الفصل الرابع

أشجار الطبقة السُّفلى

(غابة إبينج، لندن)

من حينٍ لآخر، تستحوذُ عليك — بمعدل مرة أو مرتَيْن في العُمر إذا كنت محظوظًا — فكرةٌ قوية جدًّا من حيث آثارها لدرجة أنها تزعزع الأرضَ التي تمشي عليها.

في المرة الأولى التي أسمعُ فيها شخصًا يتحدَّث عن «شبكة الغابات الواسعة» منذ أكثر من عقد، كنت أُجِاهد دموعي. ذلك أنَّ أحدَ أصدقائي المُقرَّبين كان يحتضِر في سنٍّ مبكرة وبسرعة كبيرة للغاية. وكنت قد ذهبتُ لرؤيته فيما فهمتُ أنها المرة الأخيرة التي سأراه فيها. وكان قد أنهكه الألم وتناوُل العقاقير. جلسنا معًا، وتحدَّثنا. كان صديقي حَطَّابًا. وكان مفهوم الأشجار وصورتها يسيران خلال حياته وفِكْره. إذ كان لقب جَدِّه وود (أي «الغابة» بالإنجليزية)، وعاشَ في منزلٍ ذي هيكلٍ خشبي بناه بنفسه، كما زرع آلافَ الأشجار بيده على مرِّ السنين. وكتبَ ذات مرة: «تسري عُصارة أشجار في عروقي.»

في ذلك اليوم قرأتُ قصيدةً بصوتٍ عالٍ، كانت مُهمة لكلٍّ منا، واسمُها «بيرتشز»، أي شَجَر البَتُولَا، للشاعِر روبرت فروست، حيث يصبح تسلُّق جذوع أشجار البتولا البيضاء بفِعل الثلج استعدادًا للموت وإيذانًا بالحياة في الآن نفسه. ثم أخبرني عن بحثٍ جديد قرأه مؤخرًا حول العلاقات المتبادلة بين الأشجار: كيف يمكن لإحداها، عندما تكون الأخرى مُعتلة أو تحت ضغط، مشاركة العناصر الغذائية معها عن طريق نظامٍ تحت الأرض يربط بين جذورهما أسفل التربة، وبذلك يُمكنها أحيانًا الاعتناء بالشجرة المريضة حتى تستعيد صحَّتها مُجددًا. وهكذا تحدَّث صديقي، الذي كان هو نفسه على مشارف الموت، عن هذا الأسلوب في العلاج والاستشفاء دون أدنى شعور بالغيرة، فكان هذا دليلًا على رحابة صدره وسخاءِ روحه.

لم يكن في مقدوره وقتها أن يُخبرني بتفاصيلِ آليةِ مشاركةِ العناصرِ الغذائيةِ تحت الأرض، والكيفية التي يتسنى بها لشجرةٍ ما الوصول على نحوٍ غير مرئي إلى شجرةٍ أخرى داخل التربة والتواصل معها. بيد أنني لم أستطِع أن أمحو من مُخيَّلتي الصورة الذهنية لتلك الشبكة المدفونة الغامضة، التي تربط كل شجرة بالأخرى في مجتمعات الغابات. لقد غُرِسَت الصورة في ذهني، وضربت بجذورها في أعماقه. وعلى مَرِّ السنين تلقيتُ إشاراتٍ أخرى للفكرة الاستثنائية نفسها، وبدأت هذه الشذراتُ والأجزاءُ المتفرقة في الارتباط معًا تدريجيًّا، فيما يبلور الفهم والاستيعاب.

•••

في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، لاحظَت عالِمةٌ كندية شَابة تُدعَى سوزان سيمارد، مُختصة في بيئة الغابات، وجودَ علاقة عجيبة أثناء دراسة أشجار الطبقة السفلى للغابات المعتدلة المقطوعة الأشجار في شمال غرب كولومبيا البريطانية. عندما أُزيلت شتلات أوراق البتولا من المناطق التي أُجريَ فيها قطع كامل للأشجار ثم أُعيدت زراعتها، تزامنَ اختفاؤها أولًا مع تدهور شتلات تنوب دوجلاس المزروعة التي نَمت بينها ثم الموت المبكر لهذه الشتلات.

لطالما ظَنَّ حرَّاسُ الغابات أن هذا الاقتلاع كان ضروريًّا لمنع أشجار البتولا الصغيرة (الحشائش) من حرمان أشجار التنوب الصغيرة (المحصول) من موارد التربة القيمة. لكن سيمارد بدأت تتساءل عما إذا كان هذا النموذج البسيط للمنافسة صحيحًا. وبدت لها فكرة أنَّ أوراق البتولا تُساعد أشجار التنوب بطريقةٍ ما ولا تعوقها معقولةً ومستساغة؛ ومن ثمَّ تدهورت صحةُ أشجار التنوب عند إزالة أوراق البتولا. ولكن إذا كانت علاقة المعونة بين الأنواع هذه موجودة حقًّا بين الأشجار، فما هي طبيعتها وكيف يُمكن لشجرةٍ ما أن تمدَّ يدَّ العون إلى شجرةٍ أُخرى عبر مساحات الغابة المُترامية؟

قرَّرت سيمارد سَبْر أغوار هذا اللغز. وكانت مُهمتها الأولى إنشاءَ نوعٍ من الأساس الهيكلي لأشكال الاتصال المُحتمَلة بين الأشجار. باستخدام الأدوات المجهرية والوراثية، جرَّفت هي وزملاؤها أرضيةَ الغابة وحدَّقوا النظر أسفل أشجار الطبقة السفلى، وصولًا إلى «الصندوق الأسود» للتربة، وهو مجالُ دراسة معروفٌ بأنه مُثير للاهتمام والتحدي لدى علماء الأحياء. وكان ما رأوه هناك بالأسفل عبارةً عن خيوطٍ ضعيفة شديدة الرقة معروفة باسم «الخيوط الفطرية» أو «الغَزْل الفطري»، تنشرها الفطريات عبر التربة. وكانت هذه الخيوط الفطرية مُترابطة فيما بينها مُكوِّنةً شبكة من التعقيد والامتداد المُذهلَيْن. وكان كلُّ متر مكعب من تربة الغابات التي فحصتها سيمارد يحوي عشرات الأميال من الخيوط الفطرية.

على مدى قرون، كان يُنظَر إلى الفطريات عمومًا على أنها ضارة بالنباتات: طفيليات تسبِّب المرض والاختلال الوظيفي. ولكن عندما شرعت سيمارد في بحثها، ذهبت الآراء بشكلٍّ مُتزايد إلى احتمال وجود أنواع مُعينة من الفطريات الشائعة التي تُوجَد بينها وبين النباتات علاقةُ منفعةٍ تبادلية دقيقة. كان مفهومًا أنَّ الخيوط الفطرية لما يُسمَّى بالفطريات «الجذرية» لا تتخلل التربة فقط، ولكنها أيضًا تشقُّ طريقها في أطراف جذور النباتات على المستوى الخلوي؛ ومن ثمَّ تُكوِّن وسيطًا يمكن من خلاله حدوث الاتصال الجزيئي. ومن خلال هذا النَّسْج أيضًا، ترتبط جذور كل نباتٍ أو شجرة بالأخرى في نظام تحت الأرض شديد التعقيد.

أكَّدت أبحاثُ سيمارد وجودَ ما أَسمَتْه «شبكة تواصل اجتماعي تحت الأرض» أسفل أرضية الغابة التي فحصتها، وهي عبارة عن «مجتمع نشط من أنواع الفطريات الجذرية» ربط كل شتلة بالأخرى. كما اكتشفت أن الخيوط الفطرية كوَّنت روابط بين الأنواع، حيث لم يقتصر الأمر فقط على الربط بين شجرة بتولا وأخرى وشجرة تنوب دوجلاس وأخرى، ولكن الربط أيضًا بين التنوب والبتولا وأنواع كثيرة غيرهما، مُكوِّنةً شبكةً غير هَرمية بين أنواع عديدة من النباتات.

وقد وَضَعت سيمارد هيكل اتصال بين الشتلات. ولكن لم تمثِّل الخيوط الفطرية سوى وسيلة المنفعة المتبادلة. إذ إن وجودها لم يُفسِّر سببَ اعتلال شتلات التنوب عند اقتلاع شتلات البتولا، ولم يُعطِ أيَّ تفاصيل عمَّا يُفترَض نقله عبر هذا النظام التعاوني، إن كان هناك ما يُنقَل من الأساس. ولذا أعدَّت سيمارد وفريقُها تجربةً تمكِّنهم من تتبُّع الحركات البيوكيميائية المحتمَلة على طول هذه الشبكة المدفونة غير المَرئية. إذ قرروا حقن أشجار التنوب بنظائر الكربون المشع. وباستخدام أجهزة المطيَاف الكتلي والعدَّاد الوميضي، تمكَّنوا من تتبُّع تدفُّق نظائر الكربون من شجرة إلى أخرى.

وكان ما كشفه هذا التتبُّع مذهلًا. إذ لم تبقَ نظائر الكربون حبيسة كل شجرة على حدة من الأشجار التي حُقِنت فيها. ولكنها انتقلت بدلًا من ذلك عبر الأنظمة الوعائية للأشجار إلى أطراف جذورها، حيث مرَّت في الخيوط الفطرية التي نُسِجَت بهذه الأطراف. وبمجرد وصولها إلى الخيوط الفطرية، انتقلت على طول الشبكة إلى أطراف جذور شجرة أخرى، حيث دخلت النظام الوعائي لتلك الشجرة الجديدة. وعلى طول الطريق، سحبت الفطريات بعض موارد التمثيل الضوئي التي كانت تتحرك على طول خيوطها الفطرية وأجرت لها تمثيلًا غذائيًّا؛ وهكذا استفادت من علاقة المنفعة المتبادلة.

كان هذا دليلًا على أن الأشجار يُمكنها نقلُ الموارد فيما بينها باستخدام شبكة الجذريات الفطرية. كما أظهر تتبُّع النظائر التعقيدَ غير المتوقع للعلاقات المتبادلة. في قطعةِ أرضٍ بحثية مساحتها ثلاثون مترًا مربعًا، كانت كل شجرة على حدةٍ متصلة بالنظام الفطري، وكانت بعض الأشجار — الأقدم عُمرًا — متصلة بما يصل إلى سبعٍ وأربعين شجرة أخرى. كما حلَّت النتائج لُغز علاقة المنفعة المتبادلة بين التنوب والبتولا؛ حيث كانت أشجار تنوب دوجلاس تحصل على كربون التمثيل الضوئي من أوراق البتولا بكمياتٍ أكثر مما كانت ترسله. وعندما أُزيلت أشجار البتولا، تراجَعَ مستوى امتصاص العناصر الغذائية لشتلات التنوب — على خلاف الطبيعة — بدلًا من أن يزيد؛ ومن ثمَّ ضعفت أشجار التنوب وماتت.

كتبت سيمارد في مُلخَّصٍ واضح وجريء لاكتشافاتها أن الفطريات والأشجار قد «حوَّلت ثنائية نَوعَيها إلى كيانٍ واحد مُتماثل، وبذلك كوَّنت غابة.» وبدلًا من أن ترى الأشجار باعتبارها قوًى فردية تتنافس على الموارد، قدَّمت الغابة بوصفها «نظامًا تعاونيًّا»، «تتحدَّث» فيه الأشجار بعضها إلى بعض، وتُنتِج اتصالًا تعاونيًّا أو إدراكًا تعاونيًّا وصفته بأنه «حكمة الغابة». بل إنَّ بعض الأشجار الأكبر «ترعى» الأشجار الأصغر، التي تعتبرها «ذوي قرابتها» فتقوم بذلك بدور «الأمهات». وفي ضوء بحث سيمارد، فإن الرؤية الكاملة لإيكولوجيا الغابات قد ازدهرت وتغيَّرت: من سوق حرةٍ ضارية إلى ما هو أشبه بمجتمعٍ ذي نظامٍ اشتراكي لإعادة توزيع الموارد.

نُشرت أول ورقة بحثية رئيسية لسيمارد حول هذا الموضوع في مجلة «نيتشر» عام ١٩٩٧، ومن خلالها اكتسبت الشبكة تحت الأرضية لعلاقة المنفعة المتبادلة بين الأشجار والفطريات لقبها الدائم «شبكة الغابات الواسعة». كانت ورقتها البحثية في مجلة «نيتشر» نشرة رائدة غير مسبوقة ذات آثار مُهمة لدرجة أنَّ مجالًا بحثيًّا كاملًا قد تشكَّل لاحقًا لتعقبها. ومنذ ذلك الحين ازدهرت الدراسة العلمية لعلمِ بيئةِ ما تحت الأرض. إذ سلَّطت تقنياتٌ جديدة للكشف ورسم الخرائط الضوءَ على تفاصيلَ جديدةٍ لهذه «الشبكة الاجتماعية» للأشجار والنباتات. تقول سيمارد: «رُسِمَت الخرائط لشبكة الغابات الواسعة، وجرى تتبُّعها، ومراقبتُها، والتعامُل معها؛ للكشف عن البِنى الجميلة واللغات الشديدة التكيُّف لشبكة الغابة.»

ومن بين هذا الجيل الجديد من اللُّغويين وراسمي خرائط الغابات عالِم نباتٍ شاب يُدعَى ميرلين شيلدريك. هذا اسمُه حقًّا.

•••

نقفُ أنا وميرلين جنبًا إلى جنب في أيكةٍ من خشب الزان، وهي أكبر أيكة رأيتُها على الإطلاق، ناهيك عن أنها أكبر أيكة دخلتُها. يبلغ طول الجذع من أقصاه إلى أقصاه عشر ياردات، ويبلغ عُمر الشجرة نحو ٤٠٠ أو ٥٠٠ عام.

أقول لميرلين: «أعتقد أن هذا المكان لم يشهد تقليمًا منذ نصف قرن على الأقل.»

نمت براعم الأيكة، غيرَ مُشَذَّبة، لتُصبح جذوعًا شامخة تتألق حول حافة قاعدة الأيكة، وتترك فراغًا في المنتصف كبيرًا بما يكفي ليسع كلًّا منا بسهولة. نبقى هناك لبعض الوقت مُستمتعَيْن بوجودنا داخل هذه الشجرة العتيقة، ناظرَيْن من بين قضبان قفصنا المكسو باللحاء الرمادي إلى غابة إبينج بالخارج.

انصهر فرعان سُفليان من خشب الزان كلٌّ منهما في الآخر، حيث اندمج لحاؤهما مُكوِّنًا قشرة واحدة مُتصلة، ونما النظام الوعائي لكلٍّ منهما واتحدا. إنه خشب حيٌّ، تُرك لفترة طويلة بما يكفي ليتصرف كسائلٍ بطيء الحركة. وفي نهاية المطاف، بعد فترة مُحددة، يبدو الخشب الحي وكأنه يتدفَّق مِثله مثل الهاليت الموجود في ظلام منجم بولبي بالأسفل، والكالسيت الذي رأيتُه أسفل المنديب، والكتلة الثلجية التي تزحف فوق التربة السطحية وصخر الأساس.

أقولُ لميرلين، مُربِّتًا على الفروع المندمجة: «سمعتُ أنَّ هذا يُسمَّى «الجَدْل أو الدَّمْج».» وواصلتُ حديثي قائلًا: «زرعَ الفنانُ ديفيد ناش دائرةً من أشجار المُران في أرضٍ مقطوعةِ الشجر في غابة في شمال ويلز، ثم أحدث تقوسًا في الأشجار ونسجَها بحيث لا تنمو متجاورةً فقط ولكن متداخلةً أيضًا، في «قبة من أشجار المُران» الراقصة الناتجة عن اندماج الأغصان والأفرع.»

يقول ميرلين: «في الواقع، لدى علماء النبات مصطلحٌ تقني لهذا. نحن نسميه «التقبيل»، أو بالأحرى فإن الاسم بالكامل هو «تقبيل الأشجار».» ثم ضحكَ. وواصل حديثه قائلًا: «حسنًا، إنه ليس هكذا بالضبط. بل إن المصطلح التقني هو في الواقع «آينوسكوليشن»؛ أي «التحام»، والكلمة مأخوذة من الأصل اللاتيني «أوسكولاري»، بمعنى «يُقبل». إنه يعني «التقبيل المتبادل». ويمكن أن يحدث عبر الأشجار وبين الأنواع أيضًا.»

كنت أعرف كلمة «الالتحام»، ولكني لم أكن أعرف أصلها؛ ومن ثمَّ بدا الأمر لي وكأنَّ مصطلحًا مُتخصصًا باردًا يكتسب دفئًا باعثًا على الشغف، ويعكس بصدقٍ هذا «التقبيل المتبادل» بين الأشجار، الذي يُصبح معه من الصعوبة بمكان تحديد موضع انتهاء كيان وموضع بدء آخر. أُفكِّر في نسخة أوفيد لأسطورة «باوسيس وفليمون»، التي يتحوَّل فيها زوجان مُتقدِّمان في السن إلى شجرة بلوط وشجرة زيزفون مُتشابكتَيْن، وكلٌّ منهما تدعم الأخرى في البنية والغذاء، وتمدُّ كلٌّ منهما الأخرى بالقوة المُستقاة من الأرض عبر جذورهما، وتتقاسمان هذه القوة بحنوٍ عبر تبادُل القُبَل.

يقول ميرلين: «يحدث هذا النوع من الاندماج تحت الأرض أيضًا، ولكن ربما بشكلٍ مكثَّف بين جذور الأشجار أكثر منه بين الفروع؛ لأن المساحة أقل تحت الأرض، ومن ثمَّ يكون التشابك أكثر كثافة. كما يحدث بغزارة أكبر وعلى نطاقٍ واسع في الشبكات الفطرية، غالبًا بين أنواع مختلفة تمامًا.» يمرِّر أصبعه على الفرعَين في موضع تجدُّلهما.

«من كونهما أنبوبَين من الخيوط الفطرية، يُصبح الفِطران فجأة فطرًا واحدًا؛ ومن ثمَّ تتولَّد إمكانية تدفق مختلف العناصر بينهما، بما في ذلك المواد الوراثية والأنوية. ومن هنا تأتي صعوبة دراسة مفاهيم الأنواع في الفطريات، أو حتى مسألة ماهية الكائن الحي؛ لأنَّ الفطريات بالإضافة إلى الجنس لديها أيضًا هذا النقل الأفقي الجامح للمواد الوراثية الذي لا يمكن التنبؤ به على نحوٍ لا نزال نعجز عن فهمه حتى الآن.»

إنَّ ميرلين شيلدريك، طبقًا لأقدم مزحة في علم الفطريات، هو رجلٌ من المبهج أن تكون في جواره. خلال الأيام التي أطلعني فيها على أسرار الأرض السفلية لغابة إبينج، طرحتُ أسئلةً أكثر مما طرحتُها على أي شخصٍ منذ سنوات تقريبًا. وما قاله وأوضحه لي في تلك الغابة المحيطة بالمناطق شبه الحضرية المتواضعة أعادَ تشكيل إحساسي بالعالم بطرقٍ ما زلتُ أحاول استيعابها.

كانت ليلة ميلاد ميرلين هي ليلة العاصفة العظيمة، التي وقعت في الخامس عشر من أكتوبر عام ١٩٨٧، حيث الرياح بقوة الإعصار، التي تصِل شِدَّتها إلى ١٢٠ ميل في الساعة، والتي تسبَّبت في انقلاب الناقلات، وعصفت بالعبَّارات إلى الشاطئ، وأسقطت حوالي ١٥ مليون شجرة؛ ما أدَّى إلى تمزيق أرضية الغابة عبر جنوب إنجلترا وشمال فرنسا وإمالتها نحو السماء على شكل صفائح جذرية. كان أول يوم كامل في حياة ميرلين هو يوم الجمعة السوداء، عندما شهدَ مؤشر داو جونز انخفاضًا غير مسبوق، ما أدَّى إلى محو تريليونات الثروة العالمية وانهيار الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم.

كلَّا، كان نذير وصول ميرلين شيلدريك إلى العالَم غير ميمون. ووفقًا للأسطورة اليونانية، كان مُقَدرًا له بلا شك أن يكون قوة للدمار والخراب. لكنه أُعطيَ اسمًا جذَّابًا وكَبُرَ ليصبح شخصًا جذَّابًا. إنه طويل القامة، وممشوق القوام، ويمشي مُنتصب القامة تمامًا. وله شعر داكن ذو تموجاتٍ مُحكَمة، وعينان حادتان تحيط بحدقتَيهما دائرتان تامَّتان ذواتا بياضٍ ناصع، وصاحبُ ابتسامة عريضة ودافئة. كما أنه عالِمٌ جليل حاصل على درجة الدكتوراه في علم النبات من جامعة كامبريدج. ويتَّسِم بلمسة أثرية طفيفة؛ وهي عدم اهتمامه بحدود التخصُّص المعرفي، وفضوله اللامُتناهي، كما أنه يتسم بمَلمح من صائدي النباتات في عصر البطولات. إنه يُذكِّرني بمزيجٍ يجمع ما بين السير توماس براون وفرانك كينجدون وارد، جامِع نباتات ميكونوبسيس بيتونيكيفوليا، الخشخاش الأزرق الأسطوري لجبال الهيمالايا.

كان من سمات ميرلين النموذجية أنه أصبح مفتونًا منذ صغره ليس بالحيوانات الكاريزمية في العالَم، ولكن بالحيوانات التي تعيش ضمن مجموعةٍ من الأحياء البيولوجية في منطقة أو حقبة زمنية مُعيَّنة، لكنها لا تحظى بالتقدير والاهتمام الكافيين: الأشنات، والحزازيات، والفطريات. ودرسَها كعالِم مُراهق هاوٍ، حيث كان يَعُدُّ أنواع الأشنات على شواهد القبور وصخور الجرانيت، ويُحاول فهم التكوين الخاص بحياة الفطريات وبِنيتها تحت الأرض: ينمو فطرُ عيش الغراب فوق الأرض بوصفه جزء الإثمار، لكنه يقف كإشارة بسيطة عابرة على بِنياتٍ ضخمة تحت الأرض.

قال لي ميرلين ذات مرة: «لم يكن أبطال طفولتي شخصياتُ مارفل الخارقة، بل كانت الأشنات والفطريات. إنَّ الفطريات والأشنات تُبيد فئات جنسنا البشري. إذ تعيد تشكيل أفكارنا عن مفهوم المشاركة والتعاون. وتفسد نموذجنا الوراثي للنَّسَب التطوري. وتقضي تمامًا على مفهومنا الحالي للزمن. فيمكن للأشنات تفتيت الصخور إلى غبار بواسطة أحماض مرعبة. ويمكن للفطريات إفراز إنزيماتٍ قوية للغاية خارج أجسامها، لها القدرة على إذابة التربة. إنها أعظم الكائنات الحية في العالَم ومن بين أقدم الكائنات الحية الموجودة. إنها لها القدرة على خلق عالَم كما أنَّ لها القدرة على تدميره. فما الذي عساه أن يفعله الأبطال الخارقون أكثر من ذلك؟»

•••

سرتُ أنا وميرلين مَشيًا على الأقدام إلى غابة إبينج ذات صباح من أرضٍ مرتفعة مقطوعة الأشجار، مُتَّجِهَيْن شمالًا تقريبًا، والشمسُ إلى يمين خط سيرنا.

تمتد غابة إبينج إلى الشمال الشرقي للندن، وهي بعيدة للغاية عن أي غابة طبيعية. صُنِّفت في البداية على أنها غابة صيد مَلكية في القرن الثاني عشر بأمرٍ من هنري الثاني، الذي أصدر عقوباتٍ على الصيد الجائر شملت السجن والتشويه. وتُديرها حاليًّا مؤسسة مدينة لندن، وسُنَّ لها أكثر من خمسين قانونًا داخليًّا يُنظِّم السلوك داخل حدودها، غير أن العقوبات الآن أصبحت ماليةً وليست بدنية. تقع هذه الغابة بأكملها الآن في شارع إم ٢٥، وهو الطريق السريع المداري الذي يُحيط بلندن. وتجتازها الطرق الفرعية، ولا يزيد عرضها عن مِيلَين ونصف الميل. وعلى الرغم من نطاقها الصغير، فمن السهل أن يضل المرءُ طريقه فيها؛ فهي غابة ذات مساراتٍ مُتشعِّبة يقصدها، لآلاف السنين، سكانُ لندن وما حولها للحصول على مأوًى، ومُمارسة الجنس، وكملاذٍ طبيعي، وللاستمتاع بسحر الغابة الخضراء القديمة.

هديرُ الطرق. وطنينُ نحلةٍ طنَّانة على مستوى تحليقٍ منخفض، تُحرِّك نثار الأوراق مع سقوطها لأسفل. وصقرٌ حوَّام بالأعلى، ينعطفُ ويُصدِر صفيرًا. وأشجارُ أيكةٍ قديمة تُركَت كما هي دون قطعها، وأشجار مُتعدِّدة الرءوس عديمة الأوراق والأغصان. وزَنْدُ خشب ساقط وسميك بفِعل الحزازيات؛ وهي فطريات برتقالية صغيرة تَنبُت من شقوق رطبة في حبَّاتها. وحيث تضعف الأشجار ويسقط الضوء، تندفع مئاتٌ من شتلات الزان الخضراء لأعلى عبر النثار بما لا يتجاوز بوصةً واحدة. تظهر خمسة أيائل آدمة بين البهشيات أمامنا، حيث يتلاشى رقاط خاصراتها بفِعل رقاط الضوء المار بين الأوراق أثناء تحرُّكها عبر أشجار الطبقة السفلى.

في لغة الغابات وعلم بيئة الغابات، يُشير مُسمَّى «أشجار الطبقة السفلى» إلى الحياة الموجودة بين أرضية الغابة وظُلَّة الأشجار، بما في ذلك الفطريات، والحزازيات، والأشنات، والشجيرات، والشتلات التي تنمو وتتزاحم في هذه المنطقة الوسطى. ولكن، مجازيًّا، تُشير أيضًا «أشجار الطبقة السفلى» إلى مجموع الروايات، والحكايات التاريخية، والأفكار، والكلمات المتشابكة والآخذة في التزايُد دائمًا، التي تتناسج لتُعطي أيكة أو غابة حياتها المتنوعة في الثقافة.

يقول ميرلين: «أكثرُ ما يُثير اهتمامي هو القصة الخفية وراء أشجار الطبقة السفلى.» ثم يُشير في الأنحاء إلى أشجار الزان، والشرد، والكستناء. ويقول: «إن كل هذه الأشجار والشجيرات مُرتبطة كلٌّ منها بالأخرى تحت الأرض بطرقٍ لا يُمكننا رؤيتها فحسْب، بل بطرقٍ بالكاد بدأنا نفهمها.»

قرأ ميرلين أثناء دراسته العلوم الطبيعية في جامعة كامبريدج بحث سيمارد الرائد حول شبكة الغابات الواسعة. كما قرأ الورقة البحثية الكلاسيكية لإيه آي نيومان لعام ١٩٨٨، تحت عنوان «الروابط الجذرية الفطرية بين النباتات: وظيفتها وأهميتها البيئية». وفيها عارضَ نيومان الادِّعاء القائل بأن «النباتات مُنفصلةٌ من الناحية الفسيولوجية بعضها عن بعض.» مُقترحًا بدلًا من ذلك وجود «شبكة غزل فطري» يمكنها أن تربط النباتات معًا. وكتبَ نيومان: «لو كانت هذه الظاهرة مُنتشرةً على نطاقٍ واسع، لكان من شأنها أن تُخلِّف آثارًا عميقة فيما يخصُّ آلية عمل النظم البيئية.»

كانت تلك «الآثار» عميقةً بالفعل، وقد استهوت مِيرلين. لقد وقعَ بالفعل في غرام عالَم الفطريات الغريب. وكان يعلم أن الفطريات يُمكنها أن تحوِّل الصخور إلى حُطام، ويمكنها أن تتحرَّك بسرعةٍ ونشاط فوق الأرض وتحت الأرض، ويُمكنها أن تتكاثر أفقيًّا، وأن تهضم الطعام خارج أجسامها عن طريق الأحماض التي تُفرزها ببراعة خلال عملية الأيض. كان يعلم أن سمومها يمكنها أن تفتك بنا، وأن موادها الكيمائية ذات التأثير النفسي يمكنها أن تُحفِّز حالاتٍ مصابة بالهلوسة. ومع ذلك، فقد كشفت أبحاث سيمارد ونيومان له أنَّ الفطريات يمكنها أيضًا أن تُمكِّن النباتات من التواصل فيما بينها.

تتلمذ ميرلين في الجامعة على يد أوليفر راكهام، عالِم النبات الأسطوري الذي غيَّرت أبحاثُه فَهمنا للتاريخ الثقافي والنباتي للمناظر الطبيعية في البيئة الإنجليزية. وأثناء العمل مع راكهام، وجدَ ميرلين نفسه مُنجذبًا أكثرَ من الناحية الفكرية إلى الأماكن التي بدت فيها نظرية التطوُّر الأرثوذكسية أكثرَ ضعفًا، والتي كانت بالنسبة إليه الأماكنَ الأقل قبولًا لعلاقات تبادُل المنفعة. تبادُل المنفعة هو مجموعة فرعية من التكافل؛ حيث تُوجَد بين الكائنات الحية علاقة طويلة الأمد من الاعتماد المُتبادَل والمنفعة المتبادَلة.

يقول ميرلين: «ما يُثير إعجابي في علاقات تبادُل المنفعة هو ما يمكن التنبؤ به من نظرية التطور الأساسية بأنها علاقاتٌ غير مُستقرة على نطاقٍ واسع، وسرعان ما تنهار إلى ضرب من التطفل. ولكن يتَّضح أنَّ هناك علاقاتٍ من تبادُل المنفعة شديدة القِدم، والتي بقيت مُستقرة لفتراتٍ طويلة على نحوٍ مُحيِّر: بين نبات اليوكا وعث اليوكا، على سبيل المثال، أو بالطبع بين البكتيريا التي تُضيء المصباح الأمامي ذا الإضاءة الحيوية لدى الحبَّار الأبتر والحبَّار نفسه.»

أُجيبه قائلًا: «بالطبع. إنه تبادُل المنفعة القديم بين الحبَّار الأبتر المضيء والبكتيريا.»

يقول ميرلين: «ومع ذلك، فإن تبادُل المنفعة الأساسي نجده بين النباتات والفطريات الجذرية.»

•••

يتكوَّن مصطلح «الفطريات الجذرية» من المُرادفَيْن اليونانيين لكلمتَي «فِطر» و«جِذر». ويعني هذا المصطلح في حدِّ ذاته التعاون أو التشابُك، ومِن ثمَّ فإنه تذكيرٌ بفكرة كيف أنَّ للغة نظامَها الغائر من الجذور والخيوط، الذي من خلاله يكون تقاسُم المعنى وتداوُله.

إنَّ العلاقة بين الفطريات الجذرية والنباتات التي تربط بينها علاقةٌ مُوغِلة في القِدم — ما يقرُب من ٤٥٠ مليون سنة — وتُعدُّ في أغلب الأحيان إحدى صور تبادُل المنفعة. في حالة تبادُل المنفعة بين الأشجار والفطريات، تمتصُّ الفطريات الكربون الذي أنتجته الأشجار على هيئة جلوكوز أثناء عملية البناء الضوئي بواسطة مادة الكلوروفيل التي لا تمتلكها الفطريات. وفي المقابل، تحصل الأشجار على العناصر الغذائية من قبيل الفوسفور والنيتروجين، اللَّذَين اكتسبتهما الفطريات من التربة التي تنمو خلالها عن طريق الإنزيمات التي لا تُوجَد لدى الأشجار.

غير أن إمكانيات شبكة الغابات الواسعة تتجاوز بكثيرٍ هذا التبادُل الأساسي للعناصر بين النبات والفطريات. إذ تُتيح شبكة الفطريات أيضًا للنباتات توزيع الموارد فيما بينها. ومن ثمَّ يمكن مشاركة السكريات، والنيتروجين، والفوسفور بين الأشجار في الغابة؛ يمكن لشجرةٍ مُحتضِرة أن تتجرَّد من مواردها وتُطلِقها داخل الشبكة لصالح المجموعة، على سبيل المثال، أو قد تحصل شجرة مريضة، تُكافح من أجل البقاء، على دعمٍ بموارد إضافية من قِبل جيرانها من الأشجار المجاورة.

بل والأهم من ذلك أن الشبكة تُمكِّن النباتات أيضًا من إرسال مُركَّباتٍ ذاتِ إشاراتٍ مناعية فيما بينها. ومِن ثمَّ يمكن لنبتةٍ تتعرض لهجومٍ من حشرات المَنِّ أن تُشير إلى نبتة أخرى قريبة عبر الشبكة بأن عليها أن تزيد ردَّ فعلها الدفاعي قبل أن تصِل إليها حشرات المَنِّ. كان معروفًا لبعض الوقت أن النباتات تتواصل فوق الأرض بِطُرقٍ مماثلة، عن طريق الهرمونات القابلة للانتشار. بيد أن مثل هذه التحذيرات المحمولة بالهواء تكون غير دقيقة في وجهاتها. ولكن عندما تنتقل المُركَّبات عن طريق شبكات الفطريات، فإنه يمكن تحديد كلٍّ من المرسِل والمستقبِل. يطرح فَهمنا المتزايد لشبكة الغابة أسئلةً متعمقة حول: منشأ الأنواع ومنتهاها، وما إذا كان من الأفضل تخيُّل الغابة على أنها كائن حي فائق، ومعنى «التداوُل»، أو «التقاسُم والمشاركة»، أو حتى «الصداقة» بين النباتات، بل وفي الواقع، بين البشر.

تُشبِّه عالِمة الأنثروبولوجيا آنا تسينج ما هو أسفل أرض الغابة بأنه «مساحة اجتماعية مُكدَّسة ونشطة»، حيث «يُشكِّل» تفاعُل الملايين من الكائنات الحية «عالَمًا عبر الأنواع تحت الأرض». وكتبت جُملتها التي لا تُنسَى في مقالٍ بعنوان «فنون الدَّمج، أو كيف تحبُّ فِطرًا»: «في المرة القادمة التي تمشي فيها عبر الغابة، انظر للأسفل. فثمة مدينةٌ تقبعُ تحت قدمَيك.»

•••

كان قد مضى على تَجوُّلي أنا وميرلين في الغابة ساعتان أو نحو ذلك عندما وصلنا إلى إحدى أيكات الزان الكبيرة المقطوعة الفروع في غابة إبينج. إن تقليم فروع الأشجار، أي تشذيب الفروع العلوية للشجرة لتعزيز نموها بكثافة، يُحافظ على الأشجار حيَّةً لفترة أطول؛ بل يمكنه في الواقع أن يُدخِلها إلى ما يُشبه زمن الحكايات الخرافية الذي لا نهاية له تقريبًا من حيث طول العُمر. هنا في الأيكة، تتُوق الجذوعُ الطويلة المُلوِّحة لأعلى إلى الشمس. وعبر أوراقها يسقط ضوءٌ أخضر كالَّذي يكون تحت سطح البحر. فيبدو الأمر كما لو أننا نسبح عبر غابة من الأعشاب البحرية.

نتوقف ونستلقي على ظهورنا لبعض الوقت على أرضية الغابة، ولا نتحدَّث، ونشاهِد حركات الأشجار اللطيفة في النسيم؛ والضوءُ يغزل خيوط أشعته من ارتفاعِ خمسين قدمًا أو أكثر فوقنا. وحيث تنتشر الأشجار المقطوعة الفروع لتشكيل ظُلَّة الشجر، أُدركُ أنني يمكنني تتبُّع أنماط المساحة المُمتدَّة على طول حواف ظُلَّة كل شجرة، تلك الظاهرة الجميلة المعروفة باسم «تاج الحياء»، حيث تحترم كل شجرة من أشجار الغابة مساحة الأخرى، تاركةً فجواتٍ رفيعةً متواصلة بين طرف الأوراق الخارجية لشجرة وبداية أخرى.

هناك بين الأشجار، على الرغم من الحذر الفطِن من عدم إسباغ الصفات البشرية على الكيانات غير البشرية، أجدُ صعوبةً في عدم تخيُّل هذه العلاقات القائمة بين الأشجار من حيث اللطف، والكَرم، وحتى الحب: المسافة المُتسمة بالاحترام لتيجان حيائها، والفروع التي يُقبِّل أحدها الآخر ويتشابك كلٌّ منها مع الآخر، والروابط غير المرئية التي شكَّلتها الجذور والخيوط الفطرية بين الأشجار المُتباعدة في ظاهرها. أتذكَّر شيئًا كتبَه لويس دي بيرنيير عن علاقةٍ استمرَّت حتى سنٍّ كبيرة: «كان لدينا جذور نما أحدها تجاه الآخر تحت الأرض، وعندما سقطت كلُّ الأزهار الجميلة من فروعنا، وجدْنا أننا كنَّا شجرة واحدة وليس شجرتَيْن.» بِصفتي شخصًا محظوظًا حُبِيتُ بأن أعيش حُبًّا طويلًا، أُدركُ ذلك النمو التدريجي نحو التشابُك تحت الأرضي، الأشياء التي لا يحتاج كلٌّ مِنَّا أن يقولها للآخر، ذلك التواصل غير المُعلِن الذي قد يميل أحيانًا بشكلٍ مُقلق نحو الصمت، وتقاسُم كلٍّ من السعادة والألم. أُفكِّرُ في الحب الجيد كشيءٍ تتأصل جذوره وتترسَّخ، وليس كشيءٍ يَبلى ويتفسَّخ، مع مرور الزمن، وأُفكِّرُ في الخيوط الفطرية التي تنسج غزلها خلال الأرض تحتي، وتمتدُّ خلال التربة بحثًا عن مجالات الاندماج. إنَّ علاقاتها تبدو لي أيضًا في ذلك الوقت ضربًا من صَنيع الحُب.

ينهض ميرلين ويمشي باتجاه وسط الأيكة وكأنه يبحث عن شيءٍ ما، ثم ينحني ويُزيل بفرشاةٍ نثار الأوراق وثمر الزان لتنظيف رقعةٍ من التربة بحجم صحن. أنهضُ وأتبعُه. ويقبض بيديه حَفنة من التراب ويفركها بين أصابعه. إنه يترك أثره في اليدين ولا يَتفتَّت، فيصير دُبَالًا خِصبًا وداكنًا مصنوعًا من الأوراق المتحوِّلة إلى سماد.

يقول: «هذه هي مشكلتنا فيما يخصُّ دراسة شبكة الفطريات. فالتربة عصيَّة على التجارب على نحوٍ غريب، والخيوط الفطرية على وجه العموم تكون رقيقةً للغاية لدرجةِ أنه لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. هذا هو السبب الرئيسي لما استغرقناه من وقتٍ طويل في اكتشاف وجود شبكة الغابات الواسعة، وإدراك ما تقوم به.»

تتدفَّق أنهار من العصارة في الأشجار حولنا. ولو أننا وضعنا الآن سماعةً طبيةً على لِحاء شجرة بتولا أو زان، لسَمِعنا صوتَ الدُّبَال وهو يُصدِر فقاعاتٍ وطقطقةً أثناء تحرُّكه خلال الجذع.

يقول ميرلين: «يُمكنك وضعُ غرفة جذور في الأرض لملاحظة نمو الجذور، ولكنها في الواقع لن تُبيِّن لك الفطريات لأنها دقيقة للغاية. ويمكنك إجراء مسح بالليزر أسفل الأرض، ولكن، مرة أخرى، ستكون هذه أيضًا وسيلةً غيرَ بارعة للكشف عن شبكات الفطريات.»

أتذكَّر مرةً أخرى كيف أنَّ الأرض السفلية لا تزال مُقاوِمة لأشكال الرؤية المعتادة لدَينا، وكيف أنها لا تزال تتوارى منا كثيرًا، حتى في عصرنا ذي الرؤية والتدقيق الفائقَين. فلا يلزم سوى بضع بوصاتٍ من التربة للحفاظ على الأسرار المُذهلة، واحتواء الأحياء المدهشة؛ إذ يتكوَّن ثُمن إجمالي الكتلة الحيوية في العالَم من البكتيريا التي تعيش تحت الأرض، ويَتكوَّن رُبعها من الفطريات.

يقول ميرلين: «نعلم أن الشبكة موجودة هناك، ولكن تعقُبَها أمرٌ مُجهِدٌ للغاية. ولذا، علينا البحث عن أدلةٍ نسترشد بها عبر المتاهة؛ أي علينا البحث عن وسائل ذكية لتتبُّع مساراتها.»

أجثو على رُكبتيَّ بجانبه. يُمكنني أن أرى في هذه البقعة الصغيرة وحدها عشرات الحشرات التي لا أعرفُ أسماءَ غالبيتها: عناكب لامعة، وخنافس ذات لون أحمر برونزي تتقاتل على الأوراق، وحشرة قمْل الخشب تعقص مُتحوِّلةً إلى كُرة، ودودة خيطية خضراء تتلوى في الدُّبَال.

أقول لميرلين: «إنَّ المشهد يموج بالحياة.»

فيرد ميرلين قائلًا: «تلك فقط الحياة المرئية. ستنمو الخيوط الفطرية داخل المادة المُحَللة لهذه الورقة نصف المُتعفنة، وداخل هذا الحطب المُتعفن والأغصان الصغيرة الفاسدة؛ ثم تأتي بعد ذلك الفطريات الجذرية، التي تنمو خيوطها لتُصبح نقاطًا فعالة — جميعها يزبد، ويتشابك، ويندمج، ما يُكوِّن شبكةً تربط بهشيةً بأخرى، وكذلك بشجرة الزان هذه، وبنبتة شيء آخر هناك، مُكوِّنة طبقاتٍ وطبقات — حتى تعصف بقدرة ذهنك على العَدِّ!»

أثناء حديث ميرلين، أشعرُ بإحساسٍ سريع وغريب بأن العالَم من حولي يتحوَّل تحولًا لا رجعة فيه. ترتجف الأرضُ تحت قدميَّ، ورُكبتَيَّ، وبشرتي. وأتذكَّر مقولة لريتشارد باورز في أحد كتبه: «فقط لو كان عقلك أكثر تَصادُقًا مع البيئة بعضَ الشيء، لغمرناكَ بالمعنى …» أَنظرُ إلى الأسفل، مُحاولًا أن أتخيَّل التربة شفافةً أمام عينيَّ بحيث أستطيع أن أرى بِنيتها التحتية المَخفية: الملايين من شِلَّات الخيوط الفطرية المُعلقة بين جذور الأشجار المستدقَّة الأطراف، التي تُكوِّن من خلال علاقاتها المثمرة شبكة من النسيج الرقيق التي تُحاكي في تعقيدها على أقل تقدير تعقيد الكابلات والألياف التي تتدلى أسفل مُدننا. ما العبارة التي سمعتُها وكثيرًا ما تتردَّد على ذهني وكانت تُستخدَم عادةً لوصف عالَم الفطريات؟ إنها مَملكة اللون الرمادي. إنها تتحدَّث عن نماذج الاختلاف التام في عالَم الفطريات، تلك التحديات التي تَخلُقها أمام نماذجنا المعتادة للزمن، والمكان، والأنواع.

يقول ميرلين: «إنك تنظر إلى الشبكة، ثم تبدأ هي في النظر إليك.»

•••

في الأرض السفلية لغابات الأخشاب الصلبة في الجبال الزرقاء بولاية أوريجون، يُوجَد فطر عسل، أرميلاريا سوليديبس، يمتدُّ لِمِيلَين ونصف الميل في أوسع نقطة له، ويغطي مساحة جانبية إجمالية تبلُغ حوالي أربعة أميال مُربَّعة. وحجم الحوت الأزرق مقارنةً بحجم فطر العسل هو كالنملة مُقارنة بحجمنا كبَشر. إنه كائن حي غامض للغاية؛ فهو أكبر — وأحَدُ أقدم — الكائنات الحية التي نعرفها في العالَم. وأفضل تقدير تَمكَّن علماءُ دائرة الغابات في الولايات المتحدة من إعطائه لعُمر فِطر العسل يتراوَح ما بين ١٩٠٠ عام و٨٦٥٠ عامًا. يظهر الفطر فوق الأرض في صورةِ عُشِّ غراب بجذوعٍ مُرقطة باللون الأبيض تعلوها كئوس ذات أهداب سمراء مائلة إلى الاصفرار. يحدُث الامتداد الفعلي لفطر أرميلاريا سوليديبس تحت الأرض، حيث يتحرك الفطر على هيئة جذورٍ تُشبه أربطة أحذية سوداء، تمتدُّ خارجةً منها الأطرافُ الخيطية لغزله الفطري، الذي ينتشِر بحثًا عن مُضيفين جُدد يمكن أن يقتلهم، وعن غُصَيناتٍ فطرية من أجزاء أخرى من المُستعمرة يمكنه الاندماج معها.

تنهار جميع التصنيفات، لكن الفطريات تعصف بالعديد من فئات التصنيف الأساسية لدَينا وتُعَطلها. تعوق الفطريات إدراكاتنا المُعتادة لمفهوم الكل والجزء، ومفهوم الكائن الحي، ومفهوم السلالة والوراثة. وتُضفي دلالات غريبة على مفهوم الزمن؛ لأنه ليس من السهل تحديد نهاية الفطر أو بدايته، أي تحديد تاريخ نشأته أو فنائه. بالنسبة إلى الفطريات، عالَمنا من ضوء وهواء هو بمثابة الأرض السفلية، التي تصعد إليها بتردُّد هنا وهناك، من حينٍ لآخر.

كانت الفطريات من بين أُولى الكائنات الحية التي عادت إلى منطقة الانفجار حول نقطة التأثير في هيروشيما؛ النقطة التي ارتفعت منها سحابة الفطر. بعد هيروشيما، أيضًا، بدأت صور لسحابة الفطر بالظهور في كل مكانٍ في وسائل الإعلام والثقافة، تلك الأجسام المثمرة المثيرة لقلقٍ عالمي جديد. وتفاجأ العلماء الذين عملوا في تشيرنوبيل بعد الكارثة باكتشاف خيوطٍ دقيقة من الفطريات الداكنة التي تربط الخرسانة المنكوبة للمُفاعل نفسه، حيث كانت مستويات الإشعاع أعلى ٥٠٠ مرة منها في البيئة الطبيعية. وأثار دهشتهم على نحوٍ أكبر اكتشافُ أن الفطريات كانت تزدَهِر بفاعليةٍ نتيجة المستويات العالية للإشعاع المُؤيَّن؛ فقد استفادت من هذه العاصفة ذات الطبيعة المُهلِكة في العادة، وزادت من كتلتها الحيوية عن طريق مُعالجتها بطريقةٍ ما. بدأ علماءُ البيئة في الولايات المتحدة الذين يسعون إلى فهم كيفية استجابة الأشجار الأمريكية للضغط الناتج عن تغيُّر المناخ في التركيز على وجود فطريات التربة كمؤشرٍ رئيسي على مرونة الغابات في المستقبل. واقترحت الدراساتُ الحديثة أن الشبكات الفطرية الجيدة التطوُّر ستكون قادرة على التكيُّف بمعدلٍ أسرع على نطاقاتٍ أكبر مع الظروف المُتغيرة لحقبة الأنثروبوسين.

كتبت اختصاصية علم النباتات الشعبي روبن وول كيميرر: «إن تعلُّم رؤية الحزازيات أقرب إلى السَّمَاع منه إلى النَّظر؛ فالحزازيات … تُصدِر دعوة للبقاء لفترةٍ من الوقت في حدود الإدراك العادي.» أما تعلُّم رؤية الفطريات، فيبدو أكثر صعوبة؛ إذ يتطلب حواسَّ وتقنياتٍ ما زال علينا تطويرها. ومع ذلك، حتى المحاولة والتفكير مع الفطريات أو كفطريات هو أمر مُفيد وله قيمته، حيث إنها كعادتها تجذبنا على نحو مفيد تجاه طرق الحياة التي تتجاوز نطاق معرفتنا.

من المُؤكَّد أن الأفكار «الغربية» الأرثوذكسية عن الطبيعة تبدو غير كافية لطرقِ تشكيل العالَم التي تتبِعها الفطريات. ومثلما أصبحت الروايات التاريخية حول التقدُّم موضعَ تساؤل، أُعيدَ تشكيل مفهوم التاريخ نفسه. فلم نعد نتخيَّل التاريخ على أنه سهم يتجه للأمام أو شكل حلزوني ذاتي التقاطُع؛ بل ربما أصبحنا نراه بالأحرى كشبكة متفرعة ومدمجة في اتجاهاتٍ كثيرة. يبدو كذلك أن فَهم الطبيعة آخذٌ في التزايد على نحوٍ أفضل فيما يتعلق بالفطريات، وليس كقمة ثلجٍ مُتألقة ومفردة، أو كنهرٍ منحدر قد نجد فيه الفداء، ولا كديوراما نرثى لها أو نُعجَب بها من بعيد، ولكن بالأحرى كمجموعة من التشابكات التي نحن جزءٌ منها بشكل فوضوي. لقد أفضينا إلى فَهم أجسامنا بوصفها موائل لمئات الأنواع التي يُعتبر الإنسان العاقِل مجرد فردٍ فيها فقط، وأحشائنا بوصفها غاباتٍ من النباتات البكتيرية، وبشرتنا بوصفها تزدهر بالصحة والنضارة بفِعل الفطريات.

أجل، لقد بدأنا نواجه أنفسنا — على نحوٍ غيرِ مريح أو سارٍّ دائمًا — كأنواع متعددة تتشارك بالفعل في نطاقاتٍ زمنية تفوق في تعقيدها، على نحوٍ مُذهل، نموذج التاريخ الذي يتحرك للأمام ويتخيَّل الكثير منَّا أنه يعيش فيه. أظهر عالِمُ الأحياء الراديكالي لين مارجوليس وآخرون في بحثٍ لهم أن البشر ليسوا كائنات منعزلة، بل إنهم حسب التسمية الشهيرة لمارجوليس «هولوبيوت» أي «فائقة الكائنات»؛ بمعنى أنهم كائنات حية مُركَّبة تعاونية، ووحدات بيئية «تتكوَّن من تريليونات البكتيريا، والفيروسات، والفطريات التي تنسق مهمة العيش معًا وتقاسُم حياة مشتركة.» على حدِّ تعبير الفيلسوف جلين ألبريشت.

ومع ذلك، فإن جانبًا من هذا التفكير يُعد جديدًا عند النظر إليه من منظور التقاليد الروحانية للشعوب الأصلية. وبدا أن الغابة الفطرية التي كشفها العِلمُ لميرلين، والتي كشفها ميرلين لي، على أنها غابة من الروابط الشجرية والعلاقات المتبادلة الكثيرة للغاية، لا تقدِّم سوى أساسٍ قائم على الأدلة المادية لما عرفته ثقافاتُ الشعوب التي تسكن الغابات منذ آلاف السنين. داخل هذه المُجتمعات، يُنظر إلى الغابة أو الحَرج مرارًا وتكرارًا على أنها كائنات واعية، ومُترابطة، وتتواصل مع بعضها. كتبَ توماس هاردي في روايته «في ظلال شجرة الغابة الخضراء»: «بالنسبة إلى سكان الغابة، لكل نوعٍ تقريبًا من أنواع الأشجار صوته الخاص بالإضافة إلى ميزته الخاصة.» ويصف عالِمُ الأنثروبولوجيا ريتشارد نيلسون كيف أن شعب كويكون في منطقة الغابات الداخلية لما نسميه الآن ألاسكا «يعيش في عالَمٍ يرى بعيون الغابة. إن الشخص الذي يتحرك عبر الطبيعة — رغم ضراوتها، وامتدادها الشاسع — … لا يكون وحيدًا أبدًا. ذلك أن البيئة المحيطة مدركة، وحسَّاسة، ومتجسدة. إنها تشعر وتتأثر.» في مثل هذه البيئة النابضة بالحياة، تُودَع الوحدة في حبسٍ انفرادي.

هناك في الأيكة مع ميرلين، أتذكَّر كيميرر وهاردي ونيلسون، وأشعرُ بنفاد صبر مفاجئ وغاضب من العِلم الحديث لأنه يُقدِّم ما تَعُدُّه المجتمعات الأصلية أمورًا بديهية على أنه اكتشاف. أتذكَّر رواية أورسولا لو جين التي تناولت موضوعاتٍ سياسية على نحوٍ غاضب، حيث نسجت أحداثها في كوكبٍ غابيٍّ تُعرف فيه كائنات الغابات باسم الآثشيين، وهي كائناتٌ لها القدرة على تبادل الرسائل فيما بينها عن بُعد، وتبادُل الإشارات عبر وسيط من الأشجار. وعلى كوكب الآثشي، يكون عالَمُ العقل مُدمَجًا في مجتمع الأشجار، و«مرادف عالَم هو غابة.»

•••

أربع ساعات في مسيرتنا، وإبينج تلعب حيلَ الغابات المعتادة: فقدان التوجُّه المكاني، والأصداء، ورفض التكرار. كثيرًا ما أعتقد أننا نسير عكس الاتجاه في مسارٍ سلكناه من قبل، لنجد أنفسنا وقد أدَّى بنا الحال إلى منطقةٍ جديدة من أيكة أو حَرَجة نضِرة وغير مألوفة. ننفضُ الأبواغَ غير المرئية التي نشرتها فطرياتُ الخريف الماضي، ونستنشقها داخل رئتينا. ثم نتجوَّل بعيدًا جدًّا نحو الشمال حتى تنتهي الغابة، فنرتد إلى شارع إم-٢٥، ونقفز من فوق سياجٍ حديدي ذي أسلاك شائكة، ونستريح في حقلٍ يبدو أنه ذو ملكية خاصة. لم نضل الطريق، بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنَّنا نُريد أن نعرف مدى اتساع الغابة وأبعادها.

ومن ثمَّ، أستخدمُ هاتفي لالتقاط شبكة القمر الاصطناعي، وأسحبُ خريطةً مصوَّرة للغابة بها أسماء الطرُق والمدن. يتفاعل ثلاثة وستون عنصرًا كيميائيًّا مميزًا، بما في ذلك معادن أرضية نادرة ومعادن نتجَتْ في الغالب عن تفاعلاتٍ أُجريت في الصين، في إطارٍ جهازي. وتنبض نقطة لانثيوم زرقاء مشيرة إلى موقعنا. أُصغِّر الشاشة وأُميلُها للحصول على المقياس الصحيح. يتضح من الخريطة أن الغابة تتوهج باللون الأخضر ناحية الجنوب الغربي، ومن ثمَّ نتجه إلى هناك حيث نَعبُر طريقًا مزدحمًا ثم نتوغل بعمقٍ أكبر بين الأشجار إلى النقطة التي من الصعب أن يتهادى فيها هدير السيارات إلى الأسماع.

في جزءٍ جافٍّ من الغابة، وعلى أرضٍ مرتفعة، تنمو بها أشجارُ الصنوبر القديمة والزان وينمو في أرضيتها نبات البَهشية الشائك، نتوقَّف لتناول الطعام والشراب، ونجلس بين جذور الصنوبر التي تُشبه الثعابين. أُخبر ميرلين عن منجم بولبي، وعن مختبر المادة المظلمة، وأنفاق الهاليت، والعُمَّال في واجهة المنجم، والجيولوجيين الذين يرسلون مِجساتهم مُقدَّمًا، ويتراجعون عن الواجهة، ويُنقِّبون في الظلام.

يقول ميرلين: «إنَّ الأمر يُشبه كثيرًا آلية عمل الفطريات؛ فهي تُنقِّب دائمًا عن أكثر منطقة مفيدة أو غنية بالموارد، وتمضي قُدمًا عندما تشعُر بوجود منفعة. ثم تنتشر وإذا وجدت شَقًّا لائقًا في مكانٍ ما، فإنها تُصاب بحالة سقام الغابات بسبب المناطق الفقيرة وتُركِّز جهودها في مكانٍ آخر.» يأخذ ميرلين دفتر ملاحظاتي وقلمي، ويرسم مخططًا لهيكل الخطوط الفطرية الكلاسيكي: شبكة مروحية متفرعة حيث من الصعب الحديث عن جذع رئيسي أو أصلي، بل فقط عن البراعم والفروع.

في السنة الثانية من دراسته للدكتوراه، ذهبَ ميرلين لإجراء بحثٍ ميداني في غابة أمريكا الوسطى في جزيرة بارو كولورادو، التي تقع في بحيرة جاتون الاصطناعية في قناة بَنما.

يقول: «كنت مُستعدًّا للغاية لمغادرة المختبر من أجل الذهاب إلى الغابة. في مختبر علم الأحياء الجزيئي يكون لك التحكم شِبه الكامل في هذه العوالم الصغيرة؛ فأنت سيد الدُّمى العملاقة حيث تجعل موضوعَ بحثك يتراقَص على أنغام لحنك. أما في الميدان، فإنك تكون داخل موضوع بحثك، وتكون العلاقة بين القوى مُغايرة تمامًا.»

على الجزيرة، انضم ميرلين إلى مجموعةٍ من علماء الأحياء الميدانيين، جميعهم يأتمِرون بأمر الغابة ويرقصون على أنغامها. عَمَل ميرلين تحت إشراف دقيق لعالِم أحياءٍ تطوري أشهب يُدعَى إيجبرت جايلز لي الابن، الذي عاشَ في القاعدة واستقبل الوافدين الجُدد في قاعة دراسته الكبيرة المُكتظة بالكتب، حيث كان يستمع إلى موسيقى بيتهوفن على جهاز الفونوغراف الخاص به ويحتسي الويسكي الخالص من دون ثلج. كان كشخصية كورتز في الرواية الشهيرة؛ حيث كان أمينَ محفوظات الجزيرة وناظرها.

كانت بعض المُعاينات العلمية التي أُجريت في الجزيرة تنطوي على مخاطرَ كبيرةٍ من الناحية المنهجية. فهناك عالِمة أمريكية شابة تبحث فيما أسماه ميرلين «فرضية القرد المخمور». كانت خطتها هي جمع بول القرود بعد تناولها فاكهة مُخمَّرة، ثم تقييم مستويات السُّكْر في البول. كانت المشكلة أن القرود كانت تميل إلى التبول من أعلى فروع الأشجار. ومن ثمَّ صنعت العالِمة قُمعًا ذا فوَّهة واسعة لتجمع به السائل المتساقط.

سألتُه: «فقط لأستوضح الأمر، هل كانت تجعل القرود المخمورة تتبول في قمع من فوق الظُّلة؟»

«بالضبط، وكان ذلك عملًا شاقًّا للغاية. ولكن يمكنك القول إنها بدت غير مناسبة لهذا النوع بالتحديد من الأبحاث.»

ثم كان هناك شخصٌ يُلقَّب ﺑ «رجل النحل الطنَّان»، الذي حاصر النحل الطنَّان وغرس مُتتبِّعاتٍ لا سلكية لاصقة في بطونها من أجل أن يتمكَّن من رسم خريطة لأنماط حركتها أثناء التغذية والتلقيح.

يقول ميرلين: «لكن المادة اللاصقة لم تلتصق جيدًا؛ لأن النحل كان مكسوًّا بالشعر وكان الهواءُ رطبًا؛ ولذا كان عليه بعد ذلك أن يُمسك بالنحل ويَحلِق رُقَعًا صغيرة من بطونها، لضمان التصاق المُتتبِّعات على نحوٍ أفضل.»

كان هناك أيضًا «رجل البَرْق»، الذي درسَ تأثيراتِ ضربات البرق في البيئات أسفل الأرض، وحاول أن يستحثَّ ضرباتٍ في مواقع مُحددة بإطلاق سهامٍ قصيرة من قوس، وتسحب هذه السهام سلكًا من النحاس عند سُحُب العواصف.

أقول: «يبدو وكأنه يُوجَد كرنفال هناك.»

يقول ميرلين: «إنَّ ما اكتشفته سريعًا أن تجربتك إذا لم تكن جيدة بما يكفي في الأساس، فإن الغابة ستُفسِدها.»

خلال موسمه الثاني على الجزيرة، أصبحَ ميرلين مُهتمًّا بنوع من النباتات يُسمَّى بالفطر غيري التغذية «مايكروهيتروتروفس»، أو اختصارًا «مايكروهيتس». وهي نباتاتٌ تفتقر إلى الكلوروفيل، ومِن ثمَّ فهي غير قادرة على القيام بعملية التمثيل الضوئي. ولذا، فإنها تعتمد بالكامل على الشبكة الفطرية لتوفير الكربون. بعضُها أبيض وبعضُها ذو مسحة خفيفة من اللون الأرجواني الفاتح أو البنفسجي.

يشرح ميرلين قائلًا: «هذه الأشباح الصغيرة تتَّصِل بالشبكة الفطرية، وتستخرج منها كلَّ شيءٍ بطريقةٍ ما دون أن تُعطي أيَّ شيء في المقابل، على الأقل بالعُملة المعتادة. إنها لا تتَّبع قواعد التكافُل المعتادة، لكن لا يُمكننا إثبات أنها طفيلية. يمكنك أن تعتبرها مُخترِقي شبكة الغابات الواسعة.»

ركَّزَ ميرلين على جنسٍ من الفطر غيري التغذية يُسمَّى فويريا، وهي مجموعة من زهور الجنطيانا المعروفة باسم «نباتات الأشباح»، وقد رصَّعت أزهارُها أرضيةَ الغابة في جزيرة بارو كولورادو كما لو كانت نجومًا باللون الأرجواني الباهت. وبالعمل مع القرويين المحليين، أجرى إحصاءً دقيقًا للتربة في سلسلةٍ من الرُّقَع الأرضية، حيث أخذ عيناتٍ ووضع تسلسلاتٍ للحمض النووي للمئات من عينات الجذور المأخوذة من كلٍّ من النباتات الخضراء والفويريا. وأتاحَ له الإحصاءُ تحديدَ كل نوعٍ من الفطريات والنبات المُرتبط به، ومن ثمَّ وضع خريطة مفصَّلة وغير مسبوقة لشبكة التواصل والعلاقات التي تربط بين نباتات الغابة.

يقول: «لقد اكتشفتُ أهمية الفويريا بمحض المصادفة؛ حيث كنت أتجول ذات يوم بحثًا عن شيءٍ آخر، عندما أدركتُ أنها اختفت تقريبًا من رقعةِ أرض كنا قد أدخلنا فيها كميةً أكبر من الفوسفور. وهكذا بدأ اكتشافي الجديد أو الفتح العلمي. العِلم مليءٌ بهذه الأشياء؛ مليءٌ بالمصادفات، والعثرات، والإنهاك، والجنون، في العمل الميداني أو المُختبري. وإنه لمن الأمور الغريبة للغاية في رأيي، الكيفية التي دائمًا ما يقدِّم بها العِلم معرفته على أنها خالصة وكاملة.»

تظهر نقَّارات الخشب الخضراء من بعيد.

يقول ميرلين: «إنني أعتزمُ أن أكتُبَ دائمًا لكل ورقة علمية رسمية أنشرها توءمتها المظلمة، أي نظيرتها التي تتناول الموضوعَ نفسه في الأرض السفلية؛ حيث تُسرَد القصة الحقيقية لكيفية الحصول فعليًّا على البيانات اللازمة لإعداد الورقة البحثية الرائعة والمُنظَّمة التي تتناول فرضيةً ما وطُرُق إثباتها بالأدلة. أريدُ أن أكتبَ عن المصادفة، والنحل المحلوق الشعر، والقِرَدة التي تتبول، ومحادثات السكارى، ومُرتكبي الحماقات التي تؤسِّس للعِلم وتكون سببًا حقًّا في مجيئه إلى الوجود. هذه هي الشبكة السطحية والمجنونة التي تُشكِّل الأساس لكل المعرفة العلمية وتربط بينها، لكن نادرًا ما نأتي على ذِكرها.»

•••

في وقتٍ مُتأخِّر من ذلك اليوم نذهبُ إلى بحيرة في الغابة، حيث تنحدر ضفةٌ طينية في المياه الضحلة.

يرتشف السمكُ في الظلال. ويتشاجر دجاجُ الماء. ويتجشأ قاعُ البحيرة بفقاعاتٍ من الغاز. أجلسُ أنا وميرلين قُبالة غروب الشمس، مُستمتعَين بدفئها.

يقتربُ اثنان من مُنزِّهي الكلاب، فيما يبدو أنه أمرٌ يبعث على التفاؤل. «هل تعرف أين يقع مركز الزائرين؟ إننا تائهان.»

أقول بمرح: «لا، نحن تائهان أيضًا.»

نتبادل أفضل التخمينات، ونتشارك المعلومات التي لدينا، ثم يغادران.

ثم أجلسُ بهدوءٍ في الشمس، على ضفاف البحيرة، وأفكِّرُ في الطرق التي نسعى من خلالها إلى فهم شبكة الغابات الواسعة. إنَّ نموذجَي التفسير الرئيسيين اللذين أخبرني عنهما ميرلين — النموذج «الاشتراكي» ونموذج «السوق الحرة» — كلاهما يمرِّر سياساتٍ بشرية للغاية في علمٍ يتجاوز حدود الإنسان. وفقًا لنموذج «السوق الحرة»، تُفهَم الغابة المترابطة على أنها نظام تنافسي، حيث تعمل جميع الكياناتُ بدافع المصلحة الذاتية ضمن إطار عمل لمقارنة المنافع بالتكاليف، حيث يُنظِّم كلٌّ منها الآخر عن طريق أنظمة «العقوبة والمكافأة». وعلى النقيض من ذلك، وفقًا للنموذج «الاشتراكي» تعمل الأشجار كمُقدِّمي رعاية إحداها للأخرى، فتتقاسم المواردَ عبر شبكة فطرية، حيث تدعم ميسورةُ الحال منها ذاتَ الحاجة.

أطرحُ على ميرلين هذا السؤال حول الكيفية التي تمارِس بها سياسات التمثيل ضغطًا شديدًا للغاية على دراسات الفطريات الجذرية. ذلك حيث يبدو لي أن علاقات الطبيعة ليست وحدها على المحك، ولكن أيضًا طبيعة العلاقات.

«أنت مُحِقٌّ تمامًا. ففي مجالي، يسهم اختيار الخطاب بقوة في تشكيل اتجاهات البحث. فعلى سبيل المثال، «العقوبة والمكافأة» هو مفهوم تِقني محوري في دراسات الفطريات الجذرية، وليس مجرد تنميق للكلام. فالاستعارة تُحفِّز الإدراك. فأنا أقرأ أوراقًا بحثية تحمل عناوين من قبيل «مشاركة السلع غير المتكافئة وفقًا لشروط التبادل التجاري الشائعة».»

وأُعقبُ بقولي: «يبدو ذلك كما لو كان بتكليفٍ من مؤسسة آين راند الفكرية.»

يقول ميرلين: «حقًّا. إنه لأمرٌ كريه. من الناحية السياسية، من الواضح أنني أميلُ إلى بُغضِ لغة السوق الحرة البيولوجية أكثر بكثيرٍ من النسخة الاشتراكية.» «لماذا نتوقَّع أن تتصرَّف الفطريات والنباتات كما بدأ البشر يتصرفون على أُسسٍ اقتصادية في القرن الثامن عشر مع ظهور الشركات ذات المسئولية المحدودة؟ أجدُ الأمر غريبًا جدًّا. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعلني أُحبُّ الفويريا. إذ يتطلب الأمر على الفور طرح تحليل التكاليف والمنافع جانبًا عند التفكير في الحياة النباتية.

لكنني أيضًا تساورني الشكوك تجاه الحُلم الاشتراكي للفطريات الذي يمثِّل النسخة الوردية من المشاركة والرعاية، والذي يرى الأشجار مُمَرِّضاتٍ، حيث كل شجرة هي مقدِّمة رعاية للأخرى، وتتعرَّف «الأشجار الأمهات» على أقاربها وتتحدَّث إليهم، وتورِّث «الأشجار المصابة» بإيثار ونكران ذات إرثها لجيرانها قبل أن تموت.»

يقول ميرلين ونحن نُغادر البحيرة: «لقد سئمتُ من هاتَين القصتَين.» ويردف قائلًا: «إنَّ الغابة دائمًا ما تكون أكثر تعقيدًا مما يمكن أن نتخيَّله في يوم من الأيام. إذ تُنتج الأشجارُ المعنى كما تُنتج الأكسجين. في رأيي، المشي عبر الغابة يُشبه أداءَ دور صغير في مسرحيةٍ من مسرحيات الألغاز تدور في عدة فتراتٍ زمنية.»

أردُّ عليه قائلًا: «ربما، ما نحتاجه إذن لفهم الأرض السفلية للغابة هو لغة جديدة تمامًا لا تُحوِّلها تلقائيًّا إلى قيم الاستخدام المُطبَّقة لدينا. وذلك لأن قواعدنا النحوية تعمل ضد العاقلية أو الحيوية؛ كما أن استعاراتنا بحُكم العادة وانعكاساتنا تضع عالَمَ ما هو أكثر من الإنسان في مرتبةٍ أدنى وتُؤَنْسِنُه. ربما نحتاج إلى نظامِ لغةٍ جديدٍ تمامًا للحديث عن الفطريات … نحن في حاجة إلى التحدُّث بلغة الأبواغ.»

يقول ميرلين بتشديدٍ يُدهشني، ضاربًا بقبضته راحة يدِه: «أجل. هذا بالضبط ما نحتاج إلى فعله، وهذه هي مُهمتُك. فهذه هي مهمة الكُتَّاب، والفنَّانين والشعراء، وأمثالهم.»

•••

تُوجَد في البوتاواتومية، وهي لغة الأمريكيين الأصليين في منطقة السهول الكبرى، كلمة «بوهباوي»، والتي يُمكن ترجمتها إلى «القوة التي تؤدي إلى بزوغ الفطر لأعلى من الأرض بين عشية وضحاها». وتُشير روبن وول كيميرر إلى أن «العلوم الغربية لا تتضمن في كل مفرداتها المتخصصة مُصطلحًا كهذا، فلا تُوجَد فيها كلمات تُعبِّر عن هذا اللغز.»

كيميرر نفسها عضوٌ في أُمةِ مواطني بوتاواتومي. وهي متحدِّثة لِما تُسميه «علم النبات الطليق»، فهي حريصة على تمييز هذا الجانب عما تُشير إليه باسم «لغة النباتات»، أو بعبارة أخرى، اللغة التي تتحدَّثها النباتات، في مقابل اللغة التي تُستخدَم للحديث عن النباتات. لا تستخفُّ كيميرر بدقة اللفظة في علم النباتات، الأمر الذي «يصقل هِبة الرؤية»، ولكنها ترى أن من الضروري أيضًا استخدام ألفاظٍ تُفيد التشييء والتباعد، مع وجود شيءٍ مفقود أسفل سطحها المنحوت بدقة. وهذا الشيء المفقود هو في الغالب إقرار الحياة في العالَم الذي يتجاوز الإنسان، الأمر الذي يُعَدُّ لا مبالاة راسخة في اللغة ليس فقط على مستوى الكلمات المفردة، ولكن على المستويات الأعمق في النحو والتركيب.

على النقيض من ذلك، في البوتاواتومية، تُظهر جميع الكلمات تقريبًا عاقليةَ ما تُشير إليه أو عدم عاقليته. إن اللغة مُهيأة للتعرف على الحياة في الآخر، وكذلك لتمديد وصول تلك الفئة من «الحياة» إلى ما هو أبعد بكثير من حدودها المألوفة في الفِكر الغربي. في البوتاواتومية لا يتمتع بالحياة البشرُ، والحيوانات، والأشجار فقط؛ ولكن أيضًا الجبال، والجلاميد، والرياح، والنار. كما أن القصص، والأغاني، والإيقاعات كلها مُفعمة بالحياة؛ إذ يُعبَّر عنها بكلماتٍ مثل هُم، ويكونون. البوتاواتومية لغة غنية بالأفعال: ٧٠ في المائة من كلماتها هي أفعال، مقابل ٣٠ في المائة في اللغة الإنجليزية. يعني الفعلُ «ويكويجاما»، على سبيل المثال، «أنْ تكونَ خليجًا.» تكتب كيميرر: «الخليج لا يكون خليجًا إلا إذا كانت المياه مَيتة.» وتضيف:

محصورة بين شواطئه، ومُحاطة بالكلمة. لكنَّ الفعل … يُحرِّر المياه من العبودية ويَدعها تعيش. تحمل عبارة «يكون خليجًا» الفكرة المُثيرة للدهشة، بأنَّ المياه الحَيَّة قرَّرت، في هذه اللحظة، أن تتخذ لنفسها مُستقرًّا بين هذه الشواطئ، وتتحدَّث إلى جذور شجر الأرز وإلى سِربٍ من البَط الغواص حديث الولادة.

أنا أيضًا، مثل كيميرر، أريدُ لغةً تعترف بعاقلية العالم وتعززها، «الحياة التي يسري نبضها عبر أشجار الصنوبر، وخازنات البندق، والفطر … وكل ما ينمو حولنا.» كما أنني، مثل كيميرر، أستمتعُ بجوانب الخطاب تلك التي تعمل على توسيع نطاق الوجود والإحساس بإجلال ومرونة بما يتجاوز ناقلاتِ هذه الصفات. وأرى، شأن كيميرر، أننا بحاجة الآن إلى «قواعد نحوية للعاقلية». ذلك أن ثمَّة نزوعًا حديثًا إلى اعتبار العاقلية شذوذًا يسري عبر ما أطلقَ عليه الشاعرُ جيريمي برين ذات مرة: «لغة الثدييات»، التي يقصد بها اللغة التي يستخدمها البشر، بما تحمله من ترميز للمقاصد، والتفويض، والقوة العميقة المتأصلة في قواعدها النحوية.

إنَّ الأرض السفلية الفعلية للغة ليست هي جذور الكلمات المنفردة، بل هي تربة النحو والتركيب؛ حيث عادات الكلام، ومن ثمَّ أيضًا عادات التفكير، تستقر وتتفاعل عبر فتراتٍ زمنية طويلة. يمارس النحو والتركيب تأثيرًا قويًّا في إجراءات اللغة ومُستخدميها. إذ يُشكِّلان الطرُقَ التي نرتبط بها فيما بيننا وفيما بيننا وبين العالَم الحي. الكلمات هي صانعة العالَم، واللغة هي إحدى القوى الجيولوجية الكبرى لعصر الأنثروبوسين.

ومؤخرًا، بدأت مشاريعُ في جميع أنحاء العالم بحثًا عن أبسط المفردات الأساسية لتجارب الحياة والموت في عصر الأنثروبوسين. وقد أدَّت هذه المحاولات المُتعثرة للتعبير عما نفعله بالكلمات إلى توليد مصطلحاتٍ جديدة قبيحة لعصرٍ قبيح: «الصدمات الجيولوجية»، «الانزعاج الكوكبي»، «الخطيئة الكبرى». مثل هذه الكلمات تبدو أشكالًا غير مُجدية من الاسمية، إشارات وتَسميات مُفرطة النشاط على نحوٍ ميئوس منه. إذ تعلق في الحَلْق بطريقتَين؛ فهي صعبة النطق ويصعُب ابتلاعها.

يوجد مُصطلحٌ واحد فقط من بين هذه المصطلحات الموضوعة يتردَّد صداه معي: «وحدة الأنواع»، وذلك للعزلة الشديدة التي نصطنعها لأنفسنا عندما نُجرِّد كوكب الأرض من الحيوات الأخرى التي نشاركها فيه. إذا كان ثمَّة معنًى بشري يمكن تعلُّمه من شبكة الغابات الواسعة، فهو بالتأكيد أن خلاصنا ونحن نخطو نحو القرون المتزعزعة وغير المستقرة القادمة، ربما يكون في التعاون: تبادُل المنفعة، والتكافُل، والعمل البشري الشامل لاتخاذ قراراتٍ بشكل جماعي، الذي يمتدُّ إلى المجتمعات التي تتجاوز مجتمع البشر.

«انظر إلى الشبكة، ومن ثمَّ تبدأ هي في النظر إليك …»

يقترح ألبريشت، في كتابته عن الفطريات الجذرية، أن نعيد تسمية عصر الأنثروبوسين، ونسميه عصر السيمبيوسين؛ وهي حقبة يميزها من حيث التنظيم الاجتماعي «الذكاءُ البشري الذي يُكرِّر أشكالًا وعملياتٍ لإعادة إنتاج الحياة تتميَّز بالتكافلية والتعزيز المُتبادَل الموجودَيْن في الأنظمة الحَيَّة … كما في شبكة الغابات الواسعة.»

«مرادف عالَم هو غابة.»

•••

في ذلك المساء، وفي جزءٍ عميق من الغابة، بعيدًا عن الطريق، بالقرب من سَدٍّ ترابي يعود إلى العصر الحديدي وأيكة زان قديمة مقطوعة الفروع، على منحدرِ أرضٍ مرتفعةٍ تُسمَّى «قمة الصداقة»، أقمتُ أنا وميرلين ليلتَنا. نحفرُ حفرة نار ضحلة، ونسحبُ جذوع بتولا ميتة حولها لكي نتَّخِذ منها مقعدًا لنا؛ ونشعل نارًا محدودة باستخدام مادة سريعة الاشتعال من أوراق الشجر وإضرام النار في الأغصان الصغيرة، بما يتعارض مع قوانين غابة إبينج، مع غمغماتٍ بالاعتذار إلى مؤسسة لندن.

يفتح ميرلين حقيبة الظهر الخاصة به ويُخرِج زجاجةً صغيرة تُستخدَم في الاستخلاص بالإغلاء، تحتوي على سائل بِلَون الحزازيات الخضراء. ويهزها.

«إنَّه مُستخلص الكوكا. مصنوع منزليًّا. الاختيار المثالي لنا بعد يوم قضيناه بين أوراق الأشجار.»

يَمدُّ يده مُجددًا في حقيبته ويخرج زجاجةً أخرى.

ويقول: «إنه نبيذ عسل مُخمَّر منزلي الصنع.»

ثم يَمدُّ يده مرة أخرى، ويخرج زجاجةً ثالثة.

ويقول: «إنه سيدر منزلي الصنع.»

يُوجَد على الزجاج البُني للزجاجة ملصقٌ أبيض مكتوبة عليه كلمة «الجاذبية».

«لقد عصرتُه من بعض ثمار التفاح التي أسقطَتْها الرياحُ من شجرة تفاح نيوتن في كامبريدج. من الصعب للغاية الوصول إلى تلك الشجرة. فهي موجودة في كلية ترينيتي. وثمَّة تشديد أمني كبير. ولذا، كان لا بدَّ من سرقة الثمار في جنح الليل. أتمنَّى لو كان بإمكاني أن أُحضر لنا زجاجة من أول دفعة صنعناها. كان ذلك من التفاح المسروق من بستان داروين في داون هاوس. ولعلك تستطيع تخمين اسم المُلصَق الخاص بتلك الدفعة.»

«التطور.»

«أَصبت.»

يبدأ الناسُ في الخروج من ظلال الأشجار فرادى وأزواجًا: أصدقائي، وأصدقاء ميرلين، وأصدقاء أصدقائنا، تمت دعوتهم جميعًا عبر شبكة التواصل الاجتماعي، والرسائل النصية، والهاتف، ثم حددوا موقعنا بدقة باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس). أحضر أحدُهم آلة الهارمونيكا، وجلبَ آخران جيتارين، كما أحضر شقيقُ ميرلين مجموعتَين من الصناجات، ومجموعة صغيرة من الطبول اليدوية.

يتراقص العث حول النيران. وتومض الأقمار الاصطناعية فوقنا. وتقطع أضواءَ هبوط الطائرات الحمراء، التي يمكن رؤيتها عبر تاج الحياء، المسارات بين الأوراق. ويتملكني شعورٌ قوي بأن الغابة تلوح في الأفق حولنا، وفوقنا، وتحتنا.

أشربُ مغلي الكوكا من ميرلين، وأشعر باتِّقاد ذهني سريعًا. ثم يأتي دور سحر النار في رواية القصص والتواصُل الاجتماعي. يتجاذبُ الناس أطراف الحديث مُستعيدين صِلاتهم القائمة ومكونين صِلاتٍ جديدة، ومنشئين مُجتمعًا مؤقتًا في ذلك المكان الغابي المحاط بالنيران. أُريهم البومة المصنوعة من عظام الحوت والعُلبة البرونزية، وأشرح لهم كيف حصلتُ عليهما والالتزامات التي وقعَتْ على عاتقي منذ حصولي عليهما. كما سردتُ على مسامعهم بعضَ الأحداث التي مررتُ بها أنا وميرلين في ذلك اليوم حين ذهبنا إلى منطقة أشجار الطبقة السفلى. يتحدَّث ميرلين، مثل تسينج، عن التربة باعتبارها مَدينة؛ مَدينة تحت أقدامنا تنشغل فيها أصنافٌ وأنواع لا حصر لها من المادة بالتفاعل فيما بينها.

هناك شاب يُلقَّب ﺑ «مُقلِّد صوت البومة»، كان يعزف موسيقى البلو جراس، عن طريقِ ضمِّ يديه والزمر والنفخ فيهما فحسب. وتُغنَّى الأغاني الشعبية — «ناين باوند هامر»، و«سيفن درانكن نايتس»، و«براون تروت بلوز» — حيث يُمرِّر الناسُ سطور الجوقة وأبياتها من شخصٍ لآخر ذهابًا وإيابًا. ويعزف ميرلين على الصناجات، ويطقطق بإيقاع لكل أغنية جديدة. يصيبنا الليل بالقشعريرة، والنار تدفئنا.

طبولٌ، وأغانٍ، وحكايات. الأشجار تتحرك، وتتحدَّث، وتنشغل بصُنع المعنى الذي لا يمكنني سماعه. والفطريات تتلوَّى في زنود البتولا، في التربة.

أجلسُ وظهري إلى زند البتولا، وقدمي أمام النار، بجوار تارا. وهي فتاة طويلة، ورقيقة الكلام، ويونانية. إنها مُغنية. نشأت على جزيرة صغيرة في البحر الأبيض المتوسط. وتعلَّمت الأغاني والأصوات من مُهاجر روسي عصفت به تيارات المَد والجَزْر التاريخي حتى جاءت به على الجزيرة. أخبرتني عن النتائج التي أعقبت أزمة اللاجئين على الجزيرة: إعداد شبكات الدعم للاجئين، وكذلك اعتراض سكان الجزر الذين نظروا إلى الأزمة باعتبارها تهديدًا لأساليب حياتهم.

تقول تارا: «يأتي وقتٌ ترى فيه أناسًا آخرين يغرقون، أو يُجرفون إلى الشاطئ وليس معهم شيء، حيث لا يكون لديك خيار سوى المساعدة من كل قلبك. هذه ليست طيبة، بالمعنى الدقيق للكلمة؛ إذ لا يُوجَد الكثير من الخيارات كما يعتقد الناس؛ ومن ثمَّ فالوضع أقل نبلًا.»

تُغنِّي تارا بعد ذلك أغنيةً حزينة من جزيرتها، وينكسر قلبي بعضَ الشيء. تتحوَّل النيران إلى جمرات تُخرخر.

إلا أنني يستبدُّ بي التعب، فلا أستطيعُ الانتظار لرؤية النيران وهي تخمد؛ ولذا أتجول بعيدًا في الغابة بحثًا عن مكانٍ للنوم. وبالنظر إلى الوراء، لا أرى شيئًا سوى وهج بُرتقالي، ظلال تُلقى على جذوع الأشجار من حولي، ثم يتقلص ضوء النار حتى يختفي في ظلام الغابة.

أجدُ نفسي في أيكةٍ من أشجار الزان مقطوعة الفروع أعلى سَدٍّ ترابي يعود إلى عصورِ ما قبل التاريخ. عند سفح إحدى هذه الأشجار، بنى الأطفالُ وكرًا من العصي والأغصان، التي أسندوها على فرع مُنخفض ليبنوا خيمة من الأشجار المعقوفة والطويلة بما يكفيني للنوم فيها. إنها دعوة لا أستطيعُ رفضها، ومن ثمَّ أتسللُ داخل العرين وأستلقي، وأنظرُ لأعلى عبر ألواحها على الفروع، والنجوم، والأقمار الاصطناعية. يتملَّكني شعورٌ قوي فجأة أنني مُحاطٌ بكائناتٍ يرتبط كلٌّ منها بالآخر بطرقٍ غامضة ولكن يمكن إدراكها بقوة في الآن نفسه، كما لو كانت تُرى من خلال شاشٍ سميك. إنه شعور بالراحة والوحدة معًا.

وأسمعُ نعاق البوم. ونباحُ الكلاب. وإلى الخلف في الأرض المقطوعة الأشجار، تخفتُ النار، ويصمتُ الغناء. تنتشِر فوقي ظُلَّة الأشجار المقطوعة الفروع، هامسةً في نسيم الليل. هناك شيءٌ عليك سماعه … وبينما أسعى إلى النوم، يتعقَّب ذهني من ورقة إلى فرع، ومن فرع إلى جذع، ومن جذع إلى جِذر؛ ومن هناك إلى الأسفل على طول الخيوط الفطرية التي تنسج ما يُشبه الشبكة في الأرض أدناه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤