الفصل الثالث

الأرضُ الجَوفاء

(مُرتفعات سلوفينيا)

نُوشِك على اجتياز الأمر.

في وقتٍ مُتأخِّر من فترةِ بعد الظهيرة، في أواخر الصيف، حيث يحين موسم الحصاد في الجبال إلى شمال هضبة الكارست. تفوح رائحة دُخان الخشب في المرج. وتقف أكواخٌ خشبية ذات أطنافٍ شاهقة شاهدةً على تساقُط الثلوج بكثافة في فصل الشتاء. ويجلس رجلٌ مُسِنٌّ على كرسي مسحوب لأعلى إلى طرف جملون غربي، وعيناه مُغمضتان، يتمتع بآخِر أشعةٍ للشمس. وتتَّكِئ مناجل طويلة المقابض على الجدران، وبقايا قَطْع الأعشاب على شفراتها. تنمو زهور بخور مريم في الظل، وتظهر الفطريات الأرجوانية ناتئةً عبر بقايا أوراق الشجر أسفل أشجار الزان. وتنمو أشجار التفاح هنا وهناك، مُتألقةً بثمارٍ صفراء صغيرة. وتتخلَّل سطح الأرض مَجارٍ مُغطاة بالأعشاب. إنه من أهدأ الأماكن الطبيعية التي مَشيتُ فيها في حياتي.

ثم نُتابعُ السيرَ؛ إذ يحدونا الفضولُ لمعرفة إلى أين يقودنا، طريقٌ جانبي يبتعِد عن الأرض المكشوفة للمروج والأكواخ، وينحني برفقٍ عبر أشجار الزان والبلوط، ثم يأخذ زاويةً لأعلى، وتتضاءل الأشجار في عددِها ولكنها تزداد ارتفاعًا، ثم يظهر في المشهد الآن شجرُ الحور، الذي تُصدِر أوراقُه صوتًا كالهسهسة في الرياح.

نَسير في الطريقِ بجهلٍ لأننا لا نعرف ما في نهايته، ونرى عبر أشجار الحور الشعابَ الذهبية للسُّحُب وهي تتجمَّع فوق البحر، سوداء على جوانبها السفلية. نستقبل الشمسَ الدافئة بوجوهنا، وتعبق الرائحةُ الغنية لعُشب المرج في الأرجاءَ، ثم تظهر أُولى العلامات، وقد حُفِرَت بعُمقٍ في لحاءٍ شاحب، وها هي ذي حافة الهُوَّة.

أمامنا مُنخفضٌ سطحي ينحدِر نحو الظلام. جوانِبُه عبارة عن دعاماتٍ من الحجر الكلسي الرمادي، الذي أثخنه الحَزَاز. ويبلُغ أعرضُ جزءٍ في فوَّهته عشرين قدمًا. والنظرُ خلاله هو كالشعور بالميل للترنُّح من حافة مكشوفة. تنمو من المنحدرات العُليا لفوهته شتلةٌ من الزان، جاثمة على الحواف، ومائلة فوق موضع الانحدار. وتزدهر السراخسُ في الكوات الحجرية.

وفي جذوع الأشجار الأكبر حجمًا حول المُنخفض السطحي نُحِتَت صلبانٌ معقوفة. بعضُها قديم؛ لأنَّ اللحاء بدأ يطمس ملامحَها. وبعضُها جديد، ربما جرى نحتُه هذا العام، أو في العام الماضي. ولا يزال الخشب في خطوط القَطْع شاحبًا. وتظهر بعضُ الصلبان المعقوفة وقد نُحِتَت خطوطُها بطرَف سكين. ذلك حيث يُمثِّل اللحاء منطقةً مُتنازعًا عليها من أجل وضع العلامات.

تُوجَد صفيحة معدنية مُثبَّتة بمسمار على جذع شجرة زان بالقُرب من حافة المنخفض السطحي بارتفاع قدَمَين أو نحو ذلك، وتكسوها الطحالب. وقد كُتِبَت عليها بالحبر الأسود قصيدة طويلة باللغة السلوفينية بعنوان «راشكلوفسينيه». وفي أسفل القصيدة حُفِرَت كلمة «باكس» بأحرُفٍ إنجليزية كبيرة.

يقول لوسيان بهدوء: «عنوانُها يَعني شيئًا من قبيل «التجرُّد من الإنسانية» أو «نزع الطابع الإنساني». ولكن مُستواي في اللغة السلوفينية ليس جيدًا بما فيه الكفاية لقراءة بقية النص بطريقةٍ صحيحة.»

يُشير إلى السطر الأخير من النص، الذي وُضِعَت إلى جانبه علامةُ نجمة: تذييلٌ للقصيدة الرئيسية.

«ومع ذلك، تُعَدُّ هذه …» ثم يتوقَّف قليلًا. «تُعَدُّ هذه لعنةً من نوعٍ ما. لعنة أو تحذير لأي شخصٍ قد يُحاول إتلاف القصيدة أو العَبث بها.»

ولكن لم يُلتَفت إلى التحذير ولم يُؤخَذ مأخذ الجِد. فقد كُشِطت أجزاءٌ من القصيدة بنصل أو حَجر في محاولة لِمَحو كلماتها. وكُتِبَت كلماتٌ أخرى فوق نصِّها، والتي خُدشَت هي الأخرى كذلك. وفي زاوية علوية، حُفِرَ صليبٌ مَعقوف آخر في المعدن، لامع وجديد.

أشعرُ برُعب مُفاجئ يصعد عبر المنخفض السطحي ويخرج منه ليلتفَّ حول قلبي. حدث شيءٌ رهيب هنا وما زال صداه يتردَّد.

يقول لوسيان مُشيرًا إلى الشَّمال عبر الظُّلَّة: «انظُر. هناك رُكامٌ رعدي فوق القمم الآن. ينجرف المَطرُ فيما يُشبه الحبال الثقيلة بعيدًا إلى الغرب. وثمة شعور بعيد بالغضب. وقد أصبح الضوءُ الذهبي بالخارج فوق المُحيط أصفرَ لامعًا.

ماذا حدثَ هنا؟ لم ينبس فمُ الهُوَّة ببنت شفة. والأشجارُ لا تقول شيئًا. وأنا أتكئ على حافة مجرى المُنخفض السطحي، لا أستطيعُ أن أرى شيئًا سوى الظلام تحتي.»

•••

في وقتٍ سابق، تركتُ أنا ولوسيان منزله في الكارست وسافرنا شمالًا نحو سلوفينيا، حيث يحتشد الحجرُ الكلسي إلى داخل قِمَم المُنحدرات ووديان الأنهار العميقة. تظهر إلى الشمال قِمَم جبال الألب الجوليانية، وهي سلسلةٌ شاهقة من الحجر الكلسي دار فيها أخطرُ المعارك خلال ما يُسمَّى بالحرب البيضاء — سلسلة المعارك على الحدود بين النمسا والمجر وإيطاليا — بين عامَي ١٩١٥ و١٩١٨. يقول لوسيان إنَّه يُريد بلوغ قمَّةٍ عالية في هذه السلسلة الجبلية، حُفِرَت بها الأنفاق خلال الحرب كما هو الحال في كثيرٍ من الجبال على جانِبَي الجبهة التي فُرِّغت من الداخل أثناء النزاع، لأغراض الاحتماء والقتل.

إنَّ خُطَّتنا في جبال الألب الجوليانية هي أن نفترق، ومن هناك سأمشي شرقًا لمدة ثلاثة أيام إلى سلوفينيا، أعلى كتِف تريجلاف، وهو أعلى جبل في المنطقة، ونزولًا إلى بحيرة بليد الزرقاء، غير أن الأرصاد تتوقَّع تساقُط الثلوج على تريجلاف، الأمر الذي سيجعل من الصعب خوض مثل هذه الرحلة سيرًا على الأقدام. وقبل وصول جبال الألب الجوليانية، يريدُ لوسيان أن يُريني بعضَ الأراضي المُرتفعة للكارست السلوفيني، حيث تُمثِّل غاباتُ الزان الشاسعة مأوًى للذئاب والدِّببة، وحيث يُوجَد نظامٌ كهفي — كما يقول لوسيان — يمتلك حُضُورًا استثنائيًّا.

نتعانق أنا وماريا كارمن أثناء مُغادرتي منزلهما في الكارست. وأشكرها على كلِّ ما قدَّمته لي. أمَّا هي، فمدَّت ذراعها أمامي من جانب وعاء الرمان المُجفَّف في الشرفة.

وقالت: «روبرت، إنَّك … حيوان جميل!»

فردَدتُ عليها قائلًا: «هذا تقريبًا أجملُ شيءٍ دعاني به أحدٌ على الإطلاق يا ماريا كارمن. لو كانت لديَّ بطاقاتُ عمل، لَطبعتُ هذا اللقب عليها في خانة المهنة. شكرًا لكِ من أعماق قلبي.»

وبينما نحن نَقود سيارتنا شمالًا، يزيد الارتفاع على الطرُق المتعرجة، وأسأل لوسيان عما إذا كان تعليقها ثناءً حقًّا مثلما اعتبرتُه.

يقول: «أوه، أجل، إنه أعلى درجات الإطراء. إنَّ ماريا كارمن تَعتَبِر الحيوانات أكثر إثارة للإعجاب من البشر. وفي رأيها أنَّ القلب والعطف أهم من أي تكريم أو درجاتٍ علمية.»

نتبعُ طريقَ الشاطئ لبحيرةٍ تُسمَّى دوبيردو. إنها جافة تمامًا: مرجٌ عُشبي يظهر من خلاله الحجَرُ الكلسي العاري في بعض الأماكن، التي تمتدُّ لعدة أفدنة.

يقول لوسيان: «أعتقِدُ أن دوبيردو يُرادفها في اللغة الإنجليزية «تورلو»، وهي بحيرة متقطِّعة تنبع من أسفل، وداخل الصخر عندما تهطل الأمطارُ ويرتفع منسوبُ المياه، ولكنها تجفُّ في أشهر الصيف.»

تصطفُّ أشجارُ السرو المزروعة على جانبَي الطرق لإحياء ذكرى صَرعَى الجيوش التي قاتلت هنا في حربَيْن عالميتَيْن. للأشجار سُوقًا أنيقة على شكل لهب شمعة تحترق باللون الأخضر.

يقول لوسيان: «في واقع الأمر، لم تضع أيٌّ من الحربَين العالميتَين أوزارها في هذه المنطقة قط. فقد تسبَّبت حرائقُ الأجمَات في وادي فيبافا الصيفَ الماضي في انفجار طلقات مَدفِعية غير مُنفجرة تعود إلى الحرب العالمية الأولى. وبالكاد يُمكنك أن تجد مثالًا أفضل لتوضيح سياسة هذه المنطقة.»

نمرُّ عبر مدينة نوفا جوريكا، وهي بلدة حدودية. وعلى طريق المَخرج، يظهر الاسم «تيتو» مكتوب بالرش مَرَّتَيْن بِطلاءٍ أزرق، ومعكوس على جانبي الخط المركزي بحيث يُمكن للسائقين القادِمين من كِلا الاتجاهين قراءته.

يرتفع الطريق إلى مَمرٍّ ثم ينخفض إلى جسر فوق نهر إيسونزو. إن نهر إيسونزو أكثر زُرقة من أي نهرٍ رأيتُه في حياتي. إنَّها زُرقة إشعاع شيرينكوف، وهي جميلة وتقشعر لها الأبدان.

يُوقِف لوسيان السيارة في موقفٍ على جانب الطريق فوق الجسر.

ويقول مُشيرًا إلى مُنحدرات الحجر الكلسي التي ترتفع على جانبي الجسر: «قبل قرن من الزمان، كان الانتقالُ من هنا إلى هناك يعني الموت.» وألاحظُ أنَّ بنية صخر المنحدرات لا تبدو طبيعية؛ إذ تَتخلَّلها فجواتٌ وفتحاتٌ مُربعة.

يقول لوسيان: «هذا الحجَر كالجُبن السويسري. شقَّت فيه الحربُ الدهاليزَ تحت الأرض. والأرضُ المُرتفعة تُشبه قرص العسل نظرًا لمواضع نَصْب المدافع، وأنفاق الوصول، والغرف. أما الأرض المُنخفضة، فجميعُها عبارة عن خنادقَ وحُفرٍ بهدف الاختباء والحماية. لقد حفروا في الجبال، وصنعوا آلة حربٍ من الطبيعة. سترى المزيد من هذه المشاهد التي تعود إلى الحرب العالمية الأولى عندما نصعد إلى جبال الألب الجوليانية، حيث كان الثلج أثقلَ وكان القتال، إن أمكن، مُستَميتًا على نحوٍ أكبر.»

يَعتريني، من جديد، إحساسٌ قوي بأنَّ هذا المشهد الطبيعي هو مشهدٌ تُولِّد فيه الجيولوجيا أنماطًا من الإحساس وتُعزِّزها. هنا في أرض الكارست الجَوفاء هذه، تعمل الذاكرة التاريخية كالمياه المُتدفقة؛ حيث تختفي دون سابق إنذار، فقط لكي تعاود الظهور بأسماءٍ جديدة، وفي أماكنَ جديدة، وبقوةٍ جديدة. هنا في طوبوغرافيا التجاويف والأماكن الخفية هذه، يختفي الماضي المُظلم، ثم يعود إلى الظهور من جديد.

دخلنا منطقةً حدودية متنازعًا عليها؛ وهي جزءٌ من منطقة جوليان مارش، الاسم الذي أُطلق على المنطقة الحدودية لِما يُعرَف الآن بإيطاليا وسلوفينيا وكرواتيا وحتى كارينثيا. امتزجت الثقافات واللُّغات امتزاجًا مثمرًا هنا، غير أنَّ هذا أيضًا المكان الذي استعرضت فيه المجموعات التي ترى أنها ذات هُوياتٍ عِرقية أو قومية مختلفة أشكال الاضطهاد المُروِّعة بعضها تجاه بعض. ولا تزال آثار الصراع مُسجَّلة وبارزة في مَعالم الأرض المادية (من خنادق، ومقابر جماعية، وآثار)، حيث تؤرشِف لجغرافيا بشرية حديثة قوامُها العنفُ والنزوحُ وتُخلِّدها.

نتسلَّق لأعلى. لا يزال الضوءُ المنعكس عن البحر يُضفي اللَّون الفضي على السماء إلى جنوبنا. تُوجَد خلايا نحلٍ ذات ألوان مُبهجة، تصطف في الحقول بعيدًا عن الطريق. وهناك كذلك مروج الزهور البرية وكروم العنب الصغيرة.

نعبُر ممرًّا واسعًا بين قِمم عالية. تنغرِس أشجار الزان والصنوبر سميكةً في الأرض الأكثر انخفاضًا، ويُمكنني أن أشمَّ رائحة الراتنج في الهواء الأكثر برودة. يزداد داخلي الإحساسُ بالمُجتمعات الجبلية وبيئة الغابات البَرية. ويُحوِّل اتساعُ الغابة هنا خطوطَ الحدود البشرية إلى شيءٍ عديم القيمة. وتمتدُّ أشجار الزان عبر الحدود.

تكسو الأرضَ هنا رُقَط من الظل. وبِرَكٌ من الضوء. وتظهر فُرجةٌ في الغابة، ومرجٌ، وكوخ. والكهوف مرئية في كل مكان في الأجراف المُخبأة في الغابات. ونرى الوهدات بين الأشجار، في مواضع انهيار المجاري، وقد امتلأت ونمَت من جديد. وتميل شرائح كبيرة من الضوء أسفلَ سفوح التلال. وتظهر الحافة العلوية لأحد الجبال مُجوَّفة بفجوةٍ كالنافذة تمر عبرها مباشرةً، وهي أثرٌ قديم لنهر مُختفٍ من زمنٍ طويل. ومن خلال النافذة، يُمكنني أن أرى السماء الزرقاء والسُّحب، وقد شكَّل الحجرُ حولَها إطارًا فجعلها تبدو مثل لوحةٍ زيتية سريالية.

وفي مواضع التقاء خط الأشجار بالأجراف، تقِف جذوع الزان البعيدة ملساءَ في مقابل الصخر. فخلال فصلَيْن سابقَيْن من فصول الشتاء، ضربت عاصفةٌ ثلجية شديدة سلوفينيا الغربية وغطَّت ملايين الأشجار بالجليد، ما جعلها ثقيلةً للغاية لدرجةِ أن مجموعها الجذري لم يستطِع تحمُّل وزن ظُلَّاتها المُجمَّدة. ومن ثمَّ، مات الكثير من هذه الأشجار، وقد أثقلَتْها أكاليلها.

انحرفَ وادٍ آخرُ بشدَّة على جانبه الشرقي، مع ارتفاع ٤٠٠ قدم من الأجراف البيضاء عن الطريق. وفي منتصف أحد هذه الأجراف تمامًا تُوجَد فتحة كهف، ومن تلك الفتحة يتدفق نهر فضي مُنحدرًا إلى بِركةٍ غاطسة عند قاعدة الجرف. وتتمايل أقواس قزح في رذاذ الماء.

لم أرَ قطُّ صورة كهذه. إنه تحدٍّ لكل القوانين الجيولوجية والنهرية المعتادة. إذ إنه ليس من المُفترض للأنهار أن تخرج من وسط الأجراف. وكذلك ليس من المفترض أن يكون للأرض مَدٌّ وجَزر، ولا أن يكون للجبال نوافذ، ولا أن تنبُع من الكهوف أنهارٌ جليدية.

نجد كهفَ النهر الجليدي محفورًا في أعالي الجبال، حيث تنمو أشجار الزان إلى ستِّين قدمًا أو أكثر وتكون ظُلَّاتها سميكة للغاية لدرجةٍ تجعلنا لا نستطيع رؤية السماء. نتبع مسارًا كونتوريًّا رفيعًا، مُعقَّدًا بجذور الأشجار، عبر الغابة. ونشعر بثِقَل الهواء وسخونته.

بينما نسير، يُفسِّر لي لوسيان وجود النهر الجليدي، ولكنَّني أجدُ صعوبةً في تصديقِ ما يقوله. هل يُعقَل أن يُوجَد نهرٌ جليدي مُتدفق على هذا الارتفاع، وفي هذه الحرارة؟ لا يُوجَد ثلجٌ في أي مكان لعدة أميال حولنا.

يقول لوسيان: «يبلُغ طول هذا النظام الكهفي ميلًا واحدًا، ويبلُغ عُمقه حوالي ٤٠٠ متر، وهو يخترق جبلًا بأكمله من جانبٍ إلى آخر.» ويُواصل لوسيان شرحه: «إن الحركة الحرَّة للرياح على طول النظام الكهفي، إلى جانب برودة الصخر نفسه، تُحافظان على درجات الحرارة داخل النظام عند مستوًى أقل بكثيرٍ من درجة التجمُّد. يتجمَّع الثلج في فتحات الكهوف خلال فصل الشتاء، الذي تهبُّ فيه الرياح الشمالية عميقًا في الكهوف، ثم فجأة! يصير الثلجُ على مدى آلاف السنين نهرًا جليديًّا طويلًا ورقيقًا، ويسير داخل الجبل في مساراتٍ متعرجة.»

تبدأ الأرضُ في الانحدار على يسار المسار. ونقتربُ من حافة دولين ضخم، يبلغ عرضُه حوالي ١٥٠ قدمًا. الجانبُ البعيد منه شبه عمودي، غير أن الجانب الذي نقف عليه ينحدر خمسينَ درجة أو نحو ذلك، والمسارُ الرقيق يتعرَّج للأسفل إلى داخل الهُوَّة، حيث يَفْغر الكهفُ فاه.

يبرد الهواءُ حولنا مع كلِّ منعطفٍ حاد للمسار. لم أشعر من قبلُ بمثل هذا التدرج الشديد في درجات الحرارة. ثلاثون درجة مئوية على حافة الدولين تُصبح خمسًا وعشرين درجة مئوية في حدود ستة عشر قدمًا رأسية، ومن ثمَّ تنخفض كلما انخفضْنا، وعلى الرغم من أنَّنا تقدَّمنا في البداية عبر الهواء الفاتر، فإنه سرعان ما غمرتنا برودة المساء، ثم يصير للهواء وخزٌ كالمعدن في الأنف، بينما نحن نقترِب من فتحة الكهف على بُعد ١٠٠ قدم للأسفل، ونرى تكثُّف أنفاسنا، ثم نمرُّ في ضبابٍ فِضي ناعم، وهو أنفاسُ النهر الجليدي نفسه.

يؤدي التدرُّج الحاد في درجات الحرارة إلى بيئة شديدة الانحدار. يتقلص حجم الأشجار مع كل مُنعطف في المسار، من أشجار الزان الشاهقة إلى بونساي الصنوبر بالقرب من جَوف الكهف، محاولةً التماسُك في درجات حرارة القطب الشمالي. بالدخول إلى جَوف الكهف، حيث نادرًا ما ترتفع درجة الحرارة فوق درجة التجمُّد، لا يُوجَد سوى بساط من الحزازيات والأشنات، تندرا قُطبية منخفضة. تختلف الروائح على هذا العمق تمامًا عن تلك الموجودة في الكارست والغابات؛ فبدلًا من الحرارة والأعشاب والراتنج والحجر، يُوجَد هنا الحزازيات والشتاء والجليد.

نتسلَّق أنا ولوسيان لأسفل على لوح قصير من الصخور، ونعبُر عتبة الكهف، وندخل إلى الظلام. أُلقي نظرة للخلف ولأعلى عبر الضباب لأرى هلالًا من السماء الزرقاء لا يزال مرئيًّا، ومُتشابكًا مع فروع أشجار الزان. وأتذكَّر قوسَ الضوء الذي تركناه وراءنا عندما دخلنا سراديب الموتى الباريسية. وإذا بي أشعرُ بحركة في زاوية الكهف البعيدة: إنَّه كائن من نوعٍ ما، كبير وقوي.

تُلهِبُ البرودة أُذنيَّ وتَؤزُّ في أسناني. تُوجَد أسفل قدميَّ قشرةٌ صلبة من الصخور والحطام — أشنات، وأغصان صغيرة، وعظام — سقطَتْ من جوانب المجرى، وصارت زلقة على نحوٍ غريب عند لمسها. ثم أرى بين فرعَيْن مَبسوطَيْن بريقًا من معدنٍ أسود ضارب إلى الزُّرقة. أشعر بانزلاق قدَمي عند ركله. إنَّه ليس معدنًا، بل جليد.

أصرخ: «إننا فوقه. يا لوسيان، إننا فوق نهر جليدي! إنه موجود!»

يتظاهر لوسيان بأنه يخلع قُبعةً لا يرتديها في واقع الأمر، ويُومئ إيماءةً مَرِحَة.

نخطو بحذرٍ الآن، ونتحرَّك نحو أبعد نقطةٍ للكهف. تتضاءل قاعدة العتبة، ونسير على الجليد الأبيض المائل إلى الزرقة الذي ينحدِر بعيدًا وينزل إلى الزاوية التي يربض فيها الكائن.

الكائن هو مجرًى في الجليد، بئرٌ رأسية محفورة بالأسفل إلى داخل النهر الجليدي بفعل مياه الذوبان. ينحدِر الجليد نحو المجرى وكذلك الضوء، كما لو كان يُسحَب إليه. نقترب بحذَرٍ من هذا الثقب الأسود الذي يقع داخل الجليد الأسود الضارب إلى الزُّرقة، مُنتبِهَيْن إلى مواضع أقدامِنا غير المُستقرة، وإلى إمكانية الانزلاق بسهولة. ثم نتوقَّف على بُعد بضعة أمتارٍ من حافته، وننظُر إليه لفترةٍ وجيزة، ونحن نرتجف وننتفِض.

وبالعودة إلى اللَّوح الصخري الذي نزلنا منه سابقًا، نسمع نداء.

«مرحبًا! أتُريدان بعضَ المساعدة؟» هناك رجلٌ في الجزء العلوي للَّوح، ويمدُّ الرجل يدَه للأسفل لمساعدتنا في صعود الخطوات الأخيرة الصعبة، واحدةً تلوَ الأخرى. وتقف امرأةٌ على أرضٍ مُستوية أعلى اللوح، مُتدثِّرة من البرودة بمعطفٍ من جلدِ الغنم يصِل طوله إلى الكاحل. ينتفِخ صدرُها ويتلوَّى، ثم يُخرِج كلب بودل صغيرٌ رأسَه من بين طيَّات صدر المعطف وهو ينبح باتجاهنا.

أقول: «يا لها من زجاجة ماء ساخن لطيفة لدَيكِ هنا!»

ترُدُّ قائلةً وهي تُداعبُ رأسَ الكلب ضاحكةً: «كلٌّ منَّا يُدفِّئ الآخر!»

ينظر نسرٌ يُحلِّق على مسافةٍ بعيدة بالأعلى في مسارٍ حلزوني إلى الأسفل عبر الظُّلَّة الخضراء الذهبية المُضاءة بأشعة الشمس، مارًّا بجذوع أشجار الزان القديمة الطويلة، وبالأشنة المُعلقة في حزم الأغصان السفلية، وبزهور الجنطيانا التي تتفتح باللون الأزرق وسط بقايا أوراق الأشجار، وأسفل جوانب المجرى، ومارًّا بالنطاق المُنحدِر من التندرا وأشجار بونساي الصنوبر، وإلى حيث أقفُ أنا ولوسيان نتجاذَب أطراف الحديث مع الرجل والمرأة وكلبها في فتحة الكهف الجليدي، وكنا نضحك جميعًا في هذه اللحظة.

•••

في وقتٍ مُتأخر بعد الظهيرة، وفي بقعة أخرى من غابات الزان في المرتفعات، نأتي إلى مكان الرعب.

نمرُّ عبر المروج بجانب الأكواخ الخشبية، ونتبع ممرَّ المشاة لأعلى عبر الغابات، مرورًا بجذوع الأشجار المحفورة عليها صُلبان معقوفة، ونتوقَّف عند حافة المجرى، حيث يوجد النص المكتوب على اللوح المعدني مُثبَّتًا على أشجار الزان، بينما تتراكم السُّحب فوق البحر.

بين عامَي ١٩٤١ و١٩٤٥، أصبح الحجرُ الكلسي في جنوب وسط أوروبا — من هضبة كانسيليو أسفل الدولوميت، وعبرها وصولًا إلى ما كان يُعرَف بيوغوسلافيا آنذاك — مَوقعًا لصراع وحشي. في أبريل لعام ١٩٤١، غزت قوى المحور يوغوسلافيا. واستولت عليها وقسَّمتها تقسيمًا ثُلاثيًّا، فأصبحت إيطاليا تحتلُّ جنوب سلوفينيا وليوبليانا، واستولت المجر على منطقة بريكمورج، واستولت ألمانيا النازية على شمال سلوفينيا وشرقها. وسرعان ما بدأت ألمانيا وإيطاليا في عمليات التطهير العِرقي في أراضيهما الجديدة، حيث عملت على ترحيل الآلاف من السلوفينيين وإعادة توطينهم وطردهم وقتلهم.

وفي المقابل، بدأت الجماعاتُ الحِزبية تتشكَّل عبر جوليان مارش وما بعدها بهدف مقاومة الاحتلال. اتَّخذت مجموعاتُ المقاومة المناهضة للفاشية هذه من غابات الكارست حصنًا وساحةَ قتالٍ لها على نطاقٍ واسع، وقد لُقِّبَت ﺑ «الحطَّابين»، وتزايد انتماؤها إلى اليسار مع استمرار الاحتلال، حتى الإعلان رسميًّا عن الاصطفاف الشيوعي في مارس عام ١٩٤٣ عندما اتَّحدوا مع جيش تيتو الحزبي. قاتلوا في الغابات وبمساعدة الغابات. وعندما أدرك البريطانيون والأمريكيون قوة هذه القوات الحِزبية، بدءوا في استثمار الأسلحة والاستخبارات في عملياتهم. وكان من بين الضباط الذين أُرسِلوا لدعم المُتحزبين فيتزروي ماكلين — الذي اشتُهِر لاحقًا لكونه مؤلِّف كتاب «مقارباتٌ شرقية» (١٩٤٩)، الذي يسرد فيه ملامحَ عصره وأحداثَ المقاومة في الجبال اليوغوسلافية — وجون إيرل، مسئولُ اتصالات ماكلين مع المُتحزِّبين من سلوفينيا وإيطاليا الشمالية.

كان الكارست المُرتفع مثاليًّا لمخططات الكَرِّ والفَرِّ الحِزبية في الأراضي المحتلة. وشكَّلت الغاباتُ غطاءً نباتيًّا كثيفًا جعلَ من الصعوبة بمكانٍ رصد العمليات البرية عن طريق الطيران. وساهمت الوديان ذات الجوانب الشديدة الانحدار وانتشار المجاري والمنخفضات السطحية، في صعوبة تحريك المَركبات الثقيلة بعيدًا عن الطرق الرئيسية والمسارات. وجرى تنظيم الكمائن على طرُق الجبال الضيقة، حيث يُطلق المهاجمون النارَ لأسفل على المركبات قبل أن يتلاشَوا بعيدًا في الغابة من جديد، وتصبح مطاردتهم شبه مُستحيلة. كما أنَّ وجود الكهوف الطبيعية في كل مكان، وقابلية الحجر الكلسي لشقِّ أنفاق وغُرَف فيه عن طريق التفجير والحفر، قد جعل من ذلك المَوقع البيئةَ المِثالية لحرب العصابات. أُنشِئت في الصخر مخازن للأسلحة، وأماكن للنَّوم، وحتى المُستشفيات الميدانية، مع وجود أنظمة أنفاق سرية استُخدِمت لتبديد دخان الخشب المُتصاعد من نيران التدفئة تحت الأرض، كي لا يرتفع الدخانُ في عمودٍ ويكشف عن المواقع.

بدءًا من صيف عام ١٩٤٢، وسعيًا وراء مقاومة التهديد الحزبي المُتزايد، بدأت السلطاتُ الإيطالية في إنشاء ميليشيا «مناهضة الشيوعية» الخاصة بها بين المجموعات العِرقية السلوفينية، وأُطلِقَ عليها في بادئ الأمر «الحَرَس الأبيض» ثُم أصبح اسمُها — تحت قيادة النازية — «الحَرَس السلوفيني الرئيسي». نشبت حربٌ أهلية وحشية في الغابات والقرى الكارستية، المُصطفة بصفةٍ أساسية على طول القطاعات الفاشية الشيوعية، ولكنها أدَّت أيضًا إلى نشوب العداوات بين المُتحزِّبين والنشطاء الكاثوليك في سلوفينيا. حيث تشابكت القومية، والدين، والانتقام تَشابُكًا مُروِّعًا. وبدأت عملياتُ القتل الانتقامية تُمارَس على نطاقٍ واسع على السكان المَدنيِّين، وكذلك بين المقاتلين.

جاءت أسوأ مراحل عمليات القتل الانتقامية هذه على مرحلتَين؛ في خريف عام ١٩٤٣، بعد الاستسلام الإيطالي، ثم خلال فترة «كوارانتا جورني» بالإيطالية، أو فترة الأربعين يومًا، الشهيرة للإدارة اليوغوسلافية لترييستي بعد سقوط المدينة في أيدي قوات نيوزيلندا في أوائل مايو ١٩٤٥. وخلال هذه الفترات العصيبة، حدثت نقاط التقاء وتقاطع بين الجيولوجيا والفظائع الوحشية؛ فقد أُعيد تجديد المشهد الطبيعي للكارست — الذي خدمَ المُتحزبين على أفضلِ نحوٍ من حيث المأوى والتستر — لأغراض القتل الجماعي.

أصبحت المجاري والكهوف والوديان وآبار المناجم في جميع أنحاء الحجر الكلسي بمنطقتَي فينيتسيا جوليا وإستريا مواقعَ لعمليات الإعدام الفردي والقتل الجماعي، التي نُفِّذت في الغالب على يَدِ المُتحزبين الشيوعيين، وكذلك على يَدِ الميليشيات الفاشية. ونُقِلَت الضحايا من المَدنيين والعسكريين إلى حواف المجاري، حيث زُجَّ بهم أحياءً، أو جَرحى، أو مَوتى في هذه الهُوَّات في الحجر الكلسي. وفي بعض الحالات، كانت الضحايا تُربَط معًا بالأسلاك الشائكة. وكانت ضحايا أخرى تُدفَن في قبورٍ مُجرَّفة في الغابات. وامتلأت الكهوفُ وممراتُ غابات الكارست بالمئات، وربما الآلاف، من الجثث. واليوم، تُعرَف عملياتُ القتل الخارجة على القانون هذه، لا سيَّما لدى الإيطاليين، باسم «مجازر الفويب»، وهو اسمٌ مُشتَق من فويبا التي تعني «مجرى يُستخدَم للقتل». ولا تزال جثثُ هؤلاء الذين أُعدِموا خارجَ القبور في التربة الضحلة للأراضي الحرجية العميقة، أو بالأسفل في المجاري، حيث يعثر مُستكشِفو الكهوف أحيانًا على عظامٍ بشرية، وخراطيش رصاص، وأسلاك صَدِئَة.

للتاريخ نفسه مقابرُه وعملياتُ النبش الخاصة به. ولا يزال تاريخ عمليات القتل في الفويب مَوضعَ نقاشٍ مُحتدِم حتى اليوم، لا سيَّما وأن آثارها قد دُفِنَت عميقًا لعدة عقود. في السنوات التي تلت انتهاءَ الحرب، ظهرت سياسة «حُسن جوار» استراتيجية بين إيطاليا ويوغوسلافيا، ما شجَّع على نسيان تلك الفظائعَ الوحشية. ولم يرَ السياسيون الإيطاليون الذين يسعَون إلى إعادة بناء إيطاليا مُوحَّدة فائدةً تُذكَر في التركيز على الجرائم التي ارتكبتها القواتُ الحِزبية من كِلا الجانبين. ورفض زعماءُ يوغوسلافيا الأدلة التي تُبرهِّن على وقوع الفظائع الشيوعية، حيث فضَّلوا التأكيد على المعاناة في ظِل الفاشية التي عاشها السلافيون، ورَبطِ قضيتهم على نحوٍ رمزي بالوحشية المُطلقة للهولوكوست. وبينما كانت عواقبُ الحرب الحِزبية تُمارس تأثيرَها المُدمِّر على المستويين الفردي والعائلي في أنحاء جوليان مارش، كان الخطابُ العام قاصرًا على لا بوليتيكا سوميرسا؛ أي «السياسات المغمورة».

على مدى العقود الثلاثة الماضية بشكلٍ أساسي، عاودت عملياتُ القتل في الفويب الظهور في الصعيد العام، حيث أصبحت موضوعًا مُثيرًا للجدل بشدَّة في المنطقة. وبالنسبة إلى السلوفينيين وأولئك المُنتَمين بشكلٍ عام إلى التيار اليساري، فإنه يُنظَر إلى تفاصيل عمليات القتل في الفويب على أنها مُبالَغ فيها للغاية من قِبل التيار اليميني لأغراض الدعاية والنفوذ السياسي. أما بالنسبة إلى الإيطاليين ومَنْ ينتمون إلى اليمين بشكلٍ عام، فإن فظائع الفويب هي بمثابة صورة مُختزَلة مُلائمة لجميع عمليات القتل الانتقامي وعمليات السَّجن والترحيل التي حدثت للإيطاليين أثناء الحرب وبعد انتهائها — كما أنها تُمثِّل أيضًا، بصورةٍ تلقائية، الأساليبَ التي انتهجتها الحكوماتُ الشيوعية في فترةِ ما بعد الحرب في هذه المناطق لطمسِ تاريخ هذه الاضطهادات. تزخَر لغةُ هذا النقاش الجاري بصورٍ تحت أرضية، حَرفية ومَجازية. وتتخلَّل هذه النقاشات صورٌ للنور والظلام، والدفن والنبش، والاختفاء والكشف؛ حيث يتداخَل عِلم التأريخ والطوبوغرافيا معًا. وتتفاوت أعدادُ أولئك الذين ماتوا في الفويب وهُوياتهم تفاوتًا كبيرًا، مقارنةً بالأعداد الواردة غالبًا حسب الانتماء السياسي للباحِث المَعنِي. وفي جميع الأحوال، فإنَّ ما تصِفه باميلا بالينجر — في دراستها الرئيسية «أرض الذاكرة» على حدود البلقان — بأنه «حقوقٌ … أصلية» قد أصبح الآن على المَحك، وهو ما يُقصَد به المعركة من أجل الحَقِّ في المطالبة على نحوٍ صادق وأصيل ﺑ «الانتماء» إلى منطقةٍ مُعينة من الأرض والصخر والتربة.

أصبح الفويب أيضًا موضوعَ نقاشٍ رئيسيًّا لدى الجماعات اليمينية والفاشية المعاصرة التي تسعى إلى تأجيج الوطنية الشعبية والغضب تجاه النفوذ اليساري المُلاحَظ في الحكومة. وأصبحت المجاري مواقعَ لمراسِم عودة الوطنيين الإيطاليين والمَنفيين. ذلك حيث تُقام مسيراتٌ لإحياءِ ذكرى هذه الأحداث، التي ينتهي بها المطاف في الفويب. وغالبًا ما تُنقَش الصُلبان المعقوفة وغيرها من العلامات أو الشعارات في الموقع. كما يؤدي الكهنة مراسمَ إحياء الذكرى السنوية. وقد عُرِضَت عظام الإنفويباتيين (أولئك الذين قُتلوا في مجازر الفويب) بوصفها نماذجَ من الآثار المُقدَّسة. وفي أشهر أماكن الفويب — الذي هو في الواقع بئر تنقيب — بالقُرب من قريةٍ تُسمَّى باسوفيزا/بازوفيتشا في الشمال الشرقي لهضبة كارسو، وعلى بُعد أميالٍ قليلة من ترييستي، أُنشئ نُصْبَان تذكاريَّان مُتباينان إحياءً لذكرى مَن قُتلوا على يَد المُتحزبين اليوغوسلافيين في البئر، وإحياءً لذكرى «أبطال بازوفيتشا»، وهم: أربعة سلوفينيين أُطلقَت عليهم النار في عام ١٩٣٠ لممارستهم أنشطةً مناهضة للفاشية. أُغلقت بئر التنقيب في باسوفيزا/بازوفيتشا عام ١٩٥٩ في مراسم أقامها قسٌّ كاثوليكي وحضرَها ٢٠٠٠ شخص؛ وذلك لأن ترَسُّب المواد المتفجرة خلال عمليات القتل حالَ فيما بعد دون عمليات الاستخراج الآمن لجُثث الضحايا. ونظرًا إلى تعذُّر الفحص التفصيلي لمحتويات مواقع الفويبا، ظلَّ المكان خاليًا، وأصبحَ تُربةً خصبة لظهور العديد من المزاعم والاعتقادات المُختلَقة. ومما يبعث على مزيدٍ من الأمل أنَّ القرية الآن هي أيضًا المقر الرئيسي ﻟ «إليترا سينكروترون» وهو مركز أبحاث دولي يضُم أُناسًا من جميع الدول المجاورة ومن كلِّ الِانتماءات، وهو مُقام أيضًا تحت الأرض.

أصبح مَوقع باسوفيزا/بازوفيتشا مثالًا على ما يُسمِّيه بيير نورا «لِيو دُو مِيموَار» «مواقع الذاكرة»، وذلك على نحوٍ فاقَ الموقع الآخر المعروف بالفويب، ومواقع الذاكرة هذه هي أماكن في مشهدٍ طبيعي مُعيَّن حيث تتولَّد معاني التاريخ وتتبارى على نحوٍ بالِغ الحيوية. ولا تزال مسألة الفويب تأبى أن يُغلَق باب النقاش فيها. وهكذا، يظلُّ تاريخُ الماضي مصدر إيلامٍ للحاضر بالإبقاء على هذه المواقع «مفتوحة».

•••

في أعالي غابات الزان السلوفينية، ومع تصاعُد عاصفةٍ في الجنوب الغربي، وجدْنا أنا ولوسيان طريقَنا إلى حافة أحد مَواقع الفويبا، وهو معروفٌ الآن باسم «المقبرة العمودية لشجرة التفاح البرية». ولا تزال تفاصيل ما حدث هنا، كالحال مع جميع مواقع الفويب، غيرَ واضحةٍ ومَحلَّ خلافٍ كبير. في وقتٍ ما في شهر مايو لعام ١٩٤٥، يُزعَم أنَّ عددًا يتراوح ما بين أربعين وثمانين شخصًا — بعضُهم من الشرطة الإيطالية، والبعضُ الآخر من الحَرَس الوطني السلوفيني، والبعضُ الثالث من المَدنيِّين — سِيرَ بهم عبر الأشجار، على طول المسار المُنحني الذي اتبعتُه أنا ولوسيان أيضًا، إلى هذه الهُوَّة. وإما أنهم قُتِلوا هنا على حافتها وأُلقوا فيها، أو أنهم زُجَّ بهم أحياءً في أعماقها.

هناك صُلبانٌ معقوفة حُفِرَت مؤخَّرًا في لحاء الشجرة على يَد مُتظاهري الحزب اليميني، الذين مشَوا في مسيرةٍ إلى هذه الفويبا، كما فعلوا في غيرها، وذلك احتجاجًا على عمليات القتل وإحياءً لذكرى مَنْ لقُوا حتفهم هنا. وقد شطبَ المُعارضون من الجانب الآخر الصُّلبانَ المعقوفة ماسِحين إيَّاها. وأما القصيدة، فقد كتَبَها شخصٌ ما إحياءً لذكرى الضحايا في المقام الأول، لكيلا يُترَكوا بلا صوتٍ في معارك المزاعم والمزاعم المُضادة.

لاحقًا، ستترجِم لي صديقةٌ سلوفينية القصيدة. ويبدو أنَّني كان ينبغي أن أُخبرها بمكان عثوري عليها، وبما قد تحتوي عليه. ولكني لم أكن أتوقَّع مدى الرُّعب الذي يتضمَّنه مَتْنُها:

التجرُّد من الإنسانية

لكن على الرغم من ذلك كلِّه، كانوا أناسًا مثلي ومثلكم.
مَنْ أنت؟ الحيُّ الذي زُجَّ به في غياهبِ الجنون،
قُتل ضَربًا بالهراوات، ثم طُعِن.
مصلوبٌ أنت هنا دون أن يُوضَعَ لك صليبٌ،
ولكن وا حسرتاه أيها البشر؛
عظامُكم تَرقدُ في حفرةٍ سحيقة.
كانوا أناسًا مِثلي ومِثلكم،
قُتِلوا في عصر الحرية الذهبية.
عندما تمرُّ هنا، توقَّف لبرهة،
فَكِّرْ في معصمَيك وهما يدمَيان في الليل المظلم،
وقد التفَّتِ الأسلاكُ الشائكة حولَهما،
بينما هم يسبُّونك، ويدفعونك،
مضروبًا، وعاريًا، جثة لا تزال تنبض بالحياة.
يمكنك سماع الضربات بأعقاب البنادق،
والصراخ، والأنين، والرعب الذي يتحوَّل إلى عذوبة مع اقتراب الموت.
يتبدَّد الخوفُ والألم،
تتلاشى أصداءُ وَقع الأقدام وهي تقترب نحو العَدْم.
في الحفرة السحيقة، يرقد منهم عددٌ لا حصرَ له،
ولكن على الرغم من ذلك كلِّه، كانوا أناسًا مِثلي ومِثلكم.
ملاحظة: ملعونٌ كلُّ مَن يحاول محو هذه الكلمات.

•••

تخيَّل نفسك ضحية، هذا ما تَطلبه القصيدة من قُرائِها. تخيَّل نفسك في جسم إنسان آخر، فحينها — عندما تغوص في كائن آخر — ستجد نفسك بالتأكيد غيرَ قادر على إلحاق المعاناة بالغير. إنه نصٌّ مُزعج للنفس مثلما أعلم؛ نظرًا للوضوح الذي يَستحضِر به مشهدَ الإعدام، واللعنة التي يُهدِّد بها لكي يحمي النصَّ ويَحُول دون مَحوه. تتحدَّى القصيدة قارئها وتتهمه في الآن نفسه؛ إذ تحظر الردَّ وتطلُبه في آنٍ واحد. والأهم من ذلك كله، أنها قصيدة عن التعاطُف، عن الشعور بما يشعر به الآخر. بالنسبة إلى مؤلِّف القصيدة، يُمثل ظلام «الحفرة السحيقة» عدم التعاطف التام، الذي ميَّزَ الحرب في هذه المناطق، مِثلما يجِب بالضرورة أن يُميِّز الحربَ في كلِّ زمانٍ ومكان.

•••

تصطفُّ أشجار التفَّاح على جانب الطريق، حيث تتلألأ ثِمارُها الصفراء كالمصابيح. ويظهر مُرتفَعٌ راسخ من اليابسة. ثم تنضمُّ إلى المشهد وديانُ الأنهار الشاسعة، وقد ظهرت قِمَم الحجر الكلسي الباهتة مُرتفعةً عاليًا على الجانبَيْن. وتعلوها سماءٌ زرقاء مُقبَّبة، وتشرق الشمسُ بقوةٍ وسطوع فوق الحجارة. إننا نمرُّ عبر فردوس جبلي، لكنَّنا نجتازه في صمت. لقد هزَّت الفويبا وجداني بعُمق، وهزَّت لوسيان أيضًا، مِثلما أرى، على الرغم من أنه يدرك العُنفَ الخفي الذي يحويه هذا المشهد الطبيعي.

تظهر أشجار البتولا في المُنعطَف الآن، وأوراقُها مُتوهجةٌ كالكبريت. ويزهو اللِّبلابُ البري بزهوره البيضاء في السياج. وتتراقَص أشجار الحور على أنغام نسيمٍ جنوبي. ثم تقل درجة حرارة الهواء كلَّما ارتفعنا. ويتألق الهواء. ويتشكَّل ظل الماضي بكلِّ ما لم يحدُث قط. ويُذيب، في هيئته غير المرئية، الحاضرَ مِثلما يحدث للمطر عندما يتساقط عبر الكارست …

ما العلاقة بين الجمال والوحشية في مشهد طبيعي كهذا؟ هل من المُمكن، أو حتى من الحصافة، أن يسعد المرءُ بمكانٍ كهذا؟ ماذا كتبَ «أنسلِم كيفر»؟ في رأيي أنه ليس ثمة مشهد طبيعي بريءٌ ومعصوم؛ فذلك المشهد الطبيعي غير موجود … أتذكَّرُ لوحات كيفر للغابات الألمانية: غابات مُعتِمة ذات جذوع طويلة تُثير الحيرة لدى الرائي وتأسِر لُبَّه، وغالبًا ما تتغذَّى أشجارُها على القسوة التي دارت أحداثُها بينها. تتَّسِم أوروبا — حسبما يراها — بتاريخ راسخٍ من مشاعر الذنب والألم. وهنا تنمو أشجار الصنوبر عاليًا بسُوقِها الشاهقة. يتُوق كيفر إلى لاهوتٍ خَلاصي، يمكن بموجبه أن تُغتفَر ذنوبنا عن طريق جروح الأرض نفسها وندباتها التي تُشبه علامات الستيغماتا، ولكنه يزدريه باعتباره لا طائلَ منه.

أخذت القِمَم الحقيقية لجبال الألب الجوليانية في الظهور الآن في الأفق: سلسلة بارعة الجمال على الطراز القوطي. تمتدُّ قِمم الحجر الكلسي في مساراتٍ لولبية مُتعرجة حتى تبلغ ارتفاعاتٍ شاهقة. وتنتشر بنيات التجاويف والطيَّات على طول المستويات، من التلال والوديان إلى علامات المياه فوق جلمود واحد. تُغيِّر المادة مظهرها، مِثلما تُغيِّر مكانها. ويصير من الصعب التفريق بين الغَيمة والحقل الجليدي وسطح الصخر الباهت.

أتذكَّر ما كتبه دبليو جي سيبالد عن الطبيعة وآثار العنف؛ وكيف أنَّ الراوي في «حلقات زُحل»، بينما كان يسير على شاطئ شرق أنجليا الهادئ وذي الاستخدام العسكري في الوقت نفسه، أصبح مُستغرقًا إلى حدِّ «الرعب المُسبِّب للشلل» بالجمع بين «إحساسٍ غير معتاد بالحرية» في المشهد الطبيعي و«آثار الدمار، التي تعود إلى فترة بعيدة في الماضي، والتي تجلَّت واضحة حتى في ذلك المكان البعيد». أتذكَّر عندما اصطحبتُ صديقةً إلى موقع لتجارب الأسلحة النووية سابقًا، على لسان أورفورد نيس الرملي على ساحل سوفولك — حيث ذهبَ سيبالد كذلك — وهناك رأيتُ مدى تأثُّرها الشديد حتى إنها لم تستطِع منعَ نفسها من البكاء على ذلك الشاطئ المكسو بالحصى بجانب الأمواج البُنية لبحر الشمال. طفَا عنفُ الدولة الكامن في نيس من تلقاءِ نفسه على سطح مشاعرها، مُتضمِّنًا ذكريات علاقةٍ قاسية عانت فيها لعدة سنوات. إنَّ الحدث العنيف يظلُّ مِثل الزجاج المُهشَّم في عين المرء. والضوءُ الذي يُولِّده، بدلًا من أن يُساعدنا على الرؤية، يُعمِينا.

نحن الآن في الأعلى داخل جبال الألب الجوليانية، وفي مُنعطفٍ على الطريق، حيث يمتدُّ جسر نهر، ونرى امرأةً مُسنة جالسة بمُفردها على شاطئٍ مليء بالحصى بجانب الماء. إنها تجلس على كرسي مُتحرك، وقد دُفِعَت بين جلاميد الشاطئ. وترتدي نظارة سوداء كبيرة، بلون العنبر الداكن، وساقاها مُتدثِّرتان ببطانية خضراء. وقد وضعت يدَيها معًا على البطانية، وهي تنظر دونما حراك إلى المياه الزرقاء المُتموجة للنهر. من غير الواضح كيف وصلت إلى هناك أو كيف ستُغادر، لكن يبدو أنها في سلام بجانب المجرى.

ينشأ التنافُر إزاء أي مشهدٍ طبيعي ساحر من كونه كان مَوقعًا للعنف في الماضي. ولكن عند النظر إلى مكانٍ كهذا من مُنطلق تاريخه المظلم فحسب، فهذا يعني درء احتمالات أن يكون له حياة في المستقبل، وإنكار التعويض أو الأمل؛ وهذا نوع آخر من القهر. إذا كانت هناك طريقةٌ لرؤية مثل هذه المشاهد الطبيعية، فقد تكون بالنَّظر إليها باعتبارها «ضوءًا مُحتجبًا»؛ ذلك المصطلح البحري للضوء المُتقطع، الذي تكون فيه فتراتُ الإضاءة أطولَ من فترات الإطفاء. الكارست السلوفيني هو مَشهدٌ طبيعي «مُحتَجب» وفقًا لهذا المعنى، يتفاعل فيه الضوءُ والظلام على نحوٍ مُعقَّد، يجمع بين ألم الماضي وجمال الحاضر. مررتُ عبر العديد من المشاهد الطبيعية المُحتجَبة على مَرِّ السنين: من الوديان الصافية في شمال اسكتلندا، حيث يعلو غناءُ طيور القُبَّرة بصعوبةٍ على مشهد الحجارة المُتناثرة لأطلال المنازل المهجورة، إلى جبال جواداراما شمال مدريد، حيث اندلعت حربٌ حِزبية ضارية بين أشجار الصنوبر القديمة وتحت أنظار النسور، وحتى الوديان المُتنازَع عليها في الضفة الغربية الفلسطينية، حيث تعبُر الثعالبُ الكلبية مُنزلقة عبر الأسلاك الشائكة. تبث كلُّ هذه المشاهد الطبيعية الطمأنينة بعودة الطبيعة؛ فكلُّها تُثير التنافُس بين المعاناة العميقة والحياة الكريمة.

على مسافة مِيل أو نحو ذلك أعلى وادي النهر حيث تجلس المرأة وتشاهد الماء، يهبط تيار الماء مُتدفقًا إلى النهر الرئيسي من وادٍ جانبي. وُضِعَت لهذا علامةٌ على الخريطة بالاسم «ريو بيانكو»؛ أي السيل الأبيض، وهو يقود إلى القِمم العالية حيث نشبت الحربُ قبل مائة عام بالضبط. انطلقنا من رأس الطريق على طول مسارٍ رفيع عبر غابات الزان التي تَحدُّ المجرى. المسارُ نفسه يبرق باللون الأبيض حيث تآكل مُتحوِّلًا إلى صخر الأساس. ويمتدُّ بين الأشجار في مساراتٍ مُتعرِّجة.

تحتوي تجاويفُ جذوع أشجار الزان على حدائق صغيرةٍ للغاية من الحزاز والسراخس. وتنتشر أشجارُ الصنوبر القزمية بين جلاميد ضفة المجرى. وتُرصِّع أشجارَ الطبقة السفلية نباتاتُ الجريس وزهرُ الجنطيانا وزهرُ الأيديفايس. وينقُر سمك السلمون المُرقَّط الصغير بظلالٍ سريعة في برك المجرى الأكبر. تتكوَّن القِمَم الشاهقة فوقنا من منحدراتٍ من الحصى والعظام البيضاء، تتدلَّى على ارتفاع عدة آلاف من الأقدام بالأعلى من خط التلال. هل يُمكننا حقًّا الصعود إلى هناك؟ يُوجَد على يسارنا دائمًا البيانكو، الذي يتجمَّع ويتناثر. إنه حضورٌ غامض ومُتعمَّد، رفيقٌ جيد في صعودنا في ذلك اليوم الحار، وسرعانَ ما فقدتُ القدرة على مقاومة دعوته.

«لوسيان، سأمشي على طول المجرى وصولًا إلى أعلى.»

«استمتِع بوقتك. سأحافظُ على جفافي، على ما أعتقد، وسأراك بالأعلى في التجويف الجليدي.» ويُشير لأعلى إلى مستوى السُّحب. ثم يُردف قائلًا: «اتجِه نحو مُلتقى الوديان، ثم التفت يسارًا وللأعلى. ستجد نفسك عند تجويفٍ كبير قاعُه مُسطَّح، وكوخ إقامة مؤقتة صغير مَربوط بالصخر بأسلاكٍ حديدية. سنلتقي هناك مجددًا بعد ثلاث ساعاتٍ، أو أربع!»

يذهب للتجوُّل في الغابة، بينما أنزلُ أنا لأمشي على طول المجرى.

يتألق ضوءُ الشمس منعكسًا على الحجر. أقفزُ من صخرةٍ إلى أخرى، وأتسلقُ الجلاميد الأكبر، وأصعدُ إلى سطح البِرك الغاطسة؛ وحيث يجري المجرى عميقًا وواسعًا، أخوضه مُستمتعًا وذوبان الجليد يلسع قدمَي وقصبة ساقي. هناك سنام من الحجر الكلسي ناعمة كالجلد بفِعل النحت المائي لها. وهناك بِرك متدفقة صغيرة تحدُّها شواطئها الخاصة ذات الرمال البيضاء التي تتَّسِع لبضع بوصات. كلُّ قسم جديد من المجرى يُشكِّل لغزًا مختلفًا من الصعود.

إنَّه مجرًى جميلٌ في بياض نوره، ولكنه مجرًى غريبٌ في حيله. في البِرك الراكدة، يكون الماءُ شفَّافًا إلى درجةِ أنه يبدو غير موجود، حتى إنني وقفتُ أكثر من مرة لأغمسَ يدي في الماء للتأكُّد من أنه لا يزال موجودًا.

في الواقع، يكمُن التحدي في مواصلة التحرك في كل الأحوال؛ لأنَّ كل بِركة تشجِّع على الانتظار عندها والاستمتاع برش المياه، وكلُّ مجرًى جانبي يُغري رواده. وأخيرًا أسبحُ في حوضٍ يُغذيه شلالٌ من الحجر الكلسي المصقول البالغ عرضه اثني عشر قدمًا، وتطل حافته السفلية على الوادي إلى ذروة وثيرة وراءه. إنه مَسبحٌ طبيعي لا متناهٍ، أنغمسُ فيه لمدة خمس دقائق أو نحو ذلك، تاركًا الشلال يضرب ظهري حتى يتخدَّر.

ثم أمضي في تكاسلٍ إلى أعلى، حيث أقفزُ على الجلاميد، وأتوقَّفُ من حينٍ لآخر، وكلُّ مُنحدر نهر يُغريني، وكل بِركة تحتجزني، حتى تُصبح جوانب الوادي مُرتفعة بما يكفي لأنْ أُخاطر بالوقوع في شَرَكها. ومن ثمَّ أتسلَّقُ إلى الخارج مُستخدِمًا جذور الأشجار كحبال. يُشاهد سبعةٌ من حيوانات الشمواة — بعدَم المبالاة التي يصطنعها المُتلصِّصون الحقيقيون — رجلًا شِبهَ عارٍ إلَّا من حقيبة ظهر، يتسلَّق فوق حافة الوادي إلى فُرجةٍ في الغابة، ثم يرتدي ملابسه من جديد.

يتعرَّج المسار بحِدَّة مرة أخرى، من الفُرجة في الغابة إلى أعلى، إلى ما بعد الكوخ في أرضٍ مقطوعة الأشجار، حيث يتضاءل حجمُ الأشجار كلما زاد الارتفاع. تُذكِّرني زهور الجرب الأرجوانية بالأراضي الطباشيرية في وطني. وعندما أصعد، تنكمِش أشجار الزان العملاقة لتُصبح أشجارًا ناضجة يبلُغ ارتفاعها عشرة أقدام، ثم تظهر غابة واسعة من الأشجار الخفيضة، التي تتشعَّب إلى مساراتٍ مُختلفة. الأشجار الخفيضة هي مِن الصنوبر والبلوط السبخي ذي الأوراق اللامعة، وتصِل الأشجار في بداية ارتفاعها إلى الرأس، ثم إلى الكتف، ثم إلى الخصر، ثم تختفي تمامًا؛ وأخرج إلى أرضٍ مصقولة وخالية من الأشجار بفِعل الارتفاع والانهيار الجليدي.

الصخرُ عارٍ، والتصفيراتُ الصاخبة لحيوانات المرموط يتردَّد صداها في الأرجاء، والقِمم تتقارَب أكثر وأكثر حولها. ترتفع الأبراجُ الصخرية، وقد استمرَّت تكويناتها في الأعلى بفِعل السُّحب البيضاء المُكفهرة الناتئة التي تتراكم في السماء، وتستمر على نحوٍ غير مرئي بالأسفل بفِعل الهُوَّات وأنظمة الكهوف التي تنحدِر من سطح المشهد الطبيعي.

تكتسح أسرابُ العصافير أشجارَ الصنوبر من تحتي، وتختفي مرفرفةً وسط الأوراق. أصعدُ عبر حقلٍ من الجلاميد للوصول إلى داخل الكهف؛ حيث ثُبِّتَ هناك كوخ مُخيَّم مؤقت ذَكَرَه لوسيان بكابلاتٍ فولاذية فوق جلمود مُسطح لدعمه ضد العواصف الشتوية الشديدة. وكان حجمه أكبر قليلًا من حجم كبسولة مَعدنية. أفتحُ الباب الأمامي، فتظهر مساحةُ الكوخ بارتفاعه الذي يسمح بالوقوف. وتُوجَد ستة أسِرَّة ذات طوابق، ثلاثة على كل جانب. وهناك أكوام من البطانيات المطوية بعنايةٍ على الأسِرَّة، وعبوتان مملوءتان بالمياه. وثمَّة مخفر أمامي لإنقاذ الغرقى. ولكن أين لوسيان؟

أستلقي مُنتظرًا على رَعنٍ عَشِبٍ بالقُرب من الكوخ. وعندئذٍ تهب رياح دافئة. أتخذ من نباتات المرتفعات وِساداتٍ. وأستلقي هنا وسط السُّحب، والصخر، وصفير حيوانات المرموط، ومشاعر السعادة. ثم ينعق غرابٌ مُلقيًا بنحسه على الأجراف. وأسمعُ صوتَ تساقُط الحجارة، وضربَ حوافر تَيْس الجبل. إنه يبعد عني عشرين ياردة فقط. وثمة همهمة شيءٍ كالصمت. يتَّخِذ الكهف شكل حدوة الحصان بفِعل موجة كبيرة مُتجعدة من الحجر الكلسي، ترتفع إلى القِمم، وتنخفض إلى الثغور الحادة. وهنا أعرفُ خطوط وجهتنا النهائية إلى الغرب، لكنني ليست لديَّ أدنى فكرة عن كيفية الوصول إليها.

بعد نصف ساعة، يخرج لوسيان من فوهة الكهف، شاعرًا بحرارة الجو لكنه مُبتهج. سبق أن مررتُ به في مكانٍ ما في متاهة الأشجار الخفيضة دون أن أُدركَ ذلك. ونجلس هناك نأكلُ التفاح ونشربُ مياه النهر بجانب السقيفة.

يقول لوسيان: «في الشتاء ينجرِف الثلج إلى هنا، هابطًا خمسة عشر قدمًا أو عشرين قدمًا. فتُوارَى هذه التضاريسُ الكائنة أسفل الثلج.»

أقول للوسيان مُعلِّقًا: «هذا المكان يرفع معنوياتي. شكرًا لأنكَ أتيتَ بي إلى هنا.»

فيرد عليَّ قائلًا: «أنا سعيدٌ يا روب. ولكن الحربَ نشبت هنا أيضًا مع الأسف، وإنْ كنتَ لن تُدرك ذلك بمجرد النظر حولك. لقد اخترقوا الصخور وتسلقوا الأجراف للوصول إلى العدو. ولكن، أعداد مَنْ قتلوا هنا بسبب ظروف الشتاء تفوق أعدادَ مَن قُتلوا رميًا بالرصاص.»

عبْرَ الدولومايت وجبال الألب الجوليانية، أخذت الأنهار الجليدية في التراجع والانحسار كاشفة عمَّا جنتهُ من محتوياتٍ جراء الصراع الذي دار قبل قرنٍ من الزمان: بنادق، وصناديق ذخيرة، ورسائل حُبٍّ لم تُرسَل، ومذكرات، وجثث. ظهر جنديَّان نمساويان مُراهقان عند نهر جليدي في ترينتو، كلٌّ منهما مُستلقٍ ورأسه مُواجِه لأخمص قدم الآخر، وجمجمة كلٍّ منهما مُهشَّمة بالرصاص. وهناك ثلاثة جنود من هابسبورج برزوا خارج جدارٍ جليدي، وهم مُعلَّقون رأسًا على عقب بالقرب من قمة سان ماتيو على ارتفاع ١٢٠٠٠ قدم. إنَّ جوهر الأمر ليس فيما يحدث من دفن الأشياءِ عميقًا في طبقات الأرض، ولكن في أنها تبقى هناك …

نبدأ في التسلق الحقيقي من الملجأ. ونأخذ طريقنا صعودًا نحو ثغرةٍ في الحَيد على لسان ركام: خطوتان للأعلى، وخطوة إلى الوراء. تظهر أمامنا حقولٌ ثلجية رقيقة، فنجتازها مُحدِثَيْن ثقوبًا خلالها مع كل خطوة. إنه عملٌ استثنائي في هذه الأجواء الحارة وعلى درجةٍ من الصعوبة. نرتدي الخوذات الآن لحمايتنا من تساقُط الصخور. ونصِل إلى الثغرة. إنه مكانٌ مُتطرف. نجلسُ مُنفرجي الساقَين كلٌّ منا في مواجهة الآخر، كما لو كنا جالسَيْن فوق أحصنة؛ لأن الصخرة هنا عبارة عن شوكةٍ بعرض قدمٍ واحدة تقريبًا. إلى الجنوب، يُوجَد خط انحدار هائل، ينزل عدة آلاف من الأقدام إلى الشريط الأبيض للحجر الكلسي الذي يُميِّز مسار نهر إيسونزو، الذي تتلألأ مِياهُه باللون الأزرق حتى مع ما يُحيط به من أشجار الصنوبر الشاهقة ذات اللون الأخضر الداكن في الوادي.

تؤدي التلَّة أمامنا إلى قِمَم، وجُنيحيات، وانحدارات. هذه هي القِمَم الصغيرة لريو بيانكو والسيل الأبيض، ولا يمكن اجتيازُها إلا من خلال كابلاتٍ وأقواس «في فيرات»؛ أي «مسارات الحديد»، المُثبَّتة في المكان. نرتدي أنا ولوسيان أحزمة التسلُّق. لا يزال المِشْبَث معي يحمل الطمي وطين الهاوية في تريبيشيانو؛ وعند رؤيتهما أتذكَّر تلك الغرفة المُظلمة، التي تمتدُّ في الأسفل إلى ما يقرب من ٧٠٠٠ قدم رأسية.

يقول لوسيان مشيرًا إلى الجانب الآخر من الوادي: «هذا هو الكانين.» إنه جبلٌ أبيض مُحدَودِب ومُنحدر، تنحدِر من قمته التي تبدو على شكل ظهرِ حوتٍ ما يُشبه الحقول الثلجية الشاسعة، وإن كانت ليست كذلك، مُتلألئة في الضوء ومليئة بالحُفر.

«الكانين هو قمةٌ كارستية حقيقية. ويمكنك هنا أن تلاحِظ الطبيعة المختلفة للحجر الكلسي. النوع الذي نحن أعلاه نوعٌ أكثر هشاشةً وحِدَّة. الكانين أقربُ في شكله إلى رغيف الخبز، وأقربُ في نسيجه إلى القمر. عليكَ أن تتخيَّله كمقطعٍ عَرضي كذلك. ذلك حيث يُشكِّل نمطًا يُشبه خلية النحل باحتوائه على كهوفٍ طبيعية. فهناك كهوفٌ تقع فتحاتها على مُنحدرات الكانين، التي تنحدِر إلى كيلومِترَيْن رأسيَّين تقريبًا.»

كتبت نان شيبرد في دراستها الرائعة لسلسلة جبال كيرنجورم «الجبل الحي»: «إنَّ للجبل باطنًا.» واستغرقَ الأمرُ منِّي سنواتٍ لفهمِ ما قصدته فيما يتعلق بتلك السلسلة الجرانيتية، التي تبدو ذات واجهةٍ شديدة الاتجاه للخارج هنا في جبال الألب الجوليانية، ومع ذلك، يبدو اقتراحُ نان مُجرَّد بيانٍ لما هو واضح. هذه جبالٌ مُجوَّفة، قِممٌ بلا ضوء، تنعطِف في كل مكانٍ على نفسها في شكل وديان وكهوف.

كنَّا على وشك البدء في اجتياز القِمم الصغيرة لريو بيانكو عندما سمعنا صوتَ جلجلة رعد مُستمر، يأتي من الشمال الغربي.

أقول للوسيان: «ليس هذا بالوقت المناسب. نحن مَربوطون بالأشباث المعدنية المُثبَّتة في كابلاتٍ معدنية أيضًا، بينما تتَّصِل محاورُ جليد معدنية بالحقيبة الموجودة على ظهر كلٍّ منا، فوق حافة جبل مكشوفة، ويهبُّ علينا الرعدُ والبرق.»

يقول لوسيان: «حسنًا، يُمكننا العودة إلى الكهف والانتظار هناك، أو يمكن أن نستبقَ العاصفة ونأملُ أن نتخطاها، أو ألا تَصل إلينا حتى نتمكَّن من الاحتماء في أحد الأنفاق.»

نُسابقُ العاصفة. ساعتان من العَدْو أمام الرعد. نجتاز الذروة تلو الأخرى. أتذكَّر الأمر على هيئة طقطقاتِ مصارع وشظايا حادة. الصخرُ الحار أسفل أيادينا. والمنحدرات تسحبنا. القمة الأولى، الثانية، الثالثة. الأدرينالين يتدفَّق، والأظافر تتلطَّخ بالدماء، وحمض اللاكتيك ينسكبُ على الساقَين والذراعَين. إننا على قيد الحياة في هذه الأجواء، وسعداء بكونِنا على قيد الحياة، وتمرُّ العاصفة الرعدية ببطءٍ عبر عدة أميال إلى شمالنا.

تتشابك كابلاتُ فيا فيرتا مع البنية التحتية للصراعات التي تعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى. نصعد، مع محاولة الحفاظ على توازننا، عبر درجاتٍ خشبية مُهتزة دُقَّت في الصخر قبل مائة فصلٍ من فصول الشتاء. ونستخدم سلالم حديدية صَدِئة لعبور الشقوق الصخرية. ثم نصِل إلى مُنحدرات القمة التاسعة؛ وهناك نجد أمامنا فوهة نفقٍ مُظلم في ذلك العالَم العلوي المُضاء بنور الشمس. وقد نُسِفَ واختُرِقَ بالكامل عبر القمة، لا بدَّ أنه كان خلال الحرب واحدًا من أكثر الأماكن أمانًا في منطقة النزاع المُميتة بعيدًا عن المعدَّات الحربية والبَرق والانهيار.

نتقدَّم إلى داخل النفق، مُمتنَّيْن له على حمايته لنا من الرياح، والمأوى الذي يُمكن أن يوفِّره في حال هبوب العاصفة بتقلُّباتها في طريقنا. نواصلُ السير إلى داخل الجبل. ينخفض النفقُ ستِّين قدمًا، وينعطفُ مرتَيْن، ثم يغمرنا ظلامٌ دامس، وهنا يتعيَّن علينا إضاءة المصباح الأمامي على رأس كلٍّ منَّا. ومرة أخرى، ينخفض النفق إلى مستوًى أدنى عبر سُلَّمٍ صَدِئ، فيساعد كلٌّ منَّا الآخر في النزول برفع يديه ومَدهما.

يبزغ الضوءُ من جديد، فنلجأ إلى ركنٍ حيث نجد فوهة بندقية محفورة في الحجر الكلسي، في موضعٍ يسمح لها بإطلاق النار عبر الوادي نحو الكانين. ولا تزال الدائرة الحديدية الدوَّارة التي كانت البندقية تدور عليها شرقًا وغربًا مُثبَّتة في الحجر موضع التمركز. وقد حُفِرت مساحة للارتداد في الجدار الداخلي. في هذا المكان الضيق، يكون تأثيرُ الضوضاء المُزلزلة الناتجة عن إطلاق النار ساحقًا، ومن ثمَّ فإن الرجال الذين استخدموا هذه البندقية لا بدَّ أنهم فقدوا سَمْعهم على الفور.

يظهر الضوءُ مرة أخرى عند مُنعطف النفق، ويتَّضح مصدره. بعد أن مررْنا بمراحل تلك القمة الجوفاء: الضوء، ثم الظلام، ثم الضوء، ثم الظلام، ثم الضوء مرة أخرى، أصبحنا عند نهاية الحَيد، وفوق مُنحدر، حيث يُوجَد هشيمٌ صخري ينخفض بعيدًا نحو ممرٍّ جبلي. أتذكَّر فجأةً شخصية المارِّ عبر الجدران، التي تسير عبر الجدران في سراديب المَوتى.

ركضتُ على الهشيم الصخري، مُنزلقًا إلى المراعي المنحدرة الخضراء المحاطة بمساراتٍ صنعتْها حيواناتُ الشمواة والناس. تمتدُّ رُقَعٌ من الثلج الأصفر القديم في ظلال القِمم. وعلى بُعد ميلٍ أو ميلَيْن من هذا الموضع يُمكنني أن أرى كوخًا، جاثمًا عند النقطة التي تنخفض فيها الأرضُ آلافَ الأقدام إلى الوادي. إنَّه يُبشِّر بقدرته على منح الراحة، والطعام، والصُّحبة. تتلاشى أفكارُ الحرب وتتوارى بعيدًا. وتمرُّ الغيوم بسرعة فوق الشمس، ما يلقي بضوءٍ خافت على المشهد الطبيعي برُمَّته.

•••

تُشرفُ على الكوخ فتاةٌ تُدعَى تيريزا، تبلغ من العمر سبعَ سنوات، ولديها قِط أبيض. والِد تيريزا هو الوصي، بَيد أنه يلزم الغرفة الخلفية. ولا تظهر والِدة تيريزا في أي مكان. تصنع تيريزا المكرونة للعشاء، وتخرج لتلقي علينا التحية بينما الدقيق يُلطِّخ وجهها، حاملةً لُونَا تحت إحدى ذراعيها ككُرة الرجبي. تتحدَّث معي بالإيطالية وأتحدَّث معها بالإنجليزية، ولا يمكن لأيٍّ منا فهْم الآخر، ولكن هذا لا يُهم على الإطلاق.

عند رؤية تيريزا، اشتقتُ بشدَّة إلى أبنائي. فأنا لم أرَهُم منذ أسبوعَين تقريبًا. يتسلَّل الظلامُ المُخيِّم على هذه المناظر الطبيعية الجميلة إلى روحي، حاجبًا الرؤية والروح. أريدُ أن أكون معهم لأجعلهم آمنين.

الكوخ هو إحدى ذخائر الحرب البيضاء. فعتبات النوافذ مُبطَّنة بحطام الموت، الذي جمعه المارة على مَرِّ السنين. شظايا القذائف، والحِراب المَثنية، والرصاص، وأبازيم الأحذية، ورزات الخوذات، وأشرطة الذقن، وأغلفة القذائف المُقشرة كقِشر الموز جراءَ الِانفجار. إنَّه متحفٌ مُروِّع يقف شاهدًا على عمليات القتل وسفك الدماء.

هنالِك أيضًا مكتبة صغيرة من الكتب، التي يتعلق الكثيرُ منها بالحرب. أجلسُ إلى مقعدٍ خشبي، وأقرأ عمَّا حدث هنا. هناك صورٌ باللَّونَين الأبيض والأسود تعرض الجبهاتَ التي تنقلت عبر جوانب الجبال، والرجال الذين قاتلوا هنا. نفقٌ تلوَ الآخر، وبوابةٌ تلوَ الأخرى محفورة في حجر القِمَم. والرجال في الظل ينظرون إلى أجراف العدو المثقوبة كجناح سفينة سياحية. كان الوصولُ إلى داخل الجبال هو السبيل الوحيد للوقاية من الانهيارات الجليدية القاتلة، ومن البرد القارس، ومن قذائف العدو وطلقاته المُميتة. أصبحت جبالُ الألب هذه قِمَمًا مُسلَّحة، وأُعيدَ تنظيمُ طبوغرافيتها قسرًا حسب مُقتضيات التغطية والإخفاء. فقد أدَّى سقوطُ القذائف وحدَها إلى انخفاضٍ في ارتفاع أحدِ الجبال مقداره عشرون قدمًا. امتدَّ مسرحُ الحرب البيضاء وساحتُها من أعالي القِمم، عبر بواطنها المُجوَّفة حتى الأسفل عند كهوف المنحدرات والوديان.

أتذكَّر مرةً أخرى دراسة إيال ويزمان «الأرض الجوفاء» التي تدور حول هندسة المناظر الطبيعية المرتبطة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأتذكَّر اقتراحه عن «الجغرافيا المرنة»، حيث لا يُفهَم الفضاءُ ببساطةٍ على أنه خلفيةٌ لأعمال الصراع، «ولكن بالأحرى كوسيط … يسعى الصراع إلى تحديه، أو تحويله، أو الاستئثار به.» رسمَ ويزمان خريطة «الجغرافيا المرنة» للضفة الغربية وإسرائيل: محاولات إقامة الجدران والأسوار لإغلاق مناطق الإقليم بإحكام، والفوضى التي نتجت عن هذا الإغلاق بحفر الفلسطينيين أنفاقًا تحت هذه الحواجز من أجل تهريب الأشخاص والأسلحة، والتجاويف المُقوَّسة التي صنعتْها الصواريخ التي أطلقها مُقاتلو حماس من غزة. كما تحدَّث عن تصورات إعادة وضع مفاهيم الحيز الذي التزم به كِلا طرفي الصراع: الطريقة التي دخلت بها التضاريسُ المُتنازَع عليها رأسًا من المجال الجوي العسكري بعيدًا فوق مستوى اليابسة، على طول الطريق بالأسفل وصولًا إلى النزاع بشأن السيطرة على المياه الجوفية العميقة في الحجر الكلسي، التي تقع على عمقِ آلاف الأقدام تحت الضفة الغربية. الاسم الذي أطلقه ويزمان على هذه المساحة المُتغيِّرة هو «الأرض الجوفاء»، وذلك بسبب «البناء المِعماري المُعقَّد … بمستويات مَداخله ومخارجه المنفصلة، وممرَّاته الأمنية، والعديد من نقاط التفتيش. ونتيجة الفصل والإحاطة بحواجز عديدة، وشقِّ الأنفاق تحت المنطقة، وربط الأراضي الواقعة على السطح بمعابر، وقصفها من السماء المُزوَّدة بالوسائل العسكرية، تظهر الأرض الجوفاء باعتبارها التجسيد المادي لمحاولاتٍ عديدة ومُتنوعة لتقسيمها.»

حدث شيءٌ مُشابه في جبال الألب الجوليانية أثناء الحرب البيضاء. في هذا «المختبر المتطرف»، ظهرت أنواعٌ جديدة من الحروب، وحدثت تحوُّلاتٌ جديدة في المكان. إذ لم تَعد الجبال يُنظَر إليها على أنها هياكل صَلدة ومُصمَتة، ولكن باعتبارها خلايا نحلٍ يمكن ثقبُها، والعبور إلى أجزائها الداخلية، والسير عبر جدرانها. وأصبح المشهد نفسه فاعلًا، وعاملًا، ومُقاتلًا. وفي الحرب العالمية الثانية، كما رأينا أنا ولوسيان في مواقع الفويبا، كان من المُقرر استغلاله بأسلوبٍ مختلف كإحدى طرق الإعدام.

تأتي تيريزا بالقطِّ لُونَا لرؤيتي. وتضعه على حِجري، ثم تُمسِك به من أُذنَيه وتُقبِّله بملء فمها وبقوة. يعوي لُونَا احتجاجًا ويغرز مَخالبه في فخذي. فأصرخُ أنا الآخر احتجاجًا وأغرز أظافري عميقًا في راحة يدي. تنصرِف تيريزا سعيدةً بالنتيجة.

نتشارك الكوخ مع أربعةٍ من الترييستيين. إنهم من الزائرين الدائمين للمكان، وهم زوجان يأتيان إلى هنا كثيرًا، حيث يقدُمان من المدينة بصحبة زوجتَيهما لقضاء الوقت معًا: تسلق الجبال والتزلج عليها شتاءً، والتسلق واستكشاف الكهوف صيفًا. يُدخِلونا في محادثاتهم، ويشاركون معنا القصص عن الجبال. أحد الترييستيين رجلٌ عريض المَنكبَيْن وذو بنية ضخمة كالدب. يرتدي سترةً من الصوف البرتقالي ومنديلًا كبيرًا أزرق مُزيَّنًا بالرسوم، ويسيل العَرقُ من فروة رأسه. ويُوضح دون زهوٍ واستعراضٍ أنه مُستكشِف كهوف جامح. تتملكني الدهشة؛ فشكله يبدو غيرَ مناسب إطلاقًا لهذا التخصص. ولكني لا أصرِّحُ له بهذا. يشير لأعلى إلى الكانين.

ويقول: «تقبع هناك بعضٌ من أعمق الكهوف في أوروبا التي تمتد من السطح إلى أكثر النقاط انخفاضًا.» ويأتي ليجلس معنا، ويُشير على خريطتنا حيث تقع مداخل الكهوف.

في تلك الليلة، يومِض البرقُ بعيدًا ليضيء الكانين. وأخرجُ أنا ولوسيان إلى الشرفة لمشاهدة المنظر. يُمكننا أن نرى سهول الحجر الكلسي المحفورة في الضوء الساطع. إنها تشبه سطحَ القمر ذا الثقوب الكويكبية. إنه جميلٌ ولا ينتمي في جماله إلى كوكب الأرض.

نشاهد العاصفة، ونحسبُ الوقت بين كل هبوب للعاصفة وبين دمدمة الرعد المصاحبة لها.

يقول لوسيان بعد فترة: «يُمكنك سماع الأيائل وهي تخور أسفل الوادي في وقتٍ لاحق لهذا، بقليل، من العام.» ثم يضيف مُتعجبًا: «يا له من صوت، مُتلاحق وعنيف. إنه ينجرف للأعلى قادمًا من الأسفل ويتردَّد صداه حول دارات الجليد.»

ثم تصِل إلينا العاصفةُ، وينهمر المطر على السقف الصفيح مُدوِّيًا كطلقات الرصاص.

•••

نستيقظُ على هدوءٍ ومعجزة.

يملأ بحرٌ من السُّحب المشهدَ الطبيعي أسفلنا. تُشبه الوديانُ المضايق ونقفُ معزولين. وبينما نشاهد، تندفع السحابةُ ببطءٍ إلى أعلى، وتدور في دوامة لأعلى حتى أتوهَّم أننا نغوص، بينما ترتجف شُعُب حَلقية بالأسفل في المياه البيضاء. وينبثقُ وسط دوَّامات الضباب والقِمم ذات الذُّروات، اللونُ الأخضر لأشجار الصنوبر؛ وتنبسط لوحة من الطومار الصيني أمامنا.

انطلقنا إلى الغرب على طريقٍ غير عريض يمرُّ بين أجرافٍ شديدة التحدُّر في الأعلى ومُنحدرات عميقة في الأسفل. نمرُّ داخل بحر السُّحب وخارجه مع تحرك المسار. وحيثما تنهمر الشلالات من الأجراف بالأعلى، نُضطَرُّ أن ننحنيَ ونركضَ عبرها، بينما مياه الجليد الذائبة تُقعقع على رءوسنا ورقبتنا.

تحمل رُقعة من الثلج آثار أقدام السنوريات. وثمَّة وعلٌ ينظر على بُعد، وزوجٌ من السمندل الأسود المُتزاوج في عناقٍ حار على الحجر الأبيض للمسار، وكلٌّ منهما ضاغط بأصابعه بحماسٍ على الآخر. المزيد من الكوَّات، والمزيد من الأنفاق؛ فلا يكاد جرفٌ أن يَسلَم منها، والسلسلة الجبلية بأكملها تبدو مثل خلية نحلٍ حربية مُروِّعة. إننا نَحْلُ اللامرئي …

ينحدِر سِربٌ من الغربان العصماء على مسافةٍ بعيدة أمامنا صائحةً صياحًا ذا أزيز. ويَفِرُّ زوجٌ من الشمواة راكضَيْن، ثم يتوقَّفان على جلمود، ويَشرئِبَّان برأسيهما للنظر علينا. ولا تزال الخنادقُ مرئيةً بين الحجارة والتربة، مُغطاةً بالعُشب. نمشي بحُرِّية عبر وادٍ جانبي، والذي كان انفتاحه في أي وقتٍ كفيلًا بأن يُودي بحياتنا. وتغرق لفائفُ من الأسلاك الشائكة في العشب والحجارة.

ننزل من المسار العالي ونأخُذ خطًّا كونتوريًّا إلى الأسفل نحو السحابة، التي تحتوينا في عالَمها الأبيض. ثم نتوقَّف لنأكل في بقعةٍ تنمو فيها حبَّاتُ توت العليق البري. طعم التوت لاذع في الفم. وبينما ننزل من أعلى تُشرق الشمسُ لتطوي بأشعتها السحابة.

ثم نصِل إلى قاع الوادي في وقتٍ مبكر من بعد الظهيرة، حيث يتدفَّق عبر الوادي الإيسونزو اليافع، مارًّا بمياهه الزرقاء الجليدية فوق كارست الكانين. وتُساورني الرغبة في الانزلاق إلى داخله، والسباحة في البحر الأدرياتيكي. نجلس أنا ولوسيان على شاطئٍ من الحصى لنأخُذ قِسطًا من الراحة بجانب بِركةٍ عميقة. ونُشاهد ظلال سمَك السلمون المُرقَّط وهي تنقلب لتصطاد الذباب، أو تتدلَّى مُتمايلةً في اتجاه التيار. وأتساءَل ما الذي قاله متسلق الجبال المُتصوِّف دبليو إتش موراي بعد إطلاق سراحه من معسكرات أسرى الحرب الألمانية والإيطالية التي قضى فيها سنوات؟ «ابحَث عن الجمال، واسترخِ.»

يرتفع ضبابٌ خفيف من الماء ويتدلَّى بلونه الأبيض فوق النهر، فيتفوَّق الماءُ في نقائه على الهواء. وتمتلئ الأشجارُ المُتاخمة للنهر بالحزازيات والأشنات. إنها ليست غابة مطيرة ولكنها غابة ضبابية، يسري عبرها هذا النهر الذي ينتمي إلى عالَمٍ آخر. أجدُ حجرًا أسود مُستديرًا ومسطَّحًا على الحصى، فألتقطهُ وألقي به نحو منتصف المجرى. يغوص الحجرُ لأسفل عبر المياه الزرقاء إلى قاع النهر، حيث يُدفَن هناك جزئيًّا في الرمال البيضاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤