المادة المُظلمة
على بُعد أكثر من نصف ميل تحت الأرض، وفي مُختبرٍ مُقامٍ على نطاق من الملح الصخري الفضي الشفاف، الذي خلَّفه تبخُّر بحرٍ شمالي داخلي قبل حوالي ٢٥٠ مليون سنة، يحاول فيزيائيٌّ شاب إمعانَ النظر في الفراغ.
يجلس أمام شاشة جهاز كمبيوتر، بجوار مُكعبٍ فضي كبير. يُسمَّى هذا المُكعب مكعبَ «دريفت»، ويعمل على التقاط أنفاس الرياح. يريد الفيزيائيُّ الشاب التقاط الأنفاس الخافتة لرياح جسيمية تهب مُرسلة عبر الفضاء من كوكبة تُسمَّى «سيجنوس»؛ أي البجعة، وهي تبعد عدة سنواتٍ ضوئية عن الأرض.
يبحث الفيزيائي الشاب عن دليلٍ على الوجود المُظلِم في مركز الكَوْن: وجودٌ من الغموض بمكانٍ لدرجة أنه ابتلعَ حتى الآن جميع مُحاولاتنا تقريبًا، سواءٌ ما كان منها بغرض الاستكشاف والفحص أو الوصف والتصوير. الاسم الذي أطلقناه على هذا الوجود — الذي يرفض التفاعُل مع الضوء، الذي ربما لا يكون حتى موجودًا — هو «المادة المظلمة». والمكان الوحيد الذي يمكن للفيزيائي الشاب أن يُجري فيه بحثه هو بالأسفل هنا في الأرض السفلية، مَحميٌّ من السطح بثلاثة آلاف قدم من الهاليت، والجبس، والدولوميت، والحجر الطيني، وحجر الغرين، والحجر الرملي، والطمي، والتربة السطحية.
ومن المُفارقات التي صادفَته في عمله أنه كي يشاهد النجوم، عليه أن ينزل بعيدًا عن الشمس. ففي بعض الأحيان يمكنك الرؤية في الظلام على نحوٍ أكثر وضوحًا.
•••
في أوائل الثلاثينيَّات من القرن العشرين، كان عالِم فلك سويسري يُدعَى فريتز زفيكي يدرس حشودَ المجرَّات باستخدام تلسكوبات معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عندما لاحظ وجود شذوذٍ ذي دلالاتٍ غير اعتيادية. حشود المجرَّات عبارة عن مجموعات من المجرَّات مترابطة بفِعل الجاذبية؛ وقد تضمَّن عمل زفيكي قياسَ سرعات الدوران لكل مجرةٍ على حدةٍ في مداراتها حول نواة حشد المجرات؛ وذلك لمعرفة وزن الحشد بأكمله. ما لاحظه زفيكي هو أن المجرَّات كانت تدور أسرعَ بكثيرٍ مما كان مُتوقَّعًا، لا سيَّما نحو الامتدادات الخارجية للحشد. وبهذه السرعات، كان لا بدَّ أن تخرج كل مجرَّةٍ على حدةٍ من نطاق جاذبيتها على الأخرى، ما يُبدِّد الحشد ويُشتِّته.
انتهى زفيكي إلى أنَّ ثمَّة تفسيرًا واحدًا فقط لذلك. لا بد من وجود مصدرٍ آخر للجاذبية، قوي بما يكفي للحفاظ على وجود المجرات معًا في الحشد؛ وذلك بالنظر إلى سرعات دوران الأجسام التي يمكن رصدُها. ولكن ما الذي يمكنه أن يوفِّر مثل هذه القوة الهائلة لمجال الجاذبية، بما يكفي لربط مجراتٍ كاملة، ولماذا لم يتمكَّن من معرفة هذه «الكتلة المفقودة»؟ لم يجد زفيكي إجاباتٍ لأسئلته، لكنه بطرحه لها قد شكَّل بداية بحث لا يزال مُستمرًّا حتى اليوم. تُعرَف تلك «الكتلة المفقودة» التي كان يبحث عنها الآن باسم «المادة المُظلمة»، ويُعد إثبات وجودها وتحديد صفاتها أحدَ الأهداف الكبرى للفيزياء الحديثة.
ولكن كيف لنا أن نبحث عن الظلام في الظلام؟ كيف نبحث عن المادة التي لها كتلة ومن ثمَّ جاذبية؛ ولكنها لا تُصدِر ضوءًا، أو تعكسه، أو تحجبه؟ منذ محاولة زفيكي، جُمِعَ الدليل على وجود المادة المُظلمة إلى حَدٍّ كبير عن طريق الاستدلال، حيث لا يكون البحث عن المادة نفسها، ولكن عن تأثيرها المُفترَض على الكيانات المُضيئة، أي الأجسام التي يمكن رصدها. لاستكشاف مادة ليس لها ظل، عليك ألا تبحث عن وجودها؛ ولكن عن نتائج هذا الوجود وآثاره.
من المعروف الآن، على سبيل المثال، أنَّ المادة المُظلمة تؤثِّر على منحنيات دوران المجرات الحلزونية، ما يجعل جميع الأجسام داخل هذا النوع من المجرات تدور بمعدلاتٍ مُماثلة، بغض النظر عن بُعدها عن مركز جاذبية المجرة. ومن المعروف أيضًا أنَّ المادة المُظلمة تؤدي إلى انحناء الضوء أثناء مروره حول مجرةٍ ما، مُتسبِّبًا فيما يُشار إليه باسم «التأثير العَدَسي للجاذبية». وتتسبَّب الكتلة في انحناء الفضاء، كما أظهر أينشتاين في نظريته عن النسبية العامة؛ ويَتَّبع الضوءُ منحنيات الفراغ تلك، كما هو الحال عندما يمرُّ حول كيانٍ ضخم كالمجرة. ولكن مثلما كانت مجرات زفيكي تدور بسرعة كبيرة، فإنَّ الضوء أيضًا ينحني بشدة بحيث يرجع فقط إلى المكونات المرئية لمجرةٍ ما. ومن ثمَّ، لا بدَّ — مرة أخرى — من وجود كتلةٍ أكبر من تلك التي يُمكننا رؤيتها. هذا الوجود الهائل غير المدَرك، ذو المنحنيات الفراغية، وذو التأثير العَدَسي، الذي يحيط بالمَجرة المرئية، يُعرَف لدى علماء الفيزياء الفلكية، باسم «هالة المادة المُظلمة».
يُستدَل من هذه الملاحظات وغيرها من الملاحظات المُماثلة على أنَّ حوالي ٥ في المائة فقط من كتلة الكون مُكوَّنة من المادة التي يُمكننا لمسُها بأيدينا ومُشاهدتها بأعيننا ورصدها بمُعداتنا. هذه هي المادة التي يتكوَّن منها الحجر، والماء، والعِظام، والمعادن، والدماغ، وهي المادة التي تتكوَّن منها عواصف النشادر في كوكب المشتري، وحلقات الدبش في كوكب زُحل. يُطلِق علماءُ الفلك على هذه المادة اسم «المادة الباريونية»؛ لأن الجزء الأكبر من كتلتها يرجع إلى البروتونات والنيوترونات المعروفة لدى علماء الفيزياء باسم «الباريونات». من المفترض أنَّ ما يزيد قليلًا على ٦٨ في المائة من كتلة الكون مكوَّن من «الطاقة المُظلمة»، وهي قوةٌ غامضة تعمل فيما يبدو على تسريع التوسُّع المُستمر للكون. أما نسبة ٢٧ في المائة المُتبقية من كتلة الكون، فيُعتقَد أنها تتكوَّن من المادة المُظلمة، التي ترفض كلُّ جسيماتها تقريبًا التفاعُل مع المادة الباريونية.
المادة المظلمة أساسية لكل شيءٍ في الكون؛ فهي تُثبِّت جميع البنيات معًا. ومن دون المادة المظلمة لن يكون ثمَّة وجود لحشود المجرَّات الهائلة، والمجرَّات، والكواكب، والبشر والبراغيث، والعصيَّات. لإثبات وجود المادة المظلمة وفكِّ شفرتها، كما كتبَ كينت مايرز، علينا الاقترابُ من «الكشف عن نظامٍ جديد، كَوْن جديد، حيث سيُعرَف حتى الضوء على نحوٍ مُختلف، والظلام كذلك.»
يعمل فيزيائيو المادة المظلمة في حدودِ ما يمكن قياسه وما يمكن تخيُّله. إنهم يبحثون عن الآثار التي تتركها المادة المُظلمة في العالَم المادي المحسوس. فعملهم هو عملٌ فلسفيٌّ شاق يستوجِب الصبر وشيئًا كالإيمان: «كأن كلَّ ما كان هناك، كان يراعات — ومنها يمكنك الاستدلال على وجود المَرج.» كما قالت الشاعِرة وعالِمة الفيزياء المُختصة في المادة المُظلمة ريبيكا إلسون.
في الوقت الحالي، يُعرَف الجُسيم الذي يُعتقد أنه على الأرجح مُكوِّن المادة المظلمة بالاسم الطريف «ويمب»، وهو اختصارٌ لمصطلح بالإنجليزية يعني «الجُسيم الضخم الضعيف التفاعل». ما نعرفه عن جُسيمات «ويمب» يشير إلى أنها ثقيلة (يزيد وزنها على وزن البروتون بمقدار ألف مرة)، وأنها تكوَّنت بكمياتٍ كبيرة بما يكفي خلال الثواني التالية لنشأة الكون لكي تُعادِل النقص في الكتلة المفقودة.
إنَّ جُسَيمات «ويمب» — مثلها مثل النيوترينوات، التي يُطلَق عليها اسم «جسيمات الأشباح» — قليلة الصِّلة بعالَم المادة الباريونية. ولكن جسيمات «ويمب» تمرُّ في أكبادنا، وجماجمنا، وأمعائنا بالتريليونات كلَّ ثانية. وتنطلِق النيوترينوات عبر قشرة الأرض، ووشاحها، ولُبها الصلب المُكوَّن من الحديد والنيكل دون أن تلمس ذرة واحدة أثناء حركتها. بالنسبة إلى هذه الجُسيمات دون الذَّرية، نكون نحن الأشباح وجُسيماتنا هي عالَم الظِّل، الذي يتكوَّن في الغالب من شبكةٍ شفَّافة. كان التحدِّي الأكبر الذي واجهه الفيزيائيون هو كيفية إجبار هذه الجُسيمات المُراوِغة على التفاعل مع التجارب؛ كيفية نَسْج شبكةٍ يمكنها اصطياد هذه الأسماك السريعة. وكان أحد الحلول هو النزول إلى عالَم ما تحت الأرض. ومن ثمَّ، أُنشئت مُختبرات تحت الأرض في جميع أنحاء العالم، وخُصِّصت للكشف عن أدلة على تفاعُل جُسيم «ويمب» أو نيوترينو لفترةٍ وجيزة مع المادة الباريونية. تُمثِّل التجارب التي تُجرى في هذه المُختبرات العميقة جميعها أشكالًا من صيد الأشباح، وتقع في أماكنَ بعيدة تحت الأرض؛ لأن الصخور المُحيطة تشكِّل دروعًا تحمي التجارب مما يُسميه الفيزيائيون «الضوضاء».
الضوضاءُ هي طنين الجُسيمات في حياتنا اليومية عبر الهواء؛ بعبارة أخرى، هي الصَّخب الصادر عن العالَم الذَّري المعتاد أثناء أدائه لعمله. إذ يمثِّل النشاط الإشعاعي ضوضاءَ تصمُّ الآذان. وميونات الأشعة الكَوْنية تُمثل ضوضاءَ أيضًا. وإذا كنت تريد الإنصات إلى أصواتٍ خافتة للغاية حتى إنها تكاد تكون غير موجودة على الإطلاق، فلن تتمكَّن من ذلك وهناك شخصٌ يقرَع الطبول بالقرب من أُذنك. لسماع تنفُّس الكَوْن لحظة ولادته، يجب أن تنزل تحت الأرض إلى بقعةٍ تُعدُّ، من الناحية التجريبية، أحدَ أكثر الأماكن هدوءًا في الكون.
على بُعد نصف ميل تحت الأرض في منجمٍ مهجور باليابان، وفي غرفةٍ من الصخر الصوَّان عمرها ٢٥٠ مليون سنة، يوجد خزانٌ من الفولاذ المقاوم للصدأ يحتوي على ٥٠٠٠٠ طن من الماء الفائق النقاء. يُراقَب هذا الماء بواسطة ١٣٠٠٠ أنبوب مُضخِّم للضوء، ما يُشكِّل عينًا مُركَّبة. تبحث العينُ عن ومضاتٍ صغيرة من الضوء الأزرق. هذه الومضات هي إشعاع شيرينكوف، الذي ينتج عندما يتحرَّك إلكترونٌ ما بسرعة تفوق سرعة الضوء في الماء. تبلغ الإلكترونات مثل هذه السرعات عندما يضرب الذرَّة — من حين لآخر — نيوترينو؛ إذ يُشتِّت التصادم إلكترونات الذرة بسرعاتٍ تزيد على سرعة الضوء. هذه الإلكترونات المُشتَّتة تُسمَّى «نواتج الإفناء»؛ وإذا كانت هذه الإلكترونات مُشتَّتة في الماء، فإنها تكوِّن حولها لفترة وجيزة مخروطًا مضيئًا أزرقَ اللون أثناء حركتها. ومن ثمَّ، فإن العين المُركَّبة للأنابيب المُضخِّمة للضوء ترصد دليل «جُسيمات الأشباح» ذا الإزاحة الثلاثية: ليس النيوترينو نفسه، أو الذرَّة التي اصطدم بها، أو الإلكترونات التي شتَّتها؛ ولكن الهالة الزرقاء التي خلَّفها ذلك التوهُّج اللاحِق للإفناء الذرِّي الناتج عن الاصطدام بجُسيمات الأشباح. هذه الغرفة المدفونة من الصخر الصوَّان تُسمَّى «المَرْصَد»؛ فعلى الرغم من أنها على عمقٍ سحيق تحت الأرض، فهي في الحقيقة تستكشف النجوم، ومن بين مهامها العديدة الأخرى مراقبة المُستعرَّات العظمى في مجرة درب التبانة.
في أعماق منجم ذهب سطحي مُستنفَد في ولاية ساوث داكوتا، يُوجَد زينون مُبرَّد تبريدًا فائقًا في صهريج فراغي يبلُغ ارتفاعُه ست أقدام، ومُحاط ﺑ ٧١٦٠٠ جالون من الماء المنزوع الأيونات المُجمَّع في خزان فولاذي ملحوم ومُراقَب بواسطة أنابيب مُضخِّمة للضوء؛ للكشف عن إزاحة فوتون واحد وإلكترون واحد ناتج عن اصطدام جُسيم «ويمب». الزينون هو غازٌ نبيل ذو ذراتٍ كبيرة. عندما يكون الزينون شديدَ البرودة، يُصبح ذا كثافة عالية؛ وتتجمَّع تلك الذرات الكبيرة معًا، ومن ثمَّ تُشكِّل مقطعًا مُستعرضًا أكبر للجُسيمات القادمة، وتُحسِّن من فُرَص اصطدام جسيم «ويمب». في مشهد طبيعي حيث جُرِّفت الأرض وجُوِّفت قديمًا بحثًا عن معدنٍ نادر عالي القيمة، يجري البحث الآن عن مادةٍ متوفرة للغاية على نحوٍ لا يمكن تصوُّره وليست ذات قيمة على الإطلاق.
وبالقُرب من قرية بولبي الصغيرة على ساحل يوركشاير، في كهف مِلحٍ يقع على عمقٍ كبيرٍ من أشغال منجم للبوتاس والمِلح الصخري، التي بدأت عام ١٩٧٣، يجري الآن العمل على تجربةٍ للكشف عن المادة المُظلمة، وتُعرَف باسم «دريفت»، وهو اختصارٌ لمصطلح إنجليزي يعني «تحديد الارتداد الاتجاهي من المسارات».
•••
يفتح نيل رولي خريطته للأرض السفلية ويبسطها على مكتبه، ويضع أربعَ قطعٍ من الصخور على أركانها لإبقائها مُستوية، ذاكرًا اسم معدن كل قطعة وهو يضعها: سيلفيت، هاليت، بوليهاليت، بوراسيت. يسوي الخريطة بيدَيه، بادئًا من المركز إلى الحواف. نيل هو اختصاصيٌّ في سلامة المناجم. عمل في مجال الفحم؛ وهو الآن يعمل في مجال البوتاس. يحبُّ دبليو إتش أودن، ويُحِبُّ الخرائط والتعدين.
تُسجِّل خريطةُ نيل الطرُق وغرف الملجأ في منجم بولبي. للوهلة الأولى، تبدو لي كأجنحة اليعسوب، ذات عروقٍ وتركيب مُعقدَيْن. وتلمح عيناي رموزها ببطء.
الساحل الشمالي الشرقي لإنجلترا موجود على هيئة خطٍّ رمادي باهتٍ يمتدُّ بعرض الخريطة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي: تفاصيل غير ذات صِلة معروضة في الأغلب لأغراض التوجيه. عند بولبي نفسها، هناك دائرتان تُمثِّلان البئرَين الغاطستَين في صخر الأساس، ما يتيح الوصول إلى شبكة الأنفاق. ومن تلك النقطة المركزية، تنتشر الأنفاق على شكل نصف دائرة إلى الشمال الشرقي والجنوب الغربي، مُشكِّلةً أجنحة اليعسوب. إلى الجنوب الغربي، تنتشر أسفل مُستنقع ووادٍ، في عمق شمال يوركشاير. وإلى الشمال الشرقي، تنتشر أسفل بحر الشمال، حيث تنتهي وراء ممرِّ الشحن وفي داخل المُحيط المفتوح.
تُعرَف شبكةُ الأنفاق والطرُق هذه مُجتمعةً باسم «الانجراف». هناك أكثر من ٦٠٠ ميل من الانجرافات الحالية المحفورة في النطاقات الناعمة للهاليت (الملح) والسيلفيت (البوتاس)، التي تمتدُّ أسفل البحر واليابسة، وتخرج إلى واجهات حفر التعدين حيث — في كل ساعة من كل عام — يستخرج العاملون والمعدات أطنانَ البوتاس من الراقات، وينقلون البوتاس على القواديس، ويبدءون الرحلة مع هذه البقايا المدفونة لبحرٍ يرجع إلى العصر البرمي ولأعلى إلى حقول المحاصيل حول العالم، حيث ستُنثَر كسمادٍ في كلٍّ من فَصْلَي الربيع اللذين يشهدهما كوكبُ الأرض سنويًّا، وتُعيد البوتاسيوم اللازم لدورة الإنبات.
وكما أنَّ الأرض أسفل المنديب تحتوي على متاهةٍ كوَّنتها المياه، فإنَّ الأرض أسفل بولبي بها متاهةٌ صنعها الإنسان. لقد جئتُ من صَدع إلى انجراف.
على خريطة نيل، تُشير الخطوط الحمراء إلى انجرافٍ يمرُّ خلال الملح، وتشير الخطوط السوداء إلى انجراف خلال البوتاس. وتُشير المربعات الصفراء إلى غرف ملجأ محفورة في الجدران الجانبية للأنفاق والمعزولة حراريًّا بواسطة جدران خارجية من الفوم المصنوع من مادة البولي يوريثان. وفي حالة حدوث انهيار أو نشوب حريق في العُمق، تكون هذه هي مخارج الطوارئ ومسالك الهروب.
على أطراف الأجنحة — على مسافاتٍ بعيدة تحت البحر وتحت المُستنقعات على التوالي — هناك خيوطٌ خضراء رقيقة تمرُّ بالخارج. هذه هي ثقوب السَّبر الجانبية التي يحفرها جيولوجيو المناجم لاختبار وضع الرواسب وسلامتها أمام السطح الجاري العمل فيه. المعلومات التي يجلبونها من شأنها أن تُحدِّد الاتجاهات المستقبلية للتعدين، اتجاهات بسط الأجنحة مستقبلًا.
يقول نيل، وهو يمرُّ بأصبعه بعرض الخريطة، من أحد طرفَي جناح اليعسوب إلى الطرف الآخر: «عليك أن تُدرك أن شبكة الأنفاق على سطحٍ مائل.» ويُردف قائلًا: «يميل الانجراف لأنَّ الرواسب تميل. فالأنفاق تتَّبع البوتاس، وطبقات البوتاس مائلة.»
بالاتجاه إلى الداخل، تزيد أعماقُ رواسب البوتاس، حيث تصل إلى أقصى عمقٍ لها — ويبلغ حوالي ٤٥٠٠ قدم — في الحَدِّ الخارجي تحت المُستنقعات. وباتجاه البحر، ترتفع إلى أدنى عُمق — ويبلغ حوالي ٢٦٠٠ قدم — عند أبعد نقطة وراء قناة الشحن. ويتأثر التدرُّج في درجة الحرارة بعُمق التدرُّج. فعلى ارتفاع ٢٦٠٠ قدم، تكون درجة حرارة الهواء ٣٥ درجة مئوية. وعلى ارتفاع ٤٥٠٠ قدم، تكون ٤٥ درجة مئوية. وفي كِلا المكانَين، تكون الحرارة الأرضية شديدة للغاية، ويكون محتوى الرطوبة في الهواء شديدِ الِانخفاض، لدرجة أنَّ العَرق يتبخَّر قبل التمكُّن من رؤيته. ويحدث الجفاف بسرعة. وبالنسبة إلى عُمَّال المناجم، فإن الأمر يُشبه العمل في الصحراء الكبرى ظُهرًا، في الظلام.
يقول نيل: «يحمل جميعُ العاملين صناديقَ التبريد المُمتلئة بأربعة لتراتٍ من الماء المثلَّج لكل مناوبة عمل. ولديهم جداول زمنية لمُعالجة الجفاف طوال نوبات عملهم. ولا بدَّ أن يواظبوا على شرب الماء باستمرار. ذلك أنه الإجراء الأكثر أمانًا.»
«هيا، لنرَ ما إذا كان بإمكاننا اللحاق بالمصعد بالأسفل هناك، والعثور على بعض المادة المظلمة، وبعدها سنقوم برحلةٍ طويلة إلى واجهة حفرة التعدين تحت البحر.»
نرتدي واقيات الأذن. ونُعلِّق أقنعة التنفس على أحزمتنا. ونضع مُثلثًا برونزيًّا مُرقَّمًا في جيوبنا كتصريح للدخول: «لا تخلعه الآن، فلن يُسمَح لك بالخروج …» يُغلق باب القفص الأصفر مُصدِرًا صريرًا، ويبدأ القفص في النزول بثبات؛ ولكنه رغم ذلك يُحدث وخزًا في المَعِدة. يتلاشى هديرُ مبيت المروحة، وتزداد سرعة نزول القفص. في منتصف الطريق لأسفل، نسمع صوتَ اصطكاكٍ ودوِيٍّ عنيف أثناء عبور القفص الآخر في طريقه لأعلى، حيث يحدث انضغاطٌ شديد للهواء بين القفصَيْن مُصدِرًا أزيز تَحطُّم كما لو أنهما قطاران يسيران في اتجاهَيْن مُتعاكِسَيْن. نواصل النزول لأسفل ببطء، ثم نسمع صوتَ ارتطام، ثم نتوقَّف، ثم يُفتَح باب القفص مُحدِثًا صريرًا؛ وتصيح الأصوات: «اخلعوا واقيات الأذن، وأشعلوا الضوء! اخلعوا واقيات الأذن، وأشعلوا الضوء!»
يدور الغبار الصخري في الهواء، كثيفًا بما يكفي لتذوُّقه، إنه مالح على اللسان.
وتؤدي الفتحات السوداء للانجراف بعيدًا إلى أسفل المحيط، في العصر البرمي.
وتُفْتَح غرفةٌ لمعادلة الضغط في الحائط على مُختبر.
•••
يجلس الفيزيائيُّ الشابُّ إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به، ويراقب الإشارات الواردة من كوكبة سيجنوس. يُدعَى هذا الشاب كريستوفر توث، ويرتدي مِعطفَ مختبرٍ أبيضَ اللون كبيرًا عليه للغاية. يتحدَّث كريستوفر بوضوح وهدوء. يتَّسِم أسلوبه بالتواضُع والدماثة والبساطة؛ وأتساءل: هل السبب في ذلك يُعزى بطريقةٍ ما إلى أنه يقضي أيامه في التفكير عبر زمن سحيق يمتدُّ حتى نشأة الكون.
على طول جدران المُختبر، وعلى مسافة كل خمس عشرة قدمًا أو نحو ذلك، يُميِّز شريطُ تحذير باللونَين الأسود والأصفر حدودَ ما يبدو أنها مَداخل مُحتمَلة، لا تتعدَّى في ارتفاعها مستوى الفخذ. وفوق كل حَدٍّ مُميَّز بشريط، وُضِعَت فأسٌ طويلة القبضة وذات شفرة فالقة في خُطَّافين.
يحتوي الملح على إشعاع جاما مُنخفض المستوى للغاية. ويُعدُّ الملح عازلًا جيدًا. كما أنه خالٍ من النشاط الإشعاعي. وهو مادة مُمتازة لتغطي بها نفسك إذا كنت ترغب في دراسة الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل. لكنه يتَّسِم أيضًا بأنه شديد اللدانة. ينساب الملح بمرور الوقت. ويزحف في الأرجاء. وينحلُّ تدريجيًّا. إذا حفرت حجرة في راقة من الهاليت يبلغ ارتفاع صخر الأساس فوقها ٣٠٠٠ قدم، فستتشوَّه معالم هذه الحجرة رويدًا رويدًا. إذ سيميل السقف وستنتفخ الجدران. وتفسير ذلك أنَّ الجاذبية تريد استعادة تلك المساحة. ولذا، يُدرك العلماءُ في مختبر بولبي أنهم يعملون في منطقةٍ مؤقتة لا يتجاوز عمرها الآمن سنواتٍ محدودة. ومن ثمَّ، يجب دراسة الزمن السحيق بسرعة.
يقول كريستوفر، وهو يحاكي إيماءات أيدي المُضيفين الجويين شارحًا بروتوكولات السلامة، ومشيرًا إلى المداخل التي تحمل الشريط التحذيري: «تلك هي مخارج الطوارئ في حالة حدوث هبوطٍ مفاجئ في الهاليت، هنا، وهنا … وهنا. إذا بدأ المُختبر في الانهيار، فأمسِكوا بفأسٍ وشُقُّوا طريقكم عبر جدار المُختبر، ثم شُقُّوا طريقكم للخروج عبر الملح سَالِمين.»
توقَّفَ بُرهةً ثم ابتسَم. «حسنًا، هذه هي الفكرة النظرية، على الأقل.»
تُجرى حاليًّا في المختبر أنواعٌ مختلفة من التجارب تحت الأرضية. إحداها لفحص الصخور من أجل التوصُّل إلى تقنياتٍ لدفن النفايات المُشعة على المدى الطويل. وتبحث تجربةٌ أخرى في تقنيةٍ تُعرَف باسم «التصوير المقطعي بالميون»، التي تَستخدِم الجُسيمات المشحونة الشديدة الاختراق (الميونات) الصادرة عن الأشعة الكَوْنية المنبعثة من الفضاء. نظرًا لقدرة الميونات على المرور في أعماق الصخور، فإنها تُمكِّننا من رؤية البِنى المغمورة، مثل الأجزاء الداخلية للبراكين وتجويفات الأهرامات من الداخل. وهكذا توفِّر الميونات وسيلةً للرؤية خلال الحجارة. هذه كلُّها تجاربُ رائعة. لكن أهم تجربة على الإطلاق في مختبر بولبي هي تلك المعروفة باسم «دريفت».
يقودني كريستوفر نحو جسمٍ كبير موجود في أحد أركان المختبر. ويقول، مُلوِّحًا بيدَيه كساحِرٍ يعرض إحدى حِيَله: «هذه هي كُرتي البلورية لما تحت الأرض، وتُعرَف أيضًا باسم حجرة إسقاط الزمن.»
تبدو حجرة إسقاط الزمن ذات الاسم الرائع مُخيبةً للآمال عند النظر إليها من الخارج. إذ تُرى بطانات من أكياس قمامة سوداء ملفوفة بإهمالٍ حول صندوق كبير مُغطًّى بمعدن.
قلتُ له مُعلِّقًا: «أرى أنَّ الطبقة الخارجية الأساسية من كُرتك البلورية مصنوعة من أكياس القمامة.»
ردَّ كريستوفر: «أراكَ تهزأ، ولكن الشريط اللاصق وأكياس القمامة أثبتت أهميتها في اختراقاتٍ علمية أكثر مما تتخيَّل.»
ثم أخذ يشرح لي التجربة. «نعلم أن المادة المُظلمة ضخمة. ضخمة للغاية. ومن ثمَّ، فإن جُسيماتها، حتى وإنْ كانت غير مرئية لنا، لها كتلة، وإذا كانت لها كتلة، فلا بدَّ أنها على الأقل تصطدم أحيانًا بالجُسيمات التي يُمكننا رؤيتها. تُطلِق هذه التصادُمات تَشتُّتَ أنوية. وهدفُنا الأول من تجربة «دريفت» هو اكتشاف هذه التصادمات، وتتبُّع الأنوية أثناء تشتُّتها.»
يتوقَّف بُرهة. وأنتظر. تمرُّ تريليونات النيوترينوات عبر أجسامنا وعبر صخر أساس الأرض، ووشاحها، وأجزائها الداخلية السائلة، ولُبها الصلب.
«تخيَّل مشاهدة لعبة بلياردو تكون فيها الكرات الحمراء مرئية، ولكن البيضاء ليست كذلك. وفجأة ترى الكرة الحمراء — أي إلكترون ما — تتحرَّك عبر نسيج البيز الأخضر الذي يكسو طاولة البلياردو. وبرسم مسارِ الكرة الحمراء، يمكنك أن تتَّبع رجوعًا، إنْ جاز التعبير، المسار غير المرئي للكرة البيضاء — أي جُسيم «ويمب» — التي ضربتها. ومن هذا، قد تتسنَّى لك معرفة المزيد حول اتجاه هذه الكرة البيضاء، وكُتلتها، وخواصها. إننا نتطلَّع إلى القيام بذلك لعددٍ كافٍ من المرات، وبدقةٍ كافية، وذلك من أجل تقديم الدليل على وجود هالة من المادة المُظلمة.»
في قلب جهاز «دريفت» يُوجَد صهريجٌ فراغي من الصلب سعته متر مكعب واحد، تقطعه شبكة فائقة الرقة، عبارة عن أسلاك عالية الشحنة مُتباعدة على مسافة ملِّيمتر واحد. إذا اصطدم جسيم «ويمب» بنواة ذرة مادةٍ عادية داخل الغرفة، فإنه يُولِّد مسار تأيُّن، تُكثِّفه شبكة الأسلاك وتُسجِّله. ومن ثمَّ يمكن إعادة تشكيل المسار في ثلاثة أبعاد، ما يوفِّر معلوماتٍ حول نوع جُسيم التصادم وأصله. تُوجَد هذه الأسلاك في غاز منخفض الضغط، ويُوجَد هذا الغاز المنخفض الضغط داخل غرفةٍ مُوصِّلة، وتُوجَد هذه الغرفة المُوصِّلة داخل درع من الفولاذ مُضادٍّ للنيوترونات؛ وتوجد الوحدة بأكملها في شريطٍ من الهاليت الذي خلَّفه تبخُّر بحر قديم.
سأعرفُ خلال السنوات القادمة أنَّ الكثير من هذه البِنى الأشبه بالعُلب الصينية، ببروتوكولات احتوائها المُتعددة، تُميِّز إجراءات التخزين في الأرض السفلية، بدءًا من الأواني الكانوبية الحجرية التي يكون غطاؤها على شكل رأس صقر، والتي تدخل ضمن ممارسات الدفن لدى المصريين القدماء — حيث كانت تُوضَع فيها الأعضاء الحيوية للموتى، ثم تُخفَى هي نفسها في تابوتٍ خشبي مُلوَّن، يُوضَع هو نفسه في قبر، ثم يُخفَى هو نفسه في هَرم — إلى التغطية المُركَّزة لكُريَّات اليورانيوم المُستنفَد الناجمة عن المفاعلات النووية، تُوضَع كُريَّات داخل قضبان من الزركونيوم، والقضبان تُوضَع في أسطوانة نحاسية، والأسطوانة النحاسية تُوضَع في أسطوانة حديدية، والأسطوانة الحديدية تُوضَع في حلقاتٍ من طين البنتونيت، وتُوضَع الحلقات في صخر الأساس لمُستودع تخزين جيولوجي عميق، مغمور أسفل آلاف الأقدام في الصخر الصوَّان، أو الجرانيت، أو الملح.
يقودني كريستوفر إلى مكتبه. وتظهر الصورة على شاشة التوقُّف في الكمبيوتر لديه للمياه الفيروزية لبحيرة لويز في جبال روكي الكَندية. يعرض لي مُخططًا يُمثِّل البيانات الصادرة من حجرة إسقاط الزمن. وتظهر في هذا المخطط خطوطٌ بألوان زاهية مختلفة، يمرُّ عبرها خطٌّ أسود رفيع بزاوية.
يقول كريستوفر، مُتتبِّعًا له بأصبعه الصغير: «هذا الخط المائل هو مسار أحد جُسيمات ألفا.» ويردف قائلًا: «إنه رجلٌ غاشم وبدين يدخل مندفعًا أثناء تجربتنا، مُحدِثًا الكثير من الضوضاء أثناء حركته. لا يُهمنا أمره إلا بقدْرِ ما يساعدنا تحديد إشارته في معرفةِ ما لا نبحث عنه.
«ما نحاول سماعه، بدلًا من ذلك، هو همساتٌ هادئة وراء صخبه المُسترسل. بل إنها حتى ليست همساتٍ في الحقيقة، بل شيء أشبه بأوهن الأنفاس وأكثرها خفوتًا. وهذه البقعة بالأسفل هنا، في الملح، هي المكان الوحيد تقريبًا الذي يمكنك فيه سماع مثل هذا النَّفَس. ذلك النَّفَس هو صوت جُسيم ضخم ضعيف التفاعل يمرُّ، ويترك أثرًا واهنًا. فما نعتقد أنه تصادم جسيم «ويمب» يبدو أشبه بنقطتَي ضوءٍ صغيرتَين على كل قناة من القناتَين.»
يُشير بطرف أصبعه إلى نقطتَين؛ إحداهما على خط أصفر، والأخرى على خط وردي. يتوقَّف قليلًا. تتغيَّر شاشة التوقف في الكمبيوتر لديه لتعرض صورةً فائقة التشبُّع لشاطئ برمال بيضاء وأشجار نخيل، يحفُّه بحر لازوردي. تهب رياح جُسيم «ويمب» من كوكبة سيجنوس عبر أجسادنا.
يقول: «ستجد هذه البيانات جميلة للغاية بمجرد أن تعتاد عليها.» أُومِئ موافقًا على كلامه.
يقول كريستوفر: «أنت الآن بصدد البحث في الصِّغَر المُطلق للكون بدقةٍ متناهية، مُتفحصًا أدقَّ المقاييس. تلك الخطوط المُلوَّنة هي عدساتنا المُكبِّرة.»
ثم يقول، كأن العبارة قد دخلت رأسه توًّا من دون تحذير، مُسجلًا أثرًا ما أثناء مرورها: «كلُّ شيء يُحدِث وميضًا.» ثم يتوقَّف قليلًا.
أسأله: «لماذا تبحث عن المادة المظلمة؟»
فيرد كريستوفر دون تردُّد قائلًا: «لتعزيز معرفتنا، ولإعطاء معنًى للحياة. إذا كنَّا لا نستكشف، فنحن لا نفعل شيئًا. فقط ننتظر.»
يتوقَّف مرةً أخرى. وأنتظر. تتغيَّر شاشة التوقف في الكمبيوتر لتعرض وادي يوسيميتي في فصل الخريف، مع تساقُطٍ مُبكِّر للجليد على قمة منحدر إل كابيتان. لا ينبس كريستوفر ببنت شفة.
أسأله: «هل البحث عن المادة المُظلِمة منبعه إيمانٌ ما؟»
يَنتظِر منِّي أن أستطرد؛ فقد سمع السؤال من قبل، ولكنه يُريد سماع المزيد قبل أن يجيب. تتغيَّر شاشة التوقف عارضةً الكثبان الرملية الصحراوية في سوسوسفلي في ناميبيا.
أفكِّر في دير ريفو غرب بولبي، حيث أسَّس الرهبان السسترسيون في وادٍ ذي نهرٍ خصب مكانًا لعقد القُدَّاس وبَنَوه. فصنعوا من الحجر الحديدي بنيةً شاهقة من الدعامات المرتفعة والأسقُف المُقبَّبة. كان هذا الدير واحدًا من بين شبكة من هذه المواقع المنتشرة في جميع أنحاء العالم، حيث كانت تُقام الصلاة لكائن إلهي لم يكن يرغب في الكشف عن نفسه للمُتضرعين العاديين.
على جوانب التلال فوق التكوينات الجيولوجية للدير المعروفة باسم «الصدوع المنزلقة» التي تنفتح وتنغلق ببطءٍ في الصخر، فينبعث عبرها هواءٌ دافئ من أعماق الأرض، بحيث يظهر جانب التل نفسه في الأيام الباردة وكأنه يتنفس، كما لو كانت الأرض نفسها نابضةً بالحياة. قبل آلاف السنين من وصول السسترسيين إلى تلك الوديان، دخلت شعوب العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي في ظلام الصدوع المُنزلقة لممارسة الطقوس، التي ربما كانت تتعلق بتقديم القرابين وذات صفةٍ تعبُّدية بالتأكيد، فدفنوا أجزاءَ جُثَثهم وسط حجارة الصدوع، ما يُمثِّل نوعًا آخرَ من نواتج الإفناء.
أتذكَّر النظام الكهفي لكهف الرياح في التلال السوداء جنوبي داكوتا، تلك التلال المُقدسة لدى شعب لاكوتا سيوكس والقريبة من المُختبر الأمريكي للكشف عن المادة المظلمة في أعماق منجم الذهب المُستنفَد. من الفتحة المؤدية إلى كهف الرياح، الذي يمتد لأكثر من مائة وثلاثين ميلًا تحت الأرض، يندفع الهواء أو ينجذب بقوة يمكنها خلع القبعات عن الرءوس. وحسب ما ورد عن قصص الخَلْق عند شعب لاكوتا، بزغ البشرُ لأول مرة إلى العالَم العلوي من كهف الرياح، حيث أدهشتهم الألوانُ والمكانُ.
أقول مُخاطبًا كريستوفر: «لديَّ إحساسٌ أن البحث عن المادة المُظلمة أسفرَ عن صرحٍ مُستفيض ومُعقَّد من الافتراضات، وشبكة من مواقع العبادة، المعروفة أيضًا باسم المختبرات، كلها مُكرَّسة للبحث عن كيانٍ عالمي غير مرئي يرفض الكشف عن ذاته. يبدو الأمر أشبهَ بما نُطلِق عليه دينًا أكثر مما نطلق عليه عِلمًا.»
يقول كريستوفر: «لقد نشأتُ مسيحيًّا شديدَ التديُّن. ثم فقدتُ إيماني بالكامل تقريبًا عندما عرفتُ الفيزياء. والآن، عادَ هذا الإيمان، ولكنه اتخذ شكلًا مُغايرًا كثيرًا. صحيحٌ أننا نحن الباحثون عن المادة المُظلمة لدَينا دليلٌ أقلُّ مما لدى العلماء الآخرين فيما يتعلَّق بما نسعى إلى اكتشافه وما نعتقد أننا نعرفه. وبالسؤال: ماذا عن الله؟ حسنًا، إذا كان هناك إله، فسيكون بمنأًى تمامًا عن كلٍّ من البحث العلمي والتطلُّع البشري.»
يتوقَّف مرة أخرى. ليس الأمر أن هذا التفكير صعبٌ عليه — فقد سبق له أن نزلَ إلى هذه المسارات — وإنما كلُّ ما هنالك أنه يختار كلَّ كلمة بعناية.
«إنَّ الإله الذي أودُّ أن أومن به لن يُعلن عن نفسه عن طريقٍ ما، يُمكننا التعرُّف عليه كدليل.» ويشير إلى قراءات البيانات. ثم يستطرد قائلًا: «إذا كان هناك إله، فلا بُدَّ أننا لن نتمكَّن من العثور عليه. وإذا اكتشفتُ دليلًا على وجود إله، فسأُشكِّكُ في هذا الإله من منطلق أنَّ الإله لا بدَّ أنه أذكى من ذلك.»
أسأله: «هل يُغيِّر هذا مما يبدو عليه العالَم؟» وأتابع سائلًا: «أن تعرف أن ١٠٠ تريليون نيوترينو يمرُّ عبر جسمك كلَّ ثانية، ذلك العدد الذي لا يُحصى من الجسيمات التي تخترق عقولنا وقلوبنا؟ هل يُغيِّر ذلك طريقة إدراكك للمادة، وعن أي المواد نتحدَّث؟ وهل يُدهشك أننا لا نسقط عبر كل سطحٍ في عالمنا مع كل خطوة نخطوها، أو نمرُّ عبره مع كل لمسة؟»
يُومئ كريستوفر. ويُفكِّر. تتغيَّر شاشة التوقُّف في جهاز الكمبيوتر إلى أبراجٍ من الحجر الكلسي في جويلين؛ وقد التُقطت الصورة قرابة الغسق، فظهر المشهدُ مضاءً من الخلف على نحوٍ يبدو جذابًا للكثيرين على إنستجرام وغيرها من منصات مشاركة الصور على نطاق واسع.
يقول كريستوفر: «في عطلات نهاية الأسبوع، عندما أخرجُ في نزهةٍ على الأقدام مع زوجتي، على طول قِمَم الجرف بالقُرب من هنا، في يومٍ مُشمِس، أكونُ على درايةٍ بأنَّ أجسامنا شِباكٌ واسعة التشابُك، وأنَّ الأجرافَ التي نمشي عليها هي شِباكٌ أيضًا، وفي الواقع يبدو الأمر أحيانًا مثل معجزة، كما لو أننا في عالَمنا اليومي قد وجدنا أنفسنا فجأة نسير على الماء أو الهواء. وأتساءَل عمَّا كان يُمكن أن يكون عليه الوضع لو أنني لم أعرف ذلك.»
يتوقف قليلًا، ومن الواضح أنه يُفكِّر الآن خارج حدود كهف الملح، بل وما وراء حدود الكون المعروفة.
«لكن في الغالب، وبطرُقٍ عدة، أنا مندهش لأنني قادر على الإمساك بيد مَن أُحِب.»
•••
أرادَ نيل خوض سباق سيارات «باريس-داكار» منذ فترة طويلة. يقود نيل شاحنة «فورد ترانزيت» خالية من الأبواب وليس بها سوى القطع الأساسية في متاهةٍ صحراوية تحت الأرض تمتدُّ لأكثر من ٦٠٠ ميل؛ وسيتقاعد نيل في غضون أسابيع، ولا يكترث نيل البتة لذلك.
نأخذُ المنحدرات بسرعة كافية للصعود عندما نمرُّ عليها. نترك الأنفاق خلفنا وقد كساها الغبار. وبدلًا من التباطؤ عند الأركان، يكتفي نيل بالضغط على آلة التنبيه. بيييب! إنه رجلٌ شغوف بسلامة المناجم؛ وهو أيضًا رجلٌ شغوف بالمرح. إنني أحبُّه كثيرًا.
أتعلَّقُ بمقبض السقف بيدي اليُسرى، وأميلُ إلى الأمام وأسندُ نفسي بوضع يدي اليُمنى على لوحة القيادة. وأطبقُ على فكَّيَّ لأمنع أسناني من القرقرة.
يقول نيل: «في وسط البئر الرئيسية، حيث يقبع المختبر، ومناطق الإنتاج، بالكاد ما يُوجَد أحدٌ بخلاف أوقات تغيير نوبات العمل. إذا كانوا يسلكون طريقنا، فلا بدَّ أن نرى أضواءَ مصابيحهم من مسافةٍ بعيدة للغاية.»
تُحفَر الطرق في الهاليت بمنحدراتٍ تؤدي لأعلى إلى راقات البوتاس. تلمع جوانب الطرق قليلًا في الضوء، مثل الجليد. ونقود الشاحنات عبر ملحٍ نقي. أما الأنفاق، فهي بالأبعاد القياسية — ٣٫٨ أمتار ارتفاعًا و٨ أمتار عرضًا — وسقوفها مدعومة بانتظام بمساميرَ يبلغ طول الواحد منها طولَ رَجل؛ وذلك لإبطاء الهبوط أو الانهيار.
يقول نيل: «إنَّ البوتاس أكثر انشطارية. وأسهل في التصدُّع. ومن ثمَّ، يجب عدم المرور عبره إلا إذا كان الأمر حتميًّا. أما الهاليت، فيميل إلى الارتخاء والهبوط، وليس التحطُّم والتشظي. ومن ثمَّ، فهو أكثر أمانًا.»
طاخ! بيييب!
هذه الطرق الرئيسية أمامها سَنتان أو نحو ذلك قبل أن تبدأ في التكسُّر. إننا ندعمها بأكوام من الخشب. الخشب أفضل من الفولاذ؛ لأنه ينسحق ولا ينكسِر. إنه أكثر أمانًا. ومع ذلك، نفقد أحيانًا منطقةً قبل الانتهاء من استخراجِ ما فيها. وهكذا تسير الأمور.»
لدى نيل عادةٌ مثيرة للقلق تتمثَّل في الالتفات إليَّ وهو يتحدَّث، مع وضع إحدى يديه على الجزء العلوي من عجلة القيادة ولكن دون النظر بعَينَيه على الطريق. وأحيانًا يُدير عجلة القيادة براحةِ يده، كما لو كان يُلمِّع لوحة السيارة بحركاتٍ نصف دائرية. يفرك هنا وهناك. ويقول: «إنه ليس كمنجم الفحم، حيث تكون قلقًا دائمًا من احتراق غبار الفحم في الهواء.» ويُردِف قائلًا: «فهنا يعمل غبار الملح كطفاية حريق تعمل بمسحوقٍ جاف. إنه أكثر أمانًا.»
«آخر حالة وفاة وقعت هنا بالأسفل كانت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت نتيجة انفجار مُنخفض السرعة في واجهة الإنتاج: هبطت ٥٠٠ طن من الصخور في طريقٍ مُنقَّبٍ حديثًا، ودُفِعت الآلة للخلف، فسَحَقَت الآلة رجلًا حتى الموت. لكن لم يلقَ أحدٌ حتفه بالأسفل هنا في هذا العِقد.»
بعد بضعة أشهر، سيلقى عامِلُ مناجم شهير يُدعَى جون أندرسون حتفه في انفجار غاز.
نصعد بميل إلى إحدى راقات البوتاس. يدوس نيل على فرامل الشاحنة ليتوقف مُحدِثًا دوَّامة من الغبار، ثم يقفز خارجًا، ويكسر قشرةً سميكة من البوتاس من جدار النفق، ويُعطيها لي. لونُها ورديٌّ كاللحم ومُرقَّطة بالميكا الفِضيَّة. ومن المُثير للدهشة أنها خفيفة؛ إذ تكاد تطفو في اليد.
يقول نيل: «الْعَقْها.» إنها تفور في فمي. ومذاقُها كالمعدن والدم. أريد أن آكلها كلَّها.
يتدفَّق سيلٌ من الماء للأسفل عبر جدار النفق من شقٍّ في السقف. يُشير نيل لأعلى. «لقد عبرنا الخطَّ الساحلي للتو! إننا تحت البحر الآن!»
يقول نيل: «إنَّ الهاليت والسيلفيت كليهما قابلٌ للذوبان في الماء. وهذا يتسبَّب في مشكلاتٍ أثناء التنقيب أسفل المحيط. ولذا، علينا طوال الوقت أن نَستخدِمَ مضخةً لرفع الماء من المنجم من أجل تأمين استمرار العمل فيه: نرفع ١٠٠٠ جالون في الدقيقة، وهو ما يُكبِّدنا فاتورة كهرباء تُقدَّر بحوالي ٣ ملايين جنيه إسترليني سنويًّا. وقد فقد كلٌّ من الروس والكنديين مناجم من البوتاس في الماضي نتيجة غمرها بالماء.»
«واجَهَنا سيلٌ كبير من الماء منذ وقتٍ ليس بالطويل: ٣٥٠٠ جالون في الدقيقة، استمرت لثمانية أسابيع. ظننا لفترةٍ وجيزة أننا سنفقد المنجم. ثم تباطأ حيث توقَّف من تلقاءِ نفسه وكان ذاتيَّ الِانسداد؛ لا أعلمُ السببَ في الواقع. لكن هذا لا يعني أنَّ ذلك لن يحدث مرة أخرى.»
«كم هذا مطمئن.»
نعود إلى الشاحنة. يسأل نيل، دون أن يُوجِّه سؤاله إلى أحدٍ بعينه: «ما رأيُّك في هذه الوظيفة؟» ثم يضيف: «إنني أتقاضى أجرًا للقيام بهذا!» يضغط على دواسة الفرامل حتى يكاد يسحقها، فنترنَّح في مقاعِدِنا ونعودُ أدراجنا من هذا الاتجاه.
إنَّ قدرة نيل المِلاحية تُثير إعجابي. ليست لديه خريطة، ولا تُوجَد إشارات؛ لكنه لا يُظهِر تردُّدًا يُذكَر في أيٍّ من عشرات التقاطُعات التي تقابلنا.
أقول: «لو أنك مِتَّ، على سبيل الافتراض ليس إلا، فكيف سأخرجُ من هنا؟»
فيصيح قائلًا: «إذا كنتَ في شَكٍّ من أمرك، فاتَّبِع آثار سَير العجلات. ولو أنا مِتُّ، فما عليك سوى أن تحافظ على اتجاه الرياح في وجهك وستجد مخرجًا!» يُشير لأعلى مرةً أخرى. ويُواصِل حديثه قائلًا: «خرجنا إلى ما وراء طريق الملاحة البحرية الآن. تخيَّل هؤلاء الربابنة الذين يتولَّون زمام الأمور على متن سفنهم، وليست لديهم أي فكرة عن أننا نعمل تحتهم!»
يستغرق الأمرُ عشرين دقيقة أخرى للوصول إلى واجهة الإنتاج. يُوقِف نيل الشاحنة على جانب نفق، خلف شاحنتَين أخريين من النوع نفسه، مع اصطفافِ العجلات في خطٍّ مستقيم بأكثر دقةٍ ممكنة كما لو كنَّا في شارع بالضواحي.
يملأ الغبارُ الهواءَ؛ وتتفرَّع الأنفاقُ أمامنا؛ وترتعش الأضواءُ، وتتحرَّك الظلال. جدران الأنفاق منقوشة بنقوشٍ مُجوَّفة؛ أشكال حلزونية، وخطوط متقاطعة. إنها تبدو كما لو كانت خدوشًا يُحدِثها كائنٌ يحاول شَقَّ طريقه للخروج من شَرَك، أو نقوش صخرية طَقسية لقبيلةٍ ما.
يقول نيل: «منطقة الإنتاج ٨٨٧ — حدود الراقة.» ثم يضيف: «تُشير مجسَّات الاختبار إلى أن الراقة تستنفد نفسها إلى حَدٍّ ما هنا. بمجرد الانتهاء من أعمال التعدين والتنقيب في هذه المنطقة، لن يكون هناك المزيد من التقدُّم نحو الشمال الغربي، وسننتقل إلى الحواف الشرقية والجنوبية الشرقية للانجراف تحت البحر.»
يجلس فريقان من الرجال إلى طاولات، يحتسون الشراب ويتناولون الطعام. وفي الظلام الحالك، لا يمكنني أن أرى سوى الأشرطة اللامعة لستراتهم الفسفورية المتألقة. الأمر يشبه مشهدًا من فيلم الخيال العلمي «ترون». ينظر الرجال إلى أعلى، ويُومِئون برءوسهم مُحيِّين، ثم يعودون لتناول طعامهم. هناك العشرات من الأعضاء الذكرية المرسومة على عجلٍ بأقلام الحبر الجاف وأقلام التحديد على سطح الطاولة الأبيض المصنوع من مُتعدِّد كلوريد الفينيل الذي يكون تنظيفه عن طريق المسح.
نذهبُ يسارًا أسفل أحد الأنفاق، ويمينًا أسفل نفقٍ آخر. تزداد الضوضاء، ويزداد الغبار. وتمرُّ أشعة ضوءِ الهالوجين عبر الهواء الخانق. والصليل الصاخب لمعادن التعدين على المعدن الخام.
على واجهة الصخر، تقتات آلة ضخمة باللَّونَين الأسود والأحمر، منخفضة وذات أسنان حادة كَتِنين كومودو. تجري السيطرة على هذا التنين عبر كابل مطاطي أسود سميك، كما لو كان لجام كلب. ومن مُؤخرة هذه السحلية يتدفق سيلٌ طويل ورفيع من خام البوتاس على سير ناقل، ينسحب للخلف باتجاه قُمع تلقيم ليبدأ رحلته إلى حقول العالَم.
هذه الآلة التي تُشبه السحلية تقتاتُ على الواجهة، ويستمر السير الناقل في دحرجة الخام نحو قُمع التلقيم؛ وينتابني شعور بوجود كائن غير آدمي في عملية التعدين: آثار المخالب الشرهة على الصخر، وشبكة الأنفاق التي جرى إنشاؤها. أتذكَّر مقاطع عرضية رأيتُها للأجزاء الداخلية لتلال النمل الأبيض وأعشاش النمل، ومآرب الأرانب، وأنفاق الخلدان. إنَّ خريطة نيل للمنجم، بما تتضمَّنه من مئات الأميال من الانجراف المتقاطع، هي مجرد مُخطَّط لشبكة جحور مُعقَّدة تخصُّ حيوانًا آخر، حُفِرَت بحثًا عن الموارد.
يا لها من شراكة مُثيرة للفضول صارت بينهما في الظلام، المنجم والمختبر، حيث تكون عمليات كلٍّ منهما على نحوٍ غريب بمثابة صدًى للآخر. يرسل الجيولوجيون مِجسَّاتهم إلى داخل الصخر في البداية، على أمل اكتشاف الراقات الأكثر إنتاجًا ومن ثمَّ الأكثر إدرارًا للربح وتتبُّعها. يترقَّب الفيزيائيون وصول المعرفة؛ المعرفة البحتة، «سيلفيت» المعرفة، التي يصعب الوصول إليها، والعديمة القيمة، على أمل اكتشاف الجزء المفقود من الكون: المادة المُظلمة، ذلك العائد غير القابل للبيع.
يدنو نيل منِّي مرة أخرى، ويميل برأسه نحوي ثم يكوِّر يديه ليصيح في أذني كي يعلو صوته فوق ضوضاء عمليات الاستخراج. «هل ترى آلات واجهات التعدين هذه؟ تبلغ تكلفة الواحدة منها ٣٫٢ ملايين جنيه إسترليني. من الواضح أن المحركات قد جرى تعديلها لتَفادي إصدارها للشرر. نحن نُقسِّمها إلى أجزاءٍ في بئر المصعد، ونجمعها في مخازن التجميع، ثم ننقلها إلى واجهة الإنتاج، مع سحب مُولِّدٍ خلفها. يستغرق الأمرُ ثلاثة أيام لنقلها عبر الأميال السبعة أو نحو ذلك من هنا إلى حيث تبدأ العمل.»
إنَّ إجهادَ العمل شديدٌ، وعُمر الآلات قصير. يقول نيل: «عندما تنتهي صلاحية استعمال إحدى الآلات، فليس ثمَّة جدوى اقتصادية تُذكَر من إخراجها لأعلى. إذ ستحل محل الخام المُستخرَج في بئر المصعد، وهذا مُكلِّف للغاية. ولذا، بدلًا من ذلك، تُقاد الآلة إلى نفقٍ مُستنفَد من الملح الصخري، وتُترك هناك. وسوف يتدفق الهاليت حولها عندما ينغلق النفق بشكل طبيعي.»
إنها صورة مُذهلة: الهاليت نصف الشفاف ينصهر حول هذا التنين ذي التحكم الآلي؛ حيث تتحوَّل بقايا هذه الآلة في كفنها الملحي إلى مُتحجِّرات.
أتذكَّر خيول الحَفر التي كتبَ عنها إيميل زولا، والتي كانوا يُنزلونها وهي لا تزال مُهورًا صغيرة إلى مناجم الفحم الضخمة في القرن التاسع عشر بفرنسا. لم يكن المُهر يرى ضوءَ الشمس مرةً أخرى. إذ كانت تنشأ في المناجم، وتُطعَم هناك، وتعمل حتى الموت هناك؛ وكانت جُثَثها الواهنة غير المُكتملة النمو تُترَك في أنفاق جانبية، في انتظار انهيار تلك الأنفاق ودفنها أسفل منها.
في طبقات الهاليت التي تقع تحت صحراء نيو مكسيكو، حُفِرَت منشأة تحت الأرض معروفة باسم محطة عزل النفايات التجريبية، وهي مُصمَّمة للتخلُّص الطويل الأجل من المواد المشعة الفائقة الثِّقل المُنبعثة خلال عمليات البحث والإنتاج في مجال الأسلحة النووية. وعلى عُمق أكبر من ٢٠٠٠ قدم تحت سطح الصحراء، أُنْشِئَ موقع دفن لآلاف البراميل من الفولاذ الفضي المُعبأة بالنفايات النووية. تظلُّ النفاياتُ مُشعَّة لآلاف السنين، ومن ثمَّ تولِّد حرارة. هذه الحرارة من شأنها أن تزيد من لدانة الهاليت؛ ومن ثَمَّ بمجرد امتلاء كل غرفة، فإنَّ الهاليت المُسخَّن بفِعل الحرارة ينسابُ ببطءٍ حول البراميل، محافظًا عليها لفتراتٍ زمنية سحيقة في المستقبل.
تعتريني رغبةٌ لفترةٍ وجيزة في أن أدخل بنفسي إلى نفقٍ جانبي، حيث أستلقي وأترك الهاليت يُغطيني ببطءٍ ويَعزلني لمدة خمس سنوات أو ١٠٠٠٠ سنة، منتظرًا انتهاء حقبة الأنثروبوسين في تلك الشرنقة شبه الشفافة.
•••
عام ١٩٩٩، في مؤتمر في مكسيكو سيتي حول العصر الهولوسيني — الفترة الجيولوجية من تاريخ الأرض التي نعيش فيها رسميًّا حاليًّا، والتي تبدأ منذ حوالي ١١٧٠٠ عام — صُدِمَ عالِم كيمياء الغلاف الجوي الحائز على جائزة نوبل؛ بول كروتزن من عدم الدِّقة التي حُدِّد على أساسها العصر الهولوسيني. واستدعى الأمر في وقتٍ لاحق، قائلًا: «اعتقدتُ فجأة أن ثمَّة خطأً في الأمر. فقد تغيَّر العالَم كثيرًا. ولذلك قلتُ: «لا، إننا في العصر الأنثروبوسيني.» لقد اختلقتُ الكلمة ارتجالًا في لحظتها. ولكن يبدو أنها عَلِقَت في الأذهان.»
في العام التالي، نشر كلٌّ من كروتزن ويوجين ستويرمر — عالم دياتومات أمريكي كان يستخدم المصطلح بشكلٍ غير رسمي منذ ثمانينيات القرن العشرين — مقالًا يقترحان فيه أن العصر الأنثروبوسيني يجب اعتباره عصرًا جديدًا في تاريخ الأرض، على أساس أن «البشر [هكذا وردَ] سيبقون قوةً جيولوجية كبرى لآلاف السنين، وربما لملايين السنين القادمة.» وكما عُرِّف العصر الجليدي نسبةً إلى نشاط الجليد، وعُرِّف العصر الهولوسيني نسبةً إلى فترة من الاستقرار المناخي النسبي مكَّنت الحياة من الازدهار، فإنه يرى أن العصر الأنثروبوسيني عُرِّف نسبةً إلى نشاط الأنثروبوس؛ أي البشر، الذين يشكِّلون الأرض على نطاق عالمي.
أخذَ المجتمع العِلمي اقتراح كروتزن وستويرمر بجدية كافية حتى إنهم أخضعوه للدراسة الصارمة على يدِ علماء وصف طبقات الأرض. وعام ٢٠٠٩، أُنْشِئَ فريقُ عمل الأنثروبوسين التابع للجنة الفرعية لعِلم وصف طبقات الأرض للحقبة الرباعية. وكُلِّف بتقديم توصيَتَيْن؛ الأولى عما إذا كان يجب اعتبار الأنثروبوسين عصرًا رسميًّا؛ وفي تلك الحالة تأتي التوصية الثانية، وهي تحديد حَدِّه الزمني «الأمثل من ناحية علم وصف طبقات الأرض»، أي متى يمكن أن يُقال إنه قد بدأ. كان من بين الأُسس التي أخذتها المجموعة في الاعتبار، أول استخدام للنار من قِبل أشباه البشر منذ حوالي ١٫٨ مليون سنة، وبداية الزراعة منذ حوالي ٨٠٠٠ سنة، والثورة الصناعية، وما يُسمَّى «التسارُع العظيم» في منتصف القرن العشرين؛ حيث فجَّر العصر النووي، والزيادات الهائلة في استخراج الموارد، والنمو السكاني، وانبعاثات الكربون، وغزو الأنواع وانقراضها، وإنتاج المعادن والتخلُّص منها، وازدهار استخدام الخرسانة والبلاستيك.
يا لها من بصماتٍ خاصة سيتركها نوعُنا البشري في الطبقات الأرضية! إننا نزيل قمم جبال بأكملها لننهب الفحم الذي تحتويه. تعجُّ المُحيطات بمئات الآلاف من أطنان النفايات البلاستيكية، التي تترسَّب ببطءٍ في أعماق البحار. وأدَّت اختبارات الأسلحة إلى تشتُّت النوكليدات المُشِعَّة الاصطناعية على مستوى العالَم. كما أدَّى حرق الغابات المطيرة بغرَض إنتاج زراعة المحصول الواحد إلى نفث سحاباتٍ كثيفة من الضباب الدخاني، التي يستقر بها المآلُ في التربة على مستوى العالَم. كما أنَّ ارتفاع نسبة النيتروجين الواضحة في عينات الجليد اللُّبِّية والرواسب، سيكون إحدى الإشارات الكيميائية الرئيسية على عصر الأنثروبوسين، الناتج عن استخدام الأسمدة الصناعية الغنية بالنيتروجين على نطاق علمي واسع، وعن احتراق الوقود الأحفوري. إنَّ مستويات التنوع البيولوجي تنهار في جميع أنحاء العالَم بينما نُسارع إلى حدث الانقراض العظيم السادس، في حين أن العدد المتصاعد لعدد صغير من أنواع الماشية يضمن النسل الجيولوجي في السجل الأحفوري للأغنام، والأبقار، والخنازير. لقد أصبحنا صُنَّاعَ عالَم عمالقة، وأصحابَ إرث واضح على مدى عصور آتية.
وهكذا، سيكون من بين آثار الأنثروبوسين الغبار النووي لعصرنا الذري، والأساسات المُدمِّرة لمُدننا، والأعمدة الفقارية للملايين من ذوات الحوافر التي جرى تربيتها في المزارع بكثافة، والمَعالِم الباهتة لبعضٍ من مليارات الزجاجات البلاستيكية التي ننتجها كلَّ عام، حيث يمكن تأريخ الطبقات الأرضية بدقةٍ بالإشارة إلى سجلات تصميم المنتجات التي وضعتها شركات متعددة الجنسيات. تقول الأطروحة الشهيرة لفيليب لاركن إنَّ ما سيبقى منَّا هو الحُبُّ. وهذا خطأ. فما سيبقى منَّا هو البلاستيك، وعظام الخنازير، والرصاص-٢٠٧، والنظير المُستقر في نهاية سلسلة اضمحلال اليورانيوم-٢٣٥.
هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى الشك في فكرة الأنثروبوسين. إنها تُعمِّم اللوم على ما هو وضع غير عادل على نطاق واسع من العمل والمُعاناة. إنَّ الكلمة المُنمَّقة «نحن» في خطاب عصر الأنثروبوسين، تتجاهل التفاوتات الشديدة، وتُعمِّم العواقب المحلية للأضرار البيئية. كما أن تعريف هذا العصر باعتباره «عصر الإنسان» يبدو أيضًا بمثابة تتويج لما خلقناه من أسطورةٍ ذاتية؛ ومن ثمَّ فإن الهدف من ذلك ليس إلا الترسيخ للنرجسية التكنوقراطية التي أنتجت الأزمة الحالية.
غير أن الأنثروبوسين، على الرغم من كل عيوبه، قد انبثقت عنه أيضًا صدمةٌ قويةٌ وتحدٍّ كبير فيما يتعلق بإدراكنا لأنفسنا كنوع بيولوجي. إنه يكشف حدود سيطرتنا على عمليات الكوكب على المدى الطويل، وكذلك حجم العواقب المُترتبة على أنشطتنا. كما أنه يكشف بعضًا من نسيج المشاعر المتبادلة من الضعف والشعور بالذنب بيننا وبين الكائنات الحية الأخرى، وكذلك بين البشر وبين ما سيأتي لاحقًا مما يفوق البشر. وربما، قبل كل شيء، يضطرنا الأنثروبوسين إلى التفكير في الزمن السحيق في المُستقبل، وفيما سنتركه وراءَنا عندما تغرق المشاهد الطبيعية التي نصنعها الآن في طبقات الأرض، وتُصبح أجزاءً من الأرض السفلية أو العالَم التحتي. ما تاريخ الأشياء التي ستأتي بعد ذلك؟ وكيف سيكون شكل حفرياتنا المُستقبلية؟ بتضخيمنا لقدرتنا على تشكيل العالَم، أصبحنا أكثر مسئولية عن الحيوات الأخروية الطويلة لهذا التشكيل. يطلُب منا الأنثروبوسين الإجابةَ عن السؤال العالق في الأذهان الذي طرحه عالِم المناعة جوناس سَالك: «هل نحن أسلاف جيدون؟»
ومع ذلك، يستوجب منا عصرُ الأنثروبوسين قراءة اللحظة الراهنة بأثرٍ رجعي — «عِلم متحجرات الحاضر» الذي أصبحنا نحن أنفسنا فيه رواسبَ، وطبقاتٍ أرضية، وأشباحًا. يستوجب منَّا أن نتخيَّل أمرًا واحدًا؛ ألا وهو قدوم جيولوجي افتراضي بمفهومِ ما بعد البشرية يتولَّى فحص الأرض السُّفلية بحثًا عمَّا تكشف عنه من آثار حقبة الأنثروبوس، وذلك بعد ملايين السنين في المستقبل، وبعد فترةٍ طويلة من انقراض النوع البشري. هذا الشخص التخيُّلي — المسئول عن أرشفة سجلاتنا، وتحليلنا، وتقييمنا وإصدار الأحكام بشأننا — هو النسخة المُعاصرة من وجود «آخِر إنسان» الذي تكرَّر ذكره كثيرًا في قصص الانقراض خلال القرن التاسع عشر، أو من «النيوزيلندي» لدى توماس ماكولاي، الذي يجلس على ضفاف نهر التيمز في لندن التي طغت عليها الطبيعة، مُفكِّرًا في الخراب الذي حَلَّ بالأرض.
بالأسفل في فوضى واجهة الإنتاج بالمنجم، رحتُ أفكِّر في الألغاز التي ننسجها لجيولوجيي المُستقبل. ورحتُ أتساءل كيف يمكنهم، بعد ملايين السنين، تفسير الوجود الأحفوري لآلات تعدين بولبي الشبيهة بالسحالي، التي جرى تصنيعها في حقبة الأنثروبوسين ودفنها في الطبقات الأرضية بقاع بحر منذ مائتَين وخمسين مليون عام. كيف سيدركون أنها آلات وليست كائناتٍ حية؟ وماذا عن الانجراف نفسه، ذلك الأثر الخافت الذي ستتركه هذه المتاهة المُمتدَّة إلى ٦٠٠ ميل في طبقات الهاليت والسلفيت؟
يتحدَّث الجيولوجيون وعلماءُ الأحياء القديمة عن «الآثار الأحفورية». الأثر الأحفوري هو العلامة التي يتركها في سجل الصخور أثرُ الحياة وليست الحياة نفسها. أثرُ قدَمِ الديناصور هو أثر أحفوري. ويُعتقَد أن أحجار الصوان المُحيِّرة التي على شكل كعك الدونات، والمُسمَّاة «بارامودرا»، هي الآثار الأحفورية لكائنٍ حفَّار شبيه بالدودة عاش في وضعٍ رأسي في قاع البحر خلال العصر الطباشيري، وكانت أعضاؤه التنفسية أعلى بقليل من مستوى الغرين. وآبار التنقيب، والأقماع، والأنابيب، والمُنزلقات، والمسارات كلها آثار أحفورية؛ أي يُشكِّل كلٌّ منها ذكرى حجرية حيث يختفي مَن ترك علامته بها، لكن العلامة نفسها تبقى. الأثر الأحفوري هو دعامة للمكان خلَّفها جسمٌ مُتلاشٍ، والذي يُشكِّل فيه غيابُ الجسم نفسه علامة.
كلنا نحمل بداخلنا آثارًا أحفورية، تتمثَّل في العلامات التي يتركها الموتى والراحلون وراءَهم. خطُّ يدٍ على مظروف بريدي، والتآكل في دَرج خشبي بفِعل لعب كرة القدم، وذكرى إيماءة مألوفة لشخصٍ قد رحل، هذا كلُّه يحفر عند تكراره وتواتره أخدودَه الخاص في كل من الأجواء المُحيطة والأذهان: هذه آثار أحفورية كذلك. في الواقع، أحيانًا يشكِّل كلُّ ما نتركه وراءَنا بفعل الخسارة أثرًا؛ وأحيانًا أخرى يمكن للقلب استيعاب مقدار الفراغ الذي يُحدثه غياب الشيء بسهولة أكبر من وجود الشيء نفسه.
•••
تُشبه العودة من واجهة الإنتاج قيادة سيارة بسرعة جنونية طائشة في أحد سباقات الرالي. بل إن نيل يقود الشاحنة بصعوبة أكبر. الغبار يدخل فَم كلٍّ منا، بينما نجتاز المنحدرات بأقصى سرعة ممكنة، ويبلُغ منَّا الخوف مَبلغه مع هذه السرعة الهائلة، ثم تضرب السيارة أرضية الهاليت بالأسفل. ونصل إلى أحد الأركان. ويضغط نيل على آلة التنبيه. بيييب! ثم يضغط عليها مرة أخرى. ثم يسود الصمت. ضغط. ثم صمت.
يقول نيل: «لا بدَّ أنني قد هززتُ دائرة كهربائية فأصبحَتْ غير مربوطة بإحكام.»
فأقول: «لقد مضت فترةٌ ليست بالقصيرة على ملاحظة ذلك.»
«لا تقلق. سنعود. لدَينا أولوية المرور، على الأقل نظريًّا. سأبطئ قليلًا.»
ولكنه لم يُبطئ على الإطلاق.
«احترس من المصابيح الأمامية القادمة على الجدران الجانبية! إذا تملَّك مني الإجهاد، فأمسك بعجلة القيادة واتجه إلى الجنوب الغربي!»
اجتزنا شاحنتَي ترانزيت مُحطَّمَتَين في الأنفاق الجانبية، حيث كان غطاء مُحرِّكَيهما قد سُحِقَ جراء اصطداماتٍ مجهولة، وكانا في انتظار أن يبتلعهما الهاليت، وواصلنا التقدُّم عبر أميال داخل النفق، ثم عُدنا أخيرًا إلى قفص المصعد الأصفر.
سمعنا صوت أزيز خافتًا وشعرنا بانضغاط الهواء في منتصف الطريق بينما كان القفصُ السفلي يجتاز بنا الطريق لأعلى. ثم اهتز وقلَّت سرعته عند اقترابنا من السطح. وهناك وجدْنا مجموعةً من الرجال يتأهبون للخروج، وتجول في أذهانهم أفكارٌ من قبيل الاستحمام، والمنزل، والأسرة، والطعام، والشراب. ثم سمعنا صرير فتح الباب. وشاهدنا حزمًا مربعة من الضوء عبر فتحات أقفال البوابة الفولاذية. ثم تسللت إلينا رائحة البحر، ورائحة الشمس. ودَلفنا إلى داخل غرفة مُعادَلة الضغط، حيث يُحصى عدد الرجال واحدًا تلو الآخر. إذ يدخل عُمَّال المنجم أولًا. وتُخلَع أقنعة التنفس لتُوضَع مُجددًا على شمَّاعاتِها. ثم تحين مرحلة التحقُّق. فيُدخِلون المثلث البرونزي في المكتب الزجاجي. وينتهي التحقُّق. ومن ثمَّ يغادرون المكان.
خرجنا عبر الباب إلى نهارٍ مشرقٍ شديد الحرارة، حيث تموج السماء الزرقاء بالسحب المُتلاطمة كالأمواج، ويتلألأ ضوءُ الشمس منعكسًا على زجاج السيارة الأمامي، والطريق الأسفلتي، وأوراق العُشب، تُوجَد المادة المُظلمة في كل مكان حولي ولكني لا أدركُها وكأنها ليست موجودة، ونخرج في هذا الضوء الساطع فيبدو لنا الأمر وكأننا نخطو إلى الجهل.
•••
وبعدها، قُدتُ سيارتي غربًا فوق المُستنقعات لساعاتٍ، منعطفًا إلى منزلي. وقد أزهرَ نبات الخَلَنْج وتألقت حبوب اللقاح في الهواء. شاهدتُ علامات التعدين في كل مكان نظرت إليه، حيث كانت قد خلَّفتها آلافُ السنين من أعمال الحفر التي مارسها الإنسان في هذه البقعة الطبيعية الشمالية بحثًا عن المواد الخام، مثل: الأَردُواز، والرصاص، والحديد، والنحاس، وحجر الحديد، والفضة، والفحم، والفلورسبار. وكانت هناك أيضًا آثار الدفن، التي خلَّفتها آلافُ السنين من دفن البشر لموتاهم في الأرض نفسها: مقابر الكنائس في العصور الوسطى، وتلال الدفن من العصر الحجري الحديث، والعصر البرونزي، والعصر الحديدي.
وقُرب الغسق، أصبحتُ في أودية الحجر الكلسي ذات الحيود والطيات في سلسلة تلال بينينز الشمالية. تنامَى نسيمُ الصباح الشرقي حتى أصبح كالعاصفة في قوَّته. في روكهوب، أَوقفتُ سيارتي ومشيتُ مسافة ميل أو نحو ذلك لأعلى إلى المُستنقع المشرف على القرية.
تهبُّ الرياح في هذا الارتفاع شديدة على نحوٍ تقشعر له الأبدان، على الرغم من أن شمس آخِر النهار لا تزال قوية. والأرانب قُطْنية الذيل التي تعيش على أعشاب المُستنقعات تُحدِث نقراتٍ خفيفة في الرياح، وتنطلق مُسرعةً مثل عباءات الغاز المتوهج. وهناك أربعة من صقور العاسوق، مصطفةً في خطٍّ منخفض غير منتظم فوق مُستنقع يقع إلى جهة الغرب، متخذةً مواقعها برشاقة وبهاء في مقابل الرياح. انطلقتُ في وفرة الضوء، مفتونًا بالمكان. وبوصولي إلى مجموعةٍ من الصخور، وقفتُ على أعلى صخرة فيها، ووجهي صوب الشرق، ومِلتُ قليلًا مع الرياح، مُستشعرًا دفع قبضتها في صدري وهي تُمسكني فيما يُشبه الطيران الجزئي، وتصطادني كما يصطاد العاسوق.
يبدو الزمن مختلفًا بعد الخروج من المنجم؛ إذ يبدو أكثر عمقًا، وأكثر تكثيفًا. كما أن إحساسي بالطبيعة مختلف في حساباته أيضًا؛ فالأمور أكثر تشويشًا، وأكثر تشابكًا. في مكانٍ ما إلى الجانب الشرقي منِّي، يعمل الرجال على بُعد ميلٍ تحت المستنقعات وعلى بُعد نصف ميل تحت سطح البحر، حيث يحفرون الأنفاق عبر الكتلة الملحية لأحد المُحيطات وكأنه شبحٌ يحصدون طاقته من أجل المحاصيل غير المزروعة حتى هذه اللحظة. وتنتظر حجرةٌ لإسقاط الزمن تلقي إشاراتٍ من كوكبة سيجنوس، أو البجعة، والتي قد تُخبرنا بشيءٍ عن نشأة الكون، قبل ١٣٫٨ مليار سنة. وتنغلق متاهة أحد الانجرافات ببطء، حيث تُحبَس الآلات الأشبه بالسحالي وشاحنات النقل من فورد في قبورها المِلحية؛ وعبر هذا كله تمرُّ رياحٌ جسيمية تتألف من الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل (جسيمات ويمب) والجسيمات المحايدة (النيوترينوات)، التي يكون هذا العالم بالنسبة إليها مُجرَّد ضباب وحرير.
كتبَ بيدي في «حساب الزمن» قبل ١٣٠٠ عام، حيث حسبَ العصور الستة للأرض، والعصر السابع القادم: «ليلًا، ووفقًا لساعاتها المُعتادة، تجتاز النجوم مسارًا أسفل الأرض.» جالَ في خاطري عُمَّالُ المناجم الذين عملوا في الأرض السفلية لوديان بينين هذه خلال القرن التاسع عشر، مُتتبِّعين الراقات التي تحتوي على خاماتٍ فِلزية من الفضة، والمغنيسيوم، والرصاص، والزنك. حيث غطَّى خام الجالينا (كبريتيد الرصاص الطبيعي) جوانبَ أحد الصدوع، فجعله يلمع كالمرآة. كما تحتوي العروق نفسها على براعم رائعة من الفلورسبار (فلوريد الكالسيوم البلوري)، الذي تتألق بلوراته باللون الأزرق في الضوء فوق البنفسجي. ومن حينٍ لآخر، كان عُمَّال المناجم يقطعون طرقهم في جيود بحجم الغُرَف، ذات جدران وأسقُف من البلور والمعادن. وكان وهج مصابيحهم يلمع في الكوارتز، والأراجونيت، والدولوميت، والفلورسبار، وبيريت الحديد، والجالينا، وكأنهم قد اقتحموا غرفة نجوم مدفونة هناك بالأسفل في القشرة.
بدأ القمرُ يرتفع في عَنان السماء وكان بَدرًا. وأعتمت السماءُ تدريجيًّا باللونَين الأحمر والأسود، واكتسَى المُستنقع باللونَين البُنِّي والفضي، واختفى الوادي فجأة وأصبح خارج الكوكب.
ظهر النجم الأول، ثم ظهرت النجوم الأخرى مُتلألئة. خرجتُ من الجلاميد، وبدأتُ السير أسفل الحَيْد، حيث حلَّقَ طائرُ القُبَّرة فوقي على مسافة ياردة أو نحو ذلك، فدبَّ الذُّعر في قلبي، وأدخلتُ يدي في الحفرة المُجوَّفة التي طار منها في الوقت المناسب لإدراك الأثر الدافئ لجسمه قبل أن يَتسلَّل بفِعل البرودة. حلَّق القُبَّرة عاليًا في السماء، وانسابَ تغريده وشَدوه كالشلال صافيًا وواضحًا في الوقت نفسه.
•••
إنَّها مَسيرةٌ ليلية طويلة عبر المُستنقعات المرتفعة، ثم نزولًا إلى السهول الساحلية، بينما المصابيح الأمامية للسيارة تجتاح نبات الخلنج على الأركان، فتبدو السماءُ مخروطية الشكل على المرتفعات، ثم أعودُ أخيرًا بعد منتصف الليل إلى منزل عند سفح أحد الجبال. والنجوم تنتشر في صفحة السماء كذرَّاتِ المِلح المنثور.
أدخلُ الغرفة حيث ينام ابني الأصغر ويل. ويلقي ضوءُ القمر المتدفِّق عبر الستارة الرقيقة بِظلِّي عبر الأرضية.
أقفُ بجانب ويل وهو مُستلقٍ في سكونٍ تام جعل الذُّعر يَدُبُّ في أوصالي، وتسارعت دقاتُ قلبي، فمددتُ يدي نحو فمِه لأستشعر أنفاسه، بحثًا عن دليل في الظلام على أنَّه على قيد الحياة.
لا شيءَ، ولا نَفس، ثم ها هو يُطلِق زفيرًا، ينسابُ خافتًا ودافئًا على بَشرتي، وأُريحُ ظاهِر أصابعي لبضع ثوانٍ على وجنته، مُتحسِّسًا كتلة جسمه.
أتزالُ هنا يا حبيبي؟
تنفَّس.
تنفَّس مُجدَّدًا.
تهدأ نبضاتُ قلبي تدريجيًّا. ويُلقي ضوءُ النجوم ببريقه الفضي على الشعر الرقيق على سطح بَشرته. كلُّ شيءٍ يُحدِث وميضًا.