الفصل الثاني

أنهارٌ بلا نجوم

(هضبة كارسو، إيطاليا)

ثمَّة أنهارٌ بلا نجوم تجري في الثقافة الكلاسيكية، وهي أنهارُ الموتى. يتدفَّق نهر ليثي، وستيكس، وفليجيتون، وكوكيتوس، وأشيرون من العالَم العلوي إلى داخل الأرض السفلية، وتلتقي الأنهار الخمسة جميعُها في سَيلٍ من المياه عند قلب مملكة هاديس المظلم.

إنَّ مياه نهر ليثي هي مياه فقدان الذاكرة، التي منها يجب أن تشرب ظلالُ الموتى لكي تنسى وجودَها الأرضي. و«ليثي» هي كلمة يونانية تعني «النسيان» و«الإغفال»؛ وهي تضاد الكلمة اليونانية «أليثيا»، التي تعني «عدم النسيان»، و«عدم الإخفاء»، وكذلك «الحقيقة». عبر نهر ليثي، يتمكَّن إينياس من السفر للقاء شبح أبيه — أحد النفوس العديدة التي يكتظ بها الفيضان — في الكتاباسيس العظيم في الكتاب السادس من الإنياذة …

يحمل خارون، عامِل الزورق، أرواحَ الموتى الجُدد عبر نهر ستيكس؛ ويحتاج، من أجل المرور الآمن، إلى وضع أوبول، أو قطعة نقود معدنية، على شفاه المُتوفَّى كي يدفع بها ثمنَ نقله إلى الأرض السفلية.

أما فليجيتون، فهو نهرُ الحرارة، النار المشتعلة والدم المغلي، الذي يُعتقَد أنه يتدفق في مساراتٍ لولبية وحلزونية، نازلًا إلى أعماق تارتاروس؛ هاوية الملعونين.

نهر كوكيتوس هو أبردُ الأنهار الخمسة، وهو نهرُ العَويل، الذي صقلته الرياحُ المُتجمدة، وتصلَّب في بعض الأماكن مُتحوِّلًا إلى جليد. وحيثما يجري كوكيتوس، تستدعي تياراتُه صرخات ألم مُستمرة وهي تنهار فوق منحدرات النهر وتلفُّ في دواماتٍ حول انحناءاته.

نهر أشيرون هو ألطفُ الأنهار التي بلا نجوم، وهو نهرُ الوَيل، الذي يمارس خارون عَمله فوق سطحه أيضًا. إنه يتدفق في أعماق الجحيم لدرجةِ أنه في بعض الأحيان يكون مرادفًا له، كما هو الحال عندما يقول جونو في الإنياذة: «إذا لم أستطِع تغيير آراء آلهة السماء، فسوف أناشِد نهر الجحيم.» اتخذ فرويد من هذا السطر عبارةً استهلالية افتتح بها كتابه «تفسير الأحلام»، الذي هو في حدِّ ذاته استكشافٌ لتياراتٍ وتدفقاتٍ لأرضٍ سفلية نَفسية، حيث الأنهار العديمة النجوم للَّهُوِ تندفع تحت المرتفعات المضاءة بنور الشمس للعقل الواعي، وتتصاعد بقوة للأعلى هنا وهناك.

إنَّ السبب في أنَّ الأدب الكلاسيكي مليءٌ بالأنهار المُنغمسة في الظلام هو سببٌ جيولوجي؛ فالكثيرُ من المشاهد الطبيعية التي عاشَ فيها مُؤلِّفو هذا الأدب وكتبوه فيها هي مشاهدُ كارستية بطبيعتها. والكارست — وهي لفظة مُشتقة من كلمة «كَراس» بالسلوفينية — هي سِمة تضاريسية تكوَّنت من انحلال الصخور والمعادن القابلة للذوبان: الحجر الكلسي في المقام الأول، ولكن أيضًا الدولوميت، والجبس، وغيرها. الكارست غنيٌّ للغاية بأراضيه السفلية، وهو أيضًا منطقة يرفُض فيها الماء الانصياع لمساره المُعتاد. فعالَم مياه الكارست مُعقَّد تعقيدًا مدهشًا وغير مكتمِل الفهم لدَينا. في الكارست، تتدفَّق الينابيع من الصخور القاحلة. والوديان مسدودة من جانبٍ واحد. يمكن لنهرٍ أن يختفي في مكانٍ ويظهر في مكانٍ آخر تمامًا، حيث يُعطيه جيرانه الجُدد اسمًا جديدًا. وتظهر البُحيرات التي ليس لها مجرًى مائي يسير فيها مَملوءةً من الأسفل؛ حيث يرتفع منسوب المياه في الكارست أو يجفُّ حسب الموسم والطقس («البحيرات المتلاشية» التي وصفها يوهان فون فالفاسور للجمعية الملكية في لندن عام ١٦٨٩، وقد كان من السكان الأصليين لما يُعرف الآن بسلوفينيا). تُحوِّل المجاري والآبارُ المَشاهدَ الطبيعية الكارستية إلى الأفواه الفاغرة، ما يجعل اجتياز الكارست خطيرًا بحلول الليل أو في الثلج. أسفل السطح — إن صحَّ القول إن للكارست سطحًا — تمتلئ خزانات المياه الجوفية وتُفرَّغ عبر القرون؛ فهناك متاهاتٌ يدور خلالها الماء على مدى آلاف السنين، وكهوف كبيرة مثل مُدرَّجات الألعاب الرياضية، وأنهار مدفونة ذات شلالات، وجنادل، وبرك راكِدة.

في البلاد الكارستية، قد تحدُث انهياراتٌ عنيفة للأرض، كما في تايبيه حيث تختفي قطاعاتٌ دائرية من الطريق، كما لو أن وحشًا قد سحقَ بقدَمِه أحد التقاطعات. طوَّرت السمة الطوبوغرافية المُميِّزة للكارست لغاتها المُميَّزة للتشكيل والتدمير: «الدولين» (بالإنجليزية) هو هُوَّة طبيعية على شكل قمع، و«الغَور» («أَبيم» أو «جُوفر» بالفرنسية) هو بئر تآكَلت بسبب المياه ويمكن أن تنغمِس فيها آلافُ الأقدام، و«السينوتي» (بالإسبانية) هو مجرًى مُنهَار، وعادةً ما يكون مغمورًا بالمياه، و«الأوكنا» (بالسلوفينية) هي نقطة نَحتت فيها المياهُ ممرًّا عبر صخرٍ تُمكن الرؤيةُ من خلاله، كما لو كانت قد كوَّنت «نافذة» في الحجر.

مُقاطعتا قويتشو ويونان في الصين، وسهل نولاربور في أستراليا، ومناطقُ كبيرة من أمريكا الشمالية، بما في ذلك جزءٌ كبير من فلوريدا، وشبه جزيرة يوكاتان في المكسيك، وهضبة وايت بيك، والمنديب، ويوركشاير ديليز في إنجلترا، وغابة دين في إنجلترا، ووديان ومرتفعات الحجر الكلسي في وسط فرنسا وجنوبها، هذه كلُّها مشاهدُ طبيعية كارستية. وفي الفلبين، يمتدُّ نهرٌ مَدِّيٌّ جَزري لأكثر من أربعةٍ وعشرين ميلًا أسفل الكارست، ستة أميال منها صالحة للملاحة بالقوارب. وفي وايتومو بنيوزيلندا، يُضاء نهر تحت الأرض بكوكبةٍ من الديدان البرَّاقة، سراج الليل النيوزيلندي، التي تعيش على سطح الكهف وتُرصِّع حُجَرَه بمجراتٍ من النجوم الزرقاء وسط الهوابط.

وحيث الحدود الشمالية الشرقية لإيطاليا مع سلوفينيا، تنبثق هضبةٌ طويلة ومُرتفعة من الحجر الكلسي معروفة باللغة الإيطالية باسم إل كارسو، أي الكارست. بعيدًا تحت صخر الكارست الذي صقلته الرياح وسَفَعتْهُ الشمس، يجري نهرٌ يُسمَّى الريكا باللغة السلوفينية والتيمافو باللغة الإيطالية، وهو نهرٌ من مُنحدرات وتعرُّجات تتدفَّق في بعض الأماكن لأكثر من ١٠٠٠ قدم رأسية تحت الضوء.

•••

جئتُ إلى هضبة الكارست قادمًا من مدينة مانتوفا. في سرداب أسفل كاتدرائية تلك المدينة تُحفَظ الكأسُ المُقدسة، وهي أثرٌ مُقدَّس يحتوي على دم المسيح، الذي جُمِعَ من مكان جرَيانه من جُرح الرمح الذي أُصيبَ به أثناء صَلبه. دُفِنَت الكأس مرَّتَيْن في تاريخ مانتوفا وفُقِدَت؛ فقد أُخرِجَت من الأرض مرَّتَيْن. وهي محفوظة الآن في سرداب الكاتدرائية، في خِزانة حديدية حصينة بها أحد عشر قفلًا مختلفًا، كلُّ قفلٍ يُفتَح بمفتاح مختلف، وكلُّ مفتاح محفوظ لدى رجل دينٍ مختلف.

من مانتوفا، أعبرُ ثلاثة أنهار للوصول إلى هضبة الكارست.

نهر أديجي هو نهر رمادي فضي كالأفعى، يتبخَّر في الحرارة. تتحدَّث تياراته كحلزوناتٍ كسولة. يلتفُّ البخارُ لأعلى من المُنعطفات والالتواءات النهرية التي تسقط فيها الشمس بكثافة على مياه النهر. شقَّ طائران من اللقالق طريقهما غربًا. ونباتات الجنجل والعسلة في السياج. ورسوم الجرافيتي على الجدران. وهناك رجل يقود درَّاجةً صغيرة جدًّا على نحوٍ لا يُلائمه على طريق مُغبَّر، لدرجةِ أنَّ رُكبتَيْه تصطدمان بالزوايا الحادة. الأرضُ البُنية وإحساسٌ بالبحر بعيدًا عن الأنظار إلى الشرق، هناك في شَحْذ الضوء.

يمتلئ نهر بيافي بالطمي القادم من الجبال، ويتحرك بغليانٍ بطيء للبيوتر، فتُرى منه الحجارة أكثر من المياه. ثمة شعورٌ بوجود قِممٍ عالية بعيدة عن الأنظار إلى الشمال، هناك في ظلمة السماء. حقول الذرة. وأيكات السنط البرية في الأرض المفقودة أسفل الجسور. والحَمَام الشاحِب يُقلع في أسرابٍ من الأرض البُنية المحروثة. وهناك مصانع مهجورة ذات أسقف مُموَّجة ومُتراكبة، ونباتات القسور تملأ إطارات النوافذ. وتضيع بيوت المُزارعين وسط اللبلاب. كلُّ شيءٍ تُحوِّطه الحرارة كما لو كانت عباءةً يرتديها.

ونهر إيسونزو، الذي يُعدُّ علامةَ الِاقتراب من الكارست. حصًى مُستدير من الحجر الكلسي، ومياه زرقاء تبدو كأنها تتوهَّج من داخلها، وسِرب أبيض من عشرات طيور البلشون يتحرك شرقًا فوق الكَرْم المُصطف باللون الأخضر.

بالقُرب من نهر إيسونزو، أُغادر القطار في محطة صغيرة، حيث لا يستقل أحدٌ غيري القطار أو يخرج منه. ولكن كان هناك شخصٌ يقف في انتظاري مُلوِّحًا في نهاية المنصة، إنه لوسيان. يعيش لوسيان وماريا كارمن عاليًا فوق الكارست أعلى مدينة ترييستي، في منزلٍ على حافة المجرى.

يقول لوسيان: «أهلًا!» ويُعانقني. «كم هو رائع أن أراك هنا أخيرًا!»

ركبنا السيارة مارِّين بقلعة دوينو التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر، وهي جاثمة فوق رأسها الحجري الشاحب فوق خليج ترييستي، حيث شرعَ ريلكه في كتابة مجموعة مَراثيه الروحانية «مراثي دوينو» في عام ١٩١٢. وفي سويسرا لاحقًا، بعد التعافي من الاكتئاب الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى، أكمل ريلكه تلك المَرثيات فيما وصفه بأنه «عصفٌ غير مُتناهٍ» من الإبداع. هناك سيشرع أيضًا في كتابة عمله العظيم عن الأرض السفلية «سونيتات إلى أورفيوس»، التي أهداها ﻛ «شاهِد قبر» إلى امرأةٍ شابة تُدعى فيرا كوب، تُوفِّيت في التاسعة عشرة من عمرها. هكذا تبدأ السونيتة السابعة عشرة: «في الأسفل يقفُ مُبللًا قليلًا/سَلَفُ جميع مَن يشكِّلون المبنى، إنَّه الجِذرُ والنبعُ المَخفي/الذي لم يَروه يومًا.»

على مسافةٍ غير بعيدة من دوينو، نتَّجِه لأعلى ونبدأ الصعود إلى هضبة الكارست. يرتفع صوتُ مُحرِّك سيارة لوسيان الصغيرة نظرًا لمشقَّة صعود الطرُق المتعرجة التي تعلو الحجر الكلسي من البحر إلى الأرض المُرتفعة.

يقول لوسيان وهو يميل للأمام ويُربِّت على لوحة القيادة برقَّة: «لعلك تعتقد أنها قد اعتادت هذا الآن.»

تُشكِّل أجزاء الحجر الكلسي ثقلًا يضغط على بلاط السقف للمنازل القديمة التي نمرُّ بها. يُوضِّح لوسيان بإيجاز وهو يُلوِّح بيده على الأسطح المُدكوكة بالحجر: «إننا هنا في طريق بورا. تندفع الرياحُ لأسفل قادمةً من القِمم، رياحٌ هابطة باردة، تُغذيها الجاذبية. تهب بسرعة تصِل إلى ٢٠٠ كيلومتر في الساعة هنا. يُمكنها دفعُ الناس إلى الجنون، وحَمْل الكلاب على العواء لأيام، وانتزاع أسقف المنازل مثل فتَّاحة المُعلَّبات. ولكن حريٌّ بي أن أقول إنها تساعد كثيرًا في تجفيف الملابس عندما تكون أكثر اعتدالًا.»

تلتقينا ماريا كارمن عند الباب، وتُحوِّطني بذراعَيها على الفور.

«روبرت! أيها البروفيسور! مرحبًا بك في منزلنا!».

تفوح من الشرفة رائحةُ الرمان. تُمسِك بي ماريا كارمن على طول ذراعي، وتتفحَّصني، ثم تُطلق سراحي. إنها أرجنتينية. تُفضِّل ارتداء الأحمر والأسود، وكائنها المفضَّل هو طائر أبو ملعقة الوردي، يليه مباشرةً طائر الفلامنجو، وأبو منجل القرمزي. إنها لا تثق في المؤهلات الرسمية، بل تُفضِّل الحُكم على الناس بناءً على قدرتهم على التعاطف. وقعت هي ولوسيان في الحُب في منتصف حياتهما. وهما الآن يعيشان معًا على هضبة الكارست مع قطٍّ رمادي فِضي يُدعَى رافي.

يعمل لوسيان مُترجمًا، وهو شخصٌ غيريٌّ مجرد من الأنا، وكريم إلى حدٍّ غيرِ واقعي. لدَيه عينان تملؤهُما الطيبة. يتحدَّث أربع لغات: الإسبانية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، ويتنقَّل في الحديث بين هذه اللغات دون تردُّد، كقطارٍ يُغيِّر مساراته بسلاسة ودقة تمامًا في نقاط الانعطاف. وقد أبحر مرةً حول القرن، وشاركَ في عددٍ من الرحلات الاستكشافية إلى باتاجونيا. قاربُه في رصيف ميناءٍ جافٍّ، ويتوق إلى العمل، ولكنه إذا وجد فقط الوقت والمال لاستبدال ظهر القارب المُنبعج الذي هو من خشب الساج، فسيكون حُلمه أن يبحر بقاربه إلى سفح قمة باتاجونيا التي نادرًا ما يتسلَّقها أحد، والتي يبلغ ارتفاعها ٣٠٠٠ قدم، ثم يتسلَّقها من مستوى سطح البحر عبر حزامٍ من أشجار الزان الجنوبية المُتشابكة وشُجيرات المستنقعات السفلية، التي يُتوقَّع أن تشكِّل عقبةً أكبر من أي نهر جليدي. إنَّه يضع الخرائط الخاصة بقمة باتاجونيا فوق مكتبه، حيث تجعلك القنوات ومجموعات الجُزر هناك تستغرق في أحلام اليقظة عندما يُرهقك طحنُ الكلمات.

قالت لي ماريا كارمن هامسةً في يومٍ من الأيام خلال الأسابيع التي قضيتُها هناك: «عليه أن يُعطي الآخرين. هذا ما عليه فِعله، لكنه لا يفكر في نفسه بما يكفي.»

تعمل ماريا كارمن في مجال الرعاية الاجتماعية. كشفَ لي لوسيان ذات يوم ونحن نسير بالخارج عن أمرِها قائلًا: «إنها لا تحصل من عملها إلا على القدر الزهيد جدًّا، ولكنها تستمر في إعطاء الكثير.»

إنَّ لوسيان مُستكشِف من مستكشفي القرن التاسع عشر ولكنه عالِقٌ في اقتصاد القرن الحادي والعشرين، أما ماريا كارمن، فهي إيثارية بالفطرة تعيش في ثقافة المُعدِمين، وهما معًا شخصان من ألطف الناس الذين كان من حُسن حظي أن ألتقيَ بهما.

يقع منزل لوسيان وماريا كارمن في مواجهة الجنوب الغربي باتجاه البحر الأدرياتيكي، لكن البحر بعيد عن الأنظار، ولا تمكن رؤيته إلا كضوءٍ فِضي فوق مجموعة أشجار البلوط والصنوبر، التي تزدهر على منحدر الكارست. وهناك بُستان من المشمش ينمو فيه الزعفران الأصفر.

المنزل بارد، ونوافذه مُغلقة في وجه الحرارة، وسقفه مدكوك للأسفل في مواجهة البورا. أرفف الكتب عبارة عن خِزانات بواجهاتٍ زجاجية مليئة بكتبٍ بعدَّة لغاتٍ عن التسلق، واستكشاف الكهوف، والإبحار. نتناول الغداء في ظل شجرة بلوط: تفاح سلوفيني حامض، وجبن صلب، وبطاطس زرعتها ماريا كارمن بنفسها. وزهرة بخور مريم البرية على الحواف المنحدرة للمجرى. نأكل التفاح ونرمي بذوره على حافة المجرى.

يقول لوسيان: «إنَّ المجرى يشعرُ بالجوع.»

يلتف القط رافي حول كاحِلَيَّ كالضباب.

يقول لوسيان بعدما فرغنا من تناول طعامنا: «أنا لستُ من أي مكان في الواقع، ولكني أفترضُ أنني في الغالب من الكارست.»

خدمَ والده كقائد دبَّابةٍ شابٍّ في وقت إنزال النورماندي. «وصلَ إلى فرنسا بعد أسبوعَين من بداية الإنزال، واستمتع بحياته نوعًا ما؛ فقد كان في التاسعة عشرة من عمره مسئولًا عن دبابة ويتحدَّث الفرنسية بطلاقة. ولكَ أن تتخيَّل كيف رحَّب به السكان المحليون!»

بعد الحرب، أُرسِلَ والِد لوسيان إلى ترييستي، حيث التقى بشابة إيطالية. وتزوَّجا في العام التالي في لندن، وانتقلَ إلى مشروع العائلة القائم منذ زمنٍ طويل في مجال صناعة الغلايين من خشب الورد البري. كانا يقضِيان إجازاتهما في ترييستي، وترعرع لوسيان على التنزُّه سيرًا على الأقدام في الكارست، حيث بدأ تدريجيًّا في فَهم أسرارها، في كلٍّ من الظلام والنور.

يقول لوسيان: «ما تعلَّمتُه كطفلٍ هو أنَّ عليكَ أن تُراقب المكان الذي تضع فيه قدمك هنا. مجازيًّا وجيولوجيًّا. دارَ الكثيرُ من العُنف في ماضي هذه المنطقة. والقليلُ منه فقط هو ما يتحدَّث عنه الناسُ. تختفي الأنهار وتتوارى القصص، فقط لتبزغ من جديدٍ في أماكنَ غير مُتوقَّعة.»

عكفَ لوسيان لسنواتٍ على العمل على أحد الموضوعات التاريخية عن الكارست وأعماقها، وهو نصٌّ يرى فيما يبدو أنه ربما يكون لامُتناهٍ وربما لا يمكن الانتهاء منه وإكماله. يُدمدِم مُحدِّثًا نفسه أكثر منِّي: «استغرقَ الأمرُ منِّي ما يقرُب من عقدَيْن من الزمان لأُدرك نُدرةَ ما أعرفه عما يُخبِّئه هذا المشهد الطبيعي.»

تتشابك زهرةٌ من الزهور المعروفة باسم زهرة الكلب عبر أشجار الطبقة السفلية لحديقتهما، مُزدهرةً باللَّونَيْن الزهري والأبيض. ويسبحُ النحل في الأزهار. أُفكِّر في الأسطر الغريبة التي كتبها ريلكه لمُترجم مَرثياته: «إننا نَحْلُ اللامرئي. نجمع بحماسٍ محموم عسلَ المرئي، لنُجمِّعه في خلية اللامرئي الذهبية الكبرى …»

الهواءُ صاعق. والطيور تمرُّ بخفةٍ بين أشجار البلوط.

يقول لوسيان: «إنَّ الكارست هي في رأيي النسخة الأصلية من «الأرض السفلية»، طبقًا لمُصطلحاتك. فلدَينا هنا كهوف، ١٠ آلاف كهف، عاشَ فيها البشر، وعبدوا آلهتهم، وتداوَوا، وقُتِلوا، ونشدَ كلٌّ منهم الحماية من الآخر ومن العالَم، وانشغلوا بالترويع والإرهاب، وحفروا الأرض بحثًا عن الجليد. في عصورِ ما قبل التاريخ، بنى الناسُ الحصون هنا، لكنهم تقهقروا أيضًا إلى سفوح التلال. شيَّدَ الرومان معابدَ كهفية مُخصَّصة للإله ميثرا؛ إله الديانة الميثرائية الباطنية. وبذلك، ربما يُسعدك سماعُ أنك قد جئتَ إلى أحد أفواه الجحيم؛ حيث صرَّح الرومان بمدخلٍ إلى هاديس في مكان قريب، عند النقطة التي يغُوص فيها نهرُ تيمافو تحت الأرض في شكوجان.»

يتوقَّف لوسيان قليلًا.

«وبالتقدُّم سريعًا إلى القرن التاسع عشر، أرسلت ترييستي العامرة — التي أصبحت ميناءً حُرةً على يد ماريا تيريزا، ولكنها تُعاني نقصًا شديدًا في المياه — سلسلة من الحملات لمحاولة تحديد موقع النهر المفقود وتزويد المدينة بالمياه. وبالفعل عثروا عليه، ولكنه كان مدفونًا على مسافةٍ بعيدةٍ تحت الأرض. وخلال الحرب العالمية الأولى، نقَّب كلٌّ من النمساويين والإيطاليين في الحجر الكلسي هنا، وحفروا الخنادق، ووسَّعوا الكهوف لاستخدامها كمُستشفَياتٍ، ومستودعاتٍ للذخيرة، وما إلى ذلك — وليس هنا فحسب، بل أيضًا عبر جبال الألب الجوليانية وسلسلة جبال الدولوميت. وحدثَ الشيءُ نفسه خلال الحرب العالمية الثانية. خلال تلك الحرب وفي أعقابها أيضًا، سدَّد كِلا الجانبَيْن فاتورة معاناتهما بعد تكبُّد فائدةٍ مُروِّعة؛ حيث قَتلوا قوات العدو والمتعاونين المزعومين ودفعوا بهم جميعًا إلى المجاري، أو الفويب كما هي معروفة هنا.»

يُقطِّب لوسيان جبينه.

«لدَينا أنظمة كهوف هنا بها أنهار جليدية حَيَّة، ولدَينا كهوف تحتوي على نوعٍ لا يصحُّ ذكره من الخنافس البرتقالية العمياء — خنفساء هتلر، المُهدَّدة بالانقراض بسبب شعبيتها لدى الباحثين من النازيين الجُدد — ولدَينا كهوف يُترَك فيها النبيذُ للاستمتاع به أثناء الاستراحة فيها، وهذه من وجهة نظري نتائج غير مُهمة في أغلبها.

تتأثر الأرضُ هنا بحركة المَدِّ والجَزر. حقًّا! الصخر هنا يتفاعل مع جاذبية القمر، تمامًا كما تفعل مياه المُحيط. تسحب قوةُ الجاذبية الحجرَ الكلسي ثم تطلقه؛ ومن ثمَّ تشهد قشرة الأرض المدَّ والجزر الربيعي (المد المرتفع) والمد والجزر المَحاقي (المد المنخفض). ويكون بالطبع صغيرًا مُقارنة بالمد والجزر البحري. حيث قد يصل نطاق المد والجزر في البحر إلى ستة عشر مترًا، بينما لا يتعدى نطاق المد والجزر للحجر الكلسي سنتيمترَيْن اثنين. ومع ذلك، يموج العالَمُ السُّفلي هنا ويهدأ تحت قدَمَيك دون أن تشعر به. تُعقَد ندواتٌ حول المد والجزر الأرضيَّين في جامعة ترييستي.»

يتلألأ البحر الأدرياتيكي في السماء.

«وربما الأهم من ذلك كله أن لدَينا الافتتان، بل دعنا نقُل الهوَس، برسم خرائط التدفُّق الكامل لنهر تيمافو، الذي يُطلِقون عليه في بعض الأحيان هنا نهر الليل.»

•••

ينبع نهرُ تيمافو مثل نهر الريكا في غابات الصنوبر على الجانب الجنوبي من جبل سنيزنيك، أو جبل الثلج، على حدود سلوفينيا وكرواتيا. تتجمَّع مياهه في أرض الوادي المسطحة المزروعة حول إيليرسكا بيتريسا، ثم يطوف في حلقاتٍ خاملة قُطرها نصفُ ميل فوق صخر أساس الفِلِش غير النافِذ للمياه حتى يلتقي الفِلِش بالحجر الكلسي، في قرية شكوجان، وفيما يشبه خدعة ساحر جيولوجي، يختفي نهر الريكا.

يُعَدُّ وادي شكوجان العميق، حيث ينغمر نهر الريكا في هبوطٍ سريع ومفاجئ في الأرض السفلية، مَوقعًا ذا قوة استثنائية. فهنا، وعلى مدى ملايين السنين، يقطع الماءُ أحدَ أكبر الوديان العميقة الموجودة تحت الأرض على مستوى العالَم. يمرُّ النهر عبر قوس ضخم في جرفٍ من الحجر الكلسي، ويستمر في الجريان عبر المجاري المنهارة التي يبلُغ قطرها مئات الياردات — الهواء مُفعَم بمناخٍ محلي من الضباب والرذاذ، والجوانب الرأسية توفِّر أماكنَ تعشيش للصقور ومناطق لشتلات البلوط وبخور مريم الوردي — حتى يصنع بشدَّة مياهه المُنهمرة نفقًا منحدرًا لأسفل إلى داخل الحجر الكلسي، تمامًا مِثلما يبدأ الحجر الكلسي صعوده إلى هضبة الكارست. يجري نهرا الريكا وتيمافو تحت الأرض لحوالي اثنَين وعشرين ميلًا قبل الظهور مرة أخرى بالقرب من دوينو، والخروج من الوادي إلى السهل في البحر الأدرياتيكي، حيث تَختلط المياه العذبة مع الملح.

كتبَ بوسيدونيوس من أفاميا، حوالي عام ١٠٠ قبل الميلاد: «يتدفَّق نهرُ تيمافو من الجبال، وينهمر ليسقط في الهاوية، ثم بعد التدفُّق لما يقرُب من ١٣٠ ستاديون تحت الأرض، يرتفع بجانب البحر.» كانت «هاوية» شكوجان مشهورةً بما يكفي لتمييزها على كلٍّ من خريطة لازيوس-أورتيليوس لعام ١٥٦١ وأطلس نوفوس الذي وضعه مركاتور عام ١٦٣٧. بدأ الاستكشاف المنهجي للنطاق الخفي للنهر في أواخر الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى الرغبة في حل مشكلة ترييستي وتعطُّشها لمياه الشرب. وقد اندفعَ خبيرٌ جيِّد يُدعَى إيفان سفتينا إلى داخل الوادي العميق في شكوجان وصولًا إلى ما وصفه بالشلال الثالث؛ وبذلك بدأ العصر الذهبي الأول لاستكشاف نهر تيمافو، الذي دامَ حتى عام ١٩٠٤.

كانت هذه المحاولات المُبكِّرة لتتبُّع النهر العديم النجوم محاولاتٍ صناعيةً في طبيعتها. حُفرَت مساراتُ الأمان في حجَر جوانب الوادي الضيِّق، مُتسلقةً كالعناكب لأعلى الأَجرَاف — التي تُصيب المرءَ بالدوار حتى عند النظر إليها من الأسفل — بحيث يمكن الهروب إذا بدأ منسوب المياه في الارتفاع بسرعةٍ في الوادي الضيق. واستُخدمَت القوارب للدخول إلى أبعد الأماكن التي يمكن الوصول إليها، لكن القوارب كانت محفوفةً بالمخاطر؛ حيث كان من الصعب العودة بها ضد التيار، كما أنها كانت عُرضة للانقلاب. كانت الغرف، والشلَّالات، والقنوات تُصبَغ بالماء عندما يصِل إلى كلٍّ منها — قناة هانكي، وغرفة مارتل، وقاعة رودولف، وقاعة مولر، والبحيرة الميتة، والكهف الصامت — حتى توقَّف التقدُّم لمدة قرنٍ تقريبًا في عام ١٩٠٤ بواسطة سيفون: نفقٌ مغمور بالكامل اكتشفَه المُستكشفون، وكان طويلًا للغاية حتى إنه لا يمكن السباحة فيه اعتمادًا على نَفَسٍ بشري واحد.

لم يتحقَّق التقدُّم التالي حتى عام ١٩٩١، عندما أفسحت تقنياتُ التنفُّس تحت الماء، ونشأة الغوص في الكهوف كتسليةٍ فائقةِ الخطورة، المجالَ لمزيدٍ من التوغُّل في هذا الدرب. في سبتمبر من ذلك العام، تمكَّن اثنان من الغوَّاصين السلوفينيين من السباحة في سيفون بالقُرب من البحيرة الميتة، التي كانت تؤدي إلى مجموعةٍ قيِّمة من الممرَّات والغرف الجديدة، حيث كان التيمافو يجري كنهرٍ ويتجمَّع على شكل بُحيرة. تسافر الآن فِرقُ الغوص كلَّ صيفٍ من جميع أنحاء العالَم في محاولاتٍ لمزيدٍ من التوغُّل على طول الممرِّ المائي المدفون من تلك النقاط التي يمكن الوصول إليه من خلالها. ويُقيمون معسكراتٍ أساسية في الظلام، مُنتظِرين أيامًا وأسابيع بزوغَ الظروف المُثلى، ثم يغوصون في الحبر.

يقول أحدُ المُستكشِفين الشباب المُعاصرين، وهو عضو في جمعية عِلم استكشاف ودراسة الكهوف الأدرياتيكية، ويُدعَى ماركو ريستاينو: «إنَّ نهر تيمافو حُلمٌ نحاول تحقيقه مترًا بعد متر.» يخلق هذا الحُلم هوسًا لدى مُريديه، الذين يُعرَفون باسم جروتيستي. تتنافس مجموعات الجروتيستي هذه معًا، ولكنها أيضًا تستوعب أنها لكي تُحقق أهدافها الكبرى المشتركة، المُتمثِّلة في الاستمرار في رسم الخرائط الكاملة لمسار التيمافو وتدفُّقه، فإنَّ عليها التعاون وتجميع شتات معارفها معًا.

هناك عددٌ قليل من الأماكن على هضبة الكارست حيث يمكن الوصول إلى النهر العديم النجوم من السطح. كلُّ هذه النقاط تقريبًا ذات تجاويف خطيرة. وكلُّها تقريبًا «مملوكة» لمجموعاتٍ مُختلفة التحزُّبات من المُستكشفين ورُوَّاد الكهوف، الذين يتحكَّمون في الوصول المحلِّي إلى التيمافو، والذين يمزجون في علاقتهم بتدفُّقه بين علم الخرائط، والمغامرة، والعلم، ونوع قهري من دراسة الأحلام، الذي كان يستهوي فرويد بالتأكيد (الذي زار أحدَ الكهوف العظيمة القريبة من شكوجان، حيث جذبَت انتباهه على نحوٍ غير مفاجئ الهوابطُ والصواعدُ المُنتفخة، وكذلك العقل الباطن لحارس الكهف، جريجور، الذي عاشَ في هذه الأرض السفلية التي تحمل الكثير من الطبيعية الرمزية للعمارة القضيبية، وأسمى كلَّ صاعدة — «مِسلَّة كليوباترا»، «برج إيفل» — باسم مكانٍ أو شيءٍ أخبره به زائرو كهفه).

أحد أماكن الوصول إلى التيمافو هو مَجرًى مُنهار في غابة الزان بالقُرب من قرية تريبيشانو. وهناك بئر مياه جافةٍ وضيقة تمتدُّ على عُمق ١٠٠٠ قدم رأسية من قاعدة الدولين في ممرٍّ مُستمر، ويتَّسِع عرضه عند أضيق نقاطه بما يسمح بدخول شخص واحد بجسمه، ويستمرُّ لأسفل وصولًا إلى غرفةٍ بحجم كاتدرائية يندفع من خلالها التيمافو. لقد كان السبب وراء قدومي إلى هضبة الكارست يُعزى جزئيًّا إلى محاولة النزول إلى متاهة تريبيشانو، كما يُفضَل معرفتها.

وأيًّا كانت طريقة الوصول إلى التيمافو، فإن الأعمال الاستكشافية خطيرة، وصعبة، ومُظلمة. بعد الهطول الغزير للأمطار، يُمكن أن يفيض التيمافو في بعض الأحيان حتى ٢٠٠ قدم فوق الارتفاع القياسي، وهو ما يُسفر عن مقتل أي شخصٍ عالِق في غرفة أو نفق، أو دفع الهواء تحت ضغوط هائلة أعلى الآبار التي تصبُّ في النهر. وعلى الرغم من جهود الجروتيستي على مدار أكثر من قرنَين من الزمان، فإن ما يقرُب من ١٥ في المائة فقط من تدفُّق التيمافو تحت الأرض معروف حاليًّا.

بالتفكير في أنشطة واضعي خرائط التيمافو هؤلاء، الذين كان مُعظمهم من الرجال، يُمكنك أن تُدرك بسهولة أن في تفانيهم وطقوسهم شيئًا أشبهَ بممارسة عبادة دينية مُعينة، حيث يكون النهر الذي بلا نجوم هو إلَهُهم الغيبي.

•••

يقول لوسيان ذات صباح: «أريدُ أن أُريك مكانًا مَنيعًا ومُقدسًا، يُشكِّل جزءًا كبيرًا للغاية من الأرض السفلية لهذه المنطقة.»

انطلقْنا على الأقدام عبْر شُجيرة مُتحدِّرة من رأس طريقٍ بالقُرب من بيت مزرعة مهجور على بُعد مِيل أو نحوه من البحر. تعلق الأشواكُ في كاحِلَينا ونحن نَسير. ونسحق المردقوش البري والزعتر تحت أقدامنا، ما يجعلهما يُخرِجان روائحهما. وتزهو الجنادب مع كل خطوة. وتفر السحالي مُسرعة، وتنجرِف ذُيولها فوق الغبار خلفَها. ويموج الهواء بالحرارة. لا يُوجَد ممرٌّ لِلمشاة، لكن لوسيان يشقُّ طريقه بثقةٍ صعودًا، مُتتبِّعين مُنحنًى بالجنوب الشرقي أثناء تسلُّقنا. نعبر مسارَ قطار ذا قضبان لامِعة. وعلى مسافةٍ لا تقرب كثيرًا من خط الأشجار، يقودنا لوسيان إلى ما يبدو كأنه واحة خضراء وسط ذلك الجفاف، حيث تنمو أشجار السنط والعُشب من مجرًى ضحلٍ في جانب التل.

يقول لوسيان: «قلةٌ من الناس يعرفون بوجود هذا المكان هنا. تروق لي حقيقة وجوده على مرأًى من خطِّ القطار والطريق الرئيسي بين البندقية وترييستي، في حين أنه غير مرئي للجميع باستثناء حَفنة من الذين يجتازونه.»

نشقُّ طريقَنا بين شجرتَيْن من الأشجار التي تُشكِّل معًا بوابة تؤدي إلى الموقع، ويتبع ذلك مجموعةٌ من الدرجات الحجرية التي تقود للأسفل؛ وهناك في قاعدة المجرى، يُوجَد مَدخل كهف. عند العتبة، تُوجَد عدة ركائز منحوتة من الحجَر الكلسي وقواعد الأعمدة، إحداها جزءٌ من الصخر الحي.

ندخل إلى ما هو بلا شكٍّ ساحة لتقديم النذور. يُوجَد مقعدان أو مذبحان حجريَّان مركزيان وطويلان يَمتدَّان بعرض الكهف، مع مُكعباتٍ فردية من الحجر الموضوع بينهما. وعلى جانبَي الكهف مَعْلمان بارزان مَنحوتان من الحجر الكلسي، كِلاهما على شكل إنسانٍ يمسك ثورًا بإحدى يدَيه، ويدفع باليد الأخرى بسكينٍ في صدر الثور.

«ما هذا المكان يا لوسيان؟ ما الذي يعنيه كلُّ هذا؟»

يقول لوسيان: «هذا هو مِيثرائيم: معبد تحت الأرض مُكرَّس لعبادة الإله مِيثرا. كان مِيثرا إله الفيالق العسكرية، ولم يكن معروفًا جيدًا في البانتيون، ويكاد لا يتذكَّره أحدٌ الآن، على ما أعتقد. وقد وُلِدَ من الصخر، ليُصبح بذلك إلهًا حقيقيًّا للعالَم السُّفلي، ووُجِدَت عبادة تأليهه في أماكنَ تحت الأرض في جميع أنحاء الإمبراطورية. كان هذا أحدَها، وربما كان يُستخدَم لأكثر من ٣٠٠ عام حتى هُجِرَ حوالي عام ٤٠٠ بعد الميلاد. عندما حفروا هذا المكان لأول مرة، عثروا على مئات العملات المعدنية وعشرات المصابيح الزيتية والجِرار.»

نجلسُ معًا على أحد المقاعد. ويتراقَص الذبابُ حيث يسقط الضوء على فتحة الكهف.

يقول لوسيان: «لا يزال الناسُ يأتون إلى هنا ويملؤهم الكثير من الإيمان؛ إنْ جاز التعبير. عثرتُ ذات مرة على صندوقٍ خشبي من العملات المعدنية، بعضُها قديم جدًّا، وكان موضوعًا وراء حجرٍ في الخلف. تركتُها بالطبع. ولكنها اختفت عند زيارتي التالية.»

كانت الميثرائية عبادة مزعومة غامضة انتشرت عبر الإمبراطورية الرومانية في الفترة من القرن الأول الميلادي إلى القرن الرابع الميلادي، حيث بزغت كنقيضٍ استفزازي للمسيحية المُبكرة، التي ارتأت فيها «تزييفًا شيطانيًّا» لطقوسها الناشئة. يتَّسِم نهجها الروحاني المُتصوف بالغموض؛ ذلك أنه لم يبقَ سوى القدْر الزهيد من المصادر التي يمكن أن تُساعدنا في استجلاء مُعتقداتها وممارساتها. فما نعرفه عنها هو إلى حدٍّ كبير بمثابة هندسةٍ عكسية لها من النقوش والأعمال الفنية التي عُثِرَ عليها في المعابد الميثرائية، ومن الإشارات العابرة التي وردت في الأدب الكلاسيكي.

نعلم أن الميثرائية كانت مُتمركزة في روما، لكن نعلم أيضًا أن معابدها كانت موجودة في جميع أنحاء الإمبراطورية، وصولًا إلى لندن، حيث اكتُشِفَت في عام ١٩٥٤ بقايا ميثرائيم أسفل شارع وولينج فورد، فيما هو الآن الطابق السُّفلي لمبنى بلومبِرج. ومن بين الأشياء التي عُثِرَ عليها أثناء التنقيب نموذجٌ مُصغَّر جدًّا لخوذة مصارع منحوتة من الكهرمان.

نعلم أيضًا أن الميثرائية كانت عبادة باطنية تحت الأرض من عدة نواحٍ. سياسيًّا، ظلَّت الميثرائية عبادةً سرية وبعيدة عن الأنظار؛ فكان أعضاؤها يتبادلون التحية بعلاماتِ تَعرُّفٍ مُشفَّرة. ولاهوتيًّا، كانوا يعبدون إلهًا خرجَ من الصخر نفسه. وطوبوغرافيًّا، كانت معابدها المُميزة تقع كلُّها تقريبًا تحت الأرض: أقبية المنازل، أو الكهوف الطبيعية، أو السراديب المَبنية خصوصًا لهذا الغرض، وهي عبارة عن غُرَف مُقدَّسة معروفة باسم سبيليا (أي الكهوف) أو كريبتا.

وبينما أنا جالسٌ هناك مع لوسيان، أفهم ما كان يَعنيه حين وصفَ هذا المكان بأنه «مكانٌ قوي». كان الناس يتوقَّفون هنا طلبًا للراحة ولتقديم القرابين على مدى ما يقرُب من ٢٠٠٠ سنة. كان العديد من زائري المكان الأوائل من أفراد الفيالق العسكرية العائدين من منطقة نزاعٍ بعيدة إلى روما أو إلى الوطن، أو المُغادرين من إيطاليا لمُهمة بعيدة. فقد كان أمثال هؤلاء بالتأكيد في حاجةٍ إلى الإيمان.

أرتاحُ أنا ولوسيان في أجواءٍ وِديَّة في البرودة، مُستمِعَيْن إلى الأغنية المُصاحبة للمشهد الطبيعي: طقطقة مسار القطار، وهمهمة الطريق من تحته، وأزيز الجنادب من الشجرة الخفيضة.

يقول لوسيان: «كانت المِيثرائية ديانة الجنود، وديانة الذكور. وكانت عضويتها حِكرًا فقط على الرجال.»

أُفكِّرُ في الغواصين المُستكشِفين في التيمافو باعتبارهم ميثرائيين مُعاصرين: يجاهدون في معابدهم المقدَّسة تحت الأرض، ويبحثون عن أماكنَ جديدة، واكتشافاتٍ جديدة، وأتذكرُ الطبيعة القائمة على نوع الجنس للأرض السفلية على مدى تاريخها. رجوعًا إلى رحلات الكتاباسيس الكلاسيكية، نجد أنَّ الرجال غالبًا هم مَن ينزلون ببطولة إلى العالَم السفلي لاستعادة النِّساء اللاتي حُوصِرْنَ، أو أُسِرنَ، أو فُقِدنَ: يبحث أورفيوس عن أريستيوس، على سبيل المثال، أو يُلاحق هرقل ألسيستيس. على مستوى الأساطير، غالبًا ما تكون الأرض السفلية مكانًا يتمُّ فيه إسكات النساء أو يتكبَّدْن فيه خسائر فادحة نتيجةً لأخطاء الرجال. تُساعد أريادني ثيزيوس في التغلُّب على المتاهة، ولكنه يهجرها، ثم يقتله أرتميس في بعض الروايات. ويُهدِّد كريون بدفن أنتيجون حيةً لمُعاقبتها على دفن شقيقها، بولينيكس، ولنزع قُوَّتها سياسيًّا؛ فتشنق نفسها في حالةٍ من اليأس. يأسر هاديس بيرسيفوني، ثم يُجبرها على العودة كلَّ عامٍ إلى مُلكه في العالَم السفلي، حتى بعدما تُنقذها ديميتر.

ومع ذلك، فهناك أيضًا أمثلة بارزة تتعارَض مع ذلك في العصر الحديث، نساءٌ يُعِدن كتابةَ هذه النماذج القديمة بشجاعةٍ وخبرة. فبعثات النجم المُظلم في أوزبكستان لاستكشاف النظام الذي قد يُسفر عن التوصُّل إلى أعمق كهفٍ معروف قادها مُستكشفو كهوف من الإناث، اللائي يَعبُرن البحيرات تحت الأرض والصدوع المليئة بأزهار الجليد الأزرق. كما قادت عالِمات مُستحاثات البشر بعثاتِ النجم الساطع في الدولوميت في بلوبانك بجنوب أفريقيا، ونقَّبن عن مواقعِ دفنٍ لأشباه البشر الأوائل. وكان على كل واحدة من هؤلاء النساء أن تمرَّ من خلال فتحةٍ عرضُها أقلُّ من قدَم للوصول إلى البقايا الحفرية، وأصبحت المجموعة تُعرَف باسم رائدات الفضاء تحت الأرض. جمعت عالِمة الأحياء الدقيقة ومُستكشِفة الكهوف هيزل بارتون الميكروبات في بيئاتٍ قاسية تحت الأرض من أجل البحث في مقاومة المضادات الحيوية، ولدَيها وشمٌ على عضلة ذراعها الأيسر لخريطةِ كهف الرياح في داكوتا، وهو الموقع الذي شهدَ إجراء الكثير من أبحاثها. رسَمَها شخصٌ مجهول مثله مثل أي ميثرائي مُعاصر. يقول بارتون: «عندما تكون في الكهف، فإنك … تشعُر بما تشعر به عند الوقوف على القمر لأول مرة. حيث تكون أول شخصٍ يراه على الإطلاق. لم يتبقَّ الكثير من الأشياء التي تُعطي هذا الانطباع بالاستكشاف؛ حيث يمكنك أن تذهب وتجد أرضًا مجهولة لم يكن الناس يعرفون بوجودها.»

أغادرُ أنا ولوسيان الكهفَ. تسقط علينا أشعة الشمس بقوة كما لو كانت صفيحة من البرونز. وعلى الساحل بالأسفل، نجدُ الامتداد المُلوَّن لمنطقةِ ميناءٍ صناعي، مع كُتَل صفراء من حاويات الشحن وسلسلة من الرافعات الحمراء المائلة فوق الماء.

يقول لوسيان: «إنه حوضُ بناء سفن مُتخصِّص في سفن الرحلات البحرية. إنهم يصنعون السفن كما لو كانوا يصنعون سيارات فيات باندا بالأسفل هنا.»

نَسمعُ صريرَ الجنادِب، وطنينَ النحل، ونشمُّ رائحة الأعشاب. ونستمر في السير نحو البحر الذي يُشبه رقائق القصدير.

•••

إنَّ التيمافو هو نهرٌ واحد فقط من بين العديد من الأنهار العديمة النجوم والمغمورة في باطن الأرض التي أغرَتِ الناسَ للنزول إليها، الأمر الذي يكون قاتلًا في بعض الأحيان. كتبَ تيوفيل جوتيه عام ١٨٦٨: «يمكن لِقمَّةٍ أن تكون لها قوة الجذب نفسها التي لا تُقاوم لهاوية.» والعكسُ صحيح.

الملاك الساقِط لعلم الكهوف الفرنسي هو رجلٌ يُدعَى مارسيل لوبنز، وقد استحوذ عليه في سنٍّ صغيرة ما يُطلِق عليه مُستكشِفُ الكهوف البريطاني جيمس لوفلوك «الشغفُ بالأعماق … أراد الذهاب إلى أماكنَ أعمقَ وأبعد في قلب الأرض الصخري ممَّا ذهب إليها أي إنسان من قبل.» تحت إرشاد رائد مُستكشفي الكهوف الفرنسيين المُعاصرين؛ نوربرت كاستريت، قادَ لوبنز العديد من استكشافات القرن العشرين في جبال البرانس، التي كانت تُعَدُّ في ذلك الوقت «جبال الهيمالايا» لعالَم استشكاف الكهوف.

في صيف عامَي ١٩٥١ و١٩٥٢، شاركَ لوبنز في بعثات نزول هُوَّة بيير سان مارتن، وهي بئرٌ من الحجر الكلسي الجاف من المياه يمتدُّ عُمقها، بدءًا من فتحتها المتواضعة غرب البرانس، لأكثر من ١١٠٠ قدم إلى قاعدتها. وقد وجدَ أن هُوَّة سان مارتن تتميَّز بأنها نقطة الدخول إلى ما كان يُعتقَد في ذلك الوقت أنه النظام الكهفي الأعمق وصولًا في العالَم — سلسلة من الغُرَف تنتهي بالأسفل إلى نهر تحت الأرض — وأصبحت بؤرةَ تركيز النشاط الكهفي المُكثَّف. في عام ١٩٥٢، ولتسريع حركة الناس صعودًا ونزولًا في البئر، صُمِّمت رافعة كهربائية وثُبِّتت في مكانها عند فوهة الهُوَّة.

كان لوبنز أحد أكثر مُستكشِفي بيير سان مارتن التزامًا، وتطوَّع بنفسه لأول نزول بالرافعة في البئر. ثبَّتَ نفسه في الحبل، وظهره فوق حافة الهُوَّة، وصاحَ مُودِّعًا كاستريت: «وداعًا يا أبي.» وهو يختفي عن الأنظار. ثم أنزلته الرافعة في البئر، ورأى دائرة السماء الزرقاء تتضاءَل من قُرصٍ لنقطة، حتى حُجِبَت الرؤية تمامًا. كانت جوانب البئر في بعض الأماكن مصقولة وملساء كالزجاج بِفِعل الماء.

وصلَ لوبنز بأمانٍ إلى القاعدة، وقضَى الأيام الخمسة اللاحِقة تحت الأرض، وهو يقود استكشاف مناطق أبعدَ في النظام بالأسفل نحو النهر عديم النجوم، مُندهشًا بما كان هو ورفاقه يكتشفونه. قال لأصدقائه وهو يستعدُّ لأن يُرفَع بالرافعة عائدًا لأعلى: «بالكاد بدأ العرض.»

كان لوبنز قد ارتفع حوالي خمسةٍ وثلاثين قدمًا عندما التوى المشبك الذي كان يربطه بالسلك. صرخَ وهو ينزلق على السلك، وسقط، ثم اصطدم بحقل الجلاميد عند قاعدة البئر، قافزًا من صخرةٍ إلى أخرى على مدى أكثر من ١٠٠ قدم.

عندما وصل إليه رفاقه، كان بالكاد على قيد الحياة. بُذِلَت جهودٌ كبيرة لإنقاذه، لكن إصاباته كانت كثيرةً جدًّا وخطيرة للغاية — من بينها كسرٌ في العمود الفقري وتهشُّمٌ في الجمجمة — لدرجةٍ استحالَ معها تمامًا تحريكه. ومات بعد ستٍّ وثلاثين ساعة من أول سقوط.

استخدم أصدقاء لوبنز على السطح مصباح أسيتيلين لينقشوا على صخرةٍ قريبة بالفرنسية ما معناه «هنا قضى مارسيل لوبنز الأيام الأخيرة من حياته الشجاعة.» ودُفِنَ جثمان أولئك الذين كانوا لا يزالون في قاعدة الغور تحت كومة من الجلاميد، ومَيَّزوا الموقع بصليبٍ حديدي مُغطًّى بطلاءٍ مُضيء. كان لوبنز قد حقَّق هدفه في العثور على مأواه في أعماق الأرض.

بعد عامَين من وفاة لوبنز، في ١٢ أغسطس عام ١٩٥٤، تطوَّع قِس شاب بلجيكي يُدعَى جاك أتوت لإنزاله إلى قاع بيير سان مارتن. أقام أتوت قُدَّاسًا في ذكرى لوبنز، حيث استخدمَ خزانة أدوية معه كمَذبح، ورافقه نوربرت كاستريت كمساعدٍ له. وقد أعاد القدَّاس إلى الأذهان لاحقًا، حيث ذكره في فقراتٍ أصبحت الأكثر شُهرة من نوعها في أدب الكهوف لِما فيها من تقارُب بين اللاهوت والجيولوجيا:

لن يحدث أبدًا بعد اليوم أن أُحْيي مثل هذا القدَّاس في مكانٍ كان وثيقَ التآلُف والانسجام مع القربان المُقدَّس … لا بدَّ أننا كنَّا في هذا الكهف الشاسع نُشبه الحشرات أكثر من البشر. وعلى الرغم من ذلك، كانت أرواحنا مُتشوقة. كنا بعيدين جدًّا عن بيئتنا المُحيطة، أو إذا كنا نشعُر بها بأي حالٍ من الأحوال، فذلك لأنها قد فقدت شيئًا من خاصيتها المادية وأصبحت شاسعةً ومُضيئة.

إنَّ سعي لوبنز المُتعطِّش وراء المعرفة بالأرض السفلية ليس اختراعًا حديثًا بالطبع. إذ تُسجل المصادر الكلاسيكية استخدام مَخاريط الصنوبر أو الأكواب الخشبية كعلامات — تطفو في الجداول والأنهار المُختفية في الكارست، ثم تعود لتظهر من جديدٍ في مكانٍ آخر — من أجل تتبُّع أنماط التدفُّق المغمور للمشهد الطبيعي. ومع ذلك، فقد وصلت مُمارسات رسم الخرائط العميقة هذه في العصر الحديث إلى أقصى درجات التعبير تطرُّفًا وخطورة.

في قِمم أوروبا شمال إسبانيا، قُضِيتْ أربعون عامًا من الحملات الاستكشافية في محاولةِ إقامة الروابط التي من شأنها أن تؤدِّي إلى استكمال نظام أريو، الذي يمتدُّ نظريًّا إلى ما يقرُب من ٦٠٠٠ قدم رأسية. يُعرف المشروع — الذي جرَتْ مُشاركته عبر أجيال من مُستكشِفي الكهوف من بلدان عدة — باسم «حُلم أريو»، وهدفه هو إنشاء أعمق مَمرٍّ تحت الأرض في العالم، حيث يُمكن للمرء أن يهبط بالحبال في هُوَّةٍ بين قِمَم الجبال، ثم يظهر بعد عدة أيام في شفق الوادي العميق. إنَّ نظام أريو رحبٌ للغاية لدرجةِ أن استكشافه يتطلَّب رحلةً استكشافية على نمط استكشاف الكهوف، حيث تُقام مُعسكرات القواعد والمعسكرات المُتقدمة بعيدًا تحت الأرض كمواقع يُمكن تخزين المُعدَّات فيها مؤقتًا ويمكن النوم فيها في الخيام، تمامًا مثلما يحاول مُتسلقو الجبال التحرُّك على قمة إيفرست بين المعسكرات المتتالية أثناء صعودهم. كما أن مهارات الغوص في الكهوف أساسية لحملات أريو الاستكشافية؛ لأن الأماكن الأبعد في النظام مغمورة بالمياه. يندفع الغوَّاصون في الظلام مع وجود هوامش خطأ جيدة — وغالبًا ما يرجعون بسبب الاختناقات أو الموت — ويدخلون مناطقَ ليست على الخريطة في باطن الجبل، والمُشار إليها في خرائط إمبراطورية قديمة تعود إلى القرن التاسع عشر باعتبارها «مساحة فارغة». تحضُرني هنا إجابة شهيرة لجورج مالوري عن السؤال «لماذا تتسلَّقون جبال إيفرست؟» حيث قال: «لأنها هناك.» عدَّل مُستكشِفو الكهوف الجامحون إجابةَ مالوري مازِحين عندما سُئلوا لماذا يُخاطرون بحياتهم من أجل نظامٍ كهفي فائق العُمق، حيث قالوا «لأنه ليس هناك.»

من بين الطموحات المُحفِّزة للعديد من رواد الفضاء الكهفي هؤلاء، هو الربط والإتمام: اكتشاف مسارات التدفُّق الداخلي والربط بينها. يحكي مارتين فار في كتابه «غواية الظلام» قصة السنوات الأربع التي قضاها غوَّاصَا الكهوف جيف ييدون وأوليفر «بير» ستاثام في محاولة الربط بين كهف كينجسدايل ماستير وكيلد هيد في يوركشاير ديليز: غرفتان على بُعد ميل ورُبع الميل مُتَّصِلتان بسلسلةٍ من الممرَّات المغمورة. أصبح الطريقُ معروفًا باسم جبل إيجير السُّفلي، دلالةً على خطورته. كانت الرؤية في الماء الشديد البرودة سيئةً للغاية بسبب مُحتواه من الطمي، وكان هناك بعض الجيوب الهوائية حيث يمكن للرجال أن يظهروا على السطح لتبادُل أسطوانات الأكسجين. في وقتٍ مُبكِّر من استكشافهما للنظام، عثرَ ييدون وستاثام على جثةِ غطَّاس مات هناك منذ خمس سنوات، واستعاداها. أكملَ الرجُلان في النهاية الاجتياز بنجاحٍ في ١٦ يناير ١٩٧٩، وهو إنجاز رائع في ظروف بائسة. وبعد ثمانية أشهر، انتحرَ بير ستاثام في ورشة فخار في سيدبيرج. إذ ارتدى على وجهه قناع غوصٍ ومُنظِّم تنفُّس، وأوصله بمصدر الغاز الخاص بفرنه، ثم استلقي على أريكته ومات.

إنَّ بوابة الدخول إلى العديد من الأنظمة المغمورة الأكثر طولًا تكون من خلال البِرَك المُتواضعة التي تنبُع في أرضٍ عراء مكشوفة. ثمَّة نظامٌ من هذه الأنظمة كان الدخول إليه عبر بُحيرة صغيرة تُسمَّى بلوتوبف في ألمانيا، وآخر عبر بُحيرة أخرى في وسط النرويج معروفة باسم بلورا، والتي أودت بحياة اثنَين من الغواصين. وفي كيب الشمالية بجنوب أفريقيا، على حدود صحراء كالاهاري، يُوجَد كهف بوسمينسجات أو حفرة بوشمان. يُوجَد هناك ما يبدو أنه أكبر بقليلٍ من بركة توفِّر مدخلًا إلى غرفة مغمورة بالمياه بعُمق ٨٨٥ قدمًا.

بضعُ عشراتٍ فقط من الأشخاص هم مَنْ غطسوا تحت عُمق ٧٩٠ قدمًا مُستخدِمين معدات الغوص. وذلك لأنَّ الغوص على مثل هذا العمق الفائق تكون له آثار وخيمة على أجسام الذين نجَوا بحياتهم، بما فيها تلَف الرئة وفقدان السمع، كما يرتفع مُعدل الوفيات بين أولئك الذين يحاولون الغوص على مثل هذه الأعماق. في عام ١٩٩٤، مات غوَّاص كهوف شاب يُدعَى ديون درير في الأعماق السحيقة لنظام بوسمينسجات الكهفي. ولم يُعثَر على جثمانه إلا بعد عشر سنوات، حيث كان مغمورًا في الطمي في أرضية الغرفة. ومن ثمَّ وُضِعَت خطط دقيقة لانتشال جثته، من أجل جلبِها بالقُرب من أسرته المكلومة. غير أنَّ الغوَّاص الرئيسي في عملية استرجاع الجثمان، وكان رجُلًا بريطانيًّا يُدعَى ديف شو، اشتبكَ في حبل الأمان الذي كان مُعلَّقًا به أثناء محاولة وضع جثمان درير في الكيس الحريري الذي أحضره معه لهذا الغرَض. زادَ معدل تنفُّس شو وتسارَعَت ضربات قلبه مع قلقه وتوتُّره المتزايد. وكانت رقبة درير قد أصبحت رخوةً بمرور عقدٍ من الزمان عليها في الماء، وعندما حاول شو تحريك رأس درير، ارتخى من جسدِه، ثم انفصل تمامًا وطفا أمام شو، مُلتفتًا لينظُر إليه عبر نظارته السوداء، تلك اللحظة التي التقطتها الكاميرا المُثبَّتة في رأس شو. وبعدها بفترةٍ وجيزة، ماتَ شو نفسه جرَّاء الاختناق الناجِم عن زيادة ثاني أكسيد الكربون.

بعد أربعة أيام من وفاة شو، عادَ الغوَّاصون إلى الكهف. ومما استرعى دهشتهم أنهم وجدوا جثة شو تطفو بالقُرب من سقف الغرفة، مع مصباحه المُعلَّق تحته، والذي كان لا يزال مضاءً. وظهرت جثة درير المقطوعة الرأس وقد أضاءها شعاعُ مصباحه. وهكذا استطاع شو — بعد موته — أن يُحقِّق ما شرعَ في القيام به وهو استعادة جثمان سَلَفه من الظلام.

لسنواتٍ لم يسَعْني استيعاب هذه المساعي وراء المياه المظلمة، والأنهار الخفية المُعتِمة، والأعماق المُروِّعة إلا كنماذج شرسة من الحافز نحو الموت والتدمير الذاتي، بل إنها أشرس حتى من الحافز لدى أشجع مُتسلِّقي الجبال. غالبًا ما تكون لغة استكشاف الكهوف العنيف المُتجاوز للحدِّ صريحةً فيما يتعلَّق بالموت والفناء وذات تضميناتٍ أسطورية: امتدادات ممر «ميت»، وشخص يصِل إلى «مُستنقع أخير»، و«الاختناقات»، كما تُعرَف الأماكن الموجودة على أعماقٍ سحيقة ﺑ «المنطقة الميتة». لكن مع مرور الوقت رأيتُ أنه — على غرار ما نجِده في تسلُّق الجبال المتجاوز للحد — كان هناك جانب آخر لنزوة الموت قَيد التطبيق. غالبًا ما يصِف الغوَّاصون وغوَّاصو الكهوف تجاربهم من حيث النشوة والسمو. يقول الغواص البريطاني دون شيرلي، الذي غطسَ في بوسمينسجات على عُمق ٧٩٠ قدمًا: «لقد مررتُ بمثل هذه اللحظات الجميلة في الماء. تكون في مكانٍ خالٍ تمامًا، كالحال عند وجودك في الفضاء الخارجي … وتصِل إلى النقطة التي لا يُوجَد فيها إله، ولا ماضٍ، ولا مُستقبل، فقط اللحظة الراهنة والمللي ثانية القادمة. إنها ليست بيئةً مُتوعِّدة ومُهدِّدة، بل هو فقط الصفاءُ التام.»

وصفَتِ الغوَّاصة الحُرَّة ناتاليا مولتشانوفا الوقتَ الذي قضته أسفل السطح على نحوٍ مُماثل؛ حيث قالت عنه إنه كالذَّوَبان الذاتي. كانت مولتشانوفا واحدةً من أوائل الأشخاص الذين مارسوا الغوص الحُر في الثقب الأزرق، وهو مجرًى بعُمق ٣٩٠ قدمًا في البحر الميت، ويحتوي على «القوس»، الذي هو فتحة في جِدار المجرى تربطه بالمُحيط المفتوح. يُزعَم أن أكثر من مائة غوَّاص حُر وغوَّاص بمعدات التنفُّس قد لقُوا حتفهم في الثقب الأزرق، نتيجة انجذابهم إلى أعماقه بدافع الأهواء والرغبات المُعقَّدة. غاصت مولتشانوفا في الثقب الأزرق بنفَسٍ واحد، بأمان، في إنجازٍ مُذهِل. ولكن في أحد أيام شهر أغسطس لعام ٢٠١٥، غاصت للترفيه بعيدًا عن ساحل إيبيزا لمسافةٍ تتراوح ما بين ١٠٠ قدم و١٣٠ قدمًا، وهو غوصٌ سطحي بالنسبة إلى شخصٍ في مثل قُدراتها وخبرتها النادرة. غير أنها لم تظهر مرةً أخرى على السطح، ولم يُعثَر على جثمانها قط.

كتبت مولتشانوفا في قصيدة بعنوان «العُمق»: «لقد أدركتُ عدَم الوجود.» ثم أردفَت:

صَمْتُ الظلام الأبدي،
واللانهاية،
تجاوزتُ الزمن،
وتدفَّقَ الزمن داخلي،
وأصبحنا
راسخَيْن،
يتماهى جسدي في الأمواج …
وأصبحتُ مثل هاويته الزرقاء،
فاطَّلعتُ على سرِّ المُحيط.

لم يحدُث سوى مرةٍ واحدة خلال سنوات عملي في الأرض السفلية، أن اقتربتُ من متاهةٍ مغمورة بالمياه، وقد مررتُ بتجربةٍ هناك ساعدَتْني في فهم جزءٍ بسيط من الصفاء الذي كان شيرلي يتحدَّث عنه. تمتدُّ المتاهة تحت منطقة وسط بودابست، على جانب النهر المُطل على مدينة بودا، ودخلتُها بصحبة جيولوجي مجَري، ومُستكشِف كهوف، ومُتسلقٍ يُدعَى سابولتش ليل أوسي. بُنيَت بودابست جزئيًّا على الحجَر الكلسي، وتحتوي مدينتها غير المرئية على كلٍّ من شبكات المناجم وأنظمة الكهوف الناجمة عن تدفُّق المياه الدافئة المُذيبة لأعلى. في ليلة صيف حارة تُغنِّي فيها الحشرات أعلى الأشجار في الشوارع، انزلقتُ أنا وسابولتش عبر فجوة في بوابة من الفولاذ الثقيل، وفتحْنا بابًا يقع في صخر الأساس، واتبعْنا نفقًا محفورًا في الحجر الكلسي، ثم ظهَرْنا في غرفة كهفٍ مغمور تحت المدينة. كانت الغرفة — التي كان حجمُها أكثر من ٤٥٠ ألف قدم مُكعبة — هي نقطة الوصول إلى شبكة الأنفاق المغمورة أسفل المدينة. من هنا، وعلى مدى سنوات، شرعَ غوَّاصو الكهوف في رسْم خريطة لمتاهة بودابست تحت الماء.

نزلتُ أنا وسابولتش ببطءٍ في الماء عند حافة الغرفة، وسبحَ كلٌّ منَّا على ظهره ببهجةٍ لمدة ساعة من اللَّيل في هذا المكان المفقود أسفل المدينة. عندما أتذكَّرُ هذه التجربة الآن، أشعرُ كما لو أنها حُلم. كانت درجة حرارة الماء، النابع من أعماقٍ بعيدة داخل الأرض، ثابتة عند ٢٧ درجة مئوية. وكنت أشعرُ بعُمق هائل يُفتَح أسفل منِّي ومن حولي في الظلام، لكنِّي لم أشعُر بأي دوار، فقط اجتياحاتٌ عَرَضية للروح. كان الماءُ نقيًّا نقاءً عجيبًا، وكانت أطرافي تتحرَّك فيه كما لو كانت أطراف شخصٍ آخر.

قال سابولتش في لحظةٍ ما: «إنني هنا في سلام داخل الصخر.»

كانت مُحادثتنا مُتقطعة. إذ كانت تتخلَّلها فتراتٌ طويلة من الصمت. وقلَّما شعرتُ براحةٍ أكبر مما كنتُ أشعر بها في ذلك المكان الأشبه بغشاء الجنين الداخلي.

قال سابولتش: «قبل أن نُغادر، يجب أن ترى المَدخل الحقيقي للمتاهة.» جَدَّفَ عبر جدار بعيدٍ من الغرفة. وتَبعْتُه. ثم قال: «والآن. اغطس وافتح عينَيك. لن يؤذِيَك الماء.»

أخذتُ عدة أنفاس عميقة، ورفعتُ ذراعي فوق رأسي، وضمَمتُ ساقيَّ، وطردتُ الهواء من رئتيَّ في اندفاع الفقاعات، وغطستُ ببطءٍ. على عمق عشرة أقدام أو نحو ذلك، كان ضغط الماء يزيد على رأسي وجلدي، فحركتُ يديَّ كالمروحة للحفاظ على ثباتي، وفتحتُ عينيَّ. ضغطَ الماءُ برفقٍ على مُقلتيَّ. كانت أمامي في الماء فتحةٌ سوداء لمَدخل النفق، تمتد بعيدًا إلى داخل الصخر، وتتَّسِع كثيرًا بما يزيد على إمكانية ابتلاعي في جوفه، وحوافُه الحجرية ملساء. كان سَحبُ الفتحة عبر ذلك الماء الصافي غريب الأطوار هائلًا. تمامًا كما يشعُر المرءُ عند الوقوف على حافة بُرج بالانجذاب نحو السقوط، ومن ثمَّ شعرتُ برغبة قوية بالسباحة إلى داخل الفتحة، حتى نفدَ الهواء منِّي بقدرٍ غير هائل.

•••

عاليًا فوق هضبة الكارست، وفي أعماق غابات الزان: أقتربُ أنا ولوسيان من مدخل هاوية تريبيشانو سيرًا على الأقدام عبر الغابة. تُهسهِس حشراتُ الزيز في أشجار السنط. وتقطع الطريقَ فوقَنا طيورٌ طويلة الذَّيل لا أعرفُ اسمها. يتملَّكني شعورٌ بالتوتُّر حولَ ما ينتظرنا، بالأسفل. ويَحدُوني الحماس والشَّوق لما قد أراه، والمدى الذي يُمكنني بلوغه. وها أنا أحملُ البومة المنحوتة من عظام الحوت في أحد جيبيَّ. وأحملُ في الآخر العُلبة البرونزية في حال اتَّضح أنَّ الهاوية هي المكان الذي يُمكنني أن أتخلَّصَ منها فيه.

ينتظرنا سيرجيو في الغابة. نشم رائحته قبل أن نراه؛ إذ يتصاعد دخان تَبغِه في الهواء، ثم يظهر سيرجيو نفسه مُتكئًا على جدار كوخ. أعتقدُ أنه يبلُغ من العُمر حوالَي سبعين عامًا. إنه قصيرٌ وعريضُ المنكبَيْن، ويرتدي قُبعة مسطحة، ويدخِّن غليونًا خشبيًّا، وهو حارسُ البوابة والمُرشِد إلى الهاوية.

نشأ سيرجيو وترعرع في الكارست، ونزلَ لأول مرةٍ إلى الهاوية عندما كان شابًّا في فترةِ ما بعد الحرب. استهوته تلك التجربة، وأصبح النهر في قاعدة الهاوية هوسَهُ مدى الحياة. وعلى مدى خمسين عامًا، شارك في رسم الخرائط للتيمافو واستكشافه.

أسألُ سيرجيو: «كم مرة نزلتَ إلى الهاوية؟»

فيهزُّ كتفَيْه، ويُفكِّر في السؤال. ثم يقول: «ربما … ٤٠٠ مرة؟»

«لماذا؟»

يرتبك سيرجيو على وقع السؤال. ويُفكِّر لبرهةٍ من الوقت. ويساعد لوسيان في ترجمة إجابته.

«لسنواتٍ عديدة، لم يكن هناك شيءٌ آخر يُمكن فعله. كما أنه ظلَّ، على مدى ثمانين عامًا بعد اكتشافه في عام ١٨٤١، أعمقَ كهفٍ معروف في العالَم. وها نحن أولاء الآن ندرُسه، ونتعرَّف على النهر و… سلوكه. عمَلُنا هنا لا يُعَدُّ مُهمًّا في نظر السلطات أو العلماء، لكننا ما زلنا نواصل السعي. هنا في الهاوية، نخلق … علومًا رومانسية.»

يبتسِم. ثم يقول: «ألورا»، ويقودنا إلى كوخ.

يُوجَد على الجدران نقشٌ بالحفر المائي للمنطقة، يرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر، وبَذْلاتٌ بُرتقالية مُعلَّقة على أوتادٍ تخصُّ استكشافَ الكهوف. وهناك صفٌّ من أجهزة الرصد تُصدِر إلى نفسها في هدوءٍ سلسلةً من الصفير كإشارة مسموعة. يفتح سيرجيو خريطةً أولية ذات مقاطع عرضية للكارست، ويبسطها على المكتب. يضيقُ صدري وأنا أنظرُ إليها. حيث تُظهِر مسار التيمافو تحت الحجَر الكلسي، من النقطة التي يقطع عندها الأرض في شكوجان، وحتى مسار تدفُّقه الخارجي إلى البحر الأدرياتيكي. الهاوية مُميَّزة، ويتتبَّعها سيرجيو بأصبعه: خط دائري ينعطف بسرعة وينزل للأسفل ثم للأسفل مرةً أخرى عبر الحجر ليصل إلى ما يشبه غرفة كبيرة، يجري بداخلها التيمافو.

يقول سيرجيو: «ألورا.» إنه رجلٌ قليل الكلام، ومعظم كلامه، كما علمت، هو كلمة «ألورا»، التي تعني «والآن»، «لنبدأ».

نُغادر الكوخَ ونمشي عبر غابات الكستناء الحلو والزان. الطقسُ مُنعش في الظل. ثم نصعد إلى حافة دولين واسع ومطمور. الدولين مليءٌ من قاعدته بالأشجار الطويلة والنحيفة، التي يبلُغ ارتفاع بعضها أربعين قدمًا. وبها القليل من الفروع نصف القُطرية ويكوِّن ظلها ما يُشبه سطحَ بحرٍ على مسافةٍ بعيدة فوقنا، حيث تكسو كلَّ شيءٍ بالضوء الأخضر فيما يُذكِّرني بأيكة إبينج مُشذَّبة الفروع والأغصان. من حافة الدولين، ينعطف مسارٌ للأسفل عبر كُتَلٍ من الحجر الكلسي إلى كوخ من الطوب عند أدنى نقطةٍ في الفوَّهة. الكوخ مبنيٌّ فوق مَدخل الهاوية.

إنَّه، كما يشرح سيرجيو، جديدٌ نسبيًّا. ذات يوم، بعد فترةٍ من الأمطار الغزيرة قبل بضع سنوات، جاءَ إلى الدولين ليجد الكوخَ السابق مُحطَّمًا. فقد سُوِّيت جميع الجدران الأربعة بالأرض على أثر انفجار، وتطاير السقفُ. في البداية اعتقدَ أنَّ شخصًا ما — ربما جمعية استكشاف كهوف مُعارِضة — قد فجَّرَ قنبلة داخل الكوخ. ثم أدركَ السببَ الحقيقي. فقد فاضَ التيمافو بسرعةٍ جعلت مياهَ الفيض المفاجئ تصعد الدولين على نحوٍ سريع للغاية لم يُسمَح معه للهواء في الأعلى بالإفلات منها؛ وهو ما جعل الكوخ بمثابة غرفةٍ لاحتباس الضغط حتى انفجر ببساطةٍ مثل بالون مملوءٍ بالهواء بشكلٍ زائد.

يفتح سيرجيو بابَ الكوخ، ويُريني ما يبدو كحُجيرة استحمام، ولكن دون وجود رأس دُشٍّ مَرئي. الأرضياتُ من البلاط البُني الخشن؛ إذ لا يزال التيمافو في بعض الأحيان يرتفع في فورة هياجه العارم إلى هذا الحَد. ويُسهِّل البلاط مُهمة التنظيف.

يُوجَد بابٌ أرضي مُثبَّت في الأرضية، بالقرب من أحد الجدران.

يقول سيرجيو وهو يرفع الباب: «ألورا.»

تنكُز معدتي. هناك بابٌ آخَرُ يؤدي إلى الظلام، بوابة أُخرى إلى الأرض السفلية — يؤدي هذا الباب إلى ممرٍّ أسطواني نحته الماءُ من الحجَر الذي يمرُّ عبر الصخر إلى نهر جامح. تتدافع المخاوفُ المُعتادة في وجهي كالخفافيش، في شكل أسرابٍ متهافتة ومتشابكة.

يقول لوسيان الذي قرَّر البقاءَ فوق الأرض: «أراكم على الجانب الآخر.»

نبدأ نزولنا. نتقدَّم عن طريق سُلَّم خشبي، ثم مُنبسَط الدَّرج، ثم نتسلَّق إلى الأسفل. العديد من السلالم درجاتُها مفقودة. وهناك مواضعُ أُضطَرُّ فيها إلى التأرجح على دعامةٍ واحدة، ثم أتلمَّس طريقي للأسفل كي أجدَ موطئ قدم، ويروعني منظر البئر تحتي على مسافةٍ بعيدة. أُمسكُ بنقاط الأمان الموجودة، واحدةً بعد الأخرى، وأتركها. ثم تأتي بعضُ الأرصفة، والممرات الجانبية، وقطاعاتُ البئر الضيقة. يتملكني شعورٌ — مألوفٌ لي الآن — بأنَّ السطح أصبحَ بعيدًا، بمنظورٍ غيبي، بأنَّ كتلة الصخر وعُمقه آخِذان في التزايُد.

يتحرَّك سيرجيو ببطءٍ ولكن بثبات، وكلُّ خطوة يمشيها وينزلها ويضغط بها مألوفة له. أستطيعُ سماعَ صرير رئتَيْه وهو يتقدَّمني. والطينُ يصنع خطوطًا على الجدران تسجِّل مناسيب ارتفاع مياه التيمافو في فترات فيضانه المختلفة.

لا أستطيعُ الآن أن أقول كم استغرقت عملية النزول. أتراها استغرقت ساعة؟ ساعتَيْن؟ لم يكن الوقت مؤثرًا؛ ذلك أنه لم يكن هناك شيء لتسجيله سوى ضربات القلب الأشبه بالمِطرقة وصرير الرئتَيْن.

بعد أن نزلنا لمسافةٍ طويلة، يتوقَّف سيرجيو، وينظُر لأعلى باتجاهي، ويضع أصبعًا على شفتَيْه ويَده على أذنه. لا أستطيع سماعَ شيء.

يقول «هدوءًا. اهدأ تمامًا.»

أتنفَّسُ برفق قدْر المُستطاع، بينما أنا مُعلَّقٌ بذراع واحدة وساقايَ مُثبَّتتان على جانبي البئر. وإذا بي أسمعُ شيئًا: صوتَ هدير بعيد، همهمة من الضجيج الأبيض، يصدُر من البئر باتجاهنا، مُرتطمًا بأقدامنا وآذاننا.

يقول سيرجيو: «إنَّه النهر.»

نُواصِلُ النزول لأسفل، ويعلو صوتُ الهدير. يقوم البئرُ بإحدى قفزاته الجانبية المفاجئة، ونتقوقع حول أحد الأركان، وتهوي بنا أرضيةُ النفق مرةً أخرى تحتنا إلى بابٍ سرِّي طبيعي يقودُ إلى ظلامٍ مُطبِق. يُومئ سيرجيو بأنه ينبغي لي أن أقودَ الطريق.

«ألورا.»

يشيرُ لأسفل حيث الباب المؤدي إلى المجهول. فأستديرُ لمواجهة الصخر وأخفضُ نفسي من خلال الفجوة، وأدوس بقدَمَيَّ بحثًا عن مَوطئ قدمٍ على أرضٍ ثابتة في الأسفل. أشعرُ بوجود مساحةٍ كبيرة من حولي، مساحة مُذهلة بعد الحيز الضيق الذي مرَرْنا عبره في البئر. أصبح صوتُ الهدير الآن مثلَ ضجيج الطرُق السريعة. ثمة شيءٌ ما، مثل سطح، قادم للقائي في الظلام. أقفزُ للخلف وأهبطُ برفقٍ على رمال.

إنها رمالٌ سوداء.

كثبانٌ من الرمال السوداء مع حُبيباتٍ ذهبية وسط السواد. ومن وراءِ ذلك كثبان، تتحرَّك بسرعةٍ فائقة.

يظهر سيرجيو بجانبي.

تتكيَّف أعيُننا مع الفضاء، وتبحثُ المصابيح الأمامية على رءوسنا عن المعلومات. الصخرُ من فَوقي ومن خلفي، يشكِّل قوسًا بعيدًا فوقي. تنعطف كثبانُ الرمال السوداء أمامي فيما يُشبه القوس، حيث ترتفع إلى يساري، وتنهمِرُ بعيدًا إلى يَميني.

الجلاميد، الصخور الضخمة، مطمورةٌ في الرمال إلى يميننا ولكن ليس إلى يسارنا. الهديرُ قادمٌ من مكانٍ بعيد إلى اليمين، والهواءُ مليءٌ بالرمال، الرمال السوداء الناعمة، التي نتنفَّسها والتي تدورُ ببطءٍ في أشعة الضوء.

تسقط أشعة مِصباحي على الحجر الذي نراه على البُعد، حيث الجدار المُقابل لهذه الغرفة الواسعة. أنظرُ لأعلى وحولي حيث قباب السقف في الظلام، وأرى بالقُرب من قِمَّته المَدخل المُظلم لبئرٍ من نوعٍ ما، يستحيل الوصول إليها من الأرض، حيث تُوجَد هابطة سميكة تتدلَّى من الصخر عبر فتحتها.

بدا الأمر وكأننا من سُكانِ كوكب الأرض وقد نزلنا عبر سقف هذه الغرفة على كوكبٍ آخر، حيث سقطنا في إحدى صحاري الأرض السُّفلية، ذات رمالٍ سوداء ناعمة وحُبيباتٍ ذهبية دقيقة. أهزُّ رأسي في دهشةٍ وخوف. ويقف سيرجيو بهدوءٍ بجانبي. فقد رأى هذا المكان وتأثيره في الناس من قبل.

ثم يَمدُّ يدَه ليغلق مصباح رأسه، وأفعل مِثله، ولبضع دقائق نقفُ هناك على تلك الرمال الناعمة، في ذلك الظلام الكثيف. نستشعِر حولَنا في الأرجاء، وبشكلٍ مكثَّف، سرَّ ميثرا؛ إله الحجر.

ثم يَحُك سيرجيو عودَ ثقاب لإشعال غليونه، ويُكيِّف الظلام نفسه على الفور حول شعلة النار تلك الصغيرة المُضاءة. وتنتشِر رائحة التبغ في المكان. وتتوهج فوَّهة الغليون. ينتظر سيرجيو، ثم يُدخن بسرورٍ وطول أناة.

يقول بعد فترة: «ألورا». ثم يُومِئ قائلًا: «إلى النهر.»

أقودُ الطريق مُتَّبِعًا الصوت والانحدار. ونتحرك بين كثبان الرمال السوداء، صاعِدَيْن في البداية إلى وسط الغرفة لتفادي الصخور الشديدة الانحدار التي تتساقط على يَميننا. إنَّ المشهد الطبيعي الذي نمرُّ به ما هو، كما أستوعبُ، إلا تَكرارٌ مُؤقَّت لمنطقة ديناميكية. ذلك حيث تحدُث إزاحةٌ لهذه الجلاميد ويُعاد تشكيل هذه الكثبان بفِعل النهر في كل مرةٍ يفيض فيها. نمشي مَشيًا طويلًا مُجهِدًا على سطح كثيبٍ من الرمال السوداء المؤدية للأسفل، ثُم نَمرُّ عبر شقٍّ ضيق بين صخور الحجر الكلسي المُتساقطة من السقف، التي يبلغ ارتفاع كلٍّ منها اثني عشر قدمًا أو أكثر.

يُقعقِع المشبث معي عند تحريكه على الصخر. وتُصدِر أنفاسُ سيرجيو صريرًا مسموعًا. ثم يخمد وقعُ الأقدام على الرمال الناعمة. ويتصاعد غبار الحجر في ضوء مَصابيحنا. ويتزايد حولَنا ضجيجُ النهر. الأمرُ أشبه بالهبوط على سطح القمر. إنَّه الصعود الليلي إلى قمةٍ صحراوية.

تتغيَّر سماتُ الرمال فجأةً، وتُصبح داكنة ورطبة. هذه هي أقربُ نقطة مُرتفعة للنهر. نتلمَّس طريقنا بحذَرٍ وببطءٍ عبر حقل من الجلاميد، ينزلق على الرمال الرطبة إلى جرفٍ صغير.

يرتفع صوتُ الضجيج الآن للغاية لدرجةٍ لا يُمكننا معها التواصُل. أنزلُ من خلال شقٍّ في الجرف وأتسلَّق لأسفل على تُربة صلدة من الرمال والطمي، وهنا يظهر أمامنا النهرُ العديم النجوم، نهرٌ حيٌّ مُتدفِّق، كاملٌ وقوي، ينهمِر من قوسٍ صخري إلى يساري، وينحني نحوي حيث شقَّ خليجًا، ثم ينعطِفُ مرةً أخرى ويختفي عن يميني، مُدوِّيًا فوق المنحدرات.

لا يُشبِه صوتُ هذا النهر العديم النجوم أيَّ صوتٍ سمِعتُه من قبل. إنَّ له حجمًا. ولحجمه تَجوُّف. لكلِّ صوتٍ صدًى، ولكلِّ صدًى غوره.

أُسقِطُ حقيبتي. ويتَّكئ سيرجيو على الصخر، ويحشو غليونه بتبغٍ جديد، ويُشعله مرة أخرى. يسقط شعاعُ الضوء من مصباحِ رأسي على المياه الفضية ذات الطمي الظاهر، فيُعطيها عمقًا، ويسترعي انتباهي رؤية كائناتٍ فيها، أجسام بيضاء تتحرك عبر سُحب من الطمي في المياه الأبطأ سرعةً للخليج. يتمتع القوسُ الصخري للنفق الذي ينحدر منه النهر — على غرار فتحة متاهة بودابست — بجاذبيةٍ لا تُصدَّق، ويتملكني شعور بالرغبة في السباحة هنا في هذا النهر المُظلم مع تلك الكائنات البيضاء. أخبر سيرجيو بنيتي لفعل ذلك، وأبدأ في خلع ملابسي. يَرمقني لوهلة، وهو يفكِّر كيف يرد عليَّ، ثم ببساطة يهزُّ رأسَه مرة واحدة بحزم.

لا أستطيعُ السباحة كالأسماك، ولكنِّي أتمنى لو كانت لديَّ عينُ بومة لأتمكَّن من الرؤية في الظلام، أو أن أتمكَّن بطريقةٍ ما من رؤية أعلى النهر وأسفله من هنا، وصولًا إلى فتحة الجحيم في شكوجان وإلى المياه الزرقاء لخليج البندقية. أُدركُ أن هذا ليس المكان المناسب لترك العُلبة البرونزية؛ فهو مَوقعُ عبور وليس موقعَ تخزين.

أنزلُ إلى حافة الماء، إلى الخليج حيث تتحرَّك الأجسامُ البيضاء، وأتفحَّصُ الماء بضوءٍ، وعندما أقتربُ من الحافة، تتراجع الأجسام مُبتعِدةً عنِّي. أجثو على رُكبتيَّ وأرتشفُ من النهر المُظلِم شربَتَيْن مملوءتَين بالحصى، وأغسلُ وجهي من العَرَق المُتصبِّب عليه خشيةَ النزول.

أغسلُ مِشبثي في النهر المُظلم لتنظيفه من الطين؛ لأنني أريد أن تعمل الأطواق المعدنية جيدًا عند الصعود. وأُفكِّرُ في فيضانات الشتاء هنا؛ حيث يرتفع النهر على نحوٍ هائل لدرجةِ أنه يملأ الغرفة من ذلك القوس الصخري أمامنا، ويرفع الرمال في سحابةٍ مُتلاطمة من المياه السوداء، ويضغط الهواءُ ويدفعه لأعلى عبر البئر التي نزلنا إليها، والتي سنصعد منها مرة أخرى.

هناك وتدٌ حديدي دفعه الخليجُ في ثغرة في الصخر. يقترب سيرجيو، ويصرخ في أُذني ليعلو صوته على صوت الهدير، ويقول لي إن فريقًا من الغواصين الفرنسيين كانوا يعملون هنا مؤخرًا، وقد أمضَوا أسبوعًا في الغرفة هنا بالأسفل، حيث كانوا يتوغَّلون لمسافاتٍ أبعد أعلى النهر كلَّ يوم حتى أصبحَ الخطر هائلًا للغاية. كانت أبعدَ نقطة وصلوا إليها على ارتفاع ١٠٠٠ قدم تقريبًا أعلى النهر من حيث أقف: أمرٌ تافِه، ولكنَّهُ هائل. أشعرُ بالرهبة والحيرة من فكرة إصرارهم. قال ليونيل تيراي ذات مرةٍ عن المُتسلِّقين إنهم «فاتِحو العَبثَ»، لكن هذه رُتبة أخرى من العَبثِ وعدم الجدوى بكلِّ ما في الكلمة من معنًى.

يقول سيرجيو: «ألورا.»

نتسلَّقُ مُنحدَرَ الكثبان رجوعًا إلى النقطة التي نزلنا عبرها في سقف الغرفة. هناك، بجانب جدار الغرفة، يُوجَد زورقٌ مطاطي صغير أصفر اللون قابل للنفخ، طراز بحرية ٢٨٥ بمِجدافَيْن من البلاستيك موضوعَيْن على نحوٍ أنيقٍ داخل الزورق، على غرار ما يمكنك شراؤه من متجر على شاطئ البحر.

يُضيء سيرجيو مِصباحَ رأسه ويُمرِّره على طول قبة الغرفة، مُثبِّتًا إيَّاه على البئر المُظلمة في قمَّتِها التي رأيتُها من قبل.

يقول: «عندما يفيضُ الكهف، يلجأ المُستكشفون إلى أعلى الأجزاء ارتفاعًا. ويُبحِرون في هذا.» ويضرب الزورق بقدمه. «إنهم يَطفون لأعلى، ويُمسكون بالحجر، ويتسلَّقون المجرى.» يُومِئ برأسه لأعلى إلى سقف الكهف.

ثم يهزُّ كتفَيه مُستهجِنًا. «المكان خطير جدًّا. وهم لا يُريدون السقوط بالتأكيد. ولذا، عليهم بالطبع أن يَعلموا بأمر الفيضان؛ كي لا يُملأ هذا المكانُ ويقتلهم.»

يهزُّ كتفَيه مرة أخرى.

«ولا يزالون يفعلون ذلك.»

ثم يتوقف قليلًا.

«لقد هربتُ عندما أخذ منسوب الماء في الارتفاع. إنه يدفعك لأعلى. إنه قوي جدًّا، كما لو كنتَ في قلب عاصفةٍ هوجاء.»

يقول سيرجيو للمرة الأخيرة: «ألورا»، ويتحرك نحو الباب السرِّي في الصخر بالأعلى إلى خارج الغرفة، ونصعد إلى أشجار الزان ونَحْلِ اللامرئي حيث يَنتظِرنا لوسيان. كانت عيناي جامحتَين وأنا أتسلقُ خارجًا من الباب الأرضي.

يقول لوسيان: «تبدو كما لو أنك كنت على كوكبٍ آخر.»

•••

على مدار الأيام التالية، تَتبَّعتُ أنا ولوسيان مسار التيمافو فوق الأرض وتحتها: تنقيب بري عن هذا النهر الجوفي. نتبعه إلى حيث يظهر على السطح وإلى حيث يغوص للأسفل. إنه أكثر حيويةً من أي نهر أعرفه في تجاهله لقواعد السلوك المعتادة، وفي سعادته في الظلام. وفي نهاية كل يوم، يَخلُد إلى النوم مُستكشفًا للأغوار: نُزولٌ لَيليٌّ، وظهور على السطح كلَّ صباح.

بالقُرب من مكان انحدار التيمافو أول مرة تحت الأرض، نَسير إلى كهف موسجا جاما، وهو فتحة بعُمق ١٥٠ قدمًا في الحجر الكلسي أُلقي فيه أكثرُ من ألف قطعةٍ أثرية من العصرين البرونزي والحديدي على مدار٤٠٠ عام تقريبًا، من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن قبل الميلاد. يتَّضِح من السجل الأثري أن الفتحة كانت مَوقعًا مُقدَّسًا كبيرًا، وأن الناس جاءوا إلى هنا من أماكن بعيدةٍ مثل وسط إيطاليا وسهل بانونيا، حاملِين أدوات القوة — فئوسًا مُجوَّفة، ورماحًا، وسيوفًا، وخوذات، وآنية شرب — وقد كُسِرَت أو حُرِقَت قبل أن يُلقُوا بها ضمن طقوسهم في الهاوية.

بعد ظُهر يومٍ آخر، أخذني لوسيان إلى ينابيع نهر تيمافو، حيث يتدفَّق النهر بالخضار من الصخر إلى أرضٍ جافة من الأشجار الخفيضة. تُدهشني الينابيع، كما هو حالها دائمًا. إنها ماءٌ سقط أولًا في صورة مطر على أرضٍ مُرتفعة، ثم قطع الرحلة الطويلة عبر الأرض السُّفلية، لينبثِق هنا، ويملأ بِركةً بعد أخرى بِطاقته ولونه، قبل أن ينحدِر بعيدًا في اتجاه البحر.

تتجمَّع أشكال الحياة حول الينابيع. وتُلقي أيكات السرو والصنوبر بظلالها. وتُرصِّع اليعاسيب أوراق الشجر. ويمتلئ الجو بتغريد الطيور. وتقفز الضفادع الزمرُّدية في المياه من الضفة.

بُنيَت هنا كاتدرائية قديمة منذ حوالي ٢٠٠٠ عام لتمييز مَوقع النَبع. يتدفَّق الماء عبر رواقها وصحنها. ذلك حيث يُشكِّل الماء جزءًا من عمارتها التعبُّدية. ويقِف تاجُ عمود روماني نَذري فوق القناة، ومكتوب على شريط إهدائه: «إلى الإله تيمافو.»

يقول لوسيان مُشيرًا إلى القوس الحجري الذي يندفع منه التيمافو: «لقد غطسوا بالقُرب من هنا، بالطبع، في محاولةٍ لشقِّ طريقٍ تحت الماء في منطقة أعلى النهر، يبدأ من الكهف بالأعلى. لم يتمكَّنوا من التقدُّم لمسافة بعيدة، ولكن على عُمق حوالي ثمانين مِترًا وجدوا هوابطَ في غُرَفٍ مغمورة هي الآن تحت مُستوى سطح البحر، ولكنها مليئة بالمياه العذبة نتيجة ضغط نظام النهر.»

نجلس على حافة الينابيع، ونخلع أحذِيَتَنا، ونُدلِّي أقدامنا في برودتها. أُفكِّر في مواقع الينابيع الأخرى التي أعرفها؛ حيث قوة المعجزة اليومية التي تشترك فيها جميعها، والإحساس بداخل الأرض الذي تتفجَّر خلاله. آبار «دي» في هضبة كيرنجورم. مواقع الينابيع التي رأيتُها في الأرض المُحتلة بالضفة الغربية. وغابة الآبار التسعة على بُعد أقل من مِيل من مَوطني، حيث تتدفق حلقةٌ من الينابيع خارجةً من الطباشير.

أقول للوسيان: «هناك بالتأكيد قوة سلام للينابيع.»

فيهزُّ لوسيان رأسَه. ويقول: «ليس دائمًا. هنا، كان هذا خطًّا أماميًّا خلال الحرب البيضاء؛ الحرب العالمية الأولى يا روب. واحتدمَتِ المعركة عبر المكان الذي نجلس فيه. كانت هذه منطقةَ موت. أعدادٌ لا حصرَ لها من الرجال لقُوا حتفهم هنا، والينابيعُ نفسها شهدت تقدُّمًا وانحسارًا مرَّاتٍ عديدة. ولا يزيد عُمر أيٍّ من هذه الأشجار حولنا عن قرن من الزمان؛ لأنَّ جميعَها قُطِعَت من أجل فتح ميادين للرماية.»

بعد ليلتَيْن، نزلتُ أنا ولوسيان وماريا كارمن عند الغسق إلى ساحل البحر الأدرياتيكي، بالقُرب من قلعة دوينو، وبالقرب من نقطة آخِر تدفقات التيمافو عند مستوى سطح البحر. لا تزال حجارة الشاطئ تحتفِظ بحرارة اليوم. إنها ناعمة وباهتة. وبعضُها مَشُوبٌ باللَّون البنفسجي ويَحمِل نقوشًا من النباتات الأحفورية التي انغمست فيه. ويُوجَد يخت أبيض يتهادى باتجاه البندقية في نسيم الليل.

القمر مُنخفِض ومُكتمِل في السماء. وقد نهضَ مُبكرًا. والأرضُ تموج ما بين مدٍّ وجزر على نحوٍ غيرِ محسوس أسفَلَنا. أجتازُ الطريقَ أنا ولوسيان في الماء، ونندفع غاطسَيْن. أشعر بمذاقِ المِلح في فمي وأستشعر البحر بملمسه الناعم والدافئ. أستدير بمُحاذاة الشاطئ، وأسبح شمالًا باتجاه رأس البر الصخري. ويبدو القمر كفتحة بئر فضية اللون.

ثم يسترعي انتباهي الشعورُ بتياراتٍ باردة لنوعٍ آخر من الماء تُداعبُ ساقيَّ. إنها الأصابع الزرقاء للنهر المُظلم، التي نشأت كثلجٍ على السنيزنيك، غاطسةً تحت الأرض لتندفع عبر غُرَفِه المُظلمة ومُنحدراتِه السوداء، ثم تطفو في النهاية هنا على السطح تحت ضوء القمر. إنها لحظةٌ رائعة سوف نستدعِيها كثيرًا للوقوف على أوجه الشبه والاختلاف بينها وبين ما سنجده أنا ولوسيان في الجبال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤