الفصل الأول

المُدن غير المَرئية

(باريس)

تصل صفحاتُ الخريطة إلى ست عشرة صفحة فولسكاب مُغلَّفة، أو حوالي مساحة عشرة أقدام مُربعة عندما أرصُّ الصفحات جنبًا إلى جنب. وقد أُعطيَتْ لي شريطة ألا أعطيَها لغيري. إنها ليست كأيِّ خريطة رأيتُها، وقد رأيتُ بعض الخرائط الغريبة في حياتي. رُسِمت خريطة المدينة فوق الأرض بدقة، ولكن باللَّون الفضي الرمادي الباهت، بحيث إذا استخدمت عينيك لقراءة اللون الرمادي فقط، فإنك تستطيع تمييز الخطوط العريضة لهذه المدينة الفوقية كبنية طَيفية: آثار باهتة لعمارات سكنية وسفارات، ومُتنزهات وحدائق زينة، وجادات وشوارع، وكنائس، وخطوط سكك حديدية ومحطات قطارات، كلُّها تحوم هناك، معقَّدة وغير مادية.

أما المحتوى الحقيقي للخريطة — الطوبوغرافيا التي تُحدِّدها بالحبر الأسود والأزرق والبرتقالي والأحمر — فهو المدينة غير المرئية، العالَم الذي نُحِتت ورُسِمت منه المدينة الفوقية على مرِّ القرون، بناءً تلو الآخر. تتَّبع هذه المدينة غير المرئية قوانين مُختلفة في التخطيط عن نظيرتها السطحية. إذ غالبًا ما تتعرج وتتلوى شوارعها الممتلئة بالأنفاق، أو تقود إلى طريق مسدود. وبعضها يلتف على نفسه مثل السياط. في التقاطعات، قد تمتدُّ ثلاثة أو أربعة شوارع نفقية. هناك طرق سريعة نحيلة تمتد تقريبًا بطول الخريطة ذات المستويات المُتراصَّة، من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي. وهناك شبكات طرق مقطوعة لسببٍ غير مفهوم، أو محاور تلتقي فيها درجات الأنفاق المختلفة. كما تؤدي بعض الأنفاق إلى غرفٍ ذات تخوم غير منتظمة، وعشرات من الغرف الصغيرة المتصلة.

تُوجَد المدينة غير المرئية عبر مستوياتٍ متعددة من العُمق، كلٌّ منها مُتَّصِل بالآخر عن طريق السلالم والآبار. وتكون مواقع نقاط الاتصال هذه بين المستويات مُميَّزة على الخريطة بحلقاتٍ برتقالية (للآبار ذات السلالم المتدرجة)، وحلقاتٍ زرقاء (للآبار ذات الجوانب العمودية)، ودوائر زرقاء داكنة مُجزأة (للسلالم). أما الطبقات والأنظمة الأكثر عمقًا، فتكون مُظلَّلة بأحبارٍ داكنة. أُضطرُّ عادةً إلى تضييق عينيَّ، كي يبدو لي المستوى طافيًا فوق الآخر، وأتمكَّن من تمييز الطبقات الأرضية المُختلفة للمدينة السفلية.

تمتدُّ أسماءُ الأماكن على الخريطة عبر مجموعة من السجلات الثقافية، التي تتراوح بين الكلاسيكية والسريالية والعسكرية والصناعية. غرفة المُكعبات. مَمَرُّ مُحبِّي الأماكن المغلقة. دار علاج الاضطرابات العقلية. تقاطُعات طرق الموتى. عيادة الأجانب. غرفة الأشباح. الميدوسا. التزجيج. متاهة مونتسوريس. برمودا. مأوى أوراق الشجر الصغيرة. دير الدببة. ملجأ أسفل الجبل. خزانة علم المعادن. مدرسة المناجم. غرفة المحار. العظام الجافة. سلالم مستودع عظام الموتى. الغرفة «زِدْ».

سمات كل منطقة مُحدَّدة على الخريطة بكلماتٍ مخطوطة بخط اليد: «منخفض»، «منخفض تمامًا»، «منخفض جدًّا»، «ضيق»، «غارق»، «غير سالِك»، «وَعِر». كما يُعطى المزيد من التفاصيل أحيانًا: «منطقة رطبة وغير مُستقرة (وأحيانًا غارقة)»؛ «صالة عرض جميلة، مُقبَّبة وذات طنوف حجرية.» وتتميَّز إحدى مناطق الانتقال الجانبي بين نفقٍ وآخر، أو بين نفق وغرفة بما يُعرَف في الفرنسية باسم شاتيير أو المصراع. ثمَّة تعليقاتٌ أخرى تشير إلى مواقع الاتصال بين المدينة الفوقية والمدينة غير المرئية: «ثقب إلى السماء»، أو بين المستويات: «ثقب صغير في الأرض يتَّسِع إلى مستوًى أدنى خطير». وتنتشر حول الخريطة جماجم صغيرة وعظام مُتصالِبة مرسومة بالحبر، وتحذيراتٌ مقتضبة من الخطر: «خطر انهيار تكوين جيولوجي»، «بئر مفتوحة: خطر»، «انهيار سقف».

هنا وهناك، تُقدِّم الملاحظات المؤطَّرة في الهامش قصصًا لمواقع كلٍّ منها على حدة. وثمة بوصلة على شكل وردة زرقاء ذات سهمٍ برتقالي يتجه إلى الشمال موضوعة فوق قسم فارغ من كل صفحة؛ وكل صفحة مُسمَّاة باسم منطقة. الحروف مكتوبة بخطٍّ رقيق مُذيَّل لا أعرفه. الشكل الجمالي في مُجمله معاصر ورائع، حيث إن فن رسم الخرائط نفسه عبارة عن تمثيل مضغوط وأنيق لمناطقَ يصعُب رسمها. تروقني كثيرًا هذه الخريطة لواضعيها مجهولي الاسم. على صفحة غلاف الخريطة، وُضِعَ رابطٌ ﻟ «موسوعة العالم تحت الأرض». ويُنسَبُ إعدادُ الخريطة إلى مجموعةٍ تُدعَى «نيكسيس»؛ أي «العلاقة أو العلاقات التي تربط بين أجزاء منظومة أو مجموعة من الكيانات».

•••

ماذا عَساني أن أُخبركم عن الوقت الذي قضيتُه في المدينة غير المرئية؟ إنها أطول مدة قضيتُها في حياتي دون أن يُداعبَ عينيَّ ضوءُ الشمس. في تلك الليلة، أو ربما كنا بالنهار، نستمع إلى أغنية «ديج فور فاير» لفرقة بيكسيز، واضعِين هاتفًا على جدار نفقٍ حتى يُرجِّع الحجر الكلسي الصوتَ إلينا ويرفع معنوياتنا ويجعلني أبتسم. في المساء نخرج، وتأتي زخَّاتُ نيزك دراكونيد، التي تظهر على هيئة خُدوشٍ فِضية في السماء.

في ذلك اليوم الذي نزلنا فيه لأول مرة إلى المدينة غير المرئية، تتجمَّع سُحب على شكل قلعة فوق الأراضي المنخفضة إلى الشمال من نقطة دخولنا. الحقول المنبسطة، وأبراج الكنائس المُربعة، وصفوف شجر الحور، والمزارع ذات الأسقف الحمراء. الوِهاد والسهول. كان آخِر ما عهدته من شمس ذلك اليوم هو وهجٌ باتجاه الغرب تحت سُحبٍ مُمطرة، جزءٌ منها يُخفيه مخروطٌ أرضي ضخم ذو وظيفة مُبهَمة. وإلى الشرق، تظهر قاعدة السُّحب مُنخفضة ومستوية. يسقط نثار قطرات المطر الرمادي على قريةٍ بعيدة، وتغرب الشمسُ وراء هذا السد الترابي.

فيما بعد، نشقُّ طريقنا عند الغسق عبر بابٍ في جدار مكتوب عليه بالفرنسية ما معناه «ممنوع الدخول»، ونتسلل عبر فتحةٍ في سياج حديدي، ثم نزحف أسفل أحد الجوانب الخاصة بموضع قَصِّ السياج ومنه إلى خط سكة حديدية، ونقطع الطريق على طول مسارات السكة الحديدية نحو القوس القرميدي للنفق. ضفاف الفتحة مُتشابكة مع أشجار السنط والياسمين البري. وترتفع العمارات السكنية فوق الفتحة من كِلا الجانبين، وهي طويلة للغاية لدرجةٍ تجعلها تبدو وكأنها تميل فوق المكان. وبمجرد الوصول إلى نفق السكة الحديدية، نواصل السير بين المسارات؛ ذلك أنَّ ما تبقى من ضوءٍ قليل هناك يُومِض على المعدن ويُظهِر لنا الطريق، كما تفعل أضواء الأرضيات عادةً مع الطائرات المليئة بالدخان.

تأتينا الأصواتُ من أمامنا، وتخرج من الظلال امرأةٌ شابة في ثوبٍ أبيض ذات شعر أشقر طويل ووجه مصقول كالخزف، وتسير في المسارات نحونا. لا ترمش ولا تتوقف، ومن ثمَّ نتقدم إلى يسار المسارات ويمينها وندعها تَعبُر. تمرُّ من خلالنا في صمتٍ دون أن تقطع خطوتها السريعة وتختفي كالشبح في اتجاهٍ ما حيث يُمكنني، على مسافة بعيدة، رؤية قوس النفق ذي الضوء الخافت الذي أتينا منه، مُحاطًا في بهاءٍ باللون الأخضر.

نستأنف السَّير. يُوجَد أمامنا في الظلام سربٌ من اليراعات: أضواءٌ برتقالية ناعمة ترفرف في الهواء الأسود. لا تتقدَّم اليراعات ولا تتراجَع، ويجعل ضوءُها قرميد النفق يتحرَّك بخفة ويتوهَّج. نقترب أكثر والأجسام تلتصق تدريجيًّا بالأضواء، ونرى أنها ليست يراعات بل شياطين؛ ذلك أن الأضواء هي أشعة مصابيح كربيد مُزدوجة ومكشوفة يرتديها على الجِباه أشخاصٌ مُتجمهرون حول أحد جوانب النفق.

عندما نُصبح على بُعد خمسين ياردة من الأشخاص ذوي قرون الضوء الشيطانية، أرى امرأة تجلس على أرضية النفق، وتنعطف إلى الجانب رافعةً ذراعيها فوق رأسها وتضم كفَّيها كغواصٍ على أهبة القفز، ثم تختفي قدماها أولًا في المدينة غير المرئية.

•••

بين عامَي ١٩٢٧ و١٩٤٠ — العام الذي سعى فيه والتر بنجامين إلى الفرار من فرنسا طلبًا للأمان في إسبانيا، ليئول به الأمر في النهاية إلى الانتحار في غرفة فندق في قرية بورتبو على الحدود البيرينية — ألَّف بنجامين كتابًا من أروع الكتب على الإطلاق حول المُدن. يُعَدُّ كتاب «باساجِن فيرج» كما هو معروفٌ باللغة الألمانية — أي مشروع الأروقة — عملًا تأمُّلِيًّا مُتشعبًا وغير مُكتمِل عن الطوبوغرافيا والتاريخ والإنسانيات في باريس، وقد وصلَ حتى وفاة بنجامين إلى أكثر من ألف صفحة. يُمكن مقارنته من حيث الشكل بكوكبة أو مَجرة جمَّع كل نجم فيها على مدار أكثر من عقدٍ من الزمان، وجمع الملاحظات، والاقتباسات، والأقوال المأثورة، والقصص، والتأمُّلات في عشرات الملفات التي أسماها بالألمانية «كونفولوت»؛ أي الباقة — وهي في الإنجليزية «كونفولوتس»، وتعني «لفائف» و«لفَّات» و«مَطويَّات» — كلٌّ منها مُميَّزٌ بحرف أبجدي …

وبدلًا من كتابة نصٍّ تاريخي مُتسلسل لباريس، سعى بنجامين إلى صناعة مِشكال، يمكن أن تتخذ بلوراته أنماطًا جديدة مع كل قارئ جديد، بل مع كل قراءة جديدة. كان كتابه — إنْ صحَّ أن نُسميَه كتابًا؛ نظرًا لعدم اكتماله — محاولةً سحرية عملاقة وعقيمة للفهم التاريخي، والتي فَهِمت ماضي المدينة في جزءٍ منه على أنه حُلم جَمْعي، وبنيات المدينة على أنها تحظى بهالةٍ ميتافيزيقية بالإضافة إلى حضورها المادي.

على مدى «مشروع الأروقة»، تُستدعَى مشاهد من ماضي باريس إلى الوجود. قال بنجامين في الملاحظات الأولية لمقاله «أطروحاتٌ في فلسفة التاريخ»: «من الأصعب تكريم ذكرى كائناتٍ مجهولة الاسم عن تكريم ذكرى المشاهير؛ فبناءُ التاريخ مُكرَّسٌ لإحياء ذكرى المجهولين.» في تجربةٍ مبكرة فيما أصبح يُعرَف باسم «التاريخ من الأسفل» أو «التاريخ من منظور عامة الناس»، تُحيي باريس، التي كتبَ عنها بنجامين، ذكرى هذه «الكائنات المجهولة»؛ ذلك أن باريس يَسكنها عُمَّال المحاجر، والعاهراتُ، والمُدانون، والجنودُ، وأصحابُ المتاجر، وكذلك الأرستقراطيون، والسياسيون، والفنانون. لقد أعدَّ كتابه من القصاصات، التي جمعها لتُصبح أرشيفًا لقصصِ دَهماء المدينة المجهولين وعمومها، وليس قصص حُكَّامها وقادتها.

بنجامين نفسه انتهى به المطاف إلى الدفن في مقبرةٍ جماعية من دون شاهِد قُرب بورتبو؛ وكان سبب وفاته هو جرعة زائدة من المورفين، والتاريخ المُقدَّر لوفاته هو ٢٥ سبتمبر ١٩٤٠. في اليوم السابق للانتحار، كان قد سار فوق الجبال من فرنسا، متوقفًا كلَّ عشر دقائق على درجة الحدور الصاعِد ليُريح قلبه المُرهَق بالفعل. واضطر رفاقه في رحلة التسلق إلى مساعدته في الوصول إلى الحافة الأخيرة للمَعبر؛ ولكن من هناك، استطاعت المجموعة أن تنظر للأسفل إلى ربوع إسبانيا والبحر الأبيض المتوسط المُتلألئ، الذي بدا لهم كسراب أزرق. لكن في اليوم التالي، أُخبر بنجامين بأنه لا يُسمَح له بالمرور عبر إسبانيا، وبدلًا من ذلك سيُسلَّم إلى المسئولين الفرنسيين المحليين في اليوم الذي يليه. كان يعلم أن هذا يعني خضوعه فيما بعدُ للسلطات النازية، ومن بعده إلى الموت شبه المحتوم لكونه يهوديًّا. ومن ثمَّ، قتل نفسه في تلك الليلة بأقراص المورفين، التي جلبَها معه من مرسيليا لمثل هذه الضرورة.

أُحييت ذكرى بنجامين في بورتبو بنصب تذكاري بسيطٍ وقوي يأخذ في حد ذاته شكل سلسلة من الممرات. وأول تلك الممرات عبارة عن مُنحدر إلى داخل الأرض السفلية. نفقٌ طويل من الصلب الصدئ ينحدِر إلى داخل صخر الأساس الساحلي من ساحة صغيرة عند المَدخل إلى مقبرة البلدة. يخطو الزائر إلى فتحة النفق المُظلَّلة كما لو كان يدخل إلى مملكة هاديس أو أفرنوس. ولكن في نهاية الدرج لا تُوجد ظُلمة بل ضوء: صفيحة من الزجاج تغلق النفق، فتشكِّل حائلًا دون التقدُّم إلى الأمام، ولكنها تُتيح المجال للنظر إلى الخارج على قناةٍ بحرية متلألئة حيث تُشكِّل التيارات دوامةً مائية تتجدَّد لفَّاتها الحلزونية مع كل مَدٍّ جديد.

إنَّ العمل الذي تركه بنجامين غير مُكتمِل، وقت انتحاره، هو في حدِّ ذاته عملٌ مُتجدِّد باستمرار. الدخول إلى «مشروع الأروقة» عن طريق إحدى نقاط دخوله التي هي بالآلاف هو دخول إلى متاهةٍ من الممرات التي لا يبدو أنها تُكرِّر مسالكها وأدراجها مُطلقًا. وعلى غرار المدينة التي يصفها المشروع، يعرض العديدَ من المسارات عبر مستوياته. وهو لا يقدِّم خريطة أو مُخططًا، بل نماذجَ، وأصداءً، وأشباحًا من الذاكرة، ونصوصًا فرعية مُتشابكة. وبالقراءة فيه، تشعر أنك بلا جِسم وبلا عظام، قادرًا على اجتياز الوقت عبر الخراطيش الدقيقة للكتاب، التي تُمثل ممرَّاته السرية.

من الواضح أنَّ خيال بنجامين كان مُنجذبًا بقوةٍ إلى الأماكن المُغلقة وأسفل الأرض: مأربة «الأروقة» المُغطاة نفسها؛ وكذلك الكهوف، والسراديب، والآبار، والصوامع الموجودة أسفل باريس. تُشكِّل هذه المساحات الغارقة مجتمعةً ما أسمَاه بنجامين «مدينة تحت الأرض»، وهي النظير المُطابِق «للعالم العلوي» كظلِّه، ومنطقة الحُلم لعقلها الواعي. وقد كتبَ كلماته الخالدة: «إنَّ وجودنا الواعي هو أرضٌ تؤدي، في بعض النقاط الخفية، إلى العالَم السفلي.» وأضاف:

إنَّه العالَم الذي تنشأ منه الأحلام. إننا نمرُّ بهذه الأماكنِ غيرِ الواضحة المعالِم طوال اليوم، دون أن نرتاب في شيءٍ، ولكن ما إنْ يأتينا النوم حتى نتلمَّس طريقَنا بفارغ الصبر لنترك أنفسنا للأروقة المظلمة.

كان تتبُّع بنجامين المهووس للخروج من هذه التضاريس المَخفية بالنسبة إليه محاولةً للتأريخ والجغرافيا والتي، لو اكتملت، لقدَّمت على الأرجح «مفتاحًا» يقودنا إلى سَبر أغوار «العالَم السفلي» في ماضي أوروبا. استرشدَ بنجامين في هذا المشروع واستوحى فكرته جزئيًّا من الرحَّالة اليوناني باوسانياس، الذي أمضى سنواتٍ في رسم الخرائط للنقاط المَسامية للمشهد الطبيعي اليوناني — الينابيع، والشقوق، والوديان — ووصفها بأنها نظامٌ من البوابات حيث يتداخل العالَمان العلوي والسفلي. اندهشَ بنجامين لوجود النقاط الخاصة بهذه البوابات في المدينة. وكتبَ عن الحاجة إلى «تمييز العالَم الذي يغادره المرءُ بعلامةٍ ما» عند اجتياز عتبة العالَم السفلي، ﻟ «الباب الأرضي [الأبواب الأرضية] المؤدي من السطح إلى الأعماق»، وآلهة البيت التي «تحمي العتبة» و«تحمي التحوُّلات والانتقالات وتضع العلامات المميِّزة لها».

أكثر اللفائف التي تناولت الحديث عمَّا تحت الأرض في «مشروع الأروقة» هي اللفافة «سي»، التي تحتوي على كتابات بنجامين حول سراديب الموتى والمساحات الفارغة من محاجر باريس. في اللفافة «سي»، يقترح بنجامين رؤيته لمدينة باريس غير المرئية المليئة ﺑ «الظلام الذي يخترقه البرق ويُدوِّي فيه الصفير». وكتبَ في هذه اللفافة في فقرةٍ لم أستطِع أن أنساها منذ قرأتُها أولَ مرة في أوائل العشرينيات من عمري:

بُنِيَت باريس فوق نظام كهفي … هذا النظام التقني العظيم من الأنفاق والممرات يتصل بالقِباب القديمة، ومحاجر الحجر الكلسي، والكهوف، وسراديب الموتى التي، منذ أوائل العصور الوسطى، تمَّ الدخول إليها واجتيازها مرارًا وتكرارًا.

•••

بالأسفل في نفق السكة الحديدية، نَصِلُ إلى الشياطين الأشبه باليراعات. إنهم واقفون بالجوار، يدخِّنون ويتحدثون، وجميعهم يرتدون مصابيح الكربيد: عبوات من الكربيد مربوطة على الخصر مع أنابيب تصِل للأعلى إلى الشعلات المربوطة على رءوسهم. ومن هسهسة الشعلات يخرج قرنان من اللهب البرتقالي المكشوف، المُنخفض في درجة حرارته ولكنه ذو إضاءة عالية. أومئوا لنا بتحياتٍ شيطانية، مُتمتِمين بالفرنسية والإنجليزية.

ونزولًا عند مستوى المسارات، حيث يبدأ أحد جوانب النفق في الارتفاع، ثمَّة حفرة وعرة في الأرض، واسعة بما يكفي لدُخول شخصٍ واحد. وعلى بُعد بضع يارداتٍ إلى يمينها، يمكنني رؤية مُخططٍ ما كان في السابق حفرة مماثلة، ولكنها الآن مسدودة بخرسانة تبدو حديثة الصَّب.

لقد جئتُ إلى سراديب الموتى مع اثنين من أصدقائي، دَعونا نُسمِّيهما لينا وجاي. جاي مُستكشفُ كهوف حريص على توسيع نطاق استكشافاته بما يشمل أنظمة المدن. إنه مهرج، وثابت الجنان، وقوي البنية. أما لينا، فهي قائدة مجموعتنا وقد جاءت إلى هنا عدة مرات، في بعضها ظلت بالأسفل لمدة أسبوع مُتواصل. إنها مُتحمسة بشأن سراديب الموتى، لا سيَّما فيما يتعلق بالحفاظ على سماتها السريعة التغيُّر وتوثيقها من خلال التصوير والتسجيل. إنها مزيجٌ ما بين شخص فضولي مُتردِّد فوق الأرض وجريءٌ أدناها. تضع أحمر شفاه قرمزي اللون، وترتدي قلنسوة بألوانٍ زاهية، وتعقص شعرَها البُني المُجعَّد إلى الوراء لحمايته من التلف داخل الأنفاق. يبدو النزول إلى سراديب الموتى وكأنه يسبغ عليها شخصية جديدة. المدينة غير المرئية هي مكان يُمكنها أن تذهب إليه لتكون على طبيعتها، أو لتكون شخصًا آخر خلاف ذاتها. تتَّسِم لينا هنا بالهدوء ورباطة الجأش والخبرة الواسعة. أشعرُ أنني محظوظ لوجودي معها.

تقول لينا مُشيرةً إلى الفتحة المسدودة عند مستوى المسارات: «نزلت الشرطة سراديب الموتى وسدَّتها. ولذا أحضرْنا آلة ثَقْب الصخور ومُولِّدًا بالأسفل، وفتَحْنا هذه الحفرة الجديدة. ربما تكون الطريقة الأكثر أمانًا في الوقت الحالي، لكنَّنا سنُخطِّط للخروج من خلال فتحة دخول، وقتما نخرج.»

تُشير مجددًا إلى أعلى باتجاه النفق. ثم تقول: «ألقِيَا نظرةً أخيرة على الضوء؛ لأنكما لن ترَيا الشمس مرةً أخرى حتى الأسبوع المقبل. دعونا نذهب.»

تُدخل لينا نفسها في الحفرة الوعرة حيث تنزل بقدَمَيها أولًا، وترفع ذراعَيها فوق رأسها ثم تختفي. يفعل جاي الشيءَ نفسه. أتذكَّر عادة بنجامين في تمييز المَمرِّ المؤدي إلى المدينة السفلية، حيث «تمييز العالَم الذي يُغادره المرء بعلامةٍ ما»، وأنظرُ لبرهة إلى قوس الضوء البعيد، ثم نزولًا إلى المتاهة.

•••

تقع معظم منطقة إيل دو فرانس على الحجر الكلسي اللوتيتي، الذي تراكم في الأساس خلال العصر الأيوسيني، عندما كانت المنطقة لقرابة ٥ ملايين سنة منطقةَ خلجان هادئة وبحيرات من مياه البحر. ازدهرت الحياة البحرية وانقرض جانب كبير منها هناك، واستقرَّ في قاع البحر في صورة طميٍ تَحوَّل في النهاية بفِعل الضغط إلى حجر. يُعدُّ الحجر الكلسي اللوتيتي مادة بناءٍ ممتازة؛ تتنوَّع درجاته اللونية ما بين الرمادي الدافئ والكراميل الأصفر، وهو متين ويمكن قصُّه بحواف مستوية.

جميع المدن هي إضافاتٌ إلى مشهد طبيعي يتطلب الاقتطاع من مكانٍ آخر. شُيِّدت معظم باريس من أرضها السفلية، حيث حُفرت الكتلة تلوَ الأخرى بدءًا من صخر الأساس ونُقلت للأعلى لتجهيزها ووضعها. بدأ الاستغلال الجاد لمحاجر حجارة الأرض السُّفلية نحو قُبَيل نهاية القرن الثاني عشر، وازداد الطلبُ على الحجر الكلسي الباريسي ليس فقط على المستوى المحلي، ولكن أيضًا في جميع أنحاء فرنسا. وبُنيَت بالحجر الكلسي اللوتيتي أجزاءٌ من كنيسة نوتردام ومتحف اللوفر؛ وقد شُحِن على صنادل السين إلى شبكة النهر، وأصبح من الصادرات الإقليمية الرئيسية.

أما ما تبقَّى من استغلال المحاجر على مدى ما يزيد على ٦٠٠ عام، فنجده أسفل الجزء الجنوبي من المدينة العلوية حيث تُوجَد صورتها المعكوسة: شبكة تضمُّ أكثر من ٢٠٠ ميل من صالات العرض، والغرف، والحجرات، مُنظَّمة إلى ثلاث مناطق رئيسية تتوزَّع معًا تحت تِسْع دوائر إدارية. هذه الشبكة هي ما يُسمَّى بالفرنسية «فيد دو كاريير»؛ أي «فجوات المحاجر»، وهي سراديب الموتى.

بمرور الوقت، شهدت تقنياتُ المحاجر تغيُّرًا ضئيلًا على نحوٍ مُثير للدهشة. فدُفِعَت الأعمدة ستِّين قدمًا أو نحو ذلك للأسفل إلى طبقات الحجر الكلسي، ثم حُفِرت الأنفاق جانبيًّا من هناك، بعد الطبقات الأرضية. وحيث حُفِرت الغرف الأكبر، كانت الأعمدة الحجرية تُترَك دون استغلال حِجارتها أو تقطيعها لدعم الأسقف. وكان النفق القياسي يُحفَر بارتفاع ستة أقدامٍ وعرض ثلاثة أقدام، بما يكفي لاستيعاب شخص واحد يدفع عربة مملوءة بالحجارة. جاءت سلالاتٌ وذهبت من عُمَّال المحاجر، حيث يُورَّث الابنُ المهارات من الأب، ويتَّسِع نطاق المتاهة على مدى القرون. كان وقوع الحوادث والنكبات أمرًا نادرًا نسبيًّا؛ لأن الحجر لم يكن عُرضةً للانهيار، لكن التعرُّض اليومي للغبار المعدني، والمجهود القاسي المبذول لرفع الأحمال الثقيلة، قد تَسبَّبا في تدمير الرئتَين والأجساد.

لعدة قرون، كان العملُ في المحاجر يفتقر إلى التنظيم الجيد ويعوزه التخطيط إلى حدٍّ كبير. وفي منتصف القرن الثامن عشر، بدأ التنقيب المُوسَّع يُخلِّف آثاره الوخيمة على المدينة العلوية، ما تسبَّب في مجاري هبوطٍ معروفة باسم «فونتيس» (أو النافورة)، اشتهرت بأنها من أصل شيطاني. بدأت فجوات المحاجر في النزوح إلى السطح؛ ومن ثمَّ بدأت المدينة السُّفلية في التهام توءمها. في عام ١٧٧٤، ابتلعت إحدى هذه النوافير، في غضون ثوانٍ معدودة، الأرصفة، والمنازل، والخيول، والعربات، والأشخاص. وكان موقع مجرى الهبوط، دونًا عن كلِّ الأماكن، شارع رو دي أونفر، أو شارع الجحيم. أعقبَ ذلك وقوعُ عدة انهيارات صغيرة، وانتشر الذُّعر في المدينة في نطاق المدى المجهول للخطر غير المرئي.

استجابَ لويس السادس عشر بعد تتويجه بفترة وجيزة من خلال إنشاء وحدة تفتيش لمراقبة «المحاجر الواقعة تحت باريس والسهول المُحيطة»، برئاسة مفتش عام يُدعَى تشارلز أكسل جويلومو، وكلَّفه بتنظيم العمل في المحاجر بهدف الحفاظ على السلامة العامة. كان جويلومو هو مَنْ بدأ في رسم أول خريطةٍ لشبكة فجوات المحاجر، بهدف دمج المساحات الموجودة وتنظيم أنشطة المحاجر الأخرى. وقد أُنْشِئَ نظام لتخطيط المُدن تحت الأرض، حيث سُمِّيَت الغرف والأنفاق نسبةً إلى الشوارع التي تعلوها، وهو ما خلق مدينةً معكوسة حيث تكون الأرضُ بمثابة خط التماثُل. وكما كتبَ فيكتور هوجو في روايته «البُؤساء»: «تقبع أسفل باريسَ باريسُ أخرى، لها مِثلُ شوارعِها، وتقاطُعاتِها، وساحاتِها، وطُرقِها المسدودة، وشرايينِها، ودورانِها.»

كان جويلومو أيضًا هو مَنْ أشرفَ، في منتصف الثمانينيات من القرن الثامن عشر، على فكرة استخدام فجوات المحاجر لأغراض التخزين. وكان مَوتى باريس هم مَنْ كانوا بحاجة إلى التخزين على نحوٍ عاجل. يعود إنشاءُ أول مقبرةٍ ضخمة في المدينة إلى العصر الروماني، وهي تقع على الضواحي الجنوبية للمدينة كما كانت قائمة آنذاك. ولكن مع اتساع رُقعة باريس، اتجهت المدينة نحو دفن مُعظم جُثثها في مقابر داخل حدودها، ولا سيَّما في مقبرة القديسين الأبرياء بالقُرب من السوق المركزي في منطقة تسوُّق لي هال. وكانت النتيجة على مدى القرون هي اكتظاظ السوق بالموتى على نحوٍ مُتزايد. وأصبحت مقبرة القديسين الأبرياء مثوًى لملايين الجُثث. وفي محاولةٍ لزيادة المساحة المتاحة، نُبِشَ الرفات القديم من الأرض وجُمِعَت عظامه ووُضِعَت في صالات عرض معروفة باسم «شارنيه» (مقابر جماعية)، مبنية داخل فناء المقبرة. بُنِيَت أيضًا المنطقة الرئيسية للمقبرة بتربةٍ منقولة من مكانٍ آخر، حيث شكَّلت قبة من الأرض بارتفاع يصل إلى ستة أقدام فوق مستوى الأرض السابق. لكن هذه أيضًا سرعان ما فاضت بالجُثَث المُتعفِّنة.

كان الموتى الباريسيون يضغطون بشدة على الأحياء الباريسية. وفي عام ١٧٨٠، انهار جدار قبوٍ في عقارٍ مجاور لمقبرة القديسين الأبرياء تحت وطأة المقبرة الجماعية خلفه، وتناثرت العظام وفاضَ التراب في المساحة الداخلية. وبدا واضحًا أنَّ الأمر يتطلب حلًّا جذريًّا، واتضح في النهاية أن أنفاق المحاجر قد تكون هي الحل، حيث تُوفِّر مقبرة كبيرة الحجم كما حدث بالفعل.

وهكذا بدأت فترة من أهم الفترات في تاريخ باريس. في عام ١٧٨٦، بدأت عملية إخلاء مقابر المدينة، وسراديبها، وأضرحتها؛ ونقل رفات أكثر من ٦ ملايين جثة إلى منطقة المحاجر المعروفة باسم «تومب إسوار»، التي سرعان ما أصبحت كاتاكومب باريس أو سراديب الموتى في باريس، على ما كان يُسمَّى آنذاك سهلُ مونروج. أُنْشِئَ لهذا الغرض خطُّ إنتاج طقسي صارم، شَملَ الحفَّارين، وعُمَّال النظافة، وعُمَّال التجميع، والسائقين، والحمَّالين، والمشرفين. كل ليلة على مدار سنوات، كانت عرباتٌ جنائزية تجرُّها الخيول تحمل عظام الموتى المُستخرَجين من القبور، حيث تُغطى العظام بأقمشةٍ سوداء كثيفة، ويسبق العربات الجنائزية حاملو الشعلات ومِن ورائهم الكهنة مُرتِّلين الترانيم الخاصة بقُدَّاس الموتى، تنطلق العربات عبر الشوارع من المقابر إلى «تومب إسوار» حيث تتخلص من حمولتها. وبالأسفل في الأنفاق، يفرز العمَّال رفات الموتى، حيث يملئون الأنفاق بالعظام واضِعِين إيَّاها في أكوامٍ ومجموعاتٍ توفيرًا للمساحة. ظهرت أشكال ثانوية من الفن الشعبي في عملية التخلُّص من هذه العظام: صفوف مُتراصَّة من عظام الفخذ، فُصِلَت خطوطها البراقة بصفوفٍ من الجماجم، التي وُجِّهت تجاويفُ أعيُنها جميعًا إلى الخارج.

بعد ذلك بقرن، كان للمُصوِّر الفوتوغرافي فيليكس نادار السَّبْق في اكتشاف تقنيات تصوير فوتوغرافي في الضوء المُنخفض بالأسفل في مستودعات عظام الموتى هذه. تُظهر إحدى صوره الشهيرة عاملًا يَسحَب عربة مُحمَّلة بالعظام. إنها صورة مُشوَّشة. عجلات العربة خشبية، وجوانبها مصنوعة من ألواحٍ غيرِ مُهذَّبة الحواف وتبدو التجزيعات واضحة فيها. كما أن وجهَ الرجل تصعُب رؤيته، ويبدو غير واضح المَعالِم بفِعل الفلاش؛ ويرتدي قبَّعة جلدية واسعة الحواف وقميصًا أبيض فضفاضًا، والذي كان — كسرواله — مَخيطًا من رُقع القماش. ويطأ الضلوع وعظم الساق الأكبر بقدَمَيه، ومن كومة العظام الكبيرة في العربة، تُحدِّق الجماجمُ البيضاء فوق كتفه في فضاء النفق أمامه. ولاحقًا، يركب نادار بالون هواء ساخن ويُصوِّر باريس من أعلى، ليكون له السَّبْق أيضًا في التصوير من ارتفاعاتٍ شاهقة؛ فهو أول شخص على الإطلاق يلتقط صورًا لمدينةٍ مِن مَركبةٍ مُتحركة فوقها، وكذلك في الظلال السحيقة أسفلها.

استمرَّ التخلُّص من العظام في سراديب الموتى خلال القرن التاسع عشر، ولكن تضاءلت المحاجر نظرًا لاستنفاد أفضل رواسب الحجر الكلسي. وبدءًا من عشرينيات القرن التاسع عشر، ظهر استخدامٌ جديد لفجوات المحاجر كحقولٍ لعَيش الغراب؛ فهي رطبة ومظلمة، ومن ثمَّ توفِّر المساحات المثالية لنموِّ الفطريات، التي نبتت من صفوف رَوَث الخيل. وغيَّر عُمَّال المحاجر — في قدرة منهم على التأقلُم مع الوضع — مجال عملهم إلى زراعة الفطر، وتأسَّست جمعيةٌ للبستنة في باريس تحت الأرض، وكان أولُ رئيس لها مفتشًا عامًّا سابقًا للمناجم. بحلول عام ١٩٤٠، كان هناك حوالي ٢٠٠٠ مُزارع لعيش الغراب يعملون أسفل باريس. وخلال الحرب العالمية الثانية، تقهقرت المقاومة الفرنسية إلى أقسام داخل الأنفاق في الأشهُر التي أعقبت الاحتلال. وكذلك فعل المَدنيون خلال الغارات الجوية، وكذلك فعل ضباطُ فيشي وفيرماخت، الذين أنشئوا مخابئ مُضادة للقنابل في المتاهة القابعة أسفل الدائرة الإدارية السادسة.

بعد الحرب، بدأت فكرة سراديب الموتى في الانتشار. ذلك حيث انجذبت إليها أعدادٌ مُتزايدة من الأشخاص بهدف الاختفاء، أو ارتكاب الجرائم، أو سعيًا وراء المُتعة الحسية. وأصبح هؤلاء المستخدمون لشبكة السراديب معروفين باسم «كاتافيل»؛ أي «عشَّاق السراديب الجَوفية». وفي عام ١٩٥٥، أصبح دخول شبكة سراديب الموتى غير قانوني، وذلك باستثناء مساحة صغيرة لعرض مستودعات عظام الموتى، والتي ظلَّت مفتوحة لأغراض السياحة. وأخذت محاولات حفظ الأمن في المكان طابعًا رسميًّا، حيث جرى تدريب قوة شرطة مُتخصِّصة، سرعان ما أخذت لقب «شرطة سراديب الموتى»، على جغرافيا الشبكة. كما بُنيَت جدران فاصلة عبر الطرق الرئيسية تحت الأرض، وكانت مداخل الشبكة (الأنفاق، والبوابات، والمطابق) ملحومة ومغلقة بإحكام. لكن الكاتافيل استمرُّوا في القدوم إلى المكان. وذلك لأن المتاهة قدَّمت مكانًا أفسحَ المجال لازدهار ثقافاتٍ باريسية فرعية. ومن ثمَّ أصبح — ولا يزال — ما يُسمِّيه المُنَظِّر اللاسلطوي حكيم بك «منطقة الحُكم الذاتي المؤقتة»: مكان يمكن للناس أن يتسللوا فيه إلى هوياتٍ مختلفة، وأن يَتصوَّروا أساليبَ جديدة للوجود والتواصُل، وأن يصبحوا سَلسين وجامحين بطرقٍ مُقيَّدة على السطح.

عزَّز ظهورُ الإنترنت ظاهرة الهوس بسراديب الموتى. ذلك حيث مكَّنت غرف المحادثة ومواقع ويب مُحبي سراديب الموتى من مشاركة معلوماتٍ حول شبكة السراديب الجوفية وتنسيقها. وقد استخدمَ مُحبُّو سراديب الموتى في تواصُلِهم عبر الإنترنت أسماءً مُستعارة منسوبة لما هو تحت الأرض، مِثل ستيكس (وهو نهر تعبُر من خلاله الأرواحُ عند انتقالها إلى العالَم السفلي)، وخارون (وهو مَن يتولَّى حمل الموتى ونقلهم عبر نهر ستيكس)، وقد قدَّسوا إلى حدٍّ ما الطبيعة السرية الزائفة لأنشطتهم وكرَّسوا أنفسهم لها. وقد كان هناك زِيٌّ مُوحَّد غير رسمي للكاتافيل يُظهِر هويتهم: حذاء تخويض يصِل إلى الفخذَين، وحقيبة ظهر صغيرة مقاومة للماء، ورداء ذو قلنسوة، ومصباح رأس. وكان الكاتافيل ذَوو الشأن يحملون معهم في أحزمتهم المفاتيح المُخصَّصة لإزالة أغطية فتحات المطابق. وكان هناك شارع تصطف فيه المقاهي ومطاعم البيتزا عادةً — بل لا يزال — يُشاهَد فيه العشراتُ من الأشخاص الذين يرتدون أحذية تخويض باللون الأخضر الداكن ويسيرون بخُيَلاءَ في الشارع أو يجلسون إلى طاولات المقاهي، كما هو الحال في اجتماعات صائدي سمَك السلَمون المُرقَّط بعيدًا عن أي نهر. ظهرت بينهم ثقافة تواصُل خاصة، لها مواثيق الشرَف التي تحكمها. كانت القواعد قليلة وواضحة. وتتمثل في احترام ماضي سراديب الموتى. إنها تُطالبك بمعالجة ما تأخذه وتقديمه بصورةٍ مختلفة. لا بدَّ من مشاركة الموارد، حتى مع الغرباء. لا بيعَ ولا شراءَ؛ فالمقايضة أو الهِبَة هي الوسيلة الوحيدة المقبولة للمعاملات. والمساعدة ستُقدَّم متى كانت ضرورية. ابتكِر بعناية، واصنع ولا تدمِّر.

كان بعض الكاتافيل ينزلون تحت الأرض للاحتفال. غير أن بعضهم الآخر أصبح مفتونًا بالطبيعة التاريخية المُتعدِّدة المستويات للمكان. وأُنْشِئَت بشكل غير رسمي «جامعة» سراديب الموتى، التي كُرِّست الجهود فيها لترميم الشبكة، والحفاظ عليها، ورسم الخرائط لها، وكذلك للأرشفة الرسمية لقصصها والروايات التي حِيكت عنها. وذات مرة، أُنشِئت دار سينما في إحدى الغرف، وعُرِضت فيها على مدى عدة أسابيع أفلامٌ ذاتُ فكرة رئيسية محددة — «الرجل صاحب كاميرا التصوير السينمائي» لفيرتوف، و«رأس المِمحاة» للينش — حتى أغلقتها شرطة سراديب الموتى. ولا يزال الكاتافيل يحفرون غُرَفًا جديدة، ويُضيفون لوحات أسماءٍ جديدة للأنفاق. كما تُشكَّل مجموعاتُ عمل لإضافة طبقات جديدة إلى الرقوق الممسوحة لسراديب الموتى: جداريات كبيرة ذات نقوش أثرية، أو منحوتات جديدة، أو سيف مدفون في الحجر، أو أعمال فُسَيفساء تتضمَّن آلافَ البلاطات.

من بين أبرز الرموز المُعاصرة لسراديب الموتى تمثالٌ معروف بالفرنسية باسم لو بَاسي ميوراي (المارُ عبر الجدران) نسبةً إلى قصةٍ قصيرة تحمل الاسم نفسه كتبَها مارسيل إيميه عن رجل يكتشف أنه يستطيع المرور عبر الأسطح الصلبة، لكنه يُصبح محاصَرًا عندما تتخلَّى عنه قواه بمجرد أن يخطو خارج الجدار. يُظهر التمثالُ الرجلَ في هذه اللحظة وقد تحرَّر ووقعَ أسيرًا في الآن نفسه؛ فوجُهه، وجِذعه، وإحدى ساقيه، قد تحرَّرت من البناء الحجري، بينما ظهره ويداه لا يزالان حَبيسَي جُدرانه. إنه عالقٌ بين العَالَمَين، مُتردِّدٌ ما بين المُضي قُدمًا في الفضاء أو التراجع إلى الحجر.

•••

أخطو بقدمي أولًا عبر الفتحة الوَعرة، وأسقطُ داخل نفق مُستقيم سقفُه على هيئة قوسٍ صَلد. هنا حيث تموج جدران الحجر الكلسي بالنقوش الجدارية: شعارات أنتيفا، وجماجم الزومبي ذات العيون الجاحظة، والعلامات، والأسماء.

تقول لينا: «كلما تعمَّقنا في الداخل، أصبح الفن الجداري أفضل. في صال دو لا بلاج (غرفة الشاطئ)، سترى لوحة «الموجة» لهوكوساي. لنتحرَّك. أمامنا أميالٌ لنقطعها، ومن الجيد ألا نُبطئَ الخُطى بالقرب من المَدخل. بالإضافة إلى ذلك، علينا اجتياز البَنجرا أولًا، وهو ما سيبطئُنا.»

«البَنجرا؟»

«سوف ترى. نحتاج إلى العثور على مكانٍ للنوم الليلة، في الساعات القليلة القادمة. إذ سيكون السير غدًا إلى الشمال طويلًا، ما قد يجلب لنا بعض العقبات.»

تروق لي فكرة النوم. فأنا مُجهَدٌ جرَّاء التوتر والسفر. وتعتريني بعضُ التقلصات عند ذكر تلك العقبات. اعتدتُ في الجبال النظرَ في كل العواقب، ووضعَ الخطط، وتقييمَ المخاطر بنفسي. ولكن هنا بالأسفل، أنا بين يدَي لينا، ولا يتجاوز مدى تبصُّري بالأمور المنعطفَ التالي في الأنفاق.

تتقدَّم لينا، ويتبعَها جاي، وأنا في المؤخرة. تتحرَّك لينا سريعًا، لتأخذ طريقها في مسيرةٍ سريعة عبر الأنفاق الجافة. تلتفت من فوق كتفها وتنادي: «عليكما أن تتحركا بسرعة إذا أردتما قطعَ أي مسافة بالسرعة المقبولة، هَلمُّوا بسرعة.» سرعان ما تصبح أرضية النفق مُوحِلة بالطين، ثم تنغمس في الماء الأسود.

تلتفت لينا من فوق كتفها وتنادي: «مرحبًا بكما في البَنجرا.» وتُردِف قائلة: «إنها غرفةٌ لمعادلة ضغط الهواء، أو بالأحرى ضغط الماء. وهي تمنع معظم مَن يصلون إلى هذا الحَدِّ من التقدُّم لأبعد من ذلك.»

تخوضُ في المياه المُوحِلة. ونحن مِن ورائها. وسرعان ما يصل ارتفاعها إلى الخصر. يتمايل ضوءُ المصابيح الأمامية على رءوسنا في الماء.

تقول لينا: «استشعِرا حواف النفق بأقدامكما، فهناك حيودٌ يمكنكما المشي عليها.» إنها على حق، وهذا يرفعني أكثر خارج الماء ولكنه يجعل رأسي أقرب إلى السقف. عليَّ أن أخفِض رقبتي وأنا أتقدَّم عبر الماء، الذي يضغط بالبرودة على ساقيَّ.

نتجاوز التقاطُعات المغمورة بالمياه، مع الأنفاق التي تتقاطع عموديًّا مع نفقنا. أنظرُ يمينًا ويسارًا، لأجدها تختفي في الظلام. وأبدأ في استيعاب شيءٍ عن امتداد النظام.

ينخفض مستوى الماء، ثم يُصبح ضحلًا تمامًا؛ ونصبح على أرضٍ صلبة مرة أخرى. تُسرِّع لينا من وتيرتنا. إنها لا تتوقف عند التقاطعات، وتنعطف دون تردُّد. تُذكِّرني طبيعتها التي لا تُخطئ في تحديد الاتجاهات بقيادة نيل في المتاهة في بُولبي تحت مستوى البحر، حيث الدخول بقوة دون أدنى شكٍّ إلى المسار الصحيح …

كنا نتحرك لبضع ساعاتٍ عندما توقَّفت لينا لتتحقق من علامة على الجدار، ثم انعطفت إلى نفق جانبي ضيق …

تقول: «هنا بالأسفل. هنا حيث سنَبيتُ الليلة. إنهم يُطلقون عليها صال ديز ويتر؛ أي غرفة المَحار. اعتاد عُمَّال المحاجر تقشير المحار هنا بالأسفل؛ فهو الطعام المُتيسِّر لهم؛ حيث يمكنهم وضعُه في جيوبهم، في نوعٍ من التعبئة الطبيعية تمامًا.»

على مسافة عشرين ياردة أسفل النفق، تُوجَد حفرة مربعة تقريبًا محفورة في جدار النفق الأيمن، على مسافة حوالي أربع أقدام من الأرض وحوالي قدم ونصف القدم عرضًا.

تقول لينا: «مرحبًا بكما في الشاتيير الأول لكما. والشاتيير يعني المصراع، وأيضًا شيئًا آخر أقل تهذيبًا. ثمَّة طريقة لاجتيازه. سأُريكما.»

تُمرِّر حقيبة ظهرها أولًا. ثم تَميل إلى داخل الفتحة بقدرِ ما تستطيع الدخول بنصف جسمها العلوي، وتستشعر خلفها بقَدَمَيها حتى تصل إلى الجدار البعيد للنفق؛ ثم تحرِّك قدَمَيها على الجدار عشوائيًّا، وتُثبِّت جسدها حتى تصبح في وضعٍ أفقي: الرأس والكتفان في الفتحة، والقدمان على الجدار البعيد. ثم تَحني رُكبتَيْها؛ وتُثبِّت نفسها وتنطلق على الجدار، كما يفعل السبَّاح عندما ينعطف في حمام السباحة، وتنطلق نحو الفتحة وتجرُّ نفسها أعلاه ومن خلاله. أُشاهِدُ، مُنبهرًا، قدمَيْها وهي تختفي.

وأقول لجاي مُنحنيًا: «مِنْ بَعدِك.» فيُقلِّد طريقة لينا تمامًا.

أما دخولي، فيكفي أن أقول إنه كان أقل أناقةً وأكثر إيلامًا بكثير.

أجتازُ الأمر، وأجدُ نفسي في غرفةٍ منخفضة السقف ارتفاعُها خمس أقدام، مع وجود علامات إزميل ظاهرة على الحجر. تحتوي الغرفة الرئيسية على طاولة حجرية سميكة ذات شمع أبيض. في وسطها يقف غليون بلاستيكي باللون الوردي كلون العلكة، وشكله مثل قضيبٍ طوله قدم واحدة. رُتِّبَت أصدافُ المحار حوله. والأرضية مغطاة برُكام منسكب صغير من مسحوق رمادي: النفايات المستهلكة من مصابيح الكربيد. وهناك بابٌ مفتوح في الغرفة يؤدي إلى الغرفة المجاورة، التي تؤدي بدورها إلى غرفة أخرى. نستكشف الغرف: اثنتا عشرة غرفة أو نحو ذلك، تصطفُ على نحوٍ شبه مُنتظم حول جذع مركزي داعِم من الحَجر.

تقول لينا: «سيأتي الناسُ على الأرجح لاستخدام المكان في وقتٍ لاحق من الليل. ولذا، إذا أردنا أن نحظى بأي قسطٍ من النوم، فعلينا أن نبتعِد عن هذه الغرفة قدْرَ ما في وسعنا.»

ومن ثمَّ، نَبيتُ في غرفة بعيدة. سقوفُها منخفضة، بارتفاع ثلاث أو أربع أقدام على الأكثر. ولذا، فإننا نتحرَّك في أنحائها على اليدَيْن والرُّكبتَيْن. ويدور الهواءُ بغبار الصخور، الذي يُمكنني استشعار مَذاقه على لساني وتحسُّسه في عيني. وتبدو المدينة فوق الأرض بعيدةً للغاية.

على جدارٍ أملس من الحجارة بالقُرب من مدخل غرفتنا توجد سطور من الكلمات ذات الأحرف المتصلة المكتوبة بخط اليد بالحبر الأسود أو الطلاء. وهي تُسجِّل أسماءَ عُمَّال المحاجر، وتواريخ إكمال الغرف والأنفاق، وأعداد أمتار الحجارة المقطوعة في الأيام المختلفة. والسنوات مكتوبة بجوار الأسطر المختلفة، بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر وحتى أوائل القرن التاسع عشر. إنَّ إعداد هذا الأرشيف هو مَدعاة للفخر، ومن ثمَّ فقد رُوعي أيضًا الحفاظ عليه.

تقول لينا: «من الركائز الأساسية هنا احترامُ الطرق التي أُنشئ بها هذا المكان. ويضع المجتمع لنفسه القواعدَ التي تُنظِّم سلوكه ويُراقبها بشكل عام. ومن ثمَّ، إذا كنت لا تحترم المكان وتاريخه، فإنَّ الخبر ينتشر، وتُصبح الحياة صعبة عليك.»

في كُوةٍ في الجدار الرئيسي للغرفة، تجثُم ثلاثة قرود كبيرة مُمتلئة الخَدَّيْن منحوتة من كتلٍ حجرية. عيونها عبارة عن ثقوب. تُحدِّق إلينا، وهي فاقدة الوعي وعمياء. يزحف عنكبوت خارجًا من مَحجر العين اليُمنى للقرد الذي في المنتصف؛ زعيمُها.

أما الجدران الأخرى للغرفة، فهي مُزيَّنة بمهارةٍ باللوحات الجدارية الحديثة، بما في ذلك وجوه البشر والحيوانات. تُضيء لينا ستَّ شمعاتٍ صغيرة، وتضع شمعة في كل تجويف من تجاويف عيون القرود في الكوة؛ فتُحدِث ألسنة اللهب المتصاعدة منها وميضًا مُتقطعًا على فن الكهوف المُتمثل في الرسوم الجدارية. وتُحدِث الدوَّامات الخمرية والسوداء حركتها الخاصة في ضوء الشموع؛ حيث تبدو كأنها تدور داخل الحجر. أستطيع أن أرى كيف حوَّل فنانو الرسوم الجدارية بِنية الصخر وأشكاله بحيث تُعبِّر عن ملامح صورهم، تمامًا كما فعل فنانو كهوفِ ما قبل التاريخ في كهف لاسكو: مُنحنًى من الحجارة لتمثيل انتفاخ في بطن كائنٍ ما، وقوقعة مغروسة لتمثيل العين أو الأنف في الوجه.

أزحفُ إلى الجزء الخلفي من الغرفة، وأجدُ أنها تمتدُّ إلى مكانٍ مُنخفض يُشبه الكهف، ارتفاعه قدمان وعرضُه يكفي لاستيعاب جسم شخصٍ واحد. مكثتُ الليل هناك، وقد تملَّكني شعورٌ غريب بالراحة من إحساس الإحاطة والاحتواء. وجدتُ مكانًا مُجوفًا في الصخرة كالتابوت … يُماثل طولي تمامًا — رقدتُ هناك ونِمتُ — كان ناعمًا للغاية ووثيرًا … أُخرِجُ البومة المنحوتة من العظام، والعُلبة البرونزية التي تُشبِه البيضة من حقيبة ظهري، وأضعهما بالقرب من قدمَيَّ. أعلمُ مُسبقًا أن هذا ليس بالمكان المناسب الذي يمكنني أن أترك فيه العُلبة، لكنني سعيدٌ بأن البومة معي. يمتدُّ فوقي ستُّون قدمًا مكعبة من الحجر. وأفكرُ في المرور عبر آفاق شمال فرنسا الرحبة ذلك الصباح، في غروب الشمس خلف السد الترابي الذي لا تفسير له.

نتحدَّث لبعض الوقت على ضوء الشموع، وقد أشعرَتْنا غرابةُ مَهجَعِنا بالتقارب على نحوٍ أدهشنا. ثم يَحلُّ الصمت كما يَحلُّ التعب متسللًا وبقوة. أنجرفُ في التفكير في لوحة «الأحلام» لإيشر، حيث السلالم التي تقود إلى نفسها مرة أخرى، والأنفاقُ القابلة للطي كشرائط موبيوس، والغرف المتحركة، والقرود الآلهة التي تخرج ألسنة اللهب من عيونها.

•••

إننا نُفكِّر في المدن بوصفها ذات امتدادٍ جانبي، لكنها بالطبع ذات امتداد رأسي أيضًا. إذ تمتد المدن لأعلى في الهواء عن طريق المباني، والمصاعد، والمجال الجوي المُوجَّه، وتمتد لأسفل عن طريق الأنفاق، والسلالم المتحركة، والأقبية، والمقابر، والآبار، والكابلات المدفونة، وأعمال المناجم. فكما أنَّ الجبل لا ينتهي عند قمته أو سفوحه، وإنما يمتد بدلًا من ذلك حتى حالة الجو التي يُنشئها في الهواء أعلاه، وتكوين الصخور التي أنشأته، لا تتوقف المدينة كذلك عند أساساتها أو قِمَم أطول بناياتها.

أجل؛ فلكل مدينة مدينتُها غير المرئية، كما يشير إيتالو كالفينو في قصته الرائعة «المدن اللامرئية». تتداخل قصة كالفينو نفسها بذكاءٍ مع حكاياتٍ لحكايات، وقصصٍ لقصص، بحيث يُصبح للنص عدة إصدارات ونُسَخ. في الفصل الأكثر تميُّزًا، في رأيي، يصف الراوي مدينة يوزابيا المُستحيلة، حيث تُرافِق سكانَ المدينة الحية «نُسخةٌ مُتطابقة من مدينتهم، تحت الأرض»، وهي «يوزابيا الموتى»، التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الانتماء إلى رابطة الإخوة ذوي القلنسوة — وإن كان بمرور الوقت يُصبح التماثُل بين المدينتَين العلوية والسفلية شديدًا للغاية حتى إنه «لا يبقى هناك أي طريقة في كلتا المدينتَيْن المتناظرتَيْن لمعرفة الأحياء من الأموات.»

قبل وقتٍ طويل من كتابة كالفينو لقصته، وفي إحدى مناطق سراديب الموتى الباريسية، كرَّس عاملُ محاجر وجنديٌّ سابق يُدعَى بوسيجور ديكور وقتَ فراغه لنحت نماذج مُصغَّرة ومُعقَّدة لبلدة بورت ماهون في مينوركا في الحجر الكلسي الحي. إنَّ عمله دقيق إلى حدٍّ مُخيف، وصروحُه المُتخيَّلة مَهيبة على الرغم من حجمها. نحت الجدران الأمامية للبلدة وبوابتها الرئيسية، التي يقع مدخلها في داخل خمسة أُطُر حجرية متدرجة في الصغر، ونحت إحدى بناياتها العظيمة ذات الأعمدة على الطراز الكلاسيكي الحديث مع أصداء من مصر الفرعونية، والتي ترتفع عن الصخر، ولكن مع وجود مَمرَّاتٍ مُقبَّبة منحدرة للأسفل داخل الحجر، مشيرةً إلى أعماقٍ أبعدَ مُتواريةٍ بعيدًا عن الأنظار بداخلها. وسعيًا منه إلى جلب المزيد من الناس لمشاهدة منحوتاته، شرعَ ديكور في فتح سُلَّم للوصول إليها، إلا أنه لقي مصرعه أثناء الحفر جراء أحد الانهيارات الأرضية.

لطالما كانت المدن تمتدُّ امتدادًا رأسيًّا. عندما حفر كريستوفر رين أساسات كاتدرائية القديس بولس القديمة في أعقاب الحريق العظيم، وجدَ صفًّا من القبور الأنجلوسكسونية المُبطَّنة بالحجر الطباشيري، وتحتها توابيت ترجع إلى ما قبل عصر السكسونيين بها دبابيس من العاج والخشب. وفي عمقٍ أكبر، كانت كسرات الآنية الفخارية وجِرار حرق الجثث الرومانية، حمراء بلون شمع الأختام المانع للتسرُّب ومُزخرفة بالكلاب السلوقية والأيائل، وتحت ذلك كانت العناقيات وغيرها من أصداف البحر، التي تحكي عن المحيط الذي كان يغطي المنطقة في يومٍ من الأيام. يكتب الجغرافيُّ واين تشامبليس أنه أسفل كاتدرائية سان لورينزو ماجوري في نابولي: «هناك طبقة من طبقات الأرض الحضرية تحتوي على نسخةٍ مُكرَّرة من المدينة أكثر قِدمًا ولم تمسسها يَدٌ قط. فقد اكتُشِفَت تحت الأرض شوارع، ومجمَّعات سكنية، وواجهات متاجر، كلُّها رُدِمَت منذ قرونٍ مضت وبُنيَ فوقها.»

يزداد نطاقُ الامتداد الرأسي لمُدننا بسرعة. ومع ارتفاع عدد المُدن وحجمها على سطح الأرض منذ منتصف القرن العشرين، وتطوُّر التقنيات الحديثة، امتدت ارتفاعاتُ المدن وأعماقها لتصل إلى مقاييس مُذهلة: يُقدِّر بيير بيلانجر أن «البنية التحتية التي تدعم الحياة الحضرية» تمتد الآن من «عُمق ١٠ آلاف متر تحت سطح البحر إلى ارتفاع ٣٥ ألف كيلومتر فوق سطح الأرض.» كما يُوثِّق ستيفن جراهام هذا التمدُّد في مساحة المدن صعودًا في الهواء وهبوطًا في الأرض قائلًا:

إنها مساحاتٌ مُعقَّدة تحت الأرض أسفل المُدن الكبرى … هي في حدِّ ذاتها متاهاتٌ ثلاثية الأبعاد تؤدي إلى تكدُّس البِنى التحتية والمساحات المَبنية وتجعلها متشابكة على أعماقٍ تُضاهي الارتفاعات التي يمتد إليها العديد من المُدن في السماء … ومن ثمَّ، فهناك اتجاه متزايد إلى تنظيم المدن الرئيسية كحُجوم متعددة المستويات فوق الأرض وتحتها.

مَثلُ هذا المشهد الحديث للمدينة والمُكدَّس بشدَّة يؤدي حتمًا إلى جغرافيا جديدة ذات مَعالم متفاوتة ومُتباينة، الأمر الذي يتطلَّب بِدَوره قراءة رأسية. وبصفة عامة، تزداد الثروة وينخفض الفقر. ويُفضَّل في تقديم الامتيازات المُختلفة أن تكون بمنأًى عن فوضى الشارع عن طريق الارتفاعات الشاهقة؛ ولذلك تجد حمامات السباحة اللامُتناهية في الطابق الخمسين، وأجنحة السقائف على الأسطح، ولا يميل الأشخاصُ في تقديم هذه الامتيازات إلى التعمُّق تحت الأرض إلا عندما يُوفِّر هذا التعمُّق الأمان أو الخصوصية (مثل مخازن الوثائق المغمورة على أعماقٍ سحيقة التي تحتفظ بها شركات الأمن الأمريكية مثل «بلاك ووتر»، على سبيل المثال، أو الأقبية الأوليجاركية المحفورة في طين لندن في حي مايفير وغيره من الأحياء السكنية المُتطورة القليلة الارتفاع في لندن).

أما الفقر، فعلى النقيض من ذلك، يَسحَب الناس إلى الأسفل، ويتجمَّع في مستوياتٍ منخفضة. هذا التمدُّد الرأسي للثروة والسلطة هو ما توقَّعه إتش جي ويلز في روايته «آلة الزمن» عام ١٨٩٥، وذلك عبر كائنات المورلوك التي تعمل بالتعدين تحت الأرض وكائنات الإلواي المُرهَفة فوق الأرض. اليوم، في شبكة صرف مياه العواصف أسفل لاس فيجاس، أقامت فئةٌ سكانية فرعية مُهمشَة في المكان، بمَنْ فيهم أشخاص يُعانون الإدمانَ والتشرد. عندما يسقط المطر في تلك المدينة الجرداء المتلألئة، تملأ الفيضاناتُ المندفعة مصارف المياه، وتجرف معها سُبل عيش هؤلاء الناس وأحيانًا حيواتهم أيضًا. في مدن الهند، غالبًا ما ينظِّف المجاري وخزانات الصرف الصحي الآلاف من عُمَّال الأجرة اليومية، الذين ينزلون على الحبال ليستخرجوا بالأيدي والدلاء الفضلات البشرية، والقمامة، والدهون المتجمدة، التي تتراكم في مثل هذه الأماكن. عند رفع غطاء فتحة المِطبق أولَ مرة لإتاحة الوصول إلى المجاري، يكون العُمَّال سعداء لرؤية سِرب الذباب والصراصير من الفتحة؛ فهذا يعني أن الغازات السامة لم تتجمع بدرجةٍ مُميتة. العمرُ المُتوقَّع لهؤلاء الرجال أقل بحوالي عشر سنواتٍ من متوسط عمر المواطن العادي. يموت المئاتُ كلَّ عشر سنوات بالاختناق أو الغرق، وعادةً ما تكون وفاتهم غير مُسجَّلة وغير مشمولة بأي تعويض.

الفقرُ والعجز من السمات المُميِّزة لتاريخ أنفاق باريس أيضًا. عَمِلَ والتر بنجامين بِجِدٍّ في «مشروع الأروقة» لاستعادة الوقائع التاريخية الخفية لتلك الأماكن. إنه يوثِّق، على سبيل المثال، كيف أنه بعد انتفاضة يونيو ١٨٤٨ نُقِلَ هؤلاء الذين؛ أُسروا حول المدينة عبر أنفاق المحاجر وسراديب الموتى، وتنقَّلوا على طول الشبكة من حصن إلى حصن من أجل تأمينهم وإبعادهم عن الأنظار. أصبحت متاهة سراديب الموتى ما نُسمِّيه الآن «موقعًا مظلمًا»؛ مكانًا إضافيًّا تابعًا للقضاء حيث التسليم الخاص للسُّجَناء السياسيين بعيدًا عن أنظار الجمهور وذاكرة الرأي العام.

أرى أنَّ تأريخ بنجامين جاءَ مُتعاطفًا، وذلك من حيث حفاظه على تفاصيل تجارب هؤلاء السجناء وأمثالهم تحت الأرض. فنجده يكتب في مذكراته عن المُتمردين: «[كان] البرد في هذه الممرات تحت الأرض شديدًا للغاية لدرجة أن العديد من السجناء اضطروا إلى الجري باستمرار أو تحريك أذرُعِهم لحمايتها من التجمُّد، ولم يجرؤ أحد على الاستلقاء على الحجارة الباردة.» كما يحافظ على لحظات التضامن والرفقة: كيف «أطلقَ السجناءُ على جميع الممرات أسماءَ شوارع باريسية، وكلما التقَوا تبادلوا العناوين فيما بينهم.» وكيف كان السجناء في القرن الثامن عشر ينتظرون في زنزانات الحبس حتى يُسلسَلوا كعبيد التجديف في القَوادِس التي كانت تَعبُر نهر السين ويتبادلوا الغناء، حيث يتواصلون من خلال اللحن في الظلام.

•••

ننام في وقتٍ مُتأخر من صباح اليوم التالي، ونتناول الشوكولاتة على الإفطار بينما تُراقبنا القرود الآلهة عبر عيونها المُتفحمة.

تقول لينا: «حان وقت التحرُّك. لدَينا موعد هذا المساء باتجاه الشمال مع بعض أصدقائي في قاعة العَلَم. ستكون هناك أشياء جيدة إذا تمكَّنا من الوصول إلى هناك، لكن هذا سيعتمد على ثبات الأسقف، وما إذا كان قد وقع أي انهيار منذ آخِر مرة كنت فيها على هذا الطريق. وقبل ذلك، ثمَّة أماكن أريدُ الوصول إليها.»

نندفع رجوعًا عبر المصراع — نبدأ بأقدامنا هذه المرة، ثم ننحني بأجسامنا وننزل بحثًا عن موطئ قدم في الممر — وبعدها نخرج مُتَّبِعين خُطى سَيْر لينا السريعة، فنترك الأنفاق الجافة، ونخوض الأنفاق الرطبة، ونمرُّ بعناية بجانب أعمدة الآبار، ثم نصعد إلى الشمال الغربي. مرة أخرى، تُدهِشني قدرة لينا على التنقُّل دون النظر في الخرائط التي نحملها. يبدو أنها استوعبت هذه المتاهة الثلاثية الأبعاد، أو طوَّرت نظامًا في ذهنها لتحديد المواقع تحت الأرض.

في وقتٍ مُتأخِّر من الصباح، ننزل إلى مجموعة من السلالم الحجرية، مُتحرِّكين بين مستويات المتاهة، إلى النقطة المُسمَّاة على الخرائط ببئر الجحيم.

تقول لينا: «هذا هو الجحيم. هذا ليس مكانًا سهلًا بأي شكلٍ من الأشكال.»

وتُشير إلى نفق منخفض يؤدي إلى الممر الرئيسي، وهو عبارة عن مَدخل أفقي ربما يصل ارتفاعه إلى قدمَيْن. تقول لينا: «مِنْ هناك. اذهب أنت أولًا يا روب. سيكون عليك الاستلقاء على ظهرك لتجتازه.»

أميلُ للخلف، وأمدُّ يدي أسفل منِّي وأمامي، وأتلمَّس حافة المَدخل بأصابعي، فأجتازه وأنظرُ لأعلى ثم أتوقَّف فجأة …

إنني في بئر رأسية وفوقي جدارٌ مُعلَّق من الطين والتراب، ربما بارتفاع عشرة أقدام، ومغروسة فيه مئاتُ العظام البشرية: جماجم، وضلوع، وأطراف. وفي جوف البئر بالأسفل، تُوجَد مئاتُ العظام الساقطة. إنها بُقعة حيث بدأت منطقةُ دفن تلفظ محتوياتها بالأسفل عبر تصدُّع في شبكة الأنفاق. كما أن الحجر الكلسي الخام الذي حُفِرت منه البئر يبدو أيضًا سميكًا بوضوح بفِعل الجُثث — حلزونات وأصداف لحلزونيةٍ تحجَّرت دون سحقها في رواسب الحجر الكلسي — وينتابني إحساسٌ مُفاجئ بأنَّ كلتا المَدينتَيْن، العلوية والسفلية، عبارة عن مدينة جنائزية واحدة. ذلك حيث تتقدَّم «مدينة الموتى زمنيًّا على مدينة الأحياء … إنها تُمثل بداية، وهي تقريبًا جوهر، كل مدينة حَية …»

يسحب كلٌّ من لينا وجاي نفسه تلوَ الآخر إلى داخل بئر الجحيم. وبعدها، نتجاذب أطراف الحديث قليلًا بينما نستمرُّ في اجتياز الممرَّات. العظام في تلك المنطقة من سراديب الموتى غزيرة. ولا يُوجَد نظامٌ للموت هنا: لا أسماءَ أو نُصب تذكارية، فقط مكان لاحتواء الجثث. من حينٍ لآخر، نمرُّ تحت بئر دائرية رأسية تتَّجِه لأعلى عبر صخر الأساس حيث يؤدي إلى غطاء مِطبق في الشارع. بعضُها به درجات سلالم. أتوقَّف لبرهة تحت إحداها ويُمكنني أن أرى ومضاتٍ بعيدةً من الضوء، وأسمعُ قعقعاتٍ خافتة عند تحريك الغطاء بفِعل وقع أقدام المشاة الذين يُباشرون أعمالهم في العالَم العلوي.

رأيتُ ذات مرة ألسنة اللهب تُومِض على مسافة بعيدة أمامنا في نفقٍ طويل وخالٍ من العظام. ولكن سرعان ما تختفي النيران فجأة. وقد رأتها لينا أيضًا؛ لكن عندما نصل إلى نقطة تلاشيها، لا نجد نفقًا جانبيًّا من الممكن أن تنعطف النيران داخله. تقول لينا على نحوٍ غير مؤكَّد: «لعلها مصابيح كاتافيل آخرين. وإن كنت لا أعرف أين عساهم قد ذهبوا.» ثم تبتسم. وتُردِف قائلة: «أو لعله شبح فيليبرت أسبيرت، الذي ضلَّ طريقه هنا بالأسفل في عام ١٧٩٣ ولم يُعثَر عليه إلا بعد أحد عشر عامًا. وجدوه ميتًا، بالتأكيد. ويُزعَم أنه أول مُستكشِفٍ حَضَري في العالم، وربما الأسوأ.»

•••

لعدة سنواتٍ قبل مجيئي إلى سراديب الموتى، كنت أتلمَّسُ طريقي إلى ثقافة الاستكشاف الحَضري الفرعية، وهكذا تعرَّفتُ إلى لينا. من الأفضل تعريف الاستكشاف الحضري على أنه اختراقُ البيئة العمرانية المُشيَّدة بُغية المغامرة. ومن بين شروط المشاركة فيه حُبُّ الأماكن المغلقة، وعدم الإصابة بالدوار، وامتلاك ذائقة للتعفُّن والتحلل، والانبهار بالبنية التحتية، والاستعداد لتسلُّق الأسوار ورفع أغطية المطابق، والإلمام بالقوانين المختلفة للتنقل عبر مختلف الولايات القضائية. من بين المواقع المُفضَّلة لدى المُستكشِفين الحَضريين ناطحاتُ السحاب، والمصانع والمستشفيات المهجورة، والمنشآت العسكرية السابقة، والمستودعات، والجسور، وشبكات صرف مياه العواصف. يحتاج المُستكشِف الجاد إلى أن يتقبل فكرة الجلوس على ثقل الموازنة لرافعة على ارتفاع ٤٠٠ قدم أعلى الشارع، أو التدلي على طول بالوعة مجاري تمتدُّ لعشرين ياردة تحت الأسفلت. يتجنَّب المستكشِفون الحَضريون العواصف الجبلية ومخاطرها. كما يجدون بُغيتهم من الإثارة في المواطن البيئية، ولا ضَير أن يكون عيدُ غطاسهم في الوحل. تنتشر الشائعاتُ حول نقاط الدخول التي يمكن الوصول منها إلى أماكنَ غير مرئية. فالأسرار مَحمية بكل حذر ويقظة، وتتم مشاركتها بعناية.

لكل ثقافة فرعية، الثقافات الفرعية الخاصة بها. فمِثلما يُفضِّل بعضُ المتسلقين الجرانيت على الحجر الكلسي، ويُفضِّل بعضُ مُستكشفي الكهوف الأنظمة الرطبة على الجافة، فإنَّ المستكشفين لديهم مجالات تخصُّصهم المختلفة؛ فهناك خبراءُ الملاجئ، ومُتسلِّقو ناطحات السحاب، والبنَّاءون، وعدَّاءو المضامير، و«عُمَّال المجاري». غير أن معظم المستكشِفين يبدءون من الأطلال؛ لأنها غالبًا ما تكون أفضل المواقع من حيث سهولة الوصول إليها، كما أنَّ العائد على الجوانب الجمالية الزهيدة — مثل التأسِّي على الأطلال المهجورة، والآثار المادية التي خلَّفتها الأحداثُ التاريخية الغامضة — يكون سريعًا، والذي عادةً ما يُحقِّقونه من خلال الصور الفوتوغرافية التي يلتقطونها. يحفر هُواة الأطلال الأماكن المهجورة والمُدمَّرة. كانت مدينة ديترويت قِبلة العالَم ومَحطَّ أنظاره فيما يخصُّ الأماكن المهجورة والمُدمَّرة، وأصبحت نسخةً بحجم مدينة من «الحظيرة ذات النصيب الأكبر من الصور الفوتوغرافية في أمريكا» لدون ديليلو، تكتنِفُها لقطات ضبابية من الصور الفوتوغرافية التي التُقِطت خلسة للأطلال (صور ثابتة عالية الدقة لقاعات الرقص والأفنية المُغبَّرة، مع تناثرٍ بارِع للحُطام في صدر الصورة، صور تُسلِّط الضوء على مئات مظاهر الأمل واليأس في تلك المدينة).

إنَّ الِاستكشافَ الحَضري ذو طابع دولي في جغرافيته، حيث ينتشر في مجموعاتٍ، وأطقم عمل، وفروع حول العالَم. هناك عددٌ مذهل من المُستكشِفات الإناث، والفئة الأساسية تكون مختلطة من الجنسين، حيث تنجذب إليه غالبًا الفئاتُ الساخطة والأقل امتثالًا للقانون. في بريسبان، أبحرَ المستكشِف المعروف باسم ديسانكت في باطن الأرض كما لو كان نسخة معاصرة من خارون، وذلك على متن زوارق صغيرة في الأنهار بضواحي المدينة، مُتَّبعًا تيارات المَد المتدفقة إلى أعلى عبر صِمَامات السحب المؤدية إلى المناطق المُجرَّدة للمدينة الفرعية. وفي كندا، اخترق مُستكشِفُ شبكة مواسير التنفيس التي تخدم محطة أونتاريو لتوليد الطاقة في شلالات نياجرا: أنفاق من الحديد المبرشَّم ذات مناسيب مياه هائلة، وأنابيب الضغط المملوءة بالمياه التي تُصَبُّ رأسيًّا من أرضياتها. وفي الحجر الرملي الأبيض أسفل مينيابوليس، تعمل فِرَق الحفر في نوبات عمل لفتح طرقٍ مؤدية إلى كهوف جديدة. وفي مدينة نيويورك، يركب المُستكشفون الحافلات ووجوههم مُلاصقة لزجاج النوافذ، من أجل المجاري الرئيسية والأنابيب الجانبية عبر منافذها على مستوى الشوارع، حيث يرسمون الخرائط في مُفكراتهم أو أجهزتهم اللوحية أثناء تنقلهم. وفي مدريد، يتتبَّع عُمَّال المجاري اختفاءَ التيارات والجداول عند وصولها إلى حواف المدينة وجريانها للأسفل.

يأتي في طليعة الاستكشاف الحضري المُتسلِّلون والمُستكشِفون «الحقيقيون»، الذين تستحثهم الأنظمة والشبكات أكثر من المواقع الفردية، والذين يُقدِّرون التحدي المتضمَّن في الوصول إلى المواقع الفائقة التأمين. وعلى غرار المُتسلقين الجامحين، فإنَّ المتسللين يختبرون ما أسمَاه أل ألفاريز «إطعام الجرذ» في مقالته الكلاسيكية عن التسلق والخوف. إنهم مهووسون، ويُطوِّرون رؤية نفقية. إنهم يجتازون المسارات في الفجوات القصيرة بين القطارات، ويُجدِّفون بالزوارق في مصارف العواصف، ويركبون الأمواج باستخدام المصاعد ويقفزون بين المصاعد المُتحركة، وفي بعض الأحيان يَلقَون حتفهم جرَّاء ذلك. وفي صوره الأكثر ارتباطًا بالسياسة، يفرض الاستكشافُ الحضري نفسه كعملٍ راديكالي من أعمال العصيان والتحرير، مثل الاحتجاج على القيود التي تفرضها الدولة على الحرية داخل المدينة. ومثلما سعى علماءُ الجغرافيا النفسية، في الرؤية الأصلية للموقفية الباريسية لجاي ديبورد، إلى اكتشاف الدهشة على أرض المألوف عن طريق الخروج من أخاديد السلوك الذي يُحدِّده رأسُ المال، يعرض المُستكشفون الحَضريون المُسيَّسون تجاوزاتهم باعتبارها نشاطًا «يُعيد تشفير علاقات الناس التطبيعية بأرجاء المدينة.»

هناك جوانبُ من الاستكشاف الحضري تجعلني أشعر بعدم ارتياح عميق، ولا يمكن صَدُّه من خلال الإيماءات التعويضية للوَعي الذاتي، وذلك من قِبَل ممارسيه. ولا تروق لي أجواؤه من تفضيل ما هو حديث، وعدم الاهتمام بهؤلاء الأشخاص الذين تتضمَّن حياتهم العملية بناءَ هذه الهياكل الخفية للمدينة، وتشغيلها، وصيانتها، وليس استكشافها. وأنظرُ بعين الريبة إلى الطبيعة المُتأنقة لثقافته التصويرية، التي يبدو في الأغلب أنها تعيد التركيز على إشكاليات لوحة كاسبر ديفيد فريدريش الشهيرة لعام ١٨١٨ «متجوِّل فوق بحر من الضباب». وأشعرُ كذلك بعدم الارتياح من أن الاستكشاف الحضري يمكن أن يهيئ المناخ لفقدان الإحساس بالأشخاص الذين ليس لديهم خيارٌ سوى العيش في إطار من الهجر والدمار.

ومع ذلك، فقد اضطرتني مظاهرُ أخرى من الثقافة الفرعية إلى قضاء فتراتٍ متزايدة من الوقت مع أولئك الذين يُعرِّفون أنفسهم بأنهم مُستكشفون، ومن ثمَّ بدأتُ ذلك بحذر. وقد تأثرتُ على وجه الخصوص بالمنهجية الجنونية لأكثر ممارسات المستكشفين، التي يكرِّسونها للكشف عن «الصندوق الأسود للبنية التحتية» و«الألياف المُظلمة» للتبادل المعلوماتي الحديث. أحببتُ وَعي الاستكشاف الحَضري بمسامية نسيج المدن، وانتشار البوابات، والصدوع والانجرافات التي أدركَها، وكذلك تصوُّره للمدن الفرعية — مثل الأراضي السفلية الطبيعية — بوصفها مساحاتٍ موجودة في تدفق بطيءٍ وطويل الأمد. وأذهلني أسلافُ الاستكشاف الحضري فيما قبل العصر الحديث، والطرُق التي تداخلوا فيها مع قصص الفقر والأمل داخل المدن: جامعو الطَّمي والمجاري في العصر الفيكتوري، على سبيل المثال، الذين جابوا الأنفاق ومخارج التصريف لنظام الصرف الصحي في لندن، حامِلِين مصابيحهم عاليًا في الرائحة الكريهة، ومُغربلين الأسنان الذهبية وأقراط اللؤلؤ من الروث.

يبدو أنَّ الشاعِر وعالِم الطبيعة إدوارد توماس بعيدٌ للغاية عن الاستكشاف الحضري، بَيد أنني اكتشفتُ ذات يوم فقرةً من مقالٍ يرجع إلى عام ١٩١١ تخيَّل فيه توماس لندن مكانًا مهجورًا حيث أطلق لنا العِنان للتجول بِحُرية عبر البنية التحتية للمدينة، فوق الأرض وتحتها. كتبَ توماس بتباهٍ مُبغِضٍ للبشر: «ستُصبح لندن بعد هجرها مكانًا أكثر جاذبية. يروقني التفكير فيما سيفعله الغموضُ الذي يُحيط بالآبار، والأنابيب، والأنفاق والأقبية — ويا له من مكانٍ للاستكشاف!»

•••

في وقتٍ مُبكر من بعد ظُهر ذلك اليوم، تقودنا لينا إلى قبوٍ غيرِ مسموح لي بالكشف عن اسمه وموقعه.

نركل الجدار، واحدًا تلوَ الآخر، عبر مصراعٍ عالٍ، ونجد أنفسنا رابضين في منطقة صحراوية. الأرضية عبارة عن كثبانٍ رملية مُتدحرجة من الرمل الحصوي، الذي اندمج معًا في شكلٍ مضغوط وتصلَّبَ على مَرِّ القرون.

في بعض الأماكن، ترتفع الكثبانُ الرملية مُقتربةً من السقف. وفي أماكن أخرى تبلغه. وفي أماكن ثالثة تنخفض تاركةً مساحاتٍ للزحف على ارتفاع قدمَين، وهو ارتفاعٌ كبير بما يكفي للسماح بمرور إنسانٍ واحد. ومن حيث نربض، هناك سبعة أو ثمانية طرُق مُحتمَلة تمتدُّ بعيدًا عنا، وكلٌّ منها بِدَوره ينقسِم ويتفرَّع مُبتعدًا عن الآخر. إنها متاهة خطيرة، وتُذكِّرني بِحزَمِ الجلاميد المُتجعدة تحت المنديب. غير أنه لا يُوجَد هنا خيطٌ أريادني يُمْكننا تتبُّعه.

إنَّ لينا مُفعمة بالنشاط والجِديَّة على نحوٍ بالغ. إنها تُخاطبنا قائلة: «سنترك حقائبنا هنا. فمن المُستحيل التحرك بها في المكان الذي سنذهب إليه. اتبعاني.»

زحفت على بطنها على طول الكثبان الرملية، مُتجهةً إلى واحدةٍ من مساحات الزحف على اليمين. زحفتُ أنا وجاي وراءها، مُستخدِمَين يدَينا وقدَمَينا للمضي قُدمًا، زاحفَين لأعلى وفوق مَمرٍّ في الكثبان الرملية حيث لا تُوجَد سوى مساحة لتمرير رأسي بين الأرضية والسقف. ومِن ثمَّ، أحاولُ التحرك بسرعةٍ كافية حتى لا يغيب حذاء لينا عن ناظري.

ثمَّة مرتفع آخر من الكثبان الرملية يُقرِّبنا أكثر إلى السطح، وأشعر بجمجمتي تكشط على الصخر وأنا أشقُّ طريقي، وأُمِيلُ رأسي بالجانب لكي تَمُرَّ، ووجهي مضغوط في الرمل الحجري. تتوقف لينا للتفكير في مُلتقًى واحدٍ فقط من الطرق، ثم نشق طريقنا زاحفين كالأفعى لمدة عشر دقائق، حتى ينحدِر أحد الكثبان بعيدًا إلى حفرة سوداء على شكل أرنب، والتي دلفنا إليها برءوسنا أولًا.

أخرجُ فجأةً من هذه الحفرة لأجِدَ نفسي داخل غرفةٍ من غرف العجائب.

إننا في غرفةٍ على شكل مُتوازي مُستطيلات، يبلُغ طول كل رأس من رءوسها حوالي اثني عشر قدمًا. جدرانها من الحجر الأصفر الأملس، وأرضيتُها مجروفة على نحوٍ غريب وخالية تمامًا اللَّهم إلا من سُلَّمٍ من الحجر غير عريض، والذي يمتد إلى خارج الجدار البعيد كما لو كنا نقترب من مَعبد مُدرَّج. وقد وُضِعَت علامة على كل درجةٍ من درجات السُّلَّم على الجانب عبارة عن كتابة سوداء بخطِّ اليد. وفي منتصف كل درجةٍ من درجات السُّلَّم تمامًا، تُوجَد عينةٌ من الحجر، أو الكريستال، أو المعدن، كلٌّ منها بلَونٍ مُختلف: الحجر الرملي الأبيض، والحجر الرملي الأصفر، والكوارتز، والحجر الكلسي.

تبدو لينا فخورةً عن حقٍّ بعثورها على الغرفة ونجاحها في أن تُرينا إيَّاها. تقول: «هذه نسميها …» ثم تُردِف قائلة: «تُوجَد أمثلة أخرى على غرف مماثلة منتشرة عبر المتاهة، إلا أن هذه هي أفضلُها، وأقلُّها شُهرة أيضًا.»

إنَّها إحدى الحجرات الخاصة بعِلم المعادن؛ وهي غرفة تدريس ترجع إلى الفترة التي كانت فيها سراديب الموتى جزءًا من مَبنى مدرسة باريس للمناجم. لم تطأ قدمٌ الغرفةَ تقريبًا منذ إغلاقها في وقتٍ ما في أوائل القرن العشرين. يتَّسِم هيكل الغرفة بالصرامة، بينما نُظِّمت العينات بعنايةٍ دقيقة وفق طقوسٍ مُعيَّنة، حيث وُضِعت كلٌّ منها على درجة خاصة بها ممسوحة جيدًا.

نجلسُ لبرهةٍ في حجرةِ عِلم المعادن. نأكل، ونشرب، ونرتاح، ونتحدَّث. تروي لينا قصصًا عن استكشافاتها في المدينة الرأسية. وتصفُ تَسلُّق إحدى مداخن محطة باترسي للطاقة، ثم الخروج من المحطة عبر نظام أنفاقٍ تحت الأرض، حيث خرجت منه لتجد نفسها فجأة وسط معرض تشيلسي للزهور، مُتَّسِخةً ومشدوهةً وسط الدريقات.

إنَّ أُمنية لينا الكبرى كمُستكشِفة هي دخول سراديب الموتى في أوديسا. أوديسا مدينة، مثلها مثل باريس، مبنية على الحجر الكلسي، وتحتوي على المحاجر شبه الحضرية الأوسع نطاقًا في العالَم. وتُشكِّل مدينةَ أوديسا غير المرئية أنفاقٌ يبلُغ طولها حوالي ١٥٠٠ ميل، وتمتدُّ على عُمق ١٦٠ قدمًا على ثلاثة مستويات. لقد رأيتُ خرائط لمتاهة أوديسا. وهي ذات مظهر ارتجالي يجعلها أكثر شبهًا من شبكة الأنفاق الباريسية بكائن حي أو كائنات حية، وربما يُعزى ذلك إلى البنية المُتفرِّعة للشعاب المرجانية. عندما كان الألمان يُضيِّقون الخناق على أوديسا ويُهاجمونها خلال الحرب العالمية الثانية، تركَ السوفييتُ وراءهم الجماعات المُتمرِّدة الأوكرانية التي اختبأت أسفل المدينة في سراديب الموتى. ظلَّ بعضٌ من هذه القوات المُتخلِّفة تحت الأرض لأكثرِ من عامٍ عانوا خلالها سوءَ التغذية، والملاريا، ونقص الفيتامينات، وكانوا يَخرجون أحيانًا إلى السطح تقصِّيًا للمعلومات أو لِشَنِّ الهجمات. لَعِبَ المُحتلون والجماعات المتمردة لعبة القط والفأر؛ إذ هاجم الألمان أنظمة الأنفاق بالغازات والقنابل في محاولةٍ منهم لقتل الأوكرانيين. وبعد الحرب في أوديسا، انتقل العالَم السفلي إلى هذه الأرض السفلية، ووسَّع المُهرِّبون والمجرمون نطاقَ الشبكة لأغراضهم الخاصة.

تقول لينا: «إنَّ أنفاق أوديسا تجعل أنفاقنا هنا في باريس تبدو وكأنها استعراضٌ ثانوي. لكن الوضع خطير هناك. لا سيَّما بالنسبة إلى امرأة. هناك قصصٌ مزعجة حول ما يمكن أن يحدث هناك، وما حدث بالفعل. هناك بالتأكيد جرائم قتل؛ إذ تقع على الأرجح حالة وفاة واحدة على الأقل من مُجرد أنهم ضلُّوا الطريق.»

يروي جاي قصة مشاركته ثلاثةً مِن مُستكشفي الكهوف المبتدئين في آجي، وهو نظام كهفي في ويلز، يبدأ المَدخل المؤدي إليه بصَدعٍ طويل مشهور، وهو ضيقٌ للغاية حتى إنه يكاد يكون من المُستحيل لأي شخصٍ يدخله الالتفاتُ أو اجتيازه بواسطة شخصٍ آخر. يقول جاي إنه في ذلك اليوم علقت إحدى المُبتدئات في الصدع، وانتابتها حالة من الذعر. كان اسمُها لونا، وكانت امرأةً ذات نفوذٍ مِهني، تُمارس عملها من قبوٍ تحت شارع بيكر.

يقول جاي: «لقد افترضتُ، بالنظر إلى وظيفتها اليومية، أنها كانت مُستريحة في مَحبسها في هذا الحيز تحت الأرض. لكن لم يكن الأمر كذلك، حسبما اتَّضح. واستغرقَ الأمرُ ثلاثَ ساعاتٍ لإنقاذها. لم أستطِع المرور بجانبها، ومن ثمَّ خرجتُ من النظام بطريقةٍ أخرى، ثم عُدتُ أدراجي على طول الصدع بحيث أتمكَّن من التحدُّث إليها وجهًا لوجه، وتهدئتها، ومساعدتها في اكتشاف طريقةٍ لتحرير نفسها ومُواصلة المضي قُدمًا. ثم اضطررتُ إلى التحرُّك بنفسي إلى أسفل الصدع، في الاتجاه المعاكس، مع الحرص على مواصلة حديثها معي طوال الوقت. شتَّتُّ انتباهها بالسؤال عن تفاصيل قائمة أسعار قَبْوِها. واكتشفتُ أن ثمة مجموعةً متنوعة وجديرة بالاهتمام من الخدمات تُقدَّم بالأسفل هناك.»

تقول لينا بحِدَّة: «يكفي هذا. لدينا موعدٌ علينا اللحاق به في قاعة العَلَم.»

•••

كان من بين الأشخاص الذين عَرَّفني بهم الاستكشافُ الحضري شخصٌ من كاليفورنيا يُدعَى برادلي جاريت. رأى برادلي عددًا من المدن الرأسية والمسامية أكثر من أي شخصٍ آخر عرفتُه. ووفقًا لما رآه، كانت المدينة مليئةً بالبوابات — فتحات الخدمات، والمداخل المُوصَدة، وأغطية المطابق — التي تقبع مُتوارية عن الأنظار. ولم تكن القيود المعتادة على الحركة الحضرية، التي تفرضها الحواجز المادية أو المنع القانوني أو المفاهيم الداخلية لحقوق الملكية، تُمثِّل تقييدًا لبرادلي. فقد رأى أن المساحة التي يمكن الوصول إليها في المدينة تمتدُّ لمسافةٍ بعيدة أسفل الأرض (المجاري، والمخابئ، والأنفاق)، ولمسافة بعيدة كذلك في الهواء (ناطحات السحاب، والرافعات)، حيث لا يعدو مستوى الشارع أن يكون أكثر من مجرد منسوبٍ مُتوسط ورتيب إلى حدٍّ ما.

التقينا لأول مرةٍ في وقتٍ مُبكر بعد ظهر أحد الأيام عند جسر لندن. كان برادلي يرتدي نظارة سوداء ذات إطارٍ كثيف، وكانت له لحية صغيرة وشارب، وشعر بُني غامق يصل إلى ذقنه، ربطه خلف رأسه على هيئة ذيل حصان. وكان في حديثه يجمع بين أفكار أهل الحَضر المتأنِّقين في الساحل الغربي والتركيب المُعقَّد للنظرية الثقافية. قال وهو يضغط بقدمه على فتحة مرافق مصنوعة في الرصيف عند حوالي ثُلثي الطريق على طول الجسر: «إن جسر لندن أجوف، مثل كل الجسور الكبيرة.» ثم يُردِف: «هناك غرفة تَحكُّم في الطرف الشمالي؛ إذ يمكنك عبور نهر التيمز داخل الجسر في حال الدخول فيها. الأمر مُمتع للغاية. تعالَ، سأُريك.»

في الطرف الشمالي، قفزْنا من فوق بوابةٍ حديدية مُنخفضة ونزلنا سُلَّمًا قادنا إلى أسفل جانب الجسر. وفي جانب الجسر، كان هناك بابُ أمانٍ فولاذي عليه قفلٌ أصفر ثقيل. بدا البابُ كما لو أن بإمكانه تَحمُّل هجومٍ بالسيف الضوئي، ووُضِعَ عليه العديدُ من الإشعارات التي تحظر الدخول بوضوح. سحبَ برادلي حلقة مفاتيح من جيبه، وتمتَم لنفسه وهو يفرزها واختار مفتاحًا؛ ثم اتَّكَأ مُقتربًا وفتح القفل مُحدِثًا صوتَ طقطقة. قادني بالداخل وأغلقَ الباب مع صريرٍ خافت خلفنا.

قلتُ: «يا لها من مجموعة مفاتيح تلك التي معك.» أضاءَ برادلي مصباح رأسٍ. كنا في غرفة تَحَكُّم مِن نوعٍ ما. فتحات الزنك، والمجاري، والأسلاك المُتعدِّدة الألوان المربوطة بوصلاتٍ من الكابلات تمتدُّ إلى خارج الغرفة على طول حيز الدلوف. ولوحتا تحكُّم مُثبَّتتان في الجدار، وبهما مفاتيحُ تناظُرية وأقراصٌ دوَّارة.

قال برادلي: «حسنًا، إذا اتَّبعتَ هذا المجرى جنوبًا للخروج من هنا إلى أسفل حيز الدلوف، فستكون داخل الجسر تمامًا. وإذا واصلتَ التقدُّم على طول الطريق فوق النهر، فستصل إلى غرفة تَحكُّم أكبرَ بكثيرٍ في الطرف الجنوبي. اضغط على مزلاج مَخرج الطوارئ هناك من الداخل، وسيُمكنك إدخالُ مَن تريد. عندما صنعنا فيلمًا حول الاستكشاف منذ بضع سنواتٍ مضت، باسم «كراك ذا سيرفيس» (شَقُّ السطح)، كان ذلك هو مكان عرضه الأول. كان لدَينا ستة وثمانون شخصًا، ومُولِّد، وشاشة، وجهاز عرض، وكمية كبيرة من البيرة، كان حفلًا رائعًا!» تَراجَعْنا إلى الخارج وحُبِسَ برادلي في الداخل. رمقَنا رجُلان عابران يرتديان سُترتَيْن بنظرةِ ذهول، لكنهما استمرَّا في طريقهما.

بدأ عصيان برادلي للقواعد المُعتادة في وقتٍ مبكر. فقد نشأ في حيٍّ قاسٍ في لوس أنجلوس، وتلقَّى طعنةً في بطنه عندما كان مُراهقًا. ذلك حيث قال: «لقد جعلتني تلك الطعنة ناضجًا.» وأضافَ قائلًا: «فقد أنقذَتْني مِن المتاعب على نحوٍ غريب. جعلتني أتوق للخروج من تلك الشوارع إلى مكانٍ أكثرَ انفتاحًا.» في عام ٢٠٠١، عندما كان في التاسعة عشرة من عُمره، شاركَ في تأسيس متجرٍ لألواح التزلُّج في مدينة ريفرسايد. ثم باعه إلى شريكه بعد ذلك بعامَين، واستثمر الأموال في دراسة عِلم الآثار البحرية في أستراليا. وعاد بعد ذلك — في بحثه الدءوب عن مساحة فارغة — إلى شمال كاليفورنيا وبدأ العمل في مكتب إدارة الأراضي في الولايات المتحدة، حيث تخصَّص في التراث الأثري للأمريكيين الأصليين. ثم انتقل إلى المكسيك، حيث قضى فصلَ الصيف على مدى ثلاث سنوات كعالِم آثار مُنقِّبًا عن قريةٍ ترجع إلى ما بعد العصر الكلاسيكي، وخيَّم على حافة سينوتي، وهو أحد المجاري الغارقة القابعة في الحجر الكلسي الطبيعي في الأرض السفلية للمكسيك.

قال برادلي ونحن نسير عبر لندن: «كم كان مكانًا رائعًا للعيش فيه يا روب. كانت الخفافيش تجيء من السينوتي مُتدفقةً بالمئات عند الغسق كلَّ ليلة، وترجع متدفقة قبل الفجر بقليل. كان ضجيجُ أجنحتها القوي يُعرِّفني بالوقت. كان السكان الأصليون المحليون يرَون ذلك السينوتي على أنه نقطة وصول إلى عالَم المايا السُّفلي، إلى الشيبالبا. في لغة المايا، تعني الشيبالبا «مكان الخوف». إنَّ العالَم السُّفلي للمكسيك، الذي يتكوَّن بأكمله من الحجر الكلسي، منطقة تعبُّدية ضخمة. فهناك بالأسفل، حيث ارتفعت مناسيبُ المياه، تسبح أحيانًا عبر المذابح الغارقة، وهي عبارة عن مداخل تؤدي إلى غرف دينية حُفِرَت في الحجر.»

وصفَ لي برادلي الشيبالبا كما هي مُصوَّرة في أساطير المايا لدى شعب الكيتشا. وحتى ضمن السياق الأوسع نطاقًا لمناطق التعذيب في العالَم السُّفلي التي وردت في الأساطير، بدت الشيبالبا عالَمًا وحشيًّا قاسيًا. فقد كانت مزوَّدة بأعداد كبيرة من العاملين الأشرار الذين يحملون أسماءً مثل «الجرب الطائر» و«الشيطان الطاعن». ولمجرد الوصول إلى الشيبالبا، كان عليك عبور نهرٍ مليء بالعقارب، وآخر مليء بالدم، وثالث مليء بالصديد. وإذا كنت محظوظًا بما يكفي للوصول إلى ذلك الحد، فسوف تدخل بعد ذلك إلى بيوتِ الِاختبار الستة المميتة، التي تشمل «بيت الخفافيش» المليء بالخفافيش الآكِلة للحوم، و«بيت الشفرات» المليء بالشفرات المتحركة بنهج غير مُتوقَّع، و«بيت النمر المُرقَّط».

قال برادلي: «يمكنك على الأرجح تخمينُ ما كان يملأ ذلك البيت.»

بعد المكسيك، انتقلَ برادلي إلى لندن، حيث تجوَّل عبر الحدود النظامية إلى داخل الجغرافيا الثقافية. وأثناء دراسته لنَيْل درجة الدكتوراه، أصبحَ مفتونًا بالاستكشاف الحضري، وقرَّر أن يتبحَّر في ثقافته الفرعية من منظور أبحاثه في علم الإنسان التطبيقي. ولم تكن طريقة بحثه لترَى النورَ إن لم تدخل حيِّز التنفيذ. ومن ثمَّ، أمضى أربعَ سنوات مُلازِمًا لمجموعة من المُستكشفين المُقيمين في لندن، الذين لم يعرفهم الناسُ قط سوى بأسماءٍ مستعارة (باتش، ونش، مارك إكسبلو)، والذين تعلَّم معهم استخدامَ الحبال، وزار مواقع الصعود والهبوط الأثرية في لندن، بما في ذلك محطة باترسي للطاقة، ومطاحن الألفية، ونهر الأسطول الجوفي.

بعد عامَين، دمجت مجموعة برادلي جهودها مع فريق استكشاف آخر لتشكيل طاقم لندن المُدمَج، الذي سرعان ما اشتهر بجرأة مآثره وتميُّزها بالطموح. زادت كثافة نشاطهم ونما الفضول داخلهم، والذي كان يتغذَّى بانتظام على الأدرينالين. في ذلك الوقت، شاركَ برادلي في أكثر من ٣٠٠ حدث من التجاوز والتعدي في ثمانية بلدان. في أمريكا، صعدَ ناطحة سحاب في شيكاغو وسط إحدى العواصف، والتقط صورًا مذهلة لمدينةٍ تغمرها سحابةٌ سوداء وضوءٌ أزرق، في وجود صواعق البرق المتصدعة أسفل السُّحب إلى بحيرة ميشيجان. وفي صحراء موهافي، وصلَ إلى ساحةٍ للطائرات التي خرجت من الخدمة، وتسلَّق فوق الأسلاك الشائكة للدخول، ثم اختبأ في معدات الهبوط لطائرات بوينج ٧٤٧ وناقلات الحمولات العسكرية أثناء مرور الدوريات الأمنية. قال بسخرية: «لقد كانت ساحة واسعة وليلة طويلة.»

في البداية كان موقفي تجاه برادلي مُتشككًا إلى حَدٍّ ما. ولكن كلما تعرَّفت إليه أكثر، زاد حُبي وإعجابي به. لقد اجتاز العديدَ من المصاعب في الحياة واجتاز ما هو أعمق. كان كريمًا، ولا يمكن توقُّع أفعاله، ولا يعرفُ الخوف، ومُخلصًا، وتتميَّز صحبته بكثيرٍ من المرح.

وخلال ما تبقى من ذلك اليوم الذي قضيتُه مع برادلي في لندن، تجوَّلنا في أغلب الوقت في المدينة غير المرئية في العاصمة. دخلنا شبكة الأنفاق البخارية التي تمتدُّ أسفل باربيكان. ورفعنا غطاء المطبق لننزل إلى مجرى الأسطول، وهو أحد الأنهار الجوفية المُسمَّاة في لندن ﺑ «أنهار الأشباح»، بغية الوصول إلى غرفة الأسطول، وهي إحدى البنيات البازالجيتية بالقُرب من مصبِّ النهر في نهر التيمز. وفي حديقةٍ شمالي لندن، زحفنا تحت السياج، وأزحنا غطاءً حديديًّا ثقيلًا لتظهر أمامنا بئرٌ في العشب، ثم نزلنا سلَّمًا أسود صدئًا يؤدي إلى الظلام.

عند مسافة عشرين قدمًا بالأسفل، أشعلنا مصابيح رءوسنا، وأطلقنا صفيرًا من دهشةِ ما رأيناه. امتدَّت عشراتُ الممرات المُقوَّسة المَبنية من الطوب في سلسلةٍ على مسافة بعيدة منا، وتخلَّلتها منحدراتٌ ذات درجاتٍ واسعة من المياه الراكدة. ساعدت الأشكال المكرَّرة للممرات المقوَّسة وانعكاسات المياه، على توهُّم وجود ارتداد لا نهائي. فارتدت لنا أصداءُ همساتنا. كنَّا قد دخلنا خزانًا يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر، والذي بُني ليكون بمثابة خزان مياه لمدينة لندن ولكنه الآن جفَّ ليُصبح شبه فارغ تقريبًا. لا تزال البِنيات التي كانت يومًا ما مُغطاةً بالماء سليمة لم تُمَس، وكان الطوب نظيفًا كما لو كان قد بُنيَ بالأمس. كان يحمل طابعًا عمليًّا أنيقًا على غرار البنية التحتية الأساسية في العصر الفيكتوري، وكان جميلًا في طرازه على غرار الصهاريج الرومانية في ميسينوس أو صهريج البازيليكا في اسطنبول.

مشينا من طرف الخزان إلى طرفه الآخر ومن جانبٍ إلى آخر، وأصواتنا تُجلجل. وفوقنا في الظل أقبية السقف مُعلَّقة، وقد شُيَّدت من عشرات الآلاف من قوالب الطوب الأصفر البُني. وعند الطرف البعيد من الخزان، جلسنا لبعض الوقت. جلسَ برادلي يُدخن وشغَّل مقطوعة من موسيقى درَم آند بيس تُسمَّى «ستريستيست» (اختبار الضغط النفسي)، التي كانت تدوي في الطوب. خرجنا قبل منتصف الليل تمامًا. كانت هناك غيومٌ مُتفرقة، صنعت أسفلها أضواءُ المدينة إضاءةً خافتة باللونَين الوردي والبرتقالي، وبينهما كانت النجومُ مرئيةً للعيان. تحرَّكت ثلاثةُ أشياءَ ببطءٍ عبر الأشجار إلى الجانب الشرقي مِنَّا، ماسحةً العُشب بأشعة صفراء بحثًا عن شيء ضائع.

بعد هذا اليوم الأول الذي قَضيناه معًا، أصبحتُ أنا وبرادلي صديقَين مُقرَّبَين. سعيه وراء عددٍ من «محطات الأشباح» في أرض لندن السفلية، وما تطلَّبه ذلك من اختراق المسارات والطرق، بالإضافة إلى عددٍ من الأحداث الأخرى، وضعتُه في مرمى بصَر شرطة النقل البريطانية، التي قرَّرت أن تجعل منه عبرةً لتشجيعه للآخرين على فعل ذلك. ألقَوا القبضَ عليه وفتَّشوا شقَّتَه، وصادروا أجهزة الكمبيوتر والهواتف الخاصة به، وفي النهاية، حاكموه بتهمة التآمُر لارتكاب جرائم ضد الممتلكات. وكنت شاهِدَ سلوكٍ في مُحاكمته، التي اختُتِمت بمنح برادلي إطلاق سراحٍ مشروطًا وعدم توجيه أي تُهَم أُخرى إليه، وهو ما أسفرَ عن كارثة علاقاتٍ عامة لشُرطة النقل، فضلًا عن التكاليف القانونية الكبيرة نسبيًّا التي تكبَّدها الممولُ الضريبي.

قمتُ أنا وبرادلي بعددٍ من الرحلات الاستكشافية معًا، وفي أثناء التخطيط لهذه الرحلات، تُواصَلْنا عبر البطاقات البريدية، على أساس أن هذا الشكل العلني للمراسلات — الذي يمكن لأي شخصٍ يعنيه أمر بطاقاتنا البريدية أن يقرأه — كان أكثر طريقة آمنة للتواصل، نظرًا لاهتمام السلطات ببرادلي. فلا تُوجَد وكالةُ أمنٍ لا تزال تفتح الرسائل أو تقرأ البطاقات البريدية للأشخاص؛ إذ إنهم يهتمُّون بدلًا من ذلك بمراقبة الرسائل النصية، ومحادثات واتس آب، والتلصُّص على رسائل البريد الإلكتروني التي يتم من خلالها التقاطُ حزم البيانات المارة بالشبكات.

إنَّ السفر مع برادلي قد عمَّق وعزَّز إحساسي بالمشهد الطبيعي، والبيئة الحضرية على وجه الخصوص. وجدْنا طريقنا إلى العديد من المواقع والأماكن الغريبة. وبالإضافة إلى روح المغامر العنيد، فإن برادلي لدَيه أيضًا اهتمامٌ بعالَم الآثار بأشكال تقادُمه المُعاصرة، واهتمامٌ بالتأريخ الطبيعي فيما يخصُّ كيفية عودة البَرِّية إلى الأماكن المهجورة.

في إحدى الليالي، انطلقنا لتسلُّق جسرٍ ناقلٍ في نيوبورت، حيث صعدنا سُلَّم الإمداد ثم خرجنا ببطءٍ على طول كابلاته التي في سماكة الجذوع والمُصطفة فوق النهر المُظلم. صعدنا بوابةً حديدية مع مُستكشِف شاب يُسمي نفسه دارمون، وقد تخصَّص في دخول المواقع ذات التأمين العالي في مناطقَ فائقة الخطورة تحت الأرض، بما في ذلك روسيا والصين، وتعرَّض للضرب على يد السلطات في كِلا البلدَين، وكان مصدر اهتمامه وشغفه بالأرض السفلية للعملات المعدنية الرومانية هو والِده، الذي كان مُزارعًا يحرث حقوله على ضفاف منابع التيمز عندما كان دارمون طفلًا. كان ارتفاعُ البوابة اثني عشر قدمًا، وصلنا بعدها إلى أطلالٍ تسكنها الغربانُ لقلعةٍ مهجورة تنتشر عبر عدة فدادين في جانب التل فوق البحر الأيرلندي وتعود إلى العصر الفيكتوري. اعتدنا في هذه الرحلات النومَ في العراء، تحت السياج أو المقطورات الزراعية، أو كُنَّا نكتفي أحيانًا بعدم النوم على الإطلاق. وهكذا جئتُ لأقضي وقتًا بعيدًا مع برادلي، ومع مُتعة الإثارة والتشويق، والكحول والإجهاد الشديد.

في إحدى رحلاتي مع برادلي، ذهبنا إلى مناجم الأردواز المهجورة في وادي ميد ويلز. وصلنا إلى المنجم من خلال مَدخل ضيِّقٍ قادنا إلى قمة جرفٍ محفور. علَّقت حبلًا علويًّا في الظلام، ونزلنا أسفل الجرف حتى قاعدته. ومن هناك، دخلنا نفقًا لنخرج منه إلى قاعدة غرفة كبيرة مغمورة بالمياه. كانت المياه السوداء ترتطم بالأردواز عند أقدامنا، ومن مسافة سبعين قدمًا فوقنا عبر فتحة في الصخر، تسلَّل شعاعٌ عمودي من ضوء الشمس الذهبي إلى داخل الغرفة كشعاع بشارة مُقدَّسة.

ولكن كان شعاعُ الشمس الخادع ذلك أبعد ما يكون عن كونه مُقدَّسًا؛ ذلك أنه عبر الفتحة نفسها التي سمحت بدخول الضوء، وعلى مدار أكثر من أربعين عامًا منذ إغلاق المنجم، تحطَّمت المئاتُ من السيارات. حيث إن أجيالًا من السكان المحليين الذين كانوا يتطلعون إلى التخلُّص من المركبات الفانية دون دفع رسوم تخريد، قادوا سياراتهم أعلى التل وعبر هذه الفجوة.

وكانت النتيجة هي انهيار كتلة من الشاحنات والسيارات في مُنحدرٍ مُميت من الحطام، الذي سقطَ في الغرفة واستمرَّ في الماء الأسود بقدرِ ما يمكن أن نرى. كانت السيارات الأقدم هي الأبعد مسافةً بالأسفل؛ وفي الطبقة الدنيا، كانت هناك سيارة «كورتينا» زرقاء مُنتصبة تمامًا فوق الركام كنهرٍ جليديٍّ غريبِ الأطوار، وشكَّلت محورها ونقطة الاسترخاء الحرجة لها سيارة «تريامف هيرالد» بلون الحزازيات الخضراء.

•••

كانت المرة الوحيدة التي تملَّكني فيها الخوفُ حقًّا في سراديب الموتى في باريس عندما اقتربنا من قاعة العَلَم.

بحلول الوقت الذي اقتربنا فيه من القاعة، كانت المدينة العُليا تستقبل أولَ خيوط المساء. على السطح، يغادر الناسُ مكاتبهم، عائدين إلى منازلهم عبر الشوارع التي يكسوها الغسق، مُستقلِّين القطارات والحافلات، ومُتوقِّفين لتناول المشروبات في الحانات.

نزلنا إلى المدينة غيرِ المرئية، حيث اتَّجهنا إلى الشمال الغربي على طول نفقٍ بلا انعطافاتٍ جانبية، وذي سقفٍ آخِذٍ في الانخفاض. مشيتُ برقبةٍ مُنحنية، ثم كتفَيْن مُحدَودِبَتَيْن، واضطُررتُ بعد ذلك أن أحني خصري، ثم أخيرًا جثوتُ على رُكبتيَّ ولم يكن في وسعي سوى الزحف إلى الأمام.

تقدَّمَتْني لينا، وكان النفقُ أمامي يضيق — فيما يبدو — إلى نهايةٍ مسدودة. انتظرتُ أن تعترف لينا بأنها قادتنا في النهاية إلى الطريق الخطأ.

ولكن لينا لا تنبس ببنت شفة. يُومِض اصفرارُ الحجر الكلسي أمامنا في ضوء مصباح يدِها. تخلع حقيبة ظهرها عن كتفيها، وتدفعها خلفها، وتعقد أحد أربطتها حول أحد كاحِلَيْها، ثم تُمرِّر رأسها أولًا إلى ما يُمكنني أن أرى الآن أنه فتحة صغيرة في مستوى الأرضية، ربما بارتفاع ثماني عشرة بوصة، حيث اعتقدتُ أنَّ النفق قد انتهى.

يرتجفُ قلبي بسرعةٍ ويجفُّ حلقي على الفور. وجسمي يأبى الدخول عبر هذه الفتحة.

تقول لينا بصوتٍ خافت: «ستحتاج إلى سحب حقيبتك مع أصابع قدمَيك هنا.» ثم تُردف: «ومن الآن فصاعدًا لا تصرخ أو تلمس السقف.»

يسري الخوف في أوصالي كما الحية على طول عمودي الفقري، وينسكب زلِقًا في حلقي. ليس لديَّ خيار آخر سوى أن أتبعها. أستلقي مُستويًا، وأربط حقيبتي بقدَمي، وأتقدَّم برأسي أولًا. حَيِّز الفراغ بالأعلى ضيقٌ للغاية لدرجة أنني يجب أن أقلب رأسي جانبًا مرة أخرى للمُضي قُدمًا. كما أن حيز الفراغ على الجانبَين ضئيلٌ للغاية لدرجةِ أن ذراعيَّ تكادان تُطبِقان على جسدي. وحجرُ السقف مُتصدِّع إلى كُتَل، ويتدلَّى حول الشقوق. يتملَّكني الخوفُ من الأماكن المُغلقة كما لو كان ملزمة بكامل حجم جسمي تضغط على الصدر والرئتين، وتعصر التنفُّس بقوة، وتجعل نجومًا سوداء تنفجر في رأسي.

خدشٌ ناتجٌ عن جَرِّ الحقيبة خلفي، وألَمٌ في ساقي التي عُقِدَت من جهد سحبها. نتحرَّك بضع بوصاتٍ فقط في المرة، كتمعُّج الديدان، جارِّين أنفسنا بالأكتاف وأطراف الأصابع. إلى متى سيستمرُّ هذا النَّفق؟ إذا انخفض ولو بمقدار بوصتَيْن، فسأُعلَّق. إنَّ التفكير في المُضي قُدمًا أمرٌ شنيع. ولكن التفكير في الرجوع أسوأ. ثم فجأة يصطدم أعلى رأسي بشيءٍ أملس.

يُمكنني أن أرى أمامي مباشرةً، بإزاحة رقبتي إلى الوراء، أن الجانب السفلي لحقيبة ظهر لينا قد علِق في الحافة الغائرة لكتلة في السقف. تتأرجح الحقيبة، وفي محاولتها لتحرير نفسها، لا بدَّ لِلِينا أن تَجُرَّها بساقها، لكن يبدو أنها قد تُحرِّر الكتلة في أي لحظة، الأمر الذي سيؤدي إلى انهيار السقف.

أصرخُ قائلًا: «على رِسلكِ، على رسلكِ!» فترد عليَّ صارخةً، وهي التي كانت قد أخبرتْني ألا أصرخ. نسمع صوتَ فرقعة، وتتحرَّر الحقيبة مُنزلقة.

أجرُّ قدمَيَّ مقدارًا ضئيلًا إلى الأمام عندما يحدث فجأة — ما هذا؟ أشعرُ بالحجر حولي — حجر بحَجم جِسمي تمامًا، يُغطيني كالتابوت — ويبدأ في الاهتزاز. رجفةٌ خفيفة في البداية ولكنها واضحة، والآن تزداد قوةً وضجيجًا. يُهمهِم ذلك السقفُ غير المُستقر ويرتجف. تمرُّ الاهتزازات عبر الحجر وعبر جسدي، ثم إلى داخل الحجر تحتي. يرتفع صوتُ الدمدمة ليُصبح رعدًا، ويُمكنني سماع طقطقاتٍ ونقراتٍ بين الدمدمات؛ وأتذكَّر المعمار الطيفي، المُخطَّط الرمادي الباهت للمدينة العُليا في هذه الصفحة من الخريطة: مسارات القطار المُقوَّسة، والمترابطة كالأوتار، التي تدخل معًا إلى محطة مونتبارناس.

إنها القطارات فوقنا، نحن الآن أسفل مترو باريس مباشرةً وخطوطه الموجودة على سطح الأرض، عقودٌ من هزَّات القطارات التي جعلت السقف غيرَ مُستقر هنا. أريدُ أن أصرخ ولكن يُحظَر عليَّ فعلُ ذلك، أريدُ أن أتراجع ولكنَّني لا أستطيع؛ ومن ثمَّ أستمر في التقدُّم ببطءٍ، وغبار الحجر في فمي، وأصبعي تخربش في الصخور الخشنة، وأسحبُ الحقيبة على ظهري، كل ذلك في صمت، فقط دمدمة القطارات التي تعلو وتخفُت مُبتعدة، أنفاسٌ ثقيلة، وقلبٌ يقرع، ثم بعد خمس دقائق من ذلك الخوف المُسبِّب للإعياء، يتَّسِع المكانُ ويرتفع ثم يمكننا الركوع مرة أخرى، ثم الوقوف، ثم المشي، وعندئذٍ نُصبح بالقُرب من قاعة العَلَم.

•••

يؤدي نفقٌ غمرته المياه إلى غرفة. ضوءٌ برتقالي على الماء، ينجرف ويتأرجح على الرغم من أن الماء نفسه ساكِن. صيحاتٌ تأتي من المَدخل، وهناك صوتُ مُوسيقى: أغنية «جوينج أندر جراوند» (النزول تحت الأرض) لفرقة ذا جام، يعلو صوتُ الموسيقى ويدوِّي أسفل النفق. أبتسِمُ عندما أعرف الموسيقى، وأعبُرُ على الحواف على جانِبَي النفق الذي غمرته المياه، وأصِلُ إلى المَدخل. يفتح المَدخل على غرفةٍ عالية الجوانب ذاتِ سقفٍ بارتفاع عشرين قدمًا أو أكثر فوقنا. المساحة بالأعلى تجعل رأسي طافيًا كما لو كان مليئًا بالهيليوم. هناك عَلَم كبير ثُلاثي الألوان مرسوم عاليًا على أحد الجدران. وها هي ذي الناس تقف لتُحيِّينا: يُعانقون لينا، ويصافحون يدي ويد جاي، ويبتسِمون مُرحِّبين بنا جميعًا.

لقد وجدنا طريقنا إلى نوعٍ مختلف من حجرات العجائب هنا، حجرة مليئة بالمُوسيقى وكَرَم الضيافة. هناك طاولة مفروشة بالطعام والشراب: فاكهة، وخبز الباجيت، وأقراص جبن البري والكممبر، وزجاجات المشروبات الروحية، وعلب البيرة. وهناك مُشغِّل أقراص مضغوطة يشبه الصندوق موضوعٌ في منتصف الطاولة، ومُتصل بسماعتَيْن صغيرتَيْن.

تتغيَّر أغنية فرقة ذا جام إلى أغنية ديفيد بوي «أندر جراوند» (تحت الأرض).

يقول أحدُ الغرباء بالفرنسية مُشيرًا إلى صندوق الموسيقى: «هذا هو سرداب الموتى!» ويُومئ في تناغُم مع الإيقاع.

تُزيِّن أضواءٌ رقيقة بيضاء جميعَ أنحاء الغرفة. كلُّ شيءٍ سرياليٌّ للغاية كما لو أننا تعثرنا في قاعةٍ لشراب الميد ما بعد الحداثة، على مسافة بعيدة تحت الأرض. ينبعج كوبٌ بلاستيكي من الفودكا في يدي وأطرقه مرجعًا إياه إلى حالته الأولى بامتنان. معدتي تحترق، ويزيد الإحساس بالزمن في صدع القطار. أُعيدُ ملءَ كأسي بشراب الروم البُني من زجاجةٍ ليس عليها مُلصق. أجدُ نفسي أبتسم. أشعر بالامتنان لهذا المكان، حيث الجلوس في جوار سراديب الموتى، والتحوُّل من الرعب إلى الدفء في مُنعطفِ النفق.

يتم التعارُف بين الجميع. هناك اثنان من الكاتافيل الفرنسيين يحملون زجاجات الخمر ولا أستطيع اللحاق بهما، وكندية تُدعَى تي، وهي صديقة قديمة لِلينا، وتعمل جليسةَ أطفال في النهار وعادةً ما تنزل إلى سراديب الموتى ليلًا. جميعهم يرتدون قُبعاتٍ جلدية على طراز إنديانا جونز، ويحمل واحدٌ من الرَّجُلَين الفرنسِيَّين سوطًا في يده.

تتغيَّر أغنية بوي إلى أغنيةٍ لفرقة بين فولدز فايف باسم «أندر جراوند» أيضًا. يبتهج الجميع.

نستمرُّ في أكل المَزيد واحتساء المزيد، ونتجاذب أطرافَ الحديث لوقتٍ أطول. وتمرُّ الساعات. أجلسُ مُستمِعًا في الغالب، مُسترخيًا بعد مجهودات اليوم، وضاغطًا على نفسي لرؤية الثقافات الفرعية الغريبة لهذه الأرض السفلية، التي تنعكس في عمليات إعادة التدوير الثقافي الغريب الذي تستدعيه.

بعد ذلك بوقتٍ طويل، أبدأ أنا ولينا وجاي رحلةَ العثور على مكانٍ للنوم. نصل إلى منطقةٍ تُسمَّى المخابئ. وهي عبارة عن طريق نفَقِي واسع تصطفُّ على جانبيه سلسلةٌ من الغُرَف المُطوَّقة نصف الدائرية ذات الأسقف المُقوَّاة. تقول لينا إنها ترجع إلى الحرب العالمية الثانية، حيث أُدخِلت تعديلاتٌ على الملاجئ بما يجعلها مُلائمةً لمقاومة سقوط القنابل. في بداية الاحتلال استخدمتها المقاومة، وبعد ذلك أقام فيها ضباطُ قوات الأمن الخاصة (وحدات إس أو شوتزشتافل) وقوة الدفاع (فيرماخت) عندما شُنَّت الغاراتُ من جنوب إنجلترا. وهي الآن مهاجعُ مثالية للكاتافيل المُنهَكين. هناك، اتخذ كلٌّ منَّا غرفةَ مخبأ مُستقرًّا له. وكان مرور القطارات البعيد يهزُّ الجدران.

نستغرقُ وقتًا حتى نخلد للنوم. وبينما أجلسُ هناك مُستلقيًا وحولي صخر الأساس في كل الاتجاهات، أتساءل عمَّا سيبقى من مُدننا عندما يتكشَّف الأنثروبوسين عبر الزمن السحيق، مُتمثلًا في علامات الطبقات التي ستصمد في سجل الصخور. على مدى ملايين السنين، ستتآكل المُدن العملاقة الداخلية في دلهي وموسكو إلى حدٍّ كبير، وتصير رمالًا وحصًى تنثره الرياح والمياه في مساحاتٍ صحراوية لا يمكن قراءة تاريخها. وكذلك المدن الساحلية في نيويورك وأمستردام، التي سيُقضى عليها في وقتٍ أقربَ عن طريق ارتفاع مستويات سطح البحر، ستتكدَّس بدقة أكبر في الرواسب الناعمة. بينما ستُحفَظ المدن غير المرئية — المدن السفلية — بدقة أفضل، حيث ستُغمَر كما هي في صخر الأساس. سوف تنهار البنياتُ التي بنَيْناها فوق الأرض لتُشكِّل طبقاتٍ حضرية مختلطة: مزيجٌ من الخرسانة، والطوب، والأسفلت، وسوف ينضغط الزجاج إلى مادةٍ صلبة بلورية لبنية، ويُذاب الفولاذ ليترك آثار تَتَبُّعٍ لوجوده. أما أسفل الأرض، فربما يحافظ مترو الأنفاق، وأنظمة الصرف الصحي، وسراديب الموتى، والمساحات الفارغة في المحاجر على سلامتها في المستقبل البعيد ما بعد البشر.

•••

بعد يومَيْن، أصبحنا مُستعدين لمغادرة المدينة غير المرئية. كانت خُطتنا الأصلية هي الخروج عن طريق مُطبق ذي سُلَّم، أُخبِرت لينا أنه غير مُوصَد حاليًّا. كان يُلقَّب ﺑ «مصراع الموت»، وهو اسمٌ لا يَستهويني على الإطلاق. لكن الاتجاهات التي تلقَّتها لينا بشأن مكان وجوده غامضة، ولا يُمكننا تحديدها.

ومن ثمَّ، نعود إلى النقطة التي دخلنا منها. ساعاتٌ من السفر المُجهِد عبر الأنفاق من أقصى الشمال الغربي للنظام. خطَّطت لينا لطريقٍ طويل حول تلك المساحات المراوغة، مكان الزحف المؤدي إلى قاعة العَلَم. لا نرى أيَّ شخص آخر في مسار اجتيازنا. مرَرْنا ذات مرة على امتدادٍ لجدارِ نفقٍ رُسِمَت عليه عشراتُ الأيدي باستخدام ورق الاستنسل وعلب الرش باللون الأخضر الحمضي، والأزرق الجليدي، والأصفر النووي، في مُحاكاةٍ رديئة لفن الكهوف في عصورِ ما قبل التاريخ. نعود من خلال تقاطع طرُق الموتى، ونرجع أخيرًا أسفل البَنجرا، حيث ارتفعَ مستوى المياه ارتفاعًا ملحوظًا منذ عَبرْنا هنا لأول مرة قبل أيام.

تقول لينا: «لقد كانت تمطر هناك.»

أتذكَّرُ تكوُّن السُّحب الرعدية عندما اقتربتُ من باريس، حيث حُجُب الأمطار التي تغلب على المشهد الطبيعي. نصل إلى حفرة الدخول ونصعد، واحدًا تلو الآخر، خارجين إلى نفق السكة الحديدية.

يبدو السقفُ المُقوَّس لنفق السكة الحديدية، بعد أيامٍ من الاحتجاز في مكانٍ ضيق، ضخمًا كقاعة رقص. الهواءُ خالٍ من الغبار الحَجري. وعلى مسافةٍ بعيدة إلى يسارنا، يُوجَد قوسٌ مألوف من الضوء. إننا نعود إلى المسار. يكبُر القوسُ ويُضيء. يُحيط به الخَضار، مُتدليًا في نبتاتٍ مُتعرشة طويلة، والأخضر هو لون جديد مرة أخرى.

تقول لينا مُشيرةً إلى عشرات الفراشات الذهبية التي تملأ هواءَ القوس: «انظروا إلى الفراشات.» ولكن عندما نقترب منها تتحوَّل إلى أوراق السَّنْط المتساقطة التي تسقط في حلقاتٍ حلزونية من أشجارٍ غير مرئية، وقد طلاها ضوءُ بعد الظهيرة باللون الذهبي.

يتبدَّى العالَمُ الخارجي للعيان. تنسَلُّ حمامةٌ كثيفة الأجنحة عبر السماء المؤطَّرة بالأقواس. وتظهر جوانبُ الفتحة في جدار النفق، وتتمايل أغصانُ السَّنْط من الضفاف لتنفض أوراقها التي تُشبه الفراشات.

نتوقَّف عند نقطة التقاء الضوءِ والظل، وننظرُ لأعلى، لنرَى في لحظةٍ من عدم التصديق الشمسَ، التي سرعان ما تتوارى خلف المباني التي ترتفع فوق جوانب موضع القَصِّ في السياج. يُحدِّث كلٌّ منا الآخَرَ بهدوء. شَعْرُنا ملبَّد بالعَرق والتراب الحجري، وبشرتُنا باهتة. الهواءُ هنا في العراء تفوح منه رائحةُ الخيار والدخان. وهناك امرأةٌ تُعلِّق الملاءات البيضاء في شرفة إحدى الشقق السكنية فوقنا.

أسمعُ أولَ الموازين الموسيقية لإميل جيليلز عازفًا رباعية بيانو برامس رقم ١، وهي واحدة من مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية القليلة التي يُمكنني التعرُّف عليها حتى من بعض النغمات المتناثرة. تنسابُ النغماتُ للأسفل وكذلك تنجرف أوراقُ الشجر، لتتجمَّع في الفتحة عبر السياج، وأعتقدُ أنني أتوهَّم سماعَ الموسيقى، ولكنَّ الآخرين يمكنهم سماعُها أيضًا؛ وإني لأَجده أمرًا غريبًا أن يعزف أحدٌ هذه المقطوعة الآن، وفي هذا المكان على وجه التحديد.

نواصلُ السير. هناك مُراهقان؛ فتًى وفتاة، يجلسان على صندوق محطة فرعية أسفل شجرة سَنْط ويُلوِّحان بأرجُلهما البُنية الطويلة في الهواء وهما يتحدَّثان ويتقاسمان تدخين المخدرات. يُومآن برأسيهما عندما نمر، ونرد لهم التحية بإيماء رءوسنا.

نتسلَّق السياجَ الحديدي حتى جانب القَصِّ، ثم نمرُّ عبر الفتحة التي صنعناها في السياج، ونخرجُ من الباب المكتوب عليه بالفرنسية ما معناه «ممنوع الدخول». وفي إحدى زوايا الشارع، بعد ثلاثة مُنعطفاتٍ من الباب، تستوقِفُنا امرأةٌ لسؤالنا بالفرنسية عمَّا إذا كنا جِئنا «من الأسفل». فنقولُ: أجل، جِئنا من الأسفل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤