الفصل الأول

النزول

نحن لا نعرف سوى النَّزر اليسير عن العوالم الكائنة تحت أقدامنا. انظُر لأعلى في إحدى الليالي الصافية، وقد ترى ضوءَ نجمٍ على بُعد آلاف التريليونات من الأميال، أو قد تلتقط عيناك فوَّهات البراكين التي خلَّفتها ضرباتُ الكويكبات على وجه القمر. أما إذا نظرتَ لأسفل، فسيتوقف نظرُك عند التربة السطحية، أو الأسفلت، أو عند أصابع قدميك. قلَّما شعرتُ بأنني بعيد عن عالَم البشر، اللَّهم إلا عندما أكون أسفله بمسافة عشر ياردات، مُحاصَرًا بين الفكَّيْن اللامعَيْن لمستوى التراصف القاعدي للحجر الكلسي الذي تشكَّل أول الأمر في أرضية بحر عتيق.

تحتفظ الأرض السفلية بأسرارها جيدًا. في السنوات العشرين الماضية وحدَها نجح علماءُ البيئة في اقتفاء أثر شبكات الفطريات التي تشدُّ تربة الغابات، حيث تربط بين كل شجرة والأخرى في صورة غاباتٍ مُتصلة فيما بينها، كما تفعل الفطرياتُ منذ مئات الملايين من السنين. في مقاطعة تشونجتشينج بالصين، تبيَّن أن لشبكة كهوفٍ اكتُشفت عام ٢٠١٣ نظامَ طقسٍ خاصًّا بها: طبقات مُتدرجة من الضباب المُكدَّس تكوَّنت في رَدْهةٍ مركزية ضخمة، وضباب بارد ينجرِف في تجاويف من سحابٍ عملاق بعيدًا عن امتداد الشمس. وعلى مسافة ألف قدم تحت الأرض في شمال إيطاليا، هبطتُ إلى قاعةٍ مُستديرة ضخمة من الصخور، يقطعها نهرٌ مدفون وتملؤها كثبانٌ من الرمال السوداء. كان عبور تلك الكثبان الرملية مَشيًا على الأقدام كاجتياز صحراء عديمة الرياح على كوكبٍ خالٍ من الضوء.

لِمَ النزول لأسفل؟ إنه فعلٌ مُخالِف للبديهة والحَدْس، أن تُعارض طبْع الحواس وميل الروح. إنَّ وضعَ شيءٍ عَمدًا في الأرض السفلية هو دائمًا استراتيجية تهدف إلى حمايته من أن تُدركه العين بسهولة. وعمليًّا، فإنَّ استعادةَ شيءٍ من الأرض السفلية دائمًا ما تتطلَّب عملًا شاقًّا. إن صعوبة الوصول إلى الأرض السفلية لطالما جعلتها وسيلةً لترميزِ ما لا يمكن قوله أو رؤيته على المَلأ: الخسارة، والحزن، وأعماق الذهن الخفية، وما تُسمِّيه إيلين سكاري «الحقيقة الباطنية العميقة» للألم الجسدي.

ثمَّة تاريخٌ ثقافي طويل من مَقت الأماكن الواقعة تحت الأرض، تاريخٌ يربطها ﺑ «الظلام المُروِّع داخل العالم»، على حَدِّ تعبير كورماك مكارثي. الخوفُ والنفور هما ردُّ الفعل الطبيعي تجاه هذه البيئات؛ حيث تسود مفاهيم التلوث، والموت الجماعي، والعمل القاسي. ومن المؤكَّد أن رُهَاب الأماكن المغلقة هو الأكثر حِدَّةً بين جميع أنواع الرُّهاب الشائعة. لقد لاحظتُ في كثيرٍ من الأحيان كيف يحتفظ رُهاب الأماكن المغلقة — أكثر من الدُّوَار بكثير — بقُدرتِه المُزعجة للنفس والمُثيرة للقلق حتى عندما يتعرَّض له المرءُ على نحوٍ غيرِ مباشر؛ عن طريق الحَكي أو الوصف على سبيل المثال. عند سماع قصص الاحتباس تحت الأرض، يرتبك الناسُ ويتراجعون، وينظُرون إلى الضوء، كما لو أن الكلمات وحدَها يمكنها احتجازهم.

ما زلتُ أتذكَّر عندما كنتُ في العاشرة من عمري، وأقرأ في رواية آلان جارنير «غريب بريسينجامين» عن طفلَين يهرُبان من الخطر بالنزول إلى أنفاق التعدين التي تخترق نتوء الحجر الرملي لحافة إلدرلي في تشيشير. وفي أعماق الحافة، يضيق تطويقُ الحجر عليهما لدرجةٍ تُهدِّد بحبسهما داخله:

استلقَيا مُمَدَّدي الجسد تمامًا، وكانت الجدران، والأرضية، والسقف مُطبِقةً عليهما كما لو أنها طبقة جِلد ثانية. وكان رأساهما مائلَين على جانبٍ واحد؛ ذلك أنه في أي وضعٍ آخرَ كان السقفُ سيضغط فمَيهما في الرمال، ومن ثمَّ لا يستطيعان التنفُّس. كانت الطريقة الوحيدة للتقدُّم هي أن يَسحبا نفسيهما بأطراف الأصابع ويدفعا بأصابع القدم؛ حيث كان من المُستحيل ثَني رجليهما على الإطلاق، وأي انحناء للمرفقَين كان يُهدِّد باعتصار الذراعَين بلا حيلةٍ تحت الجسد. ثم علق كعبا «كولين» بالسقف؛ فلم يتمكَّن من الحركة لأعلى أو لأسفل، وانغمست حافة الصخرة في عظام ساقَيه حتى صرخَ من الألم. لكنه لم يستطِع التحرك …

جعلتْ هذه الفقرات الدَّم يبرُد في عروقي وأخذَتْ أنفاسي. وعندما أُعيدُ قراءتها الآن، أشعرُ بالأحاسيس ذاتها. ومع ذلك، فإن الموقف أثَّر فيَّ بأنْ منحني انجذابًا قويًّا للسرد، وما زال كذلك. لم يستطِع كولين التحرُّك ولم أستطِع التوقُّف عن القراءة.

إنَّ نُفُور النَّفْسِ من الأرض السفلية كامنٌ في اللُّغة. ذلك أننا في كثير من الاستعارات التي نستخدمها في حياتنا اليومية نَحتفي بالارتفاع بينما نحتقر العُمق. فأنْ تكون «مرفوعَ» المعنويات أفضل من أن تكون «هابطَ» العزيمة أو منجرفًا «للأسفل». وكلمة مثل «النازلة»؛ أي النائبة، تعني حرفيًّا «انعطافًا للأسفل»؛ و«الجائحة» هي أذًى «ينزل» بنا. يسري التحيُّز ضد العمق كذلك في الاتجاه السائد للملاحظة والتعبير. في كتابٍ لستيفن جراهام بعنوان «عمودي»، يصف ستيفن هيمنة ما يُسميه «الأسلوب المسطح» للجغرافيا وعلم الخرائط، و«النظرة الأفقية السائدة للعالم» التي نشأت عنه. يقول جراهام إننا نجد صعوبةً في الهروب من «المنظورات المُسطَّحة المُلِحَّة» التي اعتدنا عليها، ويرى أنَّ هذا فشلٌ سياسي وإدراكي على حدٍّ سواء؛ لأنه يُنفِّرنا من الاهتمام بالشبكات العميقة للاستخراج، والاستغلال، والتخلُّص التي تدعم عالَم السطح.

أجلْ، نحن نميل، لعدة أسبابٍ، إلى الابتعاد عمَّا هو بالأسفل. ولكننا الآن نحتاج أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى إلى فَهْم الأرض السفلية. يقول جورج بيريك في كتابه «أنواع الأماكن»: «أجبِر نفسك على أن ترى الأشياء بسطحيةٍ أكثر.» وأودُّ أن أردَّ عليه بأن أقول: «أجبِر نفسك على أن ترى الأشياء بعمقٍ أكبرَ.» تُمثِّل الأرض السفلية عاملًا حيويًّا في وجود الهياكل المادية المُعاصرة؛ وكذلك في ذكرياتنا، وأساطيرنا، واستعاراتنا. إنها أرضٌ نراها كلَّ يوم، وتُشكِّلنا كلَّ يوم. ومع ذلك لا نرغب في أن نقر بوجود الأرض السفلية في حياتنا، أو في أن نعترف بصورها المُزعجة في خيالنا. تبدو «منظوراتنا المسطحة» غير مُلائمة على نحوٍ مُتزايد للعوالم العميقة التي نعيش فيها، وللموروثات الزمنية السحيقة التي نتركها.

إننا نعيش الآن في عصر الأنثروبوسين، وهو حِقبة تتميَّز بالتغيير الهائل والمُخيف في كثيرٍ من الأحيان على مستوى الكوكب؛ حيث لا تُوجَد «الأزمة» كرؤيا مستقبلية مؤجَّلة لنهاية العالم، بل بالأحرى كحدثٍ مُستمرٍّ تتأثَّر به التأثُّرَ الأبلغَ الفئاتُ الأكثرُ ضَعفًا والأكثرُ عُرضةً لذلك. الزمن مُفكَّك تمامًا، وكذلك المكان. والأشياءُ التي كان يجب أن تبقى مدفونة، ترتفع إلى السطح من تلقاء نفسها. وعندما تظهر لنا مثل هذه الأشياء التي تبرُز إلى السطح، قد يصعُب أن نتغاضى عنها وقد استولى علينا فُحش التطفُّل والفضول.

في القطب الشَّمَالي، تتسرَّب رواسبُ الميثان القديمة عبر صِمَاماتٍ في الأرض تُشبه «النوافذ»، والتي فُتِحَت بفِعل ذوبان الأرض الدائمة التجمُّد. وتنبعث جراثيمُ الجمرة الخبيثة من جُثَث الرَّنَّة المدفونة في تربةٍ كانت مُتجمِّدة فيما مضى، ولكنها الآن تتعرَّض لعوامل النحت والحرارة. وفي غابات شرق سيبيريا، تفغَر فُوَّهة بركان في الأرض الليِّنة فاها، وتبتلِعُ عشراتِ الآلاف من الأشجار كاشفةً عن طبقاتٍ أرضية عمرها ٢٠٠ ألف عام، يشير إليها الياقوتيون المحليون بأنها «مَدْخَلٌ إلى العالَم السُّفلي». كما تلفظُ الأنهار الجليدية المُنحسِرة في الألب والهيمالايا أجسادَ أولئك الذين ابتلعتهم على مدارِ عقودها الجليدية في الماضي. وفي جميع أنحاءِ بريطانيا، أدَّت موجاتُ الحر الأخيرة إلى ظهور آثار الهياكل القديمة — أبراج المراقبة الرومانية، وسياج العصر الحجري الحديث — حيث بدت مُتلألئة مثل خطوطِ قَصِّ الصور حين النظر إليها من أعلى: عندما جفَّت الأرضُ وكأنَّها صورةٌ فيلمية بالأشعة السينية، ارتفعَ ماضي الأرض المغمور بالمياه في زيارةٍ مُتعطِّشة لها. وحيث يتدفَّق نهرُ إلبه عبر جمهورية التشيك، انخفضَ منسوب المياه الصيفي مؤخرًا لدرجةٍ كشفت عن «صخور المجاعة»، وهي جلاميد منحوتة استُخدِمَت لعدة قرون لتخليد ذكرى الجفاف والتحذير من عواقبه. وعلى إحدى هذه الصخور، نُقِشَت عبارة بالألمانية معناها «إذا رأيتَني، فابكِ.» أما في شمال غرب جرينلاند، فقد بدأت تتحرَّك نحو الضوء قاعدةُ صواريخ ترجع إلى أيام الحرب الباردة الأمريكية، كانت قد دُفِنَت بإحكامٍ تحت الغِطاء الجليدي منذ خمسين عامًا، وتحتوي على مئات الآلاف من جالونات الملوِّثات الكيميائية. تقول عالِمة الآثار ثورا بيتورسدوتير: «إنَّ القضية ليست في أنَّ الأشياء تُدفَن في أعماق الطبقات الأرضية، ولكن في أنها تظلُّ موجودة، وتبقى بَعدنا، وترجع لنا بقوة لم نتخيَّل أنها قد تمتلكها … قوة مُظلمة ﻟ «عمالقة نائمين»» استيقظوا من سُباتهم الزمني السحيق.

«الزمنُ السحيق» هو التقسيم الزمني للأرض السفلية. الزمن السحيق هو نطاقاتٌ مذهلة من تاريخ الأرض تمتدُّ بعيدًا عن اللحظة الحالية. ويُقاسُ الزمن السحيق بالوحدات التي تقهر اللحظة البشرية؛ إنها الحِقَب والدهور، وليست الدقائق والسنوات. الزمن السحيق تُسجِّله الصخور، والجليد، والرواسب الكلسية، ورواسب قاع البحر، وانجراف الصفائح التكتونية. الزمن السحيق ينفتح على المستقبل والماضي على حدٍّ سواء. سيُخيِّم الظلام على الأرض بعدما تستنفِد الشمس وقودها بحوالي ٥ مليارات سنة. إننا نقفُ بأخمص أقدامنا، بل وبكعوبنا، على شفا جُرفٍ.

ثمَّة راحةٌ موسومة بالخطر مُستقاةٌ من الزمن السحيق. تُغرينا حياةُ الدعة الأخلاقية كآكلي اللوتس. ما أهمية سلوكنا إذا اختفى الإنسانُ العاقل عن الأرض في غمضةِ عينٍ بالمنظور الجيولوجي؟ بالنظر إلى الأخلاق الإنسانية من منظور صحراء أو مُحيط، فإنها تبدو عَبثًا؛ إذ تنسحِق وتُطمَس أمامهما وتصبح لا قيمة لها. وتبدو محاولات التأكيد على القيمة غير ذات جدوى. يُغرينا علمُ الوجود المُسطَّح؛ فتصير كلُّ أشكال الحياة غيرَ ذات أهمية على حدٍّ سواء في مواجهة الخراب القادم في نهاية المطاف. ولا يعنينا انقراضُ نوع أو نظام بيئي إلا في سياق دوراتِ تآكُل موارد الكوكب واستعادتها.

علينا أن نُقاوم مثلَ هذا التفكير الجامد؛ في الواقع، علينا أن نحثَّ أنفسنا على العكس؛ فالزمن السحيق كمنظورٍ راديكالي يَستفزنا على العمل بلا مبالاة. وذلك لأن التفكير في الزمن السحيق يمكن أن يكون وسيلةً لا للهروب من حاضرنا المضطرب، ولكن لإعادة تصوُّره؛ ولكبح الأرواح الجشعة والحاقدة المُتأهبة عن طريق قصصٍ أقدم وأبطأ وتيرةً حول نشأة الأشياء وانحلالها. وفي أفضل ما يكون، قد يُساعدنا الوعي بالزمن السحيق أن نرى أنفسنا بوصفنا جزءًا من نسيجٍ مُتشابكٍ يتألَّف من الهبة، والميراث، والإرث، يمتدُّ على مدى ملايين السنين الماضية وملايين السنين القادمة؛ ما يقودنا إلى التفكير فيما نتركه وراءنا للعصور القادمة والكائنات التي ستأتي بعدنا.

عند النظر في الزمن السحيق، تدبُّ الحياة في الأشياء التي بدت هامدة. وتتكشَّف لنا مسئولياتٌ جديدة. وينبثق أمام الذهن والعين ضربٌ من الانسجام الوجودي. وبذلك يُصبح العالَم مُتنوِّعًا على نحوٍ عجيب ونابضًا بالحياة مرة أخرى. يتنفَّس الجليد. ويشهد الصخر نوباتٍ من المَدِّ والجزر. وتنحدِر الجبال وترتفع. وتخفق الحجارة. إننا نعيش على أرضٍ لا تهدأ.

•••

تحكي القصةُ الأقدمُ من بين قصص الأرض السفلية عن نزولٍ خطيرٍ إلى الظلام من أجل الوصول إلى شخصٍ أو شيءٍ مُرسَل إلى عالَم الموتى. تُخبرنا روايةٌ مختلفة ﻟ «ملحمة جلجامش» — المكتوبة حوالي عام ٢١٠٠ قبل الميلاد في سومر — عن عملية النزول هذه، التي قام بها خادمُ جلجامش، ويُدعَى إنكي، إلى «العالَم السفلي» نيابةً عن سيِّده لاسترداد شيءٍ مفقود. يُبحِر إنكي عبر عواصف البَرَد، التي تضربه ضربَ «المطارق»، ويهتز قاربه جرَّاء الأمواج التي تُهاجمه هجومَ «السلاحف النطاحة» و«الأسود»؛ ومع ذلك، يصل إلى العالَم السفلي. ولكنه سرعان ما يُحبَس هناك، ولا يُحرَّر إلا عندما يفتح المحاربُ الشابُّ أوتو حفرةً إلى السطح ويحمل إنكي إلى الخارج مرةً أخرى بنفثةٍ عالية. وبالأعلى في ضوء الشمس، يتبادل إنكي وجلجامش العناقَ والقبلات ويتحدَّثان لساعات. لم يستَعِد إنكي الشيءَ المفقود، لكنه جلبَ معه أخبارًا قيِّمة عن أُناسٍ تواروا في دثار الموت. ذلك حيث يسأل جلجامش يائسًا: «هل رأيتَ أطفالي الذين وُلِدوا موتى ولم يعرفوا الوجود قط؟» فيجيب إنكي: «رأيتُهم.»

تتكرَّر قصصٌ مشابهة في جميع أساطير العالَم. ويسجِّل الأدبُ الكلاسيكي عِدَّة نماذج لما كان يُعرف في اليونانية باسم «كاتاباسيس» (النزول إلى الأرض السفلية) و«نيكيا» (سؤال الأشباح، أو الآلهة، أو الموتى عن مستقبل الأرض)؛ ومن بين تلك الحكايات محاولة أورفيوس لاستعادة حبيبته يوريديس من هاديس، ورحلة إينياس — بقيادة العرَّافة، التي يحميها الغصنُ الذهبي — لطلب المشورة من ظل والِده. كانت عملية الإنقاذ التي حدثت مؤخرًا للاعبي كرَّة القدم التايلانديين بإخراجهم من غرفتهم المنعزلة الواقعة في باطن الجبل بمثابةِ نزولٍ معاصرٍ إلى الأرض السفلية؛ ولاقت القصة اهتمامًا عالَميًّا، وكان السبب يُعزى جزئيًّا إلى أنها تتمتَّع بقوة الأسطورة.

تشير كلُّ هذه الروايات إلى شيءٍ يبدو متناقضًا؛ إذ قد يكون هذا الظلام وسيطًا للرؤية، وقد يكون هذا النزول حركةً نحو الظهور والكَشف وليس التبدُّد والتلاشي. إنَّ الفعل الإنجليزي understand، أي «يفهم» أو «يدرك»، يحمل في حدِّ ذاته دلالةً قديمة بالمرور أسفل شيءٍ من أجل استيعابه بالكامل. والفعل discover، أي «يكتشف»، يعني «الكشف عن الشيء بالتنقيب عنه»، و«النزول وجلبه إلى الضوء»، و«استخراجه من العُمق». إنها متلازماتٌ ومستدعياتٌ قديمة. إن أقدمَ أعمالِ فن الكهوف في أوروبا — المُتمثلة في السلالم المطلية، والنقاط ونقوش الأيدي المرسومة على جدران الكهوف الإسبانية — يرجع تاريخُها إلى حوالي ٦٥٠٠٠ عام، أي قبل ما يقرُب من ٢٠٠٠٠ عام من التاريخ الذي يُعتقَد أن الإنسان العاقل قد وصلَ فيه لأول مرة إلى أوروبا قادمًا من أفريقيا. ترك فنانو النياندرتال (أو الإنسان البدائي) هذه الصور. وحسبما كتبَ أحد علماء الآثار المسئولين عن التأريخ لهذا الفن، فإنه قبل وقتٍ طويل من وصول الإنسان الحديث تشريحيًّا إلى ما يُعرف الآن بإسبانيا «كان الناسُ يقومون برحلات إلى الظلام.»

إنَّ كِتاب «الأرض السفلية» هو قصةُ رحلاتٍ إلى الظلام، وتجارب نزولٍ خُضناها بحثًا عن المعرفة. إذ يتبع مساره من المادة المُظلمة التي تشكَّلت عند نشأة الكون إلى المستقبل النووي لعصر الأنثروبوسين المُنتظر. وخلال الرحلة التي خضناها في الزمن السحيق بين هاتين النقطتَين البعيدتَين، يكون الخط الذي يتمحور حوله الحكي هو الحاضر الدائم الحركة. وعبر فصول الكتاب، وتمشِّيًا مع موضوعه، تمتد شبكةٌ تحت السطح من الأصداء، والأنماط، والعلاقات والروابط.

على مدى أكثر من خمسة عشر عامًا الآن، كنت وما زلتُ أكتبُ عن العلاقات بين المشهد الطبيعي وقلب الإنسان. ما بدأ كرغبةٍ في حَلِّ لُغزٍ شخصي — وهو سببُ انجذابي الشديد نحو الجبال في شبابي، لدرجةِ أنني في بعض الأحيان كنتُ على استعدادٍ للموت في سبيل حُبِّها — تمادى ليُصبح مشروعًا لوضع خريطةٍ عميقة نُفِّذ عبر خمسة كتب وحوالي ٢٠٠٠ صفحة. من القمم الجليدية لأعلى القِمم الجبلية في العالَم، اتَّبعتُ مسارًا منحدِرًا لما هو حتمًا مستودعٌ ما، مُستكشِفًا طوابقَ المكان الواقعة تحت السطح. كتبَ ويليام كارلوس ويليامز في إحدى قصائده الأخيرة: «يغرينا النزول، كما أغرانا الصعود.» استغرقَ مني الأمرُ حتى النصف الثاني من حياتي كي أفهمَ شيئًا مما كان يَعنيه ويليام. لقد رأيتُ في الأرض السفلية أشياءَ أتمنَّى ألا أنساها أبدًا، وأشياءَ تمنَّيتُ لو أنني لم أشهدها قط. وما اعتقدتُ أنه سيكون الكتابَ الأقلَّ صلةً بالبشر بين كُتبي، أصبح ولدَهشتي أكثرَها جماهيرية. وإذا كانت الصورة التي توسَّطت الكثيرَ مما كتبتُه من قبلُ هي صورةَ قدمِ شخصٍ بينما هو يضعها ويرفعها أثناء سيره، فإنَّ الصورةَ التي تحتل قلب هذه الصفحات هي صورة يَدٍ مفتوحة: مُمتدة بالتحية، أو الرحمة، أو ترك علامة.

لقد استحوذَتْ عليَّ لوقتٍ طويل رؤيةُ شعب السامي للأرض السفلية باعتبارها انعكاسًا مثاليًّا لعالَم البشر؛ حيث الأرض هي دائمًا خطُّ المرآة، بحيث «تلمس أقدامُ الموتى، الذين لا بد أنهم يسيرون رأسًا على عقب، أقدامَ الأحياء، الذين يقفون مُنتصِبي القامة.» تؤثِّر هذه العلاقة الوثيقة التي تعكسها تلك الوضعية في نفسي أبلغ تأثير؛ حيث يقف الأموات والأحياء وباطنُ قدَمِ كلٍّ منهما مُلامس لباطن قدمِ الآخر. وبرؤية آثار الأيدي القديمة على جدران كهوف مالترافيسو، أو لاسكو، أو سولاويزي، أتخيَّل وضع كفي بحيث ينطبق تمامًا على آثار كفوف تاركي تلك الآثار المجهولين. أتخيَّلُ أيضًا أنني أشعر بضغطةِ يَد دافئة من داخل الصخر البارد، وتلتقي أطراف أصابعها بأطراف أصابعي في لقاءٍ مبسوط الأيدي عبر الزمن.

•••

قبل وقتٍ قصير من بدءِ الرحلات المسرودة هنا، حصلتُ على شيئين. جاءَ كلٌّ منهما ومعه مطلب، وكان شرطًا للحصول عليهما كهديةٍ أنْ أوافق على تلبية هذين المَطلبَين.

الشيءُ الأول هو عُلبةٌ برونزية مصبوبة من طبقتَيْن وفي حجم بيضة البجعة، من ذلك النوع الذي تشعر بوزنه الثقيل في راحة يدك. إنه صندوقٌ صغير وبه شيءٌ سامٌّ. كتبَ صانعُه لعنتَه في ورقة: كراهاته، ومخاوفه، وخسائره، والألم الذي ألحقه بالآخرين، والألم الذي ألحقه الآخرون به؛ كلَّ شيء سيئ في ذهنه. ثم أحرقَ الورقة وخبَّأ الرماد داخل العُلبة. ثم ضاعفَ صبَّها، فأضافَ إليها طبقة ثانية من البرونز لزيادة قوَّتها. أصبحت تلك الطبقة الخارجية من البرونز محفورةً ومُغلَّفة خلال عملية صَبِّها، بحيث بدت أشبه بسطح كوكب أو الغلاف الجوي فوقه. ثم وضعَ أربعة مسامير حديدية في وسط العلبة، وقطعَ أطرافها وبرَّدَها حتى تساوت. إنه شيءٌ ذو قوة استثنائية، وقدرة شعائرية على الخَلْق. كان من الممكن أن يكون قد صُنِع في أي وقت خلال الألفين والخمسمائة سنة الماضية، ولكنه صُنِع حديثًا.

كان شرطُ الحصول على العُلبة هو أن أتخلَّص منها في أعمق المواقع التي يُمكنني الوصولُ إليها في الأرض السفلية أو أكثرها أمانًا؛ مكان لا يمكنها الرجوع منه أبدًا …

كان الشيء الثاني شكل بومةٍ مقطوعًا من شريحةٍ من عظام الحوت. كان طلسمًا بغرض السحر. وكان حوت المينك الذي نُحِتَ منه شكلُ البومة قد انجرفَ نافقًا على شاطئ إحدى جزر هبرديس. صُقِلَت إحدى عِظام أضلاعه إلى مقاطعَ عرضية، يبلغ سُمك المقطع الواحد منها أقلَّ من نصف بوصةٍ وبارتفاع ست بوصات. ثم قُطِعَ أحد تلك المقاطع العرضية على شكل بومة بأربع ضرباتٍ بشفرة حادة: ضربتَين للعينَين، وضربتَين لخَطَّي الجناحَيْن. إنه شيءٌ ذو جمال فريد، ينتمي إلى بساطة صُنع العصر الجليدي. كان من الممكن أن يكون قد صُنِع في أي وقتٍ خلال العشرين ألف سنة الماضية، ولكنه صُنِع حديثًا.

كان شرطُ حصولي على البومة أن أحْمِلها معي طوال الوقت في رحلتي في الأرض السفلية؛ ذلك كي تساعدني على الرؤية في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤