كنت أشعر بالراحة في بدلتي الجديدة. يخطئ المرء دائمًا إذا اشترى ملابس — لنقل — تحت الرقابة، وفي صحبة الأصدقاء، وها أنا ذا قد ارتكبت هذا الخطأ مرةً أخرى. البدلة الجديدة ضيقة للغاية. لكنني ربما أبدو في مظهر جيد، قلت لنفسي عندما وصلت إلى أكاديمية العلوم برفقة إنسان حياتي وباول. إن منح الجوائز — إذا غضضنا النظر عما تجلبه من مال — لهو أكثر الأشياء بعثًا على الضيق في هذا العالم. هذه الخبرة مررت بها في ألمانيا، إذ إن الجوائز لا تُعلي من قدر المُكَرَّم — كما كنت أعتقد قبل أن أُمنح أول جائزة في حياتي — بل هي تحط من قدره، وبطريقة مخجلة للغاية. من أجل المال الذي تأتي به الجوائز فحسب تحملت، من أجل هذا السبب وحده كنت أذهب إلى دور البلدية القديمة بمختلف أشكالها، وإلى صالات الاحتفالات سقيمة الذوق. حتى بلغت الأربعين. حتى الأربعين كنت أدعهم يحطون من قدري لدى منحهم الجوائز لي. حتى الأربعين. تركتهم يبولون على رأسي في دور البلدية وصالات الاحتفالات. إن منح الجوائز لا يزيد ولا يقل في حقيقة الأمر عن التبول على رأس صاحب الجائزة، وتسليم جائزة لا يعني سوى أن يبول الآخرون على رأس المتسلم لها، لأنه يتلقى مالًا مقابل ذلك. عند منحي جائزة كنت أشعر دومًا بالإهانة العظمى، بأكبر إهانة يمكن تخيلها، وليس بالتكريم، إذ أن مُسلِّمي الجائزة يتسمون دائمًا بانعدام الكفاءة، إنهم يريدون أن يبولوا على رأس صاحب الجائزة، ويبولون بالفعل، وبغزارة. إنهم يبولون ومعهم كل الحق على رأس صاحب الجائزة، لأنه كان وضيعًا وخسيسًا، وقَبِلَ أن يتسلم جائزتهم. في حالات الضرورة القصوى فقط، وفي حالة تعرض حياة الإنسان أو وجوده إلى الخطر، وحتى الأربعين فحسب، في هذه الحالات فحسب يحق للمرء أن يقبل تسلم جائزة مقرونة بمبلغ نقدي، أو جائزة عمومًا أو وسام. لقد تسلمت جوائزي دون ضرورة قصوى أو خطر يهدد حياتي أو وجودي، ولهذا جعلت نفسي وضيعًا وخسيسًا ومقززًا بكل معنى الكلمة. في طريقي لاستلام جائزة غريلبارتسر فكرت أن الأمر يختلف هذه المرة. ليس لهذه الجائزة قيمة مادية. أكاديمية العلوم شيء، وجائزتها شيء آخر، هكذا كنت أفكر في طريقي إلى أكاديمية الفنون. واعتقدت عندما وصلنا نحن الثلاثة — إنسان حياتي وباول وأنا — إلى أكاديمية العلوم أن هذه الجائزة استثناء لأنها تحمل اسم غريلبارتسر، ولأنها تُمنَح من أكاديمية العلوم. اعتقدت وأنا في طريقي إلى أكاديمية العلوم أنهم ربما يستقبلونني أمام الأكاديمية، وكما يليق بحامل الجائزة، مُظهرين تجاهي، وكما اعتقدت، القدر الملائم من الاحترام. لكن: لم يستقبلني أحد على الإطلاق. بعد أن انتظرت مع رفيقيَّ أكثر من ربع ساعة في بهو أكاديمية العلوم دون أن يتعرف عليَّ إنسان، ناهيك عن أن يستقبلني إنسان، بالرغم من أنني ورفيقيَّ كنا نتلفت دومًا حوالينا، دون أن ينتبه أحد لوجودي، بينما أخذ المدعوون إلى الحفل يتوافدون ويجلسون في صالة الاحتفالات المكتظة. فكرت أن أدخل ببساطة مع رفيقيَّ إلى الصالة مثل الآخرين، ثم خطرت على بالي فكرة أن أجلس في منتصف صالة الاحتفالات تمامًا حيث كانت بعض الأماكن ما زالت شاغرة. وهكذا دخلت مع رفيقيَّ وجلسنا. عندما جلسنا كانت صالة الاحتفالات قد امتلأت، حتى الوزيرة كانت قد جلست في مكانها بالصف الأول تحت المنصة. أخذ الأوركسترا الفيلهارموني يجرب آلاته بنفاد صبر، بينما كان رئيس الأكاديمية، السيد هونغر، يقطع المنصة رائحًا غاديًا في اضطراب. عداي وعدا رفيقيَّ لم يعرف أحد سبب تأخر بدء حفل التكريم. أعضاء عديدون في الأكاديمية ركضوا على المنصة داخلين خارجين، وترقب الجميع بدء الحفل. حتى الوزيرة أدارت رأسها متطلعة إلى جنبات الصالة. وفجأةً لمح رجل على المنصة أنني أجلس في منتصف القاعة، فهمس بشيء في أذن السيد الرئيس هونغر، ثم ترك المنصة وهرع ناحيتي. لم يكن من السهل عليه أن يشق طريقه إلى مكاني في الصف الواقع في منتصف الصالة والمشغول حتى آخر مقعد. كان على كل الجالسين أن ينهضوا، وهو ما فعلوه كارهين، مسددين صوبي — كما لاحظت — نظرات مسمومة. قلت لنفسي، كانت حقًّا فكرةً خسيسةً مني أن أجلس في منتصف القاعة، إذ إن السيد — بطبيعة الحال عضو في الأكاديمية — وصل إليَّ بشق الأنفس. سوى هذا السيد، قلت لنفسي، من الواضح أن أحدًا لم يتعرف عليك. والآن، ولأن السيد كان قد وصل إليَّ، توجهت الأنظار كلها ناحيتي، ولكن وكأنها تعاقبني وتحفر في جسدي. قلت لنفسي، إن الأكاديمية التي تمنحني جائزتها دون أن تعرف شكلي، والتي تهجم عليَّ بنظرات ثاقبة ومعاقبة لأنني لم أعلن عن وجودي، هذه الأكاديمية كانت تستحق شيئًا آخر أكثر خسةً وسفالة. أخيرًا نجح السيد في لفت انتباهي إلى أن مكاني ليس حيث أجلس، وأن عليَّ أن أتفضل وأذهب إلى الصف الأول لأجلس بجانب الوزيرة. لم ألبِّ أوامر السيد لأنها صدرت في لهجة متعالية بشعة، وبطريقة منفرة تزهو بالنصر. وجدت نفسي — حفظًا لماء الوجه — مرغمًا على رفض الخروج من صفي والذهاب إلى المنصة. على السيد هونغر نفسه أن يأتي إليَّ، قلت له. ليس لأحد أن يطلب مني الصعود إلى المنصة إلا رئيس أكاديمية العلوم بنفسه. في الحقيقة كنت أشعر برغبة لا تُقاوم في النهوض مع رفيقيَّ ومغادرة الأكاديمية بدون جائزة، إلا أنني ظللت جالسًا في مكاني. لقد حبست نفسي في القفص. جعلت من أكاديمية العلوم قفصًا لي. لا مهرب. في النهاية أتى رئيس الأكاديمية إليَّ، وذهبت معه إلى أمام المنصة، ثم أخذت مكاني بجوار الوزيرة. في اللحظة التي جلست بجوار الوزيرة لم يستطع صديقي باول أن يتمالك نفسه وانفجر في ضحكة هزت أرجاء القاعة، استمرت إلى أن بدأ أوركسترا الحجرة الفيلهارموني في العزف. أُلقيت الخطب عن غريلبارتسر، وبعض الكلمات عني، الأمر الذي استغرق إجمالًا نحو الساعة، أي إنهم، وكما هو مألوف في مثل هذه المناسبات، ثرثروا كثيرًا، وبطبيعة الحال كلامًا فارغًا. أثناء إلقاء الكلمات استغرقت الوزيرة في النوم، بل لقد صدر عنها شخير سمعته بوضوح، ولم تستيقظ إلا عندما بدأ أوركسترا الحجرة الفيلهارموني في العزف مرة ثانية. عندما انتهى حفل التكريم تحلق على المنصة حول الوزيرة والرئيس هونغر أناس لا حصر لهم، ولم يعد أحد يعيرني أدنى اهتمام. ولأنني لم أغادر قاعة الاحتفالات مباشرةً مع رفيقيَّ فقد سمعت بأذني الوزيرة وهي تهتف فجأة: أين هذا الأدباتي؟ عندها فاض بي الكيل، وغادرت أكاديمية العلوم بأقصى سرعة ممكنة. لا نقود، ثم تدعهم يبولون على رأسك، كان هذا أكثر مما يمكنني احتماله في تلك اللحظة. عدوت، وانتزعت تقريبًا رفيقيَّ معي، ثم خرجنا إلى الشارع. عندئذ سمعت باول يقول لي: أنت تركتهم يهينونك! لقد بالوا على رأسك! حقًّا، هكذا فكرت، لقد بالوا اليوم أيضًا على رأسك، كما يبولون على رأسك دائمًا. إلا أنك تركتهم يبولون على رأسك، قلت لنفسي، وفوق هذا وذاك في أكاديمية العلوم بفيينا. قبل أن أقصد فندق «زَخَّر» مع رفيقيَّ حتى نهضم المراسم الشاذة لمنح الجائزة بطبق من اللحم البقري، «تافل-شبيتس»، ذهبت أولًا إلى محل الملابس في ساحة «كول-ماركت» حيث اشتريت البدلة الجديدة قبل حفل التكريم. البدلة ضيقة جدًّا عليَّ، أريد بدلة أخرى، قلت لهم ذلك في المحل بلهجة وقحة وحاسمة جعلت الموظفين يتركونني على الفور أختار، ودون أدني معارضة، بدلةً أخرى. جربت اثنتين، ثلاث، أخذتهم بيدي من أماكن العرض، ثم استقر رأيي على البدلة التي أراحتني أكثر. ظللت لابسًا البدلة، ودفعت فارقًا ضئيلًا، وعندما خرجت إلى الشارع خطر على بالي أن شخصًا آخر سيرتدي البدلة التي ارتديتها عند منحي ما يُسمى بجائزة غريلبارتسر في أكاديمية العلوم، وأنه سيسير بها في شوارع فيينا. أدخلت هذه الخاطرة السرور على قلبي. هناك دليل آخر لا يقل وضوحًا على قوة شخصية باول: ما حدث فيما أُطلق عليه حفل منحي جائزة الدولة للأدب (قبل جائزة غريلبارتسر بوقت طويل)، وهو الحفل الذي انتهى — وكما كتبت الصحف آنذاك — بفضيحة. كل ما قاله الوزير — الذي ألقى في صالة الاحتفالات في الوزارة ما يُسمى بكلمة التكريم — كان هراءً في هراء، لأنه كان يقرأ فحسب من ورقة أمامه كتبها أحد الموظفين المختصين في الأدب. ومن بين الهراء الذي قاله إنني كتبت روايةً عن المحيط الهادئ، وهو ما لم أفعله بالطبع، ثم ادعى الوزير أنني هولندي بالرغم أنني نمساوي منذ يوم مولدي، وأنني متخصص في روايات المغامرات مع أنني لا أفقه في ذلك حرفًا. ثم ادعى عدة مرات في خطابه أنني أجنبي وضيف على النمسا. لم يثرني هذا الهراء الذي تلاه الوزير من الورقة، لأنني كنت أعلم تمامًا أن الذنب ليس ذنب هذا الإنسان الغبي المتحدر من منطقة شتايرمارك، الذي كان يعمل في مدينة غراتس قبل أن يصبح وزيرًا سكرتيرًا في غرفة الزراعة حيث كان مختصًّا بتربية المواشي. كان الغباء مرسومًا على وجه الوزير، مثله في ذلك مثل كل الوزراء بلا استثناء؛ وهو أمر مقزز ولا شك، لكنه لا يثير الغضب. وهكذا تركت كلمات التكريم التي ألقاها الوزير تنهال عليَّ دون رد فعل. ولكن، ما إن ألقيت — كنوع من الشكر على الجائزة — بعض الجمل التي كنت كتبتها على ورقة بسرعة بالغة وبنفور تام قبل تسليم الجائزة بوقت قصير — كلمات لم تكن سوى استطراد فلسفي صغير، قلت فيه إن الإنسان فقير ومسكين ومصيره الموت، وهو ما لم يستغرق أكثر من ثلاث دقائق — ما إن انتهيت حتى كان الوزير، الذي لم يفقه حرفًا مما قلت، قد خرج عن طوره، ثم قفز مستاءً من مقعده، موجهًا إلي بقبضته لكمة، ناعتًا إياي أمام كل الحاضرين بالكلب وهو يرغي ويزبد، ولم يغادر الصالة قبل أن يصفق الباب الزجاجي بعنف حَوَّله إلى آلاف الشظايا. قفز كل الحاضرين في الصالة، وتابعوا بأبصارهم مبهوتين الوزير المندفع إلى الخارج. للحظةٍ ساد، كما يقولون، صمت مطبق. ثم حدث شيء عجيب: كل الحاضرين — الذين لا أستطيع وصفهم إلا بزمرة من الانتهازيين — ركضوا خلف الوزير، ولكن قبلها كان لا بد أن يتهجموا عليَّ، ليس بالسباب فحسب، وإنما باللكمات أيضًا. أتذكر تمامًا تلك اللكمات التي وجهها إلي رئيس مجلس الفنون، السيد هنتس، كما أتذكر كل تلك التحيات الرسمية التي وجِّهت إلي في تلك اللحظة. كل الحاضرين، عدة مئات من المرتزقين بالفن والأدب، معظمهم كتاب، أي زملاء المهنة كما يقولون، ومعهم أتباعهم، كلهم ركضوا خلف الوزير. إنني أرفض ذكر كل تلك الأسماء التي ركضت خلف الوزير عبر الباب الزجاجي المهشم، فلا رغبة لدي في أن أقف أمام القضاء بسبب تفاهةٍ كهذه. لكن يمكن القول إنهم كانوا من أشهر الشخصيات وأبرزها وأعلاها قدرًا ومكانة، أولئك الذين خرجوا من الصالة مندفعين إلى الدرج، راكضين خلف الوزير، ليتركوني وحيدًا في صالة الاحتفال مع إنسان حياتي. كالأبرص. لم يبقَ أحد معي ومع إنسان حياتي. كلهم اندفعوا وراء الوزير هابطين الدرج، غير عابئين بالبوفيه المعد لهم. إلا باول. كان هو الإنسان الوحيد الذي ظل واقفًا معي ومع رفيقة حياتي، مع إنسان حياتي. بدا على باول الارتياع وفي الوقت ذاته السرور لما جرى. فيما بعد، عندما زال الخطر، تسلل البعض عائدًا إلى الصالة وتجرأ واقترب مني، ولكن بعد اختفائه في البداية. حفنة ضئيلة أخذت تتشاور إلى أين تذهب حتى تبتلع بالطعام هذا الحادث السخيف. حتى بعد مرور سنوات على الحادث كنت أحصي مع باول أسماء أولئك الذين ركضوا — بخنوع حقير تجاه الدولة والوزراء — خلف ذلك الوزير البليد من شتايرمارك، وكنا نعلم أسباب كل واحد. في اليوم التالي تحدثت الصحف النمساوية عن برنهارد المُسيء لسمعة الوطن الذي أهان الوزير. بينما كان الأمر على العكس تمامًا: الوزير بيفل برشيفتس هو الذي أهان الكاتب برنهارد. أما في الخارج، حيث لم يكن أحد يأبه بالوزارات النمساوية المتواطئة والمدعومة من الدولة، فقد علقوا على الحادث كما يجب. إن قبول جائزة لهو أمر شاذ، قال صديقي باول آنذاك، أما قبول جائزة الدولة فهو قمة الشذوذ. ولأن زياراتنا إلى صديقتنا المرهفة الحس الموسيقي إرينا في «بلومنشتوك-غاسه» أصبحت أَحبَّ العادات إلى قلبينا، فقد اقترب الأمر من حد الكارثة عندما انتقلت صديقتنا لتسكن لا في الريف فحسب، بل وفي عش ناءٍ في النمسا السفلى لا يمكن الوصول إليه إلا بعد رحلة تستغرق ساعتين بالسيارة، فالسكك الحديدية لم تعرف طريقها بعد إلى ذلك المكان. لم يكن من الممكن تخيل ماذا تفعل إرينا في الريف، وهي إنسان يعشق الحياة في المدن الكبرى. المرأة التي كانت طوال سنوات تذهب كل ليلة إلى حفل موسيقي، أو إلى أوبرا، أو إلى مسرح، هذه المرأة استأجرت بين عشية وضحاها بيتًا ذا طابق واحد من بيوت الفلاحين، يُستخدم نصفه حظيرةً للخنازير، مثلما اكتشفنا فيما بعدُ بارتياع سيطر على باول وعليَّ. الأمطار لم تكن تهطل داخل هذا البيت فحسب، بل كانت الرطوبة — ولعدم وجود قبو — تصل حتى السقف. جلسا هناك، إرينا وزوجها الباحث الموسيقي — الذي كان عبر سنوات طويلة يكتب للصحف والمجلات الفييناوية — مستندين إلى مدفأة أمريكية من الحديد الزهر، وهما يأكلان ما يُدعى بالخبز الفلاحي الذي خبزته أيديهما، يرتديان ملابس بالية مهترئة، ثم شرعا يتلوان قصائد مدح في الريف، وقصائد ذم في المدينة، بينما تحتم عليَّ أن أسد أنفي بسبب الرائحة النفاذة التي تهب من حظيرة الخنازير. لم يعد الباحث الموسيقي يكتب مقالات عن فيبرن أو برغ، عن هاور أو شتوكهاوزن، بل أخذ يقطع الحطب أمام النوافذ، أو ينزح الغائط من دورات المياه المسدودة. لم تعد إرينا تتحدث عن السيمفونية السادسة أو السابعة، بل اقتصر حديثها على اللحم الذي تقوم بتدخينه بنفسها. لم تعد تتحدث عن المايسترو كليمبرر أو المغنية إليزابيت شفارتسكوبف، بل عن الجرَّار الذي يملكه جارها ويوقظها هديره في الخامسة فجرًا مع زقزقة العصافير. في البداية اعتقدنا أن إرينا وزوجها الباحث الموسيقي سيكتشفان سريعًا زيف السحر الريفي، ويعودان إلى الموسيقى. لكن الصواب جانبنا. لم يعد أحد منهما يذكر الموسيقى بكلمة، وكأنها لم توجد في حياتهما يومًا. كنا نسافر إليها فتضع أمامنا الخبز الذي خبزته بيدها، والحساء الذي جهزته بنفسها، بل وأيضًا فجلًا وطماطم من زرع يديها، فنشعر عندئذ أنها خدعتنا وسخرت منا. خلال شهور قليلة حولت إرينا نفسها من امرأة متمدنة ومتحضرة وعاشقة لفيينا، إلى فلاحة من الريف النمساوي، ضيقة الأفق، تدخن اللحم وتزرع الخضار. اعتبرنا ذلك إهانةً ما بعدها إهانة للذات، إهانة تثير النفور والاشمئزاز. وهكذا توقفنا بعد وقت قصير عن السفر إليها، وأصبحت بالفعل بعيدة عن العين. كان علينا إذن أن نبحث عن مسرح جديد يشهد أحاديثنا ومناقشاتنا. لكننا لم نجد، واختفى شارع بلومنشتوك من الوجود. بدون إرينا لم يكن لنا إلا أنفسنا. وفجأةً شعرنا بعدم الرغبة في التحدث عن الموسيقى عندما نجلس في «زَخَّر» أو «بروينرهوف» أو «أمباسادور»، حيث كانت هناك زاوية مثالية لأمثالنا، فمنها كنا نتفرج حقًّا على كل شيء دون أن يرانا أحد، ودون أن يقطع أحد — كما يقولون — حبل أفكارنا الممتد. ولأن وقتنا لا يتسع للتمشيات، فقد كنا نتقابل ثم نتجه على الفور إلى «زَخَّر» أو إلى أي مقهًى آخر يبدو صالحًا لأغراضنا. بمجرد جلوسنا في زاويتنا في «زَخَّر» كنا نجد على الفور ضحية لتكهناتنا. مثلًا، لدى رؤية شخص أجنبي أو محلي، أيًّا ما كان، وهو يأكل — وكما نتوقع — قطعة تورتة، دون أن يتخلى عن تشنجه التام، أو شريحة يحبها من اللحم البارد المُعَد على طريقة أهل براغ والمدهون بالكريمة المخلوطة بالفجل المفروم، ويشرب القهوة منهكًا انهاكًا كبيرًا إثر جولة شاهد فيها معالم المدينة، ولذلك يزدرد التورتة ازدرادًا، ويعب القهوة عبًّا؛ من هذا الشخص الأجنبي أو المحلي كنا ننتقل، مثلًا، إلى نقد النهم وشهوة الطعام البليدة التي انتشرت حولنا في العقود الأخيرة. من امرأة ألمانية تقبع في معطف سخيف من الفرو يبدو وكأنه تنفيذٌ لعقوبة، منهمكة في التهام الكريمة، كنا نستدل مباشرة على نفورنا تجاه الألمان في فيينا. رؤية هولندي يرتدي «بلوفر» أصفر فاقعًا يجلس أمام النافذة، ولاعتقاده أن لا أحد يراقبه لا يكف عن إدخال سبابته اليمنى في أنفه مخرجًا فتاتًا لينًا كبير الحجم، كانت بالنسبة لنا فرصة مواتية لصب جام لعناتنا على كل الهولنديين الذي يبدون في أعيننا فجأة أشخاصًا يستحقون الكراهية مدى الحياة. يظل الغرباء ضحايانا طالما لم تعثر أعيننا على معارف لنا. أما إذا ظهر شخص نعرفه، فإننا نواصل إطلاق الأفكار المناسبة لموضوع تأملاتنا عليه، وبمجرد نطقها كانت تدخل السرور إلى قلبينا ساعات وساعات، إذ إننا كنا نحول تلك الأفكار إلى موضوع أسمى من مجرد دفع الملل عن أنفسنا؛ تأملات تصلح منطلقًا لشيء آخر نجرؤ على الاعتقاد بأنه لا يقل قدرًا عن الفلسفة. ليس من النادر أن يكون موضوع تأملاتنا إنسانًا عاديًّا تمامًا يشرب قهوته في هدوء، إلا أنه يوجه أفكارنا إلى شوبنهاور، أو ربما تجعلنا سيدة — تلتهم قطعة كبيرة من فطيرة التفاح مع حفيدتها الشقية تحت لوحة تصور بارونًا — نتحدث ربما لساعات حول لوحة مهرجي القصر لفيلاثكيث في متحف برادو في مدريد. شمسية تقع على الأرض قد تجرنا للحديث ليس عن تشمبرلين فقط، وكما يتبادر إلى الذهن فورًا، وإنما عن الرئيس روزفلت. أحد العابرين في الخارج الذي يصطحب معه كلبًا صينيًّا من فصيلة بكنيز يوجه حديثنا إلى نمط الحياة المبذر والسفيه للمهراجا الهندي، إلى آخره. عندما أعيش في الأرياف دون حافز فكري، فإن ذهني يضمر، لأن رأسي كلها يضمر. في المدن لا أمر بهذه الخبرات الكارثية. إن الذين يهجرون المدن الكبرى ويريدون أن يحافظوا في الأرياف على مستواهم الذهني — كما يقول باول — لا بد أن يتزودوا بطاقة رهيبة، أي بخزين لا ينفد من المادة الذهنية؛ ولكن حتى هؤلاء يصلون إن آجلًا أو عاجلًا إلى مرحلة الجمود والضمور، وغالبًا ما يلاحظون هذا الضمور ولكن بعد فوات الأوان، فينكمشون رغمًا عنهم، ويتضاءلون حقًّا، ولا يجدي شيء لإيقاف ذلك. وهكذا تعودت — في كل تلك السنوات التي استمرت فيها صداقتي مع باول — على الإيقاع المتغير اللازم لوجودي: بين المدينة والريف، وأنوي المحافظة على هذا الإيقاع حتى نهاية حياتي؛ على الأقل مرةً كل أسبوعين إلى فيينا، وعلى الأقل مرة كل أسبوعين إلى الريف، فالرأس يصبح خاويًا في الريف بنفس السرعة التي يتشبع بها في فيينا، بل إنه في الحقيقة يصبح في الريف خاويًا على نحو أسرع من تشبعه في المدينة، فالريف يتعامل مع الرأس واهتماماته على نحو بشع، أبشع مما تفعل المدينة، أعني المدينة الكبيرة. يسلب الريف الإنسان المفكر كل شيء، ولا يمنحه أي شيء (تقريبًا)، بينما لا تتوقف المدينة الكبيرة عن العطاء، ليس على المرء بالطبع إلا أن يفتح عينيه، ويستقبل بحواسه. لكن القليلين من الناس يرون ذلك ويشعرون به، وهكذا يجذبهم الريف على نحو عاطفي مقزز، وهناك يُفَرَّغون ذهنيًّا في أقصر وقت، إلى أن يشعروا بالخواء التام، ويكون مصيرهم الهلاك. لا يمكن أن يتطور الذهن في الريف أبدًا. هذا لا يحدث إلا في المدينة الكبيرة. ولكن كل الناس يركضون اليوم من المدينة إلى الريف، لأنهم في الحقيقة أكثر كسلًا من أن يستخدموا رءوسهم التي تواجه في المدينة الكبيرة تحديًا مستمرًّا. هذه هي الحقيقة. إنهم يفضلون أن يضمُروا في الطبيعة التي — دون أن يعرفوها — يمجدونها بعاطفية مبتذلة رخيصة، وعلى نحو أعمى وأحمق. إنهم يفضلون ذلك على الاستفادة من المزايا الهائلة التي تتيحها المدينة الكبيرة، والتي تتكاثر مع الوقت ومع تطور تاريخ المدينة على نحو رائع، خصوصًا في أيامنا. لكنهم على الأرجح عاجزون عن ذلك تمامًا. أنا أعرف الريف القاتل، وأهرب منه متى وجدت سبيلًا للعيش في مدينة كبيرة، أيًّا كان اسمها، وأيًّا كان قبحها، فهي بالنسبة لي أفضل ألف مرة من الريف. طوال حياتي وأنا ألعن الجزء المريض من رئتي الذي يمنعني من الإقامة الدائمة في المدينة، وهو الأمر الذي يلائمني. ولكن من السخف أن توجع دماغك بالتفكير في شيء لا يُمكن تغييره بالفعل، شيء لم يعد يستحق أن يتحدث عنه أحد منذ سنوات طويلة، ولن أتحدث عنه أنا في المستقبل. كم هو محظوظ صديقي باول، كنت أقول لنفسي، فرئتاه دائمًا في أتم صحة، وهو بالتالي غير مجبر على الإقامة في الريف كي يبقى على قيد الحياة. إن بمقدوره أن يفعل أعظم شيء في نظري: الإقامة في المدن الكبرى، وهو ما لا أستطيع أن أفعله على الدوام إذا أردت أن أواصل الحياة. كان بار «عدن» محل إقامته الليلية في فيينا خلال عامه الأخير، بالرغم من امتناعه لسنوات عن شرب الخمر. ولكنه لم يكن، بطبيعة الحال، يطيق البقاء في المنزل بعد وفاة زوجته إديت. الآن عرفت فجأةً لماذا لم يَدْعني أبدًا إلى بيته عندما جلسنا معًا مئات المرات في مقهى «بروينرهوف»، أي في البناية التي تقع فيها شقته. لم تكن شقته تزيد عن غرفة واحدة فسيحة، أما المطبخ ودورة المياه فكانا في حجرة جانبية. حتى شهور قبل وفاته كان يستطيع بمشقة أن يصعد الدرج إلى هذه الشقة معي، ولا بد أن أقول هنا إنني ربما كنت أصادف صعوبات أكثر في الصعود، فأنا لا أستطيع منذ عشرات السنين صعود الدرج، إذ تتقطع أنفاسي تمامًا بعد ثلاث أو أربع درجات. كان المصعد معطلًا، والممر يكاد يغرق في العتمة الكاملة. وهكذا، أخذنا نتحسس طريقنا إلى أعلى، ونحن نشجع أنفسنا بأنفاس مبهورة. الشقة في حد ذاتها عادية، قال لي عندما دخلنا، ولكن الموقع ممتاز. الموقع كان أهم شيء بالنسبة له (لا يوجد ما هو أقرب إلى قلب المدينة، على حد تعبيره)، كما أن إيجارها معقول بالنسبة لظروفه، إلا أنها ليست بالشقة الكبيرة. كان هذا مصدر إحباط هائل لإديت، قال مشيرًا إلى الباب نصف المفتوح المؤدي إلى المطبخ ودورة المياه. تراكمت خلف الباب جبال من الغسيل والمواعين، وكومة ضخمة من المواد الغذائية غير المستهلكة، أي التالفة. قلت لنفسي، هذا هو إذن الملجأ الأخير للفاشل. جلسنا لالتقاط الأنفاس على أريكة مكسوة بمخمل أسود وأخضر، وحتى نستطيع مواصلة التفكير في شيء آخر نقوله غير تلك التعليقات التي تتكرر في مثل هذا الموقف المحرج عن الضيق والقذارة والعتمة والموقع المثالي. قال لي إن هذه الأريكة جلس عليها طفلًا في منزل والديه، وهي أحب قطع الأثاث إلى قلبه. ليس في مقدوري اليوم أن أتذكر ماذا قلنا ونحن جالسين على الأريكة، إلا أنني سريعًا ما نهضت وودعت صديقي، تاركًا إياه وحيدًا يائسًا على الأريكة المخططة بالأسود والأخضر. فجأة لم أعد أستطيع التحمل. سيطر عليَّ هاجس أنني لا أجلس مع إنسان حي، بل مع ميت، وهكذا انسحبت من جلسته. قبل مغادرتي الشقة وضع باول كفيه تحت ركبتيه وشرع في البكاء، لأنه فجأة أدرك دنو النهاية وتأكد منها، إلا أنني لم أرغب في الالتفات إليه، ونزلت الدرج بأقصى ما استطعت من سرعة إلى فضاء الشارع. سرت في «شتالبورغ-غاسه»، ودلفت إلى «دوروتير-غاسه»، ثم عبرت ساحة «شتيفانس-بلاتس» إلى شارع «فولتسايله» حيث كنت في حالة تسمح لي بأن أتمشى بضع خطوات في هدوء. جلست على مقعد في الحديقة التي يسمونها «منتزه المدينة» محاولًا أن أحرر نفسي من الحالة المسيطرة عليَّ، من خلال إيقاع تنفس أملاه عليَّ عقلي بدقة. في كل لحظة كان ينتابني شعور بأنني سأختنق. قلت لنفسي، وأنا أجلس فوق مقعد في منتزه المدينة: قد تكون هذه آخر مرة أرى فيها صديقي. لم أكن أعتقد أن جسدًا بهذا الوهن، خبت فيه جذوة الحياة وانطفأت شعلة الإرادة، سيتحمل أكثر من بضعة أيام. زُلزل كياني لرؤيته هكذا يعاني الوحدة فجأة؛ هذا الإنسان الذي هو بسليقته، كما يقولون، إنسان اجتماعي منذ مولده وحتى بلوغه، وظل اجتماعيًّا إلى أن أمسى كهلًا ثم شيخًا. ثم مرَّ برأسي كيف تعرفت إلى هذا الإنسان الذي أضحى حقًّا صديقي، الذي طالما أسعدَ وجودي غاية السعادة؛ هذا الوجود الذي لم يكن بائسًا قبل التعرف إليه، إلا أنه كان شاقًّا مُجهدًا. كان هو الذي فتح عيني على أشياء كثيرة، وأرشدني إلى دروب كنت أجهلها تمامًا، وشرَّع لي أبوابًا كانت موصدة بإحكام في وجهي، وأعاد لي نفسي في تلك اللحظة الحاسمة عندما كدت أهلك في ريف ناتال. حقًّا، لقد كنت أصارع في تلك المرحلة قبل التعرف إلى صديقي كي أقهر مزاجًا سوداويًّا مَرَضيًّا، أو لنقل اكتئابًا سيطر عليَّ منذ سنوات حتى إنني عددت نفسي بالفعل في عداد الضائعين. سنوات طويلة لم أعمل خلالها عملًا ذا قيمة. في معظم الأحيان كنت أبدأ يومي وأنهيه بلا مبالاة تامة. كم من مرة أوشكت آنذاك على وضع نهاية لحياتي بيدي. سنوات طويلة لم أفعل فيها شيئًا سوى الهروب في هواجس الانتحار الفظيعة والقاتلة للروح، هواجس جعلت كل شيء في حياتي غير مُحتَمل، وجعلتني أنا نفسي لا أُحتَمل أكثر من أي شيء آخر، كنت أهرب من مواجهة العبث اليومي المحيط بي، والذي كنت أندفع إليه، ربما لضعفي العام، ولضعف شخصيتي على وجهٍ خاص. طوال سنوات لم أعد أرغب في تخيل إمكانية مواصلة الحياة، ولا حتى مجرد الوجود. لم يعد لي هدف، وهو ما أفقدني السيطرة على ذاتي. كنت — بمجرد استيقاظي في الصباح الباكر — أجد نفسي رغمًا عني فريسةً لأفكار الانتحار التي لا أستطيع التغلب عليها طيلة النهار. هجرني الجميع آنذاك، لأنني هجرت الجميع، هذه هي الحقيقة، ولأنني لم أعد أرغب في رؤية أحد، ولم أعد أرغب في شيء. لكنني جبُنت عن إنهاء حياتي بيدي. ربما عندما وصلت إلى قمة يأسي، لا أخجل من لفظ الكلمة، إذ لم أعد أرغب في خداع ذاتي وتجميل شيء، ليس هناك ما يمكن تجميله في مجتمع وعالم يُجمِّل باستمرار، وعلى نحو مقيت، كلَّ شيء؛ في ذلك الوقت ظهر باول، وتعرفت إليه في «بلومنشتوك-غاسه» عند صديقتنا المشتركة إرينا. في تلك اللحظة بدا لي باول إنسانًا جديدًا ومختلفًا تمامًا، بالإضافة إلى اقترانه باسمٍ أُكِّن له منذ عقود إعجابًا لم أشعر به تجاه أحد آخر، حتى إن إحساسًا انتابني على الفور أن هذا هو مخلِّصي. على المقعد في منتزه المدينة انبعثت فجأةً كل هذه الذكريات بكل وضوح، وفرضَت نفسها على وعيي، ولا أشعر بالخجل من هذه الكلمات الكبيرة المؤثرة التي سمحت لها بأن تتسرب إلى نفسي بكل قوتها، وهو أمر ما كنت أسمح به أبدًا، فجأةً أصبح وقع تلك الكلمات عليَّ كالبلسم، ولم أحاول حتى التخفيف من وقعها على الأذن. كمطر منعش تركت تلك الكلمات تنساب في فكري. وأنا اليوم أعتقد أن الناس الذين لهم أهمية حقيقية في حياتنا لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، وفي أحيان كثيرة جدًّا تأبى هذه اليد الواحدة أن تقبل الشذوذ الذي يحملنا على الاعتقاد أننا بحاجة إلى يد لعد أولئك الناس، بينما نحن في الحقيقة — إذا كنا صادقين مع أنفسنا — قد لا نحتاج حتى إلى إصبع واحد. في حالة من الحالات التي نحتمل فيها أنفسنا — تلك الحالات التي تتفنن فيها رءوسنا، وكما نعلم، بمهارة متزايدة يومًا بعد يوم كلما كبرنا، وذلك باستخدام كل الفنون الممكنة وغير الممكنة التي يبتدعها الرأس المنهك حقًّا، حتى بدون مثل تلك الشطحات المَرَضية التي تكاد تخترق حدود التحمل — في تلك الحالات قد نصل من حين إلى آخر — لأننا إذا لم نفعل ذلك فإننا نستسلم تمام الاستسلام — إلى ثلاثة أشخاص أو أربعة، هؤلاء الأشخاص هم الذين يمثلون لنا عونًا، بل وركيزةً أساسية في الحياة، وفي بعض اللحظات والأوقات الوجودية الحاسمة كانوا يمثلون لنا كل شيء، بل كانوا حقًّا كل شيء. لكن علينا ألا ننسى أن هؤلاء القلائل هم من المتوفين، الذين فارقوا دنيانا منذ وقت قصير أو بعيد، لأن خبرتنا المريرة قد علمتنا بطبيعة الحال أننا لا نستطيع أن ندخل في تقييمنا الأحياء أو الموجودين معنا، وفي بعض الظروف قد يكونون من السائرين إلى جانبنا، هذا إذا كنا لا نريد أن نخاطر ونرتكب خطأ جوهريًّا يضعنا في أشد المواقف سخرية وإحراجًا لنا قبل أي شخص آخر. فيما يخص باول، ابن شقيق الفيلسوف فيتغنشتاين، لم تكن لدي مثل هذه التخوفات، على العكس، كنت أشعر برباط قوي يربطني به بعد كل هذه السنوات العديدة التي قضيناها معًا حتى وفاته، والتي اجتزنا فيها كل الأمراض والشهوات الممكنة، وما يتولد دائمًا من تلك الأمراض والشهوات من أفكار. كان باول ينتمي إلى أولئك الذين كانوا بلسمًا لي خلال كل تلك السنوات، الذين جعلوا وجودي أفضل على أي حال، وعلى نحو مفيد إلى أقصى حد، أعني على نحو ملائم تمامًا لطبيعتي وقدراتي. هؤلاء هم الذين مكَّنوني في معظم الأحيان من الاستمرار في الوجود على الإطلاق، وهو ما يتجلى الآن لي بكل وضوح بعد مرور سنتين على وفاته، وبالنظر إلى برودة يناير وخوائه في بيتي. لأنني فقدت الأحياء، كنت أقول لنفسي، أريد على الأقل برفقة الأموات أن أصمد في مواجهة برد يناير وخوائه، ومن بين كل الأموات لم يكن أحد قريبًا مني في هذه الأيام وفي هذه اللحظة مثل صديقي باول. أؤكد هنا على ضمير الملكية، لأن هذه الملاحظات ترسم على الورق الصورة التي كونتها أنا عن صديقي باول فيتغنشتاين؛ لأننا اكتشفنا بمرور الأيام — كلٌّ في ذاته وفي الآخر — أشياء عديدة مشتركة، وفي الوقت نفسه أشياء عديدة متعارضة بيننا، لذلك وصلت صداقتنا على الفور بعد لقائنا الأول في «بلومنشتوك –غاسه» إلى درجة حرجة من الصعوبة زادت مع الوقت بطبيعة الحال، إلى أن أمست صداقتنا مأزقًا بالغ الصعوبة؛ هذه الصداقة ملكت عليَّ نفسي وأمسكت بزمام حياتي طوال السنوات التي سبقت وفاته، عن وعي أو لاوعي كانت صداقتنا أساسية ولا يمكن الاستغناء عنها، وكما أعرف الآن: مثل هذه الصداقة، التي ملكت عليَّ نفسي وأمسكت بزمام حياتي، لم نجدها هكذا مبذولة على قارعة الطريق، بل تعبنا طوال تلك السنوات إلى درجة الإنهاك كي ننميها معًا، ونحافظ عليها على نحو نافع ومريح لنا، حذرين أشد الحذر لئلَّا تُصاب بمكروه وهي الرقيقة الهشة. كان باول — هكذا تذكرت وأنا جالس على المقعد في منتزه المدينة — يحب الذهاب إلى الصالون الأيمن في مقهى «زَخَّر»، وذلك، كما كان يدَّعي دائمًا، بسبب الفوتيه الذي كان يستريح أكثر في الجلوس عليه، وعلى وجه الخصوص بسبب اللوحات الأكثر إتقانًا المعلقة هناك. أما أنا فكنت أفضل بطبيعة الحال الصالون الأيسر بسبب الصحف الأجنبية المتوفرة دائمًا هناك، لا سيما الصحف الإنكليزية والفرنسية، وأيضًا بسبب الهواء الأفضل بكثير. وهكذا كنا أثناء وجودي في فيينا، وقد قضيت آنذاك أغلب الوقت في فيينا، وعندما نذهب إلى «زَخَّر»، ونحن كنا نفضل الذهاب إلى «زَخَّر»، كنا نقصد مرة الصالون الأيسر، ومرة الصالون الأيمن في مقهى «زَخَّر» الذي كأنه أنشئ خصوصًا لنا حتى نتبادل هناك تكهناتنا. كان بديهيًّا أن نتواعد في «زَخَّر»، أو — لسببٍ ما يجعل لقاءنا في «زَخَّر» مستحيلًا — في «أمباسادور». أعرف «زَخَّر» منذ حوالي ثلاثين عامًا. طوال تلك السنوات كنت أجلس يوميًّا تقريبًا هناك مع أولئك الأصدقاء الذين كانوا يتحلقون حول لامبرسبرغ، الموسيقار العبقري والمجنون في آنٍ واحد، وهم الذين قادوني في نهاية فترة دراستي، وهي الأصعب في حياتي، نحو عام ١٩٥٧م، إلى هذا العالم الراقي لأفضل مقاهي فيينا كلها، لحسن الحظ، لا بد أن أضيف اليوم، لم يأخذوني إلى مقهى من مقاهي الأدباء التي كانت تسبب لي النفور دومًا، وإنما إلى مقهى ضحاياهم. في «زَخَّر» كنت أحصل في أي وقت على كل الصحف التي كان لا بد أن أحصل عليها منذ بلوغي الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين، كان باستطاعتي هناك دراستها في أحد الأركان المريحة في الصالون الأيسر لساعات طويلة دون أدنى إزعاج. ها أنا أرى نفسي الآن جالسًا في المقهى طيلة الضحى، مستغرقًا في قراءة لوموند أو تايمز، دون أن أسمح لأحد أن يخرجني من متعتي ولو للحظة واحدة، وهو ما لم يحدث أبدًا — على قدر ما أتذكر — في «زَخَّر». أما في مقاهي الأدباء فقد كان من المستحيلات أن أختلي بجريدتي طيلة الضحى دون إزعاج، فلا تكاد تمر نصف ساعة هناك حتى تزعجني الجلبة المصاحبة لظهور كاتب مع مريديه. كنت أشعر دومًا بنفور متأصل في نفسي حيال هؤلاء، لأنهم يعطلونني باستمرار عما أود القيام به، ويعوقونني بسلوكهم الفظ دائمًا عن الأشياء الجوهرية، بل لم يمكنوني أبدًا من الوصول إلى هذا الجوهري على نحو ما أريد. الهواء في مقاهي الأدباء فاسد دائمًا، مزعج للأعصاب، وقاتل للذهن. لم أكتسب هناك أبدًا خبرة جديدة، كل ما شعرت به في تلك المقاهي هو الإزعاج والتشتت والاكتئاب العبثي الكامل. أما في «زَخَّر» فلم أشعر إطلاقًا بالإزعاج أو التشتت أو الاكتئاب، بل إنني كثيرًا ما استطعت هناك أن أعمل، على طريقتي بالطبع وليس على طريقة أولئك الذين يعملون في مقاهي الأدباء. عندما كنت أجلس في «بروينرهوف» — حيث سكن صديقي باول فوقه عشرات السنوات قبل أن أتعرف إليه، وما زال يزعجني حتى اليوم الهواء العفن والضوء الشحيح المضبوط دومًا على أقل درجات الإضاءة، بالتأكيد عن بخل شاذ من أصحاب المقهى — يستحيل عليَّ أن أقرأ سطرًا واحدًا دون إجهاد، أيضًا لا أحب المقاعد الخشبية في «بروينرهوف»، إذ يكفي أن يجلس عليها المرء لبرهة فحسب حتى تسبب أشد الضرر بالعمود الفقري، بغض النظر تمامًا عن الروائح النفاذة في المقهى والتي تتغلغل في ثياب المرء حتى إذا لم يقضِ هناك سوى وقت قصير؛ ومع ذلك فإن «بروينرهوف» يتسم أيضًا بمزايا عظيمة، إلا أنها لا تلبي متطلباتي أنا شخصيًّا. من مزايا المقهى مثلًا العناية الفائقة بالزبائن التي يبديها العاملون هناك، والتهذيب الذي يكاد يكون مثاليًّا لصاحب المقهى، فهو بعيد كل البعد عن الإفراط أو التقصير. ولكن في «بروينرهوف» يسود غسق لا أمل في نهايته، ربما يصلح للعشاق المراهقين أو المرضى العجائز، لكنه لا يمكن أن يصلح للشخص الذي يريد أن يركز في القراءة ودراسة الكتب والصحف مثلي، الشخص الذي يعتبر قراءة الكتب والصحف قبل الظهيرة أهم من أي شيء آخر، شخص تخصص أثناء تطوره الذهني في دراسة الكتب والصحف، لا سيما الإنكليزية والفرنسية منها، لأنه، منذ مطلع حياته القارئة، لم يستطع تحمل قراءة الكتب والصحف الألمانية اللغة. ما قيمة فرانكفورتر ألغماينه مثلًا مقارنةً بالتايمز؟! زوددويتشه تسايتونغ مقارنةً بلوموند؟! الألمان ليسوا إنكليزًا، وما أبعدهم عن أن يكونوا فرنسيين. وأنا أعتبر أن أعظم مزية تمتعت بها منذ شبابي المبكر هي قدرتي على قراءة الكتب والصحف الإنكليزية والفرنسية. ماذا سيكون عالمي، كنت أقول لنفسي مرارًا، إذا اقتصر على الصحف الألمانية، التي لا تعدو على وجه الإجمال أن تكون صحفًا قميئة حقيرة، ولنغض النظر هنا عن الصحف النمساوية، لأنها ليست جديرة بأن تُسمى صحفًا، بل هي ورق تواليت يُطبع منه بالملايين كل يوم دون أن يكون صالحًا للاستخدام. في «بروينرهوف» تختنق الأفكار فور مولدها في دخان السجائر وبخار المطبخ والكلام الفارغ الذي يثرثر به أرباع المثقفين الفييناويين وأنصافهم وثلاثة أرباعهم، الذين يفرغون هناك في الظهيرة ما تجمع لديهم من نميمة. في «بروينرهوف» أشعر أن الناس إما أنهم يصرخون أو يهمسون، والعاملون هناك إما أنهم يخدمون بعجلة أو ببطء شديد؛ ولكن مقهى «بروينرهوف» هو في الحقيقة المقهى الفييناوي بامتياز لأنه يمثل النقيض من كل الأشياء التي أحيط بها نفسي كل يوم، تمامًا مثل مقهى «هافيلكه» الذي أصبح موضةً شائعة في السنوات الأخيرة، وبالسرعة نفسها التي ذاع فيها صيته، تدهورت حالته خلال تلك السنوات. لقد كرهت دومًا المقهى الفييناوي التقليدي الذي أشتُهر في العالم كله، لأن كل شيء فيه موجه ضدي. من ناحية أخرى فقد شعرت طوال عقود في «بروينرهوف» تحديدًا، الذي كان دومًا ضدي تمامًا (مثل «هافيلكه») وكأنني في بيتي، وهو ما حدث في مقهى «المتحف»، وفي كل المقاهي الفييناوية الأخرى التي ترددت عليها خلال سنواتي الفييناوية. كرهت المقاهي الفييناوية على الدوام، وذهبت مرارًا وتكرارًا إلى المقاهي الفييناوية التي كرهتها، قصدتها يوميًّا، بالرغم من كراهيتي الدائمة لها، وربما بسبب كراهيتي الدائمة لها، إذ كنت أعاني من مرض الذهاب إلى المقاهي، بل وعانيت من مرض الذهاب إلى المقاهي أكثر من كل الأمراض الأخرى. وما زلت، بصراحة، أعاني حتى اليوم من مرض الذهاب إلى المقاهي، لأنه تبين لي أن مرض الذهاب إلى المقاهي هو أكثر الأمراض استعصاءً على الشفاء. كرهت دومًا المقاهي الفييناوية لأنني أُواجَه هناك بأشباهي، هذه هي الحقيقية، وأنا لا أريد أن أُواجَه بأشباهي دونما انقطاع، لا سيما في المقهى الذي أذهب إليه لأهرب من ذاتي، إلا أنني أُواجَه هناك تحديدًا بنفسي وبأشباهي. أنا لا أطيق ذاتي، فما بالك بزمرة من أمثالي المفكرين الكاتبين. أتجنب الأدب ما استطعت، لأنني أتجنب ذاتي ما استطعت، ولهذا يجب أن أمنع نفسي من الذهاب إلى المقاهي في فيينا، أو على الأقل أحذر من الذهاب في أي ظرف من الظروف، وأيًّا كانت تلك الظروف إلى إحدى المقاهي المسماة بمقاهي الأدباء أثناء تواجدي في فيينا. لكن، ولأنني أعاني من مرض الذهاب إلى المقاهي، أجد نفسي المرة تلو الأخرى مرغمًا على الدخول إلى إحدى مقاهي الأدباء، حتى إذا شعرت بمقاومة عنيفة داخلي. وكلما زادت كراهيتي للمقاهي الأدبية في فيينا وتعمقت، ترددت عليها أكثر ومكثت بها فترة أطول. هذه هي الحقيقة. من يعلم كيف كنتُ سأتطور إذا لم أتعرف إلى باول فيتغنشتاين في تلك الفترة تحديدًا التي بلغت فيها أزمتي ذروتها. بدونه ربما كنت اندفعت بكل قوتي إلى عالم المتأدبين، أي إلى أكثر العوالم مدعاةً للتقزز، عالم المتأدبين الفييناويين ومستنقعاتهم الفكرية. بالتأكيد كان من أيسر الأشياء في ذروة أزمتي أن أرتمي في أحضان الكسل والوضاعة والخنوع للآخرين، أي أن أستسلم وأختلط بالمتأدبين. باول أنقذني من هذا المصير، لأنه أيضًا كان يكن كراهيةً مستمرة لمقاهي الأدباء. لهذه الأسباب الوجيهة غيرت عاداتي بين عشية وضحاها وذهبت معه — إنقاذًا للذات — إلى «زَخَّر»، ولم أعد أتردد على تلك المسماة بمقاهي الأدباء، أذهب إلى «أمباسادور» وليس إلى «هافيلكه»، إلى آخره؛ إلى أن سمحت لنفسي بالذهاب ثانية إلى مقاهي المتأدبين في اللحظة التي لم يعد لها عليَّ ذلك التأثير القاتل. نعم، إن تأثير مقاهي المتأدبين على الأدباء تأثيرٌ قاتل، هذه هي الحقيقة. من ناحية أخرى فإنني — وهذه هي الحقيقة أيضًا — أشعر في الوقت الحالي داخل المقاهي الفييناوية بالراحة أكثر من المقاهي التي أتردد عليها في ناتال، أو عمومًا في فيينا أكثر من النمسا العليا التي وصفتها لنفسي قبل ستة عشر عامًا كعلاج حتى أظل على قيد الحياة، دون أن أشعر مجرد شعور أنها بالفعل وطني، ربما لأنني شعرت منذ البدء بالعزلة في ناتال ولم أفعل أي شيء للتغلب على ذلك، على العكس لقد عمقت عزلتي، ربما عن وعي أو لاوعي، حتى رمَت بي عزلتي إلى أقصى درجات اليأس. كنت دائمًا عاشقًا للمدينة، المدينة الكبيرة، ولأنني عشت في مستهل حياتي في مدينة كبيرة، بل في أكبر موانئ أوروبا، في روتردام، فقد ترك ذلك في حياتي أثرًا لم ينمحِ، ليس عجيبًا إذن أن أتنفس الصعداء عند وصولي إلى فيينا. على العكس أيضًا أشعر بحتمية الفرار إلى ناتال عندما أقضي عدة أيام في فيينا، هذا إذا أردت ألا أختنق في هواء فيينا الفظيع. وهكذا تعودت في السنوات الأخيرة، على الأقل كل أسبوعين، أن أستبدل فيينا بناتال، ثم العكس، ناتال بفيينا. وهكذا أهرب كل أربعة عشر يومًا من ناتال إلى فيينا، ثم من فيينا إلى ناتال؛ الأمر الذي جعلني، حتى أظل حيًّا، شخصًا مطاردًا بين فيينا وناتال، لا يستطيع الحياة من غير هذا الإيقاع الذي التزمه بمنتهى الحزم. أقصد ناتال لأريح أعصابي من فيينا، ثم أذهب إلى فيينا لأبرأ من ناتال. هذا القلق ورثته عن جدي لأمي الذي عاش طيلة عمره في قلق مماثل مدمر للأعصاب، أتى في النهاية على حياته. كل أسلافي كانوا مسكونين بقلق مماثل، جعلهم لا يستقرون طويلًا في مكان أو على مقعد. بعد ثلاثة أيام لا أعود قادرًا على تحمل فيينا، ثم ثلاثة أيام ولا أطيق ناتال. خلال سنواته الأخيرة انضم صديقي باول إلى إيقاع رحلاتي بين الذهاب والإياب، فكان كثيرًا ما يرافقني إلى ناتال، ثم في العودة، وهكذا دواليك. بمجرد وصولي إلى ناتال كنت أتساءل: ماذا أفعل في ناتال؟ وإذا وصلت فيينا أتساءل: ماذا أفعل في فيينا؟ مثل تسعين في المائة من الناس أريدُ أن أكون في المكان الذي لست فيه الآن، المكان الذي هربت منه لتوي. في السنوات الأخيرة لم تتحسن حالتي المَرَضية، بل ساءت، وهكذا كنت أسافر خلال فترات زمنية تقل كل مرة عن سابقتها، إلى فيينا، ثم أعود إلى ناتال، ومن ناتال إلى مدينة أخرى كبيرة، إلى فينيسيا أو روما، وأعود، ثم إلى براغ، وأعود. الحقيقة إنني لا أشعر بالسعادة إلا أثناء جلوسي في السيارة بين المكان الذي غادرته لفوري والمكان الذي أقصده؛ أشعر بالسعادة في السيارة فحسب، أثناء الرحلة. أنا أتعس إنسان يُمكن تخيله عند وصولي إلى مكان ما، أيًّا كان المكان الذي أصل إليه، فإنني أشعر على الفور بالتعاسة. أنا واحد من الذين لا يطيقون البقاء في أي مكان من العالم، الذين لا يشعرون بالسعادة إلا بين الأمكنة التي غادروها والتي يقصدونها. قبل سنوات كنت أعتقد أن حالةً مَرَضية كهذه لا مفر من أن تؤدي حتمًا إلى جنون مطبق، إلا أنها لم تقدني إلى الجنون المطبق، بل أنقذتني من مثل هذا الجنون الذي كنت طيلة حياتي أشعر حياله بأعظم الخوف. صديقي باول كان يعاني مثلي المرض نفسه، هو أيضًا ظل طوال سنين، لعشرات السنين يسافر من مكان إلى آخر، فقط من أجل مغادرة مكان، والتوجه إلى آخر، دون أن يصل — ولحسن حظه — إلى أي مكان. هو أيضًا عجز عن ذلك. دارت أحاديثنا حول هذا الموضوع كثيرًا. في النصف الأول من حياته كان يتنقل باستمرار بين باريس وفيينا، ذهابًا وإيابًا، أو بين مدريد وفيينا، لندن وفيينا، على حسب ظروفه وإمكاناته؛ وأنا، على نحو أكثر تواضعًا بطبيعة الحال ولكن بالهوس المَرَضي نفسه، من ناتال إلى فيينا والعكس، ومن فينيسيا إلى فيينا، ثم من روما إلى فيينا، إلخ، إلخ. أنا أسعد مسافر، راحل، متحرك، متنقل؛ وأتعس واصل في هذا الوجود. إنني أتحدث هنا بطبيعة الحال عن حالة مرضية متأصلة. ثمة هوس آخر كان يجمعنا يمكن كذلك تصنيفه على أنه مرض: مرض العد الذي كان الموسيقار بروكنر يعاني منه أيضًا، خصوصًا في أعوامه الأخيرة. طوال أسابيع أو شهور كنت أجد نفسي على سبيل المثال مرغمًا، إذا سافرت بالترام إلى المدينة، أن أحدق من النافذة وأعد الفراغات الفاصلة بين النوافذ في البنايات، أو أن أعد النوافذ أو الأبواب، وكلما زاد الترام من سرعته، عددت بسرعة أكبر، غير قادر على التوقف عن العد، حتى ظننت أنني وصلت إلى حافة الجنون. وهكذا، ولكي أهرب من مرض العد، عودت نفسي، ببساطة، على توجيه البصر إلى الأرضية عند سفري بالترام في شوارع فيينا أو أي مدينة أخرى، وهو ما يستدعي تحكمًا هائلًا في النفس لم أكن على الدوام قادرًا عليه. صديقي باول كان يعاني كذلك من مرض العد، إلا أن حالته المتدهورة لا تُقاس على الإطلاق بحالتي، لذلك، وكما قال لي كثيرًا، أصبح التنقل بالترام بالنسبة إليه لا يُطاق. كان باول يعاني أيضًا من العادة المهلكة نفسها التي كادت تلقي بي على أعتاب الجنون، ألا وهي السير على حجارة رصف الشوارع بنظام خاص صارم أضعه لنفسي، وليس السير هكذا بطريقة عشوائية وكما تسير العامة؛ مثلًا: أن تتخطى القدم حجرين ثم تطأ الثالث، ولكن ليس ببساطة هكذا ودون خطة تطأ القدم الحجر الثالث في منتصفه، بل تمامًا فوق الحافة العليا أو السفلى للحجر، على حسب الظروف. أمثالنا لا يتركون شيئًا لما يُسمى بالصدفة أو الإهمال، كل شيء لا بد أن يخضع لنظام هندسي حسابي تناظري صارم. لاحظتُ مرض العد على باول منذ البداية، كما لاحظت عليه صفة عدم الخطو بعشوائية فوق حجارة رصف الشوارع، بل وفق نظام صارم ودقيق. يقولون إن الأضداد تتجاذب، لكن الأشياء المشتركة في حالتنا هي التي جذبتنا، وهناك المئات، بل الآلاف من الأشياء التي لفتت نظري في باول، تمامًا كما في حالته بالنسبة إليَّ. كنا نشترك في مئات وآلاف الأشياء التي نفضلها، ومئات وآلاف الأشياء التي ننفر منها؛ كثيرًا جدًّا ما شعرنا بالانجذاب إلى نفس الأشخاص، كما كنا نكره أناسًا بعينهم. إلا أن هذا لا يعني البتة أننا نتبنى دائمًا الرأي نفسه، أو أن لدينا الذوق عينه، أو أننا نتخذ القرارات ذاتها. مثلًا أحبَّ باول مدريد، وأنا أكرهها. أنا أعشق منطقة البحر الأدرياتيكي، وهو يمقتها، إلخ. لكنَّ كلًّا منا يعشق شوبنهاور ونوفاليس وباسكال وفلاثكيث وغويا، بينما كان كلانا ينفر وبالقدر نفسه من إلغريكو، صحيح أن أعماله تتميز بالوحشية، لكنها تخلو من أي مسحة فن. أمسى السيد البارون في الشهور الأخيرة من حياته، كما يقولون، مجرد خيال لما كان في السابق. أخذ الجميع يهرب من هذا الخيال الذي كان يكتسي مع الوقت ملامح شبحية. وبطبيعة الحال لم تعد علاقتي أنا بخيال باول نفس العلاقة التي كانت تربطني بباول السابق. كنا نتقابل، بمفردنا، لأنه طوال أيام لم يكد يغادر شقته في شارع شتالبورغ، ولم نعد نتواعد إلا نادرًا. بالفعل، وكما يقولون، تلاشى السيد البارون. راقبته عدة مرات في مركز المدينة دون أن يلاحظ، رأيته وهو يمشي بصعوبة بالغة بحذاء جدران منازل شارع غرابن، ومع ذلك بحرص مستمر على أن يحافظ على هيئته المعهودة، ثم يتوجه إلى ساحة «كول-ماركت» حتى يصل إلى كنيسة الملاك ميخائيل، ومنها إلى «شتالبورغ-غاسه». حقًّا لم يعد باول، وبالمعنى الحرفي والكامل للكلمة، سوى خيال لإنسان شعرت فجأة حياله بالخوف. لم تواتني الجرأة على مخاطبته. فضلت أن أتحمل وخزات ضميري على مقابلته. راقبته ومضيت بعيدًا عنه، كابتًا تأنيب ضميري، إذ إنني أصبحت فجأةً أخشاه. إننا نتجنب الذين على شفا الموت، وأنا أذعنت لهذه الحقارة. لا أغفر لنفسي أنني تجنبت صديقي في شهوره الأخيرة عمدًا وبدافع من غريزة البقاء الحقيرة. كان يبدو وهو يعبر الشارع شخصًا ودَّع هذه الدنيا، لكنه ما زال مرغمًا على البقاء فيها، شخصًا لم يعد ينتمي إلى العالم، لكنه مجبر على مواصلة العيش فيه. كان يحمل في ذراعيه النحيلتين، يا للغرابة، يا للغرابة، الأكياس التي كان يشتري فيها الخضار والفاكهة، ثم يجرها جرًّا إلى المنزل، خائفًا بطبيعة الحال من أن يراه أحد في هذه الحالة المزرية والبائسة، ربما كان هذا هو السبب المحرج من ناحيتي الذي حملني على حماية نفسي منه، والذي منعني من مخاطبته. لا أعلم، هل كان السبب خوفي من الموت؟ أم شعوري أن عليَّ أن أجنبه مقابلتي، لأنني لم أسر بعد في طريقه؟ ربما كلا السببين. كنت أراقبه وأخجل من نفسي في الوقت ذاته. كنت أشعر بالعار لأنني لم أصل إلى نهاية الطريق الذي وصله صديقي. أنا إنسان سيئ الخلق. بل إنني عمومًا إنسان سيئ. تجنبت صديقي، مثلما تجنبه أصدقاؤه، لأنني، مثلهم، أردت تجنب الموت. خفت مواجهة الموت، إذ كان كل شيء في صديقي ينطق بالموت. بطبيعة الحال لم يكن صديقي يتحرك من مكانه في الفترة الأخيرة، كان عليَّ أنا أن أبادر بالسؤال عنه، وهو ما فعلته أيضًا، ولكنني كنت أفعل ذلك على فترات زمنية متباعدة، وفي كل مرة بحجج أسخف من سابقتها. بين الحين والآخر كنا نذهب إلى «زَخَّر» وإلى «أمباسادور»، وبالطبع أيضًا إلى «بروينرهوف» لأنه كان الأقرب إليه. كنت أذهب بمفردي إليه، إذا توجب الأمر، لكنني كنت أفضل أن أرافق أصدقاء حتى يشاركوني تلك الفظاعة المطلقة التي كانت تشع من صديقي، لأنني لم أكن أطيق أن أتحمله وحدي. كلما تدهورت حالته البائسة، ازداد تأنقًا في ملبسه. ولكن هذه الملابس الثمينة والأنيقة تحديدًا، والتي ورثها من أحد أمراء أسرة شفارتسنبرغ الذي توفي قبل سنوات، جعلت التطلع إلى ذلك الكائن الحي الذي يكاد يخطو إلى القبر قطعةً من العذاب. لم يكن منظره الآن غريبًا على الإطلاق، بل منظرًا يهز المرء من أعماقه. في الحقيقة لقد أراد الجميع فجأةً ألا تكون لهم علاقة به، لأن هذا الإنسان الذي كانوا يرونه الآن في بعض الأحيان، يسير بشنطة التسوق في مركز المدينة، أو واقفًا وقد بلغ به الإجهاد غايته مستندًا إلى جدار أحد المنازل، لم يعد نفس الشخص الذي كان لسنوات كثيرة، لعشرات السنين، يجذبهم ويسري عنهم، الشخص الذي كان يطرد عنهم مللهم السقيم بما في جعبته من قصص لا تفرغ من كل أنحاء العالم، الشخص الذي كان بمزاحه ونوادره يقدم للبلداء من فيينا والنمسا العليا ما يعجزون عن تقديمه لأنفسهم. انقضى زمن تقاريره اللامعقولة عن رحلاته حول العالم، وتشخيصه القاسي، وتعريته لأفراد أسرته الذين كانوا يحتقرونه في البداية، ثم أضحوا يمقتونه. أما هو فكان يصفهم دائمًا بأنهم زمرة من الكائنات التي لا تفرغ جعبتها من العجائب ذات المضمون الكاثوليكي واليهودي والنازي. كان يفعل ذلك برغبة عظيمة في السخرية والتهكم، وبكل ما أوتي من قدرات مسرحية. لم يعد لما يصدر عنه الآن بين الحين والآخر ذلك الشذا الفواح من العالم الكبير، وإنما رائحة البؤس والموت. لم تعد ملابسه — مع أنها ظلت الملابس الأنيقة نفسها — توحي لمن يراه بالرهبة وبأن مرتديها رجل جاب أنحاء العالم. فجأةً بدت بالية دون رونق، تمامًا كالكلمات التي كان يجرؤ على النطق بها. لم يعد يسافر بالتاكسي إلى باريس، ناهيك عن أن يفعل ذلك حتى تراونكيرشن أو ناتال. بات يسافر إلى غموندن أو تراونكيرشن محشورًا في أحد أركان عربة الدرجة الثانية، ودائمًا بجوارب صوفية وكيس بلاستيكي يضع داخله حذاءه الرياضي القذر الذي أضحى مع الوقت حذاءه المفضل. في زيارته الأخيرة إلى ناتال كان يرتدي بالإضافة إلى الحذاء السابق الذكر فانلةً قطنية رثة وقذرة من زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي أن الموضة خلفتها وراءها منذ ما لا يقل عن نصف قرن، ولكنها تبدو وكأنها مصبوبة صبًّا على جسد عاشق المراكب الشراعية. عند دخوله إلى ناتال لم يعد ينظر إلى أعلى، بل إلى أسفل. حتى أعذب المقطوعات الموسيقية التي وضعتها له — خماسي لآلات النفخ من بوهيميا — لم تستطع أن تحرره من أساه العميق إلا للحظة عابرة. بين الحين والآخر كان يذكر أسماء أشخاص رافقوه طيلة حياته، وأسماء أشخاص هجروه منذ مدة طويلة. لم ينشأ حوار حقيقي بيننا، فهو لم يعد ينطق إلا بشذرات لا تنتظم في أي سياق، بالرغم من المحاولات المخلصة التي يبذلها المستمع إليه. عندما يشعر بأنه غير مراقب كان يفغر فاه معظم الوقت، بينما تأخذ يداه في الارتعاش. عندما أوصلته بسيارتي إلى تراونكيرشن، إلى رَبوته، كان يتشبث دون أن ينطق بكلمة بكيسه البلاستيكي الأبيض وبداخله بضع تفاحات التقطها من حديقتي في ناتال. خطر على بالي أثناء هذه الرحلة سلوكه أثناء ما يُسمى بحفل افتتاح مسرحيتي جماعة الصيد. حققت المسرحية — ولأن مسرح بورغ اتخذ كل الاستعدادات لذلك — فشلًا ذريعًا منقطع النظير، لأن الممثلين — وهم جميعًا من الدرجة الثالثة — لم يتعاطفوا لحظة واحدة مع نصي، وكما لاحظت على الفور، لأنهم أولًا لم يفهموا النص، ولم يقدروه حق قدره. كان الشعور السائد لديهم أن تمثيل هذه المسرحية ليس إلا «ورطة والسلام»، مع أنهم، وكما أعرف، كانوا بطريقة مباشرة وراء فشل خطة أن تقوم باولا فيسلي وبرونو غانتس بالبطولة. كنت قد كتبت المسرحية لهما، إلا أنهما لم يمثلا في مسرحيتي جماعة الصيد لأن فرقة القلعة،٢ كما يطلقون بحب شاذ على مسرحهم، اعترضت بالإجماع تقريبًا على قيام برونو غانتس بدور البطولة، ليس بدافع من الخوف الوجودي، بل من الحسد الوجودي؛ لأن برونو غانتس — وهو أعظم ممثل أنجبته سويسرا عبر تاريخها — أدخل في قلوب كل العاملين في مسرح بورغ ما أسميته بالرعب الفني، هذا العبقري المسرحي العملاق من سويسرا؛ ثم انكشف الأمر عن مؤامرة شاذة محزنة من أبشع ما عرفه تاريخ المسرح الفييناوي، مؤامرة ما زالت تفاصيلها محفورة في رأسي حتى اليوم كوصمة عار لا يُمكن محوها من جبين المسرح الألماني اللغة كله: لقد حاول ممثلو مسرح بورغ آنذاك أن يمنعوا ظهور برونو غانتس على خشبة المسرح ونجحوا في ذلك، بل وصل بهم الأمر إلى كتابة قرار يهددون فيه الإدارة بمنع غانتس تحت كل الظروف وبكل الوسائل — هكذا كتبوا بالحرف الواحد — من الظهور على خشبة المسرح. منذ نشوء المسرح في فيينا فإن الذي يُمسك بزمام الأمور ليس هو المدير بل الممثلون، وكما يعرف الجميع. المدير، لا سيما مدير مسرح بورغ، ليس له سلطة الأمر والنهي، الكلمة هي دائمًا للممثلين النجوم في مسرح بورغ. بضمير مستريح يمكن إطلاق وصف العته على هؤلاء الممثلين النجوم، لأنهم من ناحية لا يفقهون شيئًا في فن المسرح، ومن ناحية أخرى يمارسون بكل صفاقة عهرهم المسرحي الذي يلحق الضرر بالمسرح وبالجمهور الذي يتحمل مشاهدة هذه الدعارة المسرحية على خشبة بورغ منذ عقود، إن لم يكن منذ قرون، ويسمح للممثلين بأن يقدموا له أردأ المسرحيات ببطولة أولئك الذين يسمونهم الممثلين النجوم، بأسمائهم المشهورة وعقليتهم المسرحية البلهاء يعتلون خشبة مسرح بورغ لا لشيء إلا لأنهم أهملوا طاقاتهم التمثيلية إهمالًا تامًّا، واستغلوا شعبيتهم بوقاحة ليصلوا إلى ذروة اللافن، وما إن يرتقوا خشبة المسرح بفضل الجمهور الفييناوي البليد الذي يضعهم على جواد الشعبية الجموح، حتى يظلوا متشبثين بمكانهم في مسرح بورغ لعقود، وفي أغلب الأحيان حتى وفاتهم. في اللحظة التي استحال فيها قيام برونو غانتس بالدور بسبب سفالة زملائه الفييناويين، انسحبت باولا فيسلي من المشروع. ولأنني لم أعد أستطيع فسخ العقد الذي وقعته بخصوص جماعة الصيد بغباء وسفه مع مسرح بورغ، فقد كان عليَّ أن أتابع عرضًا افتتاحيًّا لمسرحيتي لا أستطيع وصفه إلا بأنه مثير للتقزز، عرضًا — كما سبق وأشرت — لم يُقدم حتى بنية طيبة مثل عروض عديدة، ككل ما يُقدم على خشبة بورغ تقريبًا؛ هؤلاء الممثلون عديمو الموهبة تآخوا بوقاحة وبدون أدنى مقاومة مع الجمهور، وكما يتآخى الممثلون الفييناويون منذ قرون، ووفق التقاليد، مع الجمهور، ثم تصرفوا بسفالة ضد المسرحية التي يمثلونها وضد المؤلف. وبضمير مستريح تمامًا سددوا طعنةً نجلاء في ظهر المؤلف بعد أن مرت لحظات على بداية العرض، لاحظوا خلالها أن الجمهور لا يتقبل هذه المسرحية وهذا المؤلف، لأن الجمهور لا يفهم المؤلف ومسرحيته، لأن المسرحية والمؤلف أكبر من مقدرة الجمهور على الفهم. الممثلون الفييناويون، وخصوصًا أولئك الذين يسمونهم ممثلي مسرح بورغ، لا يبذلون كل رخيص وغال — كما يُقال — من أجل المؤلف ومسرحيته، وهو شيء بديهي في مسارح أوروبا، ولا سيما في حالة نص جديد لم يُجرب من قبل. إنهم ينصرفون عن المؤلف ونصه بمجرد أن يلاحظوا أن الجمهور ليس متحمسًا لما يقدم له منذ رفع الستار. على الفور يتواطَئون في خسة مع الجمهور، ويمارسون الدعارة المسرحية، جاعلين ما يُطلق عليه المسرح الأول في المنطقة الألمانية — كما يسمون أنفسهم بتهويل صبياني — الماخور المسرحي الأول في العالم. هذا ما فعلوه أيضًا في تلك الليلة الكارثية عندما افتتحت مسرحيتي جماعة الصيد. بمجرد رفع الستار — وكما رأيت من مكاني في بلكون المسرح — ولأن الجمهور، كما يقولون، لم يتجاوب على الفور مع المسرحية، فقد أبدى هؤلاء الممثلون في مسرح بورغ معارضةً تجاهي وتجاه مسرحيتي، فكان تمثيلهم ضدي وضد المسرحية. وهكذا مثلوا الفصل الأول بأكمله تمثيلًا فظًّا غير مقنع، وكأنهم كانوا مجبرين على التمثيل في مسرحيتي جماعة الصيد، وكأنهم أرادوا القول: نحن ضد هذه المسرحية البشعة والرديئة والمقززة، إنه المدير الذي أجبرنا على أن نؤدي أدوارنا في هذه المسرحية. نحن نمثل هذه المسرحية، ولكن ليس لنا أي علاقة بها، نحن نمثل هذه المسرحية، لكنها عديمة القيمة، نحن نمثل هذه المسرحية، ولكن رغمًا عنا. على الفور تواطَئوا بخسة مع الجمهور الجاهل، وانهالوا على أوصال مسرحيتي — كما يقولون — تقطيعًا وتنكيلًا. خانوا مخرج المسرحية وأزهقوا روح جماعة الصيد بكل ما أوتوا من صفاقة. لقد كتبت بطبيعة الحال مسرحيةً أخرى تمامًا غير تلك التي مثلها في ليلة الافتتاح أولئك الممثلون اللئام خونة الفن المسرحي. لم أطق الفصل الأول إلا بالكاد، لذا نهضت على الفور بمجرد هبوط الستار، وأنا أعي بأنني خُدعت عمدًا وبأحقر الوسائل. لقد أدركت بعد نطق الجمل الافتتاحية أن الممثلين تآمروا ضدي، وأنهم سيدمرون مسرحيتي التي ملَئوها منذ اللحظة الأولى باللافن والانتهازية المتملقة للجماهير. خانوني وسخروا من مسرحيتي أبشع سخرية، وهم الذين كان عليهم بكل عواطفهم وجهدهم أن يساعدوا النص على أن يرى النور ويولد على خشبة المسرح. عندما خرجت من البلكون متوجهًا إلى ركن تعليق المعاطف قالت لي العاملة هناك: المسرحية لم تعجب الأستاذ أيضًا، أليس كذلك؟ غاضبًا من غبائي الشاذ الذي جعلني أأتمن مسرح بورغ على مسرحية جماعة الصيد ليقدمها لأول مرة، وغاضبًا من العقد السخيف الذي وقعته مع المسرح، هبطت الدرج وخرجت من المسرح. لم أحتمل قضاء لحظة واحدة أخرى في جماعة الصيد هذه. أتذكر أنني عدوت خارجًا من مسرح بورغ وكأنني أهرب ليس فقط من مؤسسة لتدمير مسرحيتي، بل من مؤسسة لتدمير ممتلكاتي الفكرية جمعاء. سرت على طول شارع «رينغ»، ثم عدت إلى مركز المدينة. دفعني الغضب إلى السير جيئةً وذهابًا. لكنني لم أهدأ بالطبع. بعد نهاية العرض قابلت أصدقاء عديدين لي ممن حضروا حفل الافتتاح، وجميعهم قالوا لي — بالحرف الواحد — إن المسرحية حققت نجاحًا كبيرا، وإن التصفيق كان هائلًا في نهاية العرض. كذبوا عليَّ، أعرف ذلك، لا يمكن أن يكون العرض سوى كارثة. لم يتوقفوا عن ترديد كلمات نجاح كبير، تصفيق هائل حتى عندما جلسنا في مطعم. كنت أود لو صفعتهم واحدًا بعد الآخر لسلوكهم المنافق. بل لقد مدحوا حتى الممثلين، مع أنهم كانوا أغبى ممثلين رأيتهم في حياتي وأكثرهم افتقارًا للموهبة، فهم الذين حفروا القبور لشخوص جماعة الصيد. الوحيد الذي صارحني بالحقيقة كان صديقي باول الذي صنَّف العرض كله على أنه سوء تفاهم كامل، وفشل ذريع، ووقاحة ثقافية هي من صميم خصال الفييناويين، ومثال حي وناصع على خسة مسرح بورغ ووضاعته تجاه المؤلف ومسرحيته. إنك أيضًا ضحية العته والمؤامرات والتواطؤ الذي يسود مسرح بورغ، قال لي، لا يفاجئني حدوث ذلك، وإن ما حدث يجب أن يكون درسًا لي. نحن بالطبع نحتقر أولئك الذين يكذبون علينا، ونبجل الذين يصارحوننا بالحقيقة. لهذا كان من البديهي تمامًا أن أبجل باول. ينكمش المحتضرون على ذواتهم رافضين أي علاقة مع الأحياء ومع الذين لا يفكرون في الموت. هكذا انكمش باول وتضاءل، وانسحب متقوقعًا على ذاته كليةً. لم يعد يراه أحد، وبين الحين والآخر كان يسأل عنه أحدهم. يسألني الأصدقاء المشتركون بيننا، وأنا أسألهم عما يفعله باول. لم تواتني الشجاعة — تمامًا مثل هؤلاء الأصدقاء — كي أزوره في شقته. كانت هذه الأفكار تدور في رأسي عندما أتناول قهوتي تحت شقته في مقهى «بروينرهوف»، وهناك أجلس وحيدًا بجانب مقعده الشاغر، أطلُّ على «شتالبورغ-غاسه»، وأشعر فجأةً بكراهية مزدوجة تجاه مقهى «بروينرهوف»، ليس فقط بسبب غياب باول، وإنما لأنني ما زلت أتردد على المقهى بالرغم من ذلك، وأفكر أنني ربما لم أحظَ طوال حياتي بصديق أفضل من ذلك الذي يرقد في سريره الآن فوقي في شقته وفي حالة بائسة بالتأكيد، صديق لم أعد أزوره لخوفي من مواجهة الموت وجهًا لوجه. كنت أكبت دومًا هذه الفكرة إلى أن أزحتها تمامًا. كل ما فعلتُه كان البحث في مفكرتي عن تلك المواضع التي كتبتُها عن باول، مستحضِرًا إياه عبر هذه الملاحظات التي تعود في بعض الأحيان إلى ١٢ عامًا مضَت، وكما ألاحظُ الآن، أستحضِره على الهيئة التي أودُّ الاحتفاظَ به عليها، باول الحي، وليس الميت. لكن هذه الملاحظات التي دونتها في ناتال وفيينا، في روما وليشبونة، وفي زيورخ وفينيسيا بينت لي — كما أرى الآن — أنها ليست إلا تاريخ احتضار. معرفتي بباول بدأت في تلك اللحظة — هكذا أعتقد الآن — التي شرع يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة. ثم رحت أتتبع احتضاره — وكما تبرهن ملاحظاتي — عبر ما يزيد عن اثني عشر عامًا. من احتضاره استفدت أنا بكل طاقاتي. لست إلا شاهدًا على اثني عشر عامًا من الاحتضار، استمددت خلالها — كما أعتقد — من احتضار صديقٍ الجزءَ الأعظم من القوة التي أبقتني على قيد الحياة طوال الأعوام الاثني عشر. وليس من الشذوذ أن أعتقد أنه كان على الصديق أن يموت حتى يهوِّن عليَّ الحياة، أو بالأحرى حتى يهوِّن عليَّ وجودي، بل ويجعله، عبر فترات طويلة، ممكنًا من الأساس. أغلب الملاحظات التي دونتها عن باول تتمحور حول الموسيقى والجريمة، حول مبنى «هِرمان» ومبنى «لودفيغ» والعلاقة المتوترة بينهما، حول جبل فيلهلمينه — جبل قدرِنا — والأطباء والمرضى الذين سكنوا جبلنا في عام ١٩٦٧م. كان لباول ملاحظات قيمة أيضًا عن السياسة والثروة والفقر، وذلك من واقع خبرة إنسان هو مِن أرهف مَن عرفت حسًّا ومن أرقهم مشاعرًا. كان يحتقر مجتمع اليوم الذي يتنكر على الدوام لتاريخه، المجتمع الذي فقد ماضيه ومستقبله، على حد قوله، وأُصيب بالبلادة العلمية النووية. كان ينهال بالسياط على الحكومة الفاسدة والبرلمان المصاب بجنون العظمة، كما كان ينهال بالسياط على الفنانين وزهوهم بأنفسهم الذي يصل حد العجرفة، لا سيما أولئك الذين يُقال عنهم إنهم يستلهمون الأعمال الفنية الكلاسيكية. كان يضع كل شيء موضع المساءلة: الحكومة والبرلمان والشعب كله، الفن الخلاق وما يطلقون عليه الفن المُستلهَم، فناني الفن المستلهَم؛ كما كان يضع نفسه دائمًا موضع تساؤل. كان يعشق الطبيعة ويكرهها، مثلما يعشق الفن ويكرهه، وكان يقابل الناس بحب متأجج ولامبالاة باردة في آنٍ واحد. كان ينفذ إلى أعماق الأثرياء كثري، والفقراء كفقير، إلى أعماق الأصحاء كشخص يتمتع بالصحة، وأعماق المرضى كمريض، وأخيرًا إلى أعماق المجانين كمجنون، والمخابيل كمخبول. مرة أخرى — قبل وفاته بوقت قصير — جعل باول من نفسه مركزًا للأسطورة التي اختلقها هو وأصدقاؤه قبل عقود: اقتحم باول وهو في غاية الهياج، ومزودًا بمسدس معمَّر، محل مجوهرات «كوشرت» في شارع «نوي-ماركت» الذي كان يملكه والداه ذات يوم، ثم رفع المسدس، وهو واقف على عتبة الباب، في وجه ابن خاله غوتفريد الذي كان، ولا يزال، يمتلك المحل، مهددًا ابن خاله — الذي كان يقف خلف واجهة العرض — بإطلاق الرصاص فورًا إذا لم يعطه لؤلؤةً أشار إليها. استولى الرعب على غوتفريد، فرفع يديه — كما روي لي — وقلبه يكاد يتوقف عن الخفقان، فبادره صديقي بالقول: اللؤلؤة من تاجك! كان الأمر برمته مزاحًا. الأخير بالنسبة لباول. لم يفهم الصائغ، ابن الخال، المزاح؛ بل أدرك على الفور أن ابن عمته غير مسئول عن أفعاله، كما يُقال، أي إن مكانه في المصحة. استطاع ابن الخال — كما يحكون — الإمساك بالهائج، ثم اتصل بالشرطة التي أودعته في «الفناء الحجري». مئتا صديق سيحضرون دفني، ولا بد من أن تلقي أنت على قبري كلمة تأبيني، قال لي باول. لكن، وكما علمت، لم يشارك في جنازته سوى ثمانية أو تسعة أشخاص. كنت في ذلك الوقت في كريت، أؤلف مسرحيةً قمت بتمزيقها بمجرد الانتهاء منها. الغريب أن باول — كما علمت لاحقًا — قد أودِع بعد اقتحامه محل ابن خاله في إحدى مصحات لنتس، وليس — كما اعتقدت في البداية — في «الفناء الحجري»، وطنه الحقيقي، على حد تعبيره. وهو يرقد، كما يُقال، في مدافن فيينا الرئيسية. حتى اليوم لم أزر قبره.

ولد توماس برنهارد عام ١٩٣١م في هولندا. درس في الفترة بين ١٩٥٢م إلى ١٩٥٧م التمثيل والإخراج في أكاديمية موتسارت الفنية في سالزبورغ، ثم عمل مراسلًا لإحدى الصحف الاشتراكية إلى أن تفرغ للكتابة الإبداعية. من أعماله: «على الأرض وفي الجحيم» (أشعار، ١٩٥٧م)، «صقيع» (رواية، ١٩٦٣م)، «ذهول» (رواية، ١٩٦٧م)، «مصلح الكون» (مسرحية، ١٩٧٩م)، «صداقة» (١٩٨٢م). حصل على عدة جوائز في النمسا وخارجها، منها جائزة «غيورغ بوشنر» الألمانية المرموقة، كما رفض استلام عدد من الجوائز. ويُعتبر برنهارد من أبرز أدباء النمسا في النصف الثاني من القرن العشرين. توفي عام ١٩٨٩م في غموندن بالنمسا العليا.

درس سمير جريس الألمانية وآدابها وعلم الترجمة في جامعتي عين شمس والقاهرة، ثم في جامعة ماينتس بألمانيا، وحصل على درجة الماجستير عن رسالة تقدم بها عن «إشكاليات الترجمة من الألمانية إلى العربية».

ترجم عن الألمانية أربعين عملًا من الأعمال الأدبية الحديثة، منها: «سدهارتا» لهرمان هسه، «وكان مساء» لهاينريش بُل، و«عازفة البيانو» لإلفريده يلينك، و«الكونترباص» لباتريك زوسكيند، و«دون جوان» للكاتب النمساوي بيتر هاندكه. ألَّف كتابًا عن الأديب الألماني جونتر جراس بعنوان «جونتر جراس ومواجهة ماضٍ لا يمضي».

حصل على جوائز عربية وألمانية عديدة تقديرًا لترجماته.

١  المقصود هو الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١م)، وتعتبر أطروحته Tractatus logico-philosophicus التي نشرها عام ١٩١٢م في فيينا من أشهر أعماله. (المترجم)
٢  «بورغ» تعني بالألمانية القلعة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥