الفصل الأول

الراقصون الحُمْر

(لوفوتن، النرويج)

بالنظر عبر الخليج إلى الشاطئ الشمالي، وهناك بجوار أشجار البتولا المُتلألئة، يقف شكلٌ مُظلِم على أرضٍ مرتفعة حيث لا ينبغي لشيءٍ أن يكون.

يخفق طائران من طيور صائد المحَّار برأسيهما فوق الماء بيننا مُصدِرَيْن صيحات تنبيهٍ سريعة، ويلفتان انتباهي حال تحليقهما.

بالنظر إلى الوراء عبر الخليج إلى الشاطئ الشمالي، ولكن الآن بجوار أشجار البتولا، لا نجدُ شيئًا هناك، لا أحدَ على الإطلاق.

•••

قبل أيام، كنَّا نُبحر في بحر فيستفيوردين في طقس مُتفاقم السوء؛ نظرًا لأننا نُريد أن نصل إلى اليابسة في موسكينيس قبل ساعةٍ من الغسق. يتجمَّع ضوءُ الشمس في الجنوب، ثم يُواريه الظل. تهبُّ عواصف ثلجية صغيرة ثم تحجب الرؤية عن القارب. وتتطاير ندفات الثلج في الهواء بسرعةٍ هوجاء.

تنتشِر جزرٌ مُستحيلة الوجود إلى الغرب. ألمحُ شريطًا طويلًا من اللونَين الأسود والأبيض، بالإضافة إلى جرفٍ شديد الانحدار وحقل ثَلجي بين سحابة رمادية منخفضة وبحر رمادي هائج. أرى ومضاتٍ من الضوء على الثلج، في الأخاديد والجوانب الأكثر ضحالة. إنَّه ثلج أكثرُ بكثيرٍ ممَّا توقعت أن أراه، والقِمَم نفسها أكثر انحدارًا وحِدَّة مما ارتقبتُه. يتَّسع الشريطُ البري الطويل كلما اقتربنا.

تُضحِي الجبالُ على مَرمى البصر، وتظهر بفِعل العواصف كالصور الفوتوغرافية. هناك منازلٌ مُتناثرة ذات جدران حمراء وأسقف سوداء. وهناك الآلاف من سمَك القُدِّ، مُجمَّدًا وصلبًا ومُعلَّقًا من حناجره المشقوقة في صفوفٍ في إطاراتٍ من الخشب على شكل حرف إيه في الإنجليزية، مُطقطقًا في الرياح. تتكاثف العواصفُ لتُصبح عاصفة ثلجية عنيفة تهبُّ من جهة الشرق، وتضطرِب بطني من شدة القلق.

في الأغلب، سوف أتذكَّر لاحقًا الأيامَ التي تلت ذلك؛ فأراها بمُخيلتي في صورة معادن. فِضيَّةُ المَمر. وحَديدُ الخليج وغيومه. وذَهَبُ السماءِ النادر. وَزِنكُ العاصفة في أوْجها. وبرونزُ البحر ونُحاسُه الممتدُّ إلى الجنوب عند هروبي.

•••

يقول لي هاين في أوسلو: «ابحَثْ عنها. ثمة المزيد منها هناك، بلا شك، المزيد من الأشكال على ذلك الشاطئ.»

يتوقَّف قليلًا ثُم يواصل حديثه.

«ولكن عليكَ أولًا أن تتخطَّى الجدار بأمان. لم أذهب هناك مُطلقًا إلا بالقارب، عبر الطريق الطويل، صيفًا. سيكون في استطاعتك المشي هناك شتاءً.»

ثم يبتسِم.

«هل فكَّرتَ يومًا في الإقلاع عن التدخين؟ لن يفوت الأوان أبدًا لتتعلم!»

يتوقَّف قليلًا. ويبتسِم.

«يمكن أن يكون التدخين مهارةً جيدة للبقاء على قيد الحياة في مثل هذه الأجواء.»

•••

تقع غالبيةُ لوحات الكهوف الأوروبية التي تعود إلى عصورِ ما قبل التاريخ في غرفٍ وملاذاتٍ بالجنوب الغربي لفرنسا وشمال إسبانيا. وكلما تحرَّكتَ شمالًا من هذه المنطقة، تراجع مثل هذا الفن كمًّا وقلَّتْ أعمار الكهوف كذلك. ذلك أنه فوق دائرة عرض ستِّين درجة شمالًا، يُوجَد منها أعداد قليلة نسبيًّا.

السببُ الرئيسي لنُدرة الفن المُلوَّن في خطوط العرض العُليا هو أنَّ الكثيرَ من هذه المشاهد الطبيعية كانت مدفونةً تحت الأنهار الجليدية حتى نهاية العصر الجليدي الأخير. وقبل عشرين ألف سنة، عندما كانت الثيرانُ الحمراء البالغ طولها سبعة عشر قدمًا تُرسَم في قاعة الثيران في كهوف لاسكو، فيما يُعرَف الآن بإقليم دوردونيي بفرنسا، كانت كلُّ الدول الإسكندنافية ومعظم بريطانيا وأيرلندا لا تزال مُتجمدة. ومع انحسار الجليد تدريجيًّا، خلَّف وراءه مَشهدًا طبيعيًّا مُبعثرًا مجرَّدًا من أشكال الحياة. ومن ثمَّ، لم يحدُث الاستعمارُ البشري لهذه الأرض القاحلة شمالًا إلا ببطء.

تلعب الجيولوجيا أيضًا دورًا في نُدرةِ ما تبقَّى من لوحات فن الكهوف ذات الرسومات في دائرة العرض الشمالية. إذ تُشكِّل غرف الكهوف صالات العرض الأكثرَ أمانًا لمِثل هذا النوع من الفنون، وتتكوَّن هذه الغرفُ في الأغلب بطريقةٍ طبيعية في الحجر الكلسي: لاسكو، شوفيه، ألتميرا؛ ذلك أن كلَّ الأعمال الفنية الأكثر شهرة التي تعود إلى عصورِ ما قبل التاريخ قد تكوَّنت داخل الحجر الكلسي وفوقه. يتمتع الحجر الكلسي بقُدرة إضافية على الحفظ تُمكِّنه في كثيرٍ من الأحوال من ترسيب طبقةٍ شفافة من كربونات الكالسيوم فوق اللوحات الجدارية، والتي تتصلَّب بعد ذلك وتكون بمثابة طبقةِ طلاءٍ حافظة تُقلل من تدهور حالة الأصباغ اللونية. ومع ذلك، تتَّسِم شمال أوروبا بنُدرة الحجر الكلسي فيها مُقارنةً بإسبانيا وفرنسا، ولكنها أكثر وفرةً منهما في الصخور النارية البركانية والمُتحوِّلة. تتشكَّل الكهوف أو النتوءات في مثل هذه الأنواع من الصخور من خلال قوى تآكل الجليد أو مياه البحر، ومن ثمَّ تميل إلى أن تكون أكثر ضحالةً وذات جوانب أكثر خشونة. وتفتقر الأجزاء الداخلية إلى اللوحات الجذَّابة للحجر الكلسي المصقول بفِعل المياه. ولا يُوفر تجويف الجرانيت المُسنَّن الفرصَ نفسها لتكوين الصور كما هو الحال في غرفة من الحجر الكلسي ذات الأعمدة المُتشكِّلة من الرواسب الكلسية. يُوجَد الفنُّ الصخري لدائرة عرض القطب الشمالي الذي يعود إلى عصورِ ما قبل التاريخ في أوروبا، بما في ذلك الأعمالُ الفنية التي تتركَّز على نحوٍ مُذهل في ألتا في أقصى شمال النرويج، حيث يُوجَد أكثر من ٦٠٠٠ صورة — عبارة عن نقوش صخرية في الغالب — تُصوِّر حيوانات الرنة، والدببة، والبشر، ومشاهد الصيد، والشفق القطبي الشمالي، التي تكوَّنت منذ فترةٍ تتراوح ما بين ٧٠٠٠ و٢٠٠٠ سنة تقريبًا على الصخر الذي أصقلته الأنهارُ الجليدية. ولكن الفنَّ الملوَّن — الأكثر عُرضة للضرَر والتلَف بفِعل العوامل الجوية مُقارنةً بالصور المنقوشة — شحيحٌ ونادر.

يوجد بعضُ الفن الصخري الملوَّن الأكثر لفتًا للأنظار في هذه المشاهد الطبيعية الشمالية في كهوف البحر المزخرفة في ساحل النرويج الغربي. اكتُشِفَ حتى الآن اثنا عشر كهفًا بحريًّا تحتوي على مثل هذا الفن، وهي مُنتشرة على مسافةٍ تزيد عن ٥٠٠ ميل من نيروي جنوبًا إلى أرخبيل لوفوتين شَمالًا. تقع كلُّ هذه الكهوف في مناطق بعيدة، غالبًا على السواحل البرية حيث تنخفض القِمم تمامًا إلى المحيط. وقد دُفِعَت كلُّها بقوة إلى الأجراف البحرية أو الصخور المُتحدِّرة بفِعل القوة الضاربة لحركة الأمواج على مدى آلاف السنين. وبعضُ الكهوف لم يكن من المُمكن الوصول إليها — في وقت رسمها — إلا عن طريق القوارب، وهو ما كان يتطلَّب إبحارًا محفوفًا بالمخاطر عبر السواحل المكشوفة للجزر وأشباه الجزر.

تحتوي هذه «الكهوف ذات الرسومات» مُجتمعةً على حوالي ١٧٠ شكلًا عصويًّا بسيطًا، وأذرع، وسيقان مُنفرجة كما لو كانت ترقص أو تقفز: معظمُها للبشر، ولكن مع أشكال هجينة للبشر والحيوانات في بعض الأحيان، وصورة وحيدة لِيَدٍ واحدة. وقد رُسِمَت جميعُ الأشكال باستخدام صبغة أكسيد الحديد الأحمر، وطُليَت جميعُها باستخدام الأصابع أو الفُرشات. يصعب تحديدُ تواريخ الأعمال الفنية من هذا النوع، بيد أن التقديرات الأحوط — التي وُضِعَ جزءٌ منها حسب التأريخ بالكربون المُشع للقطع الأثرية التي عُثِرَ عليها في الكهوف، بما في ذلك رأسُ سهم من لوح صخر الأردواز المصقول، وعظمة ساق لطائر نورس ذات ثقب محفور ربما استُخدِمت كَمِزمار، وتميمة على شكل طائر أوك كبير — تُرجِع رسمَ هذه الأشكال إلى فترةٍ تتراوح ما بين ٢٠٠٠ و٣٠٠٠ سنة مضت.

وبناءً عليه، فإنَّ هذه الأشكال المرسومة هي أعمالٌ فنية في منطقةِ شبه القطب الشمالي ترجع إلى العصر البرونزي، وقد رُسِمَت في عددٍ من أشد بلدان العالم برودةً على يدِ البشر من الصيادين وجامعي الثمار وصائدي الأسماك، الذين تنقَّلوا على طول الساحل المُنعزل، وبفضل دِفءِ تيار الخليج وحده، تمكَّنوا من البقاء على قيد الحياة في تلك الأجواء القارسة. كادت حياتهم أن تُصبح قصيرةً وشاقة، وربما من البديهي أن نظن أنهم لم يكن لديهم مُتسعٌ من الوقت للإبداع الفني.

ومع ذلك، فإنَّ الأشكال الراقصة الحمراء موجودة.

يقع أحد أبعد هذه الكهوف ذات الرسومات بالقُرب من الطرف الغربي لأرخبيل لوفوتون: سلسلة الجزر التي تمتدُّ إلى ما يقرُب من ١٠٠ ميل في المحيط النرويجي عند دائرة عرضٍ مقدارها حوالي ثمانٍ وستين درجة. الاسم الحديث للكهف هو كولهيلارين، والترجمة التقريبية له هي «حفرة الجحيم»، ويقع بالقُرب من طرف جزيرة موسكينيس على ساحلها الشمالي الغربي غير المأهول بالسكان.

هناك طريقتان للوصول إلى كولهيلارين. إحداهُما هي السير على الأقدام فوق ما يُعرَف بجدار لوفوتين، وهو الحافة المُنحدرة من قِمَمٍ تمتدُّ للأسفل إلى وسط سلسلة الجُزر، ولا يمكن اجتياز هذا الجدار إلا شتاءً عن طريق عددٍ قليل من الممرات. والطريقة الأخرى تكون بالقوارب، حيث يتمُّ الدوران حول طرف الأرخبيل، ثم المرور عبر نظام موسكستراومن الشهير، وهو أحد أقوى أنظمة الدوَّامات العاتية في العالَم، والذي كتبَ عنه إدجار آلان بو عام ١٨٤١ قصةً قصيرة بعنوان «الانجراف إلى الدوَّامة»، حيث صوَّر الدوامة على أنها مَدْخل نفق يؤدي إلى قلب كوكب الأرض. كان الاسم الإسكندنافي القديم للتيار الدوَّامي عمليًّا وصريحًا: «هافسفيلج»؛ أي «حُفرة المُحيط»، وهي حفرة في البحر ينجرفُ فيها كلُّ شيء …

ومِن ثَمَّ، تقع كلُّ نقطة من نقطتَي الدخول إلى الأرض السفلية بالقُرب من الأخرى: فتحةٌ في الصخر وفتحةٌ في الماء، وتُغلقهما جبالٌ ضارية وبحارٌ عاصفة.

خاضَ الأشخاصُ الذين أبدعوا الفنَّ في كولهيلارين منذ أكثر من ٢٥٠٠ سنة مخاطرَ كبيرة لمجرد الوصول فقط إلى الموقع الذي أبدعوا فيه فنَّهم. وحتى قبل دخول حيز الكهف، كان عليهم عبورُ عتبات التضاريس الوعرة.

•••

عندما وصلتُ إلى جزر لوفوتين، كان الشتاءُ قد عاد إليها. وهبَّت رياح القطب الشمالي العاصفة من الغرب على مدى أربعة أيام خلال الأسبوع الماضي، حيث جرَّفت المنحدرات المواجهة للرياح من الثلج الرخو وألقت به في الأخاديد الجدارية المُواجِهة للشرق في صورة تشقُّقاتٍ جليدية ناتجة عن العاصفة. ارتفعت مخاطرُ الانهيارات الثلجية من مُنخفِضة إلى متوسطة، ومن المُتوقَّع أن تُواصِل تفاقُمَها: «من المُحتمَل حدوث تصدعاتٍ جليدية في الشرق والجوانب الجنوبية الشرقية، مع احتمال التسبُّب في أحمالٍ إضافية مُرتفعة للأعلى تصِل إلى ٣٠٠ متر.» هذه ليست توقعاتُ الانهيار الجليدي التي أُريدُ أن أسمعها لخُطتي من أجل الوصول سيرًا على الأقدام إلى كولهيلارين وأشكاله الحمراء الراقصة.

لا يُوجَد سوى نقطتَين بالقُرب من كولهيلارين يُمكنني منهما عبور الجدار في الشتاء. وكلتاهما تعتريها صعوباتٌ في هذه الظروف. إحداهُما هي أخدودٌ يقطع سفحَ قمةٍ على شكل قَدُّوم (وهو أداة للنحت والقَطع تُشبه الفأسَ) تُسمَّى مانين. والأخرى تعتلي كتفًا مُتشقِّقًا إلى القمة. أتفحَّصهما على الخريطة. الأخدود أكثر انحدارًا، لكنه على الأرجح سيحتوي على كميةٍ أقل من الثلوج. والكتف هو مُنحدَر أقل حِدَّة، لكنه يبدو أكثر عُرضة للانهيار الجليدي. قررتُ أن أسلكَ طريق الأخدود. فأنا أحبُّ الأخاديد. إنها تحتويكَ. وتشعر معها أنك على الأرجح لن تسقُط إلا لمسافةٍ أقل بكثير. وهي أكثر راحة من النتوءات أو الأكتاف، حتى عندما تكون أكثر خطورة.

في الليلة التي سبقت انطلاقي إلى كولهيلارين، كانت الثلوج تتساقط باطِّراد من الغسق. إنني في قرية صغيرة تُسمَّى أوه، في أقصى نهاية الطريق الذي يتلوَّى كالأفعى على طول أرخبيل لوفوتين بأكمله تقريبًا. ولا يُوجَد وراء قرية أوه سوى البحيرات والقمم والبحر. أُقيم مع صيَّادٍ متقاعد يُدعَى روي. تعرَّض روي لكسرٍ في الحوض وسقطت ساقه في رافعة من الرصيف في قرية أوه قبل ستِّ سنوات، وذلك بعد ثمانيةٍ وثلاثين عامًا من عمله صيَّادًا. ارتضى معاشَ الدولة وتقاعدَ مُبكرًا ليلتقِط الصورَ الفوتوغرافية.

قال روي في ذلك المساء: «عليك ألا تتخطى الجدار. إنه ليس الوقت المناسب من العام. لا يُوجَد شيءٌ هناك على الجانب الغربي. لا منازل، ولا أُناس، ولا إشارة هاتف خلوي. فقط الأجرافُ والبحر. والثلج. ولكن لماذا تُريد رؤية كولهيلارين على أية حال؟»

فكَّرتُ في محاولةِ أن أوضِّح له كيف أصبحتِ الأشكال تُبهرني منذ أن سمعت عنها لأول مرة قبل سنوات. كيف أحاول فَهْمَ ما دفع صانعيها إلى هذا المكان الصعب والمنيع ليتركوا بصماتهم فيه. لكن بدَتْ حُجتي ضعيفةً للغاية بما لا يسمح بالمخاطرة بكشفها، في الوقت الذي أحتاج فيه بشدَّةٍ إلى ثِقتي.

ومِن ثَمَّ، قلتُ له: «أريدُ فقط أن أرى الكهف والأشكال التي به، وأن أمكث هناك على الجانب الغربي لبعض الوقت.»

هزَّ روي كتفَيه. وقال: «كان هناك دائمًا رجال إنجليز يفعلون مثل هذه الأشياء، منذ سلينجسبي.»

وبدلًا من ذلك، جلسنا نتحدَّث عن عُطلته التي قضاها في إندونيسيا، وعلاقته بامرأة إندونيسية، والتي كانت تسير على نحوٍ جيدٍ ومُذهل ثم ساءت على نحوٍ غيرِ معقول هناك. أراني فيديو قصيرًا عن قصرٍ من الرخام الأسود والجص الوردي بناه لها ليكون مَقرًّا لعملها كصالون للأظافر. نظرنا إلى الصور الفوتوغرافية: يركب روي في إحداها درَّاجةً بمحرك بخاري صغير خارج القصر، بقرونه التي تأخُذ لون الحلوى وسقفه المكسو بالأردواز، وفي صورة أخرى يتناول روي الطعام مع شريكته في أحد المطاعم، وهو لا يرتدي قميصًا ومُبتسِم.

في تلك الليلة، لم أستطِع النوم. فتحتُ الستائر، ووقفتُ بجانب النافذة، وشاهدتُ رقاقات الثلج وهي تندفِع كشرارات النار عبر ضوء مصباح الشارع الأخير في الأرخبيل. كان مشهدًا هادئًا غريبًا، لكنَّني كنتُ على علمٍ بأنه يعني أن الثلج على القمم وفي الأخاديد سوف يتراكم، وأن خطرَ الِانهيار الجليدي سوف يتزايد.

في وقتٍ مُبكر من صباح اليوم التالي، وبينما أنا أستعدُّ للمغادرة، يبحث روي عن شيءٍ ما في برَّاده ويُخرِج كيسًا بلاستيكيًّا.

«هذه خمسُ فطائر سَمَك مقلية، صُنِعَت من الإسكراي الذي اصطدتُه منذ يومَيْن، بالقرب من هيلي، ليس بعيدًا عن المكان الذي تنوي التوجُّه إليه.»

كانت حقيبتي ثقيلةً جدًّا بالفعل، لكنني وضعتُ الكيسَ في الجيب الخارجي للحقيبة.

•••

عندما أنظرُ إلى الوراء بعد ذلك، من الجانب البعيد من الجدار — على الرغم من وجود مخاطر وعجائب أخرى — يتراءى المَعبر في مُخيلتي كدوامةٍ بيضاء، مزيج مُتناقض من اتخاذ القرار الدقيق والضبابية الفوضوية.

أتبعُ طريقًا مَسدودًا بمنأًى عن منزل روي وخارج قرية أوه، بعد الفجر بقليل. يُحدِث الثلجُ المُتساقِط حديثًا صريرًا تحت حذائي. وقد تساقط بهدوءٍ أثناء الليل، واستقرَّ مُكوِّنًا طبقة طولُها ستُّ بوصاتٍ. الصوتُ مكتوم. والقرية نائمة. والمناجم هي المسارات الوحيدة على الطريق.

يرتفع الأخدودُ من رأس بحيرةٍ طويلة منخفضة السطح تُسمَّى أوجفاتنيت، وتمتدُّ غربًا من قرية أوه، جامعةً مياه الثنيات الحدوية للقِمَم إلى شمالها وغربها وجنوبها. وسرعان ما يُصبح التحرك على طول شاطئ البحيرة صعبًا؛ حيث الصخور الزلِقة تحت الأقدام، تحت الثلج. أصبحت مياه البحيرة صلبةً مثل الفولاذ في مجاريها الرئيسية، وصافيةً فقط في منافذها الخارجية؛ حيث يُحافظ التيار على حركة المياه. وقد تراكمت صفائح جليدية على شواطئ الخليج بفِعل الرياح التي هبَّت مؤخرًا. وتجثُم مجموعةٌ من طيور النورس على الجرف الشديد الانحدار المحجوب عن الرياح لإحدى الجزر الصخرية. تبعث ثرثرتُها وصياحُها على الارتياح في هذا الوادي القاسي: إنه صوتُ الحياة الاجتماعية المُبهج. وعلى مسافةٍ بعيدة أمامي، تسدِل سحابةٌ سوداء ستارَها فوق القِمَم حتى سفوحها تقريبًا. وأشعرُ بالقلق حيال ذلك. إذ سيكون من الصعب تحديد الموقع الصحيح للأخدود.

ومِن ثمَّ، أمشي ببطءٍ فوق الجلاميد المَخفية بالثلج والصخور الملساء. أنزلُ، ثم أنزلق، ثم أسقط، وتُصبح العودة لأعلى أصعب مع ارتدائي حقيبة الظهر. أصادفُ في طريقي أربعَ مرات أجرافًا شديدة الانحدار عليَّ تسلُّقُها، حيث مَواطئ الأيدي والأقدام مائلة ومُجمَّدة، ويتطلَّب الأمرُ حركة دقيقة ومُنسَّقة.

ثم تهدأ الأرضُ، وينفتح تجويفٌ واسع من الأرض المفتوحة عند رأس البحيرة الذي يرتفع بتدرُّجٍ لمسافة نصف ميلٍ أو نحو ذلك إلى سفح أجراف مفاجئة. تنمو هنا غابات البتولا الخفيضة، ومن الصعب إيجاد طريق عبرها. هناك آثارٌ لقطع الأحراش، وحفر الشواخص. وتُخفي التضاريسُ المحيطة التراكمات المُنخفضة من السُّحب البيضاء السريعة الحركة، وتكشف عنها. لا يُوجَد بصيصٌ لضوءِ الشمس. هناك فقط صخورٌ تقطعها المياه، واهتزاز الرياح، ودمدمة الانهيارات الثلجية الصغيرة بين الحِين والآخر. وهنا يتملَّكُني شعورٌ قوي بأن الأرض لا تُبالي، الأمرُ الذي يُبهجني في أوقاتٍ أخرى، ولكن لا يسعني معه هنا سوى الشعور بالتهديد.

في الجزء المحجوب عن الرياح لأحد الجلاميد على مسافةٍ قصيرة للغاية من المكان الذي يرتفع فيه الجدارُ إلى الغيمة، أجلسُ لأنالَ قِسطًا من الراحة وأضعُ تقييمًا للموقف. ما زلتُ لا يُمكنني رؤية القِمم نفسها. تجوب الأعاصيرُ الحلزونية الصغيرة المُنحدرات. أستطيعُ أن أرى بدايات الأخاديد الثلاثة أمامي، تؤدي لأعلى إلى الغيمة. أعرفُ من إحدى الصور التي أُرسِلت إليَّ أنه لا يُمكن المرور إلا عبر واحدةٍ منها فقط؛ لأن الأخدودَيْن الآخرَيْن يؤدِّيان إلى أجرافٍ شديدة الانحدار. تجمَّع حطامُ الانهيار الجليدي على نهايات الأخاديد الثلاثة. ولكنِّي أطمئنُّ إلى طبيعة هذا الحطام، على الرغم من أنه يتكوَّن في أغلبه من قطعٍ أكبرَ من الثلج، وليس من مراوح الانهيار الجليدي الكاملة.

كيف أختارُ طريقي في هذه الرؤية الضعيفة؟ يسار، أم يمين، أم في المنتصف؟ تبدو الأخاديد على اليسار شديدة الانحراف إلى الغرب لدرجةٍ لا يُمكن معها أن تكون هي الطريقُ الصحيح. أما الأخاديد على اليمين، فيبدو أنها الطريق الأصح، ولكن يبدو أيضًا أنها تضيق بشدَّةٍ عند دخولها إلى خطِّ الغيمة. أتذكَّر أن لديَّ صورة الأخاديد على هاتفي. أُخرجُ الهاتف، وأحاول مُقارنة الصورة بالأرض الفعلية. لكن الصورة التُقطت في أواخر الربيع، وتُظهر صخرًا أسود وبضعة خيوطٍ من الثلج. إنها لا تتشابَه في أي شيءٍ مع جدار العاصفة الثلجية الأبيض أمامي.

أسمعُ قعقعة تساقُط الصخور.

وأختارُ الأخدود في المنتصف بمزيجٍ من الحَدْس والقُرعة، آملًا أن أتمكَّن من الرجوع منه وإعادة الاختيار إذا توجَّب الأمر.

أرتدي الكلَّابات والخوذة، وأُخرِجُ فأسَ الجليد. ثم أتحرَّكُ لأعلى إلى فتحة الأخدود، وأحفر حفرة اختبار للانهيار الجليدي في أكثر نقاط المُنحدَر انحدارًا. هناك انهيارٌ واضح في الطبقة العُليا: تشقُّقاتٌ جليدية بفِعل الرياح تقبع فوق طبقاتٍ من الجليد الأكثر صلابة والأقدم المطمورة تحته. إنه ليس بالأمر الجيد. لكن حجم التشقُّقات الجليدية في الأخدود لا يبدو كافيًا لدفني في حال استمراره.

ومِن ثمَّ واصلتُ التقدُّم. ولكن بصعوبة.

بينما أتَّجه لأعلى إلى داخل الأخدود الصحيح الآن، تنعطف الأرضُ وتنحرف؛ ومن ثمَّ تُصبح الفأسُ ضروريَّة. الثلجُ عند فتحة الأخدود أعمقُ مما أتوقع؛ إذ يصل إلى فخذيَّ، ولكن سرعان ما أواصلُ الصعود في نهرٍ أبيض شديد الانحدار. وتأخذ الانهياراتُ الثلجية الصغيرة في السقوط، الأمر الذي يُربكني؛ ومِن ثمَّ أذهب إلى الجانب الأيسر من الأخدود، حيث ينحني لأعلى عند حافته كمجرًى جافٍّ. وهناك على الحافة يُصبح صخريًّا أكثر، ويصبح الثلج أرقَّ وأكثر تجمُّدًا، وبذلك تقلُّ فرصة حدوث انهيار جليدي. ولكن هناك أيضًا انخفاضٌ أكثر خطورة وفرصة أكبر لسقوط الصخور. تُشكِّل المفاضلة بين المخاطر الثلاث المُتمثلة في الانهيار الجليدي والهبوط وتساقُط الصخور خطة الصعود: انتقاءُ المسار الأكثر مُلاءمةً الذي يُقلِّل احتمالات حدوث المخاطر الثلاث على نحوٍ مثالي.

يُصبح الوقتُ أبطأ، ويدور، ويتكرَّر. وتمرُّ كلُّ خطوة بصعوبة، وحقيبة الظهر الثقيلة تَسحبني إلى الخلف بعيدًا عن المُنحدَر أو تدفعني فيه. وتُصفِّر أعاصيرُ الدوَّامة في وجهي، وتُهيِّج وجنتيَّ. أتمتِم لنفسي بإحدى تعويذات المانترا الهندوسية: لا تتعجَّل، خُذْ الوقت اللازم.

لماذا أنت هنا؟ لماذا أنت هنا؟ هكذا تسأل الصخور والرياح ردًّا عليَّ.

ما زلتُ لا يُمكنني رؤية الممر. هل هذا هو الأخدود الصحيح؟ ثم يحدُث انسحاقٌ تحتي، هبوطٌ مُفاجئ ثم دوِيُّ انفجار! تَلْكُمُ الثلوجُ الصلبة رئتيَّ. وأنا غارق حتى ذراعيَّ. وساقاي مُتدلِّيتان في فراغٍ من نوعٍ ما. أفكِّرُ في أنه ربما يكون تصدُّعًا ثلجيًّا. لا بدَّ أنني قد سقطتُ جزئيًّا عبره في شقٍّ تَشكَّل في مكانِ تدفُّق الثلج القديم فوق نتوءٍ صخري. إنني حقًّا لا أريد السقوط بكامل جسمي في الفضاء بالأسفل. إنني لا أعرفُ مداه، ولكنني أعلمُ بالفعل أنَّ الخروج منه سيكون جحيمًا في ظلِّ هذه الظروف. ولذا، أتقدَّم بكل حذَر، وأدفعُ نفسي، وأعوم، وأطفو مُحرِّرًا نفسي، كما لو كنتُ أخرجُ من رمالٍ مُتحركة. أمدُّ ذراعي بالفأس لإحكام التشبُّث، وأحصلُ على بضع رفعاتٍ بِرُكبتيَّ وقدميَّ، وأصبح بالخارج وبالأعلى، ثم هناك! وفوقي بثمانين قدمًا أو أكثر، يُمكنني أن أرى الشفة العلوية للأخدود، والهواء النقي فوقها. اخترتُ الطريقَ الصحيح، وهو الطريقُ فوق الجدار.

ولكن على بُعد ثلاثين قدمًا من القمة، يُصبح المُنحدَرُ أكثر حِدَّة. إنه مُحمَّلٌ بكثافةٍ بتشقُّقاتٍ جليدية ناجمة عن الرياح، وقد تشكَّل إفريزٌ صغير عند الحافة، وهو عبارة عن موجةٍ جانبية مُتجمِّدة من الثلج، ربما بطول خمسة أقدام، تمتدُّ مُتعرجةً أعلى الشفة فوقي.

لا يَروقني شكلُ الإفريز أو المُنحدَر المُحمَّل، ومن ثمَّ أستكشفُ الاحتمالات بين الصخور على الجانب الأيسر للأخدود. لكن التضاريس أكثر خطورة هناك، ربما بخمس عشرة درجة فقط عن الخطِّ العمودي. النقاط الأمامية للكلَّابات معي تتحرك بسرعةٍ على الجرانيت المكشوف وتقشطه، وبفأسٍ واحدة فقط لا أستطيع أن أشُقَّ طريقي لأعلى. بدأت أصابعُ يدي اليسرى في التجمُّد حيث كنت أضرب بها في الثلج لإحكام التشبُّث. أشعرُ بانجرافٍ خطير ينفتح تحتي، ومن ثمَّ أنسحبُ من الصخور على الجانب الأيسر، وأرجعُ بحذَرٍ مسافة الخطوات العشر أو نحو ذلك التي تحركتُها إلى تلك النقطة، رويدًا رويدًا. وذلك عَملًا بتعويذة «لا تتعجَّل. خُذِ الوقت اللازم.»

إنَّه الإفريز إذن. خطوةٌ تلوَ الأخرى، قُطريًّا لأعلى إلى مُنحدَر الخروج المُحمَّل. ومع كل خطوة، تسقط التشقُّقاتُ الثلجية على مسافةٍ بعيدة تحتي، على شكل قَطَع بمقدار ياردة واحدة. يُمثل الانهيارُ الجليدي خطرًا حقيقيًّا مع كل حركةٍ الآن. ومع مواصلة السير والتسلُّق، أضعُ كلَّ قدمٍ بعناية كما لو كنتُ أمشي على ثلجٍ رقيقٍ يعلو مياهًا عميقة، حتى أصبح أسفل الإفريز تمامًا. أرتكزُ على قدميَّ بثباتٍ قدْر الإمكان، وأركلُ النقاط الأمامية لكلَّاباتي عميقًا، ثم أبدأ العمل بفأسي على الإفريز. تتساقَط القِطَعُ من حولي وبعيدًا أسفل الأخدود. وبستِّ أو سبعِ ضربات أحفرُ مَمرًّا عبره. أصِلُ إلى الفجوة، وأغرسُ الفأسَ — التي أصدرت صوتَ ارتطام — في الطبقة العُليا المُتجمِّدة من تربة القِمم في الجانب الآخر، ثم أندفعُ للأعلى فوق الإفريز وأعبره، وأسحبُ نفسي على سرج الممر هاتفًا.

أستلقي على ظهري كسمكةٍ عالِقة بخُطَّاف، ألتقطُ أنفاسي بصعوبة، ويظهر فوقي عبر الضباب نسرُ بحرٍ يُحلِّق على مستوًى منخفضٍ ويحوم، وقد نسيتُ الخوفَ المُزعج الذي يقف كالغُصَّة في الحَلْق، وأخذَ قلبي يقفز ليُحلِّق بجوار هذا الطائر المدهش في ذلك المكان الرائع. ثم أُفكِّرُ: لو أنَّني فقط أتمكَّن من اصطيادك لأتناولك على الغداء، وأضحكُ بصوتٍ عالٍ على حماقتي وعلى عدم اكتراث الأرض.

•••

كتبَ هاين بييرك، عالِمُ الآثار الذي اكتشفَ الكثير من الكهوف ذات الرسومات، والذي التقيتُ به في أوسلو قبل مجيئي إلى لوفوتين، أنَّ الوصول إلى أحد الكهوف ذات الرسومات على الساحل النرويجي ودخوله كان «طقسَ مرور» يتطلَّب «اختبارات جسدية وذهنية». كانت الاختبارات عديدةً ومتنوعة: أولًا، الرحلة إلى موقع الكهف نفسه، وثانيًا، عبور العَتَبتَيْن الرئيسيَّتَيْن للممرِّ المؤدي إلى الكهف: أولًا فتحة المدخل، ثم النقطة التي ينقطع عندها الضوءُ ويسُود الظلام. يكتب بييرك عن الزيارات القصيرة المحفوفة بالمخاطر التي قام بها الفنانون باعتبارها «إجراءاتٍ طَقسية»، رحلاتٍ إلى «الحافة الخارجية للعالَم البشري». ويدوِّن أيضًا كيف أنَّ الأسماءَ الباقية لمواقع الكهوف ظلَّت تؤكِّد على وضعها كمنطقة طقوسٍ أو كنقطة وصولٍ إلى عالَمٍ آخرَ مُعادٍ: كنيسة الكهف، وفُوَّهة الجحيم، وحفرة الجحيم، وعين القزم.

هذه الكهوف هي، بلا شك، أماكنُ مُثيرة. عين القزم هو نفقٌ حطَّمته الأمواج ويبلغ قطره حوالي ١٠٠ قدم، ويمتدُّ شرقًا وغربًا بالكامل عبر صخرة جزيرةٍ صغيرة، حيث تظهر شمسُ الغروب البرتقالية مؤطَّرة مرةً واحدة في السنة. ويقع كهفُ بوخمار في جرف بحرٍ شديد التحدُّر لدرجةِ أنَّ الفتحة نفسها لا يمكن الوصول إليها إلا من الماء: قبو يمكن رؤيته من البحر لأميالٍ في الطقس الصافي. ويحتوي كهفُ سولسيم على لوحةٍ صخرية مُتدلية تزيد مساحتها عن مائة قدمٍ مربعة، ومرسومٌ عليها شكلٌ صليبيٌّ ضخم. وفي كهف فينجال في أقصى جنوب المواقع المرسومة، وعند النقطة التي ينقسِم فيها الكهفُ إلى مَمرَّيْن رئيسيَّين ويتعمَّق بعيدًا في الصخر، يُوجَد صخرٌ مُنتصِبٌ حادٌّ تضرب أشعةُ الشمس وجهته الأمامية لفترةٍ قصيرة مرَّتَيْن في السنة. كما أنَّ كهف كولهيلارين نفسه يُعدُّ كهفًا هائلًا صليبيَّ الشكل مُواجهًا للشمال، بارتفاع ١٥٠ قدمًا عند مَدْخله، وبه نظامُ صالات عرض طوله ٦٠٠ قدم. خلال أسابيع مُنتصف الصيف، تكون المنافذُ الخارجية لكهف كولهيلارين مغمورةً بالضوء الأصفر لشمس منتصف الليل.

من بين جميع التخصُّصات في عِلم الآثار، تُعَدُّ دراسة الصخور وفن الكهوف في عصورِ ما قبل التاريخ من بَين أكثر الدراسات تأمُّلًا. ذلك أنها أعمالٌ إبداعية لا تقبل الجدل، ولكن قلَّما يُمكن استعادة الظروف المباشرة لصناعتها. ومن الصعب تحديد المقصد وراء الأعمال الفنية الفردية أو أهميتها بدقةٍ في الشبكات الأوسع نطاقًا للممارسة الثقافية.

ومع ذلك، يُمكن القولُ إنَّ فنَّ الكهوف ذات الرسومات في النرويج هو جزءٌ من وجود ثقافي قُطبي خلَّفه السكان الشماليون لأوراسيا خلال ما يُسمَّى الآن بالعصر البرونزي، وتشمل الأعمال الفنية الأخرى في هذه الفترة مُجمَّع فن الصخور المنقوشة في بوهوسلان بجنوب السويد. يقع مُعظم هذه الأعمال الفنية في أماكنَ محدودة: السواحل، وضفاف الأنهار، والكهوف، وهي المواقع التي يصفها ريتشارد برادلي في كتابه «علم آثار الأماكن الطبيعية» بأنها المواقع حيث «تلتقي الأرضُ بالبحر، ويلتقي الظلامُ بالضوء، وتكون العوالمُ في أقربِ وضعٍ إلى بعضها.»

في بوهوسلان — في القرون نفسها التي كانت الأشكالُ الراقصة الحمراء (أو الراقصون الحمر) تُرسَم خلالها في كهوف البحر الشمالية — نشأت مشاهدُ طبيعية شعائرية بكثافةٍ في موقع انتقالي بالقُرب من الساحل. وهناك، بُني عددٌ من نُصُب الدفن التذكارية على أرض مرتفعة فوق البحر. في المواضع التي تكشَّف فيها صخرُ الأساس وتآكُل بفِعل التجمُّد والتجليد موفرًا سطحًا مثاليًّا للنقش، صُنِعَت مئات المنحوتات. وممَّا يسترعي الدهشة أن العديد من هذه المنحوتات عبارة عن آثار أقدام تَترُك خطوطًا يمكن تتبُّعها إلى أسفل ركن الصخر الذي حُفِرَت فيه. ومن ثمَّ، تبدو هذه الآثار الشبحية — التي صنعتها كائناتٌ غير موجودة بأي شكلٍ بخلاف آثار أقدامها — شاهدًا على مرور المُشاة من مقابر تلال الدفن في الأرض بالأعلى وإلى الأسفل وصولًا إلى البحر نفسه، كما لو أنَّ الأرواح كانت تُغادر قبورها لخوض رحلةٍ أخيرة على الأقدام إلى عالَم الموتى. يربط برادلي بين الآثار الحجرية في بوهوسلان والأسطورة الإسكندنافية القائلة بأن حديثي الوفاة تجِب مساعدتهم في رحلتهم إلى العالَم الآخر بتوفير «أحذية خاصة»، وهي نِعالٌ مصبوبة خصوصًا تُمكِّن الروح من القيام برحلتها على طول «الطريق من القبر إلى العالَم الآخر».

جميع الكهوف المرسومة في شمال النرويج هي أيضًا مواقع انتقالية قوية بوضوح. ويوحي وجود شكلٍ واحد على الأقل، في الكهوف المرسومة يرتدي غطاءَ رأس احتفاليًّا، بوجود علاقة مع الأكوان السامية الثلاثية المستويات، حيث يُرتَّب الكون عموديًّا إلى ثلاث طبقات: السماء، والأرض، والعالَم السُّفلي. ووحدهم الكهنة والموتى هم القادرون على المرور بين الطبقات عن طريق مِحور العالَم — الذي يأخذ شكل نهرٍ أو شجرة — والذي يربط عوالم الروح العُليا والسُّفلى بحاضر الأحياء في العالَم الأوسط. يقترح كلٌّ من تيري نورستيد وبييرك أن المُمارسات في الكهوف المرسومة قد تكون جزءًا من طقوس العبور، ما يسمح بانتقال البشر — عبر غشاء الحَجر — إلى الأرض السفلية أو العلوية للكَوْن.

قد تُفهَم أيضًا اللَّوحاتُ والنقوشُ الصخرية لهذه المشاهد الطبيعية الهائلة على أنها شكلٌ مُبكِّر من أشكال فنِّ الأرض، حيث لا يُختَار مكان صناعتها المُحدَّد (داخل الكهف نفسه) لأغراضٍ عملية تتعلق بالمأوى والحفظ فقط، ولكن أيضًا كجزءٍ من موقعٍ أكبرَ فعَّال يمتدُّ في سياقٍ مُشع إلى الخارج (إلى الجرف، والخليج، والساحل الذي يحتوي عليه) وإلى الداخل (إلى الأعماق السحيقة الضمنية لباطن الكهف، الميتافيزيقية منها والحقيقية). وفي حالة كولهيلارين، من الصعب بالتأكيد تَخيُّل أنَّ قُرب الكهف من أنظمة الدوامات لم يكن جزءًا من قُوَّته بوصفه مكانًا من أماكن صناعة الفن.

ومِن ثَمَّ، لن تتشكَّل بالضرورة أيُّ مصادفة — حديثة أو قديمة — لتلك الأشكال المرسومة عبر مواجهة الأشكال الحمراء نفسها على جدار الكهف فحسْب، بل أيضًا عبر التفاصيل وحالات المشاهد الطبيعية وراء نقطة الظلام — بسقوط ضوءِ الشمس أو الثلج، أو باهتياج البحر واضطراب أمواجه، أو بطَيَران نسْر أو تدفُّق قُضاعة — وبتجربة الوصول إلى كهوف الأشكال الراقصة في المقام الأول.

•••

يتلاشى صوتُ ضحكاتي هناك على الممر بفِعل الرياح الغربية التي حماني منها الجدارُ أثناء صعودي. إنَّها رياحٌ مُعادية، هذه القوة العاصفة المنخفضة في القوة. وهي مصدر قلق وإزعاج أيضًا عندما أتذكَّر أنني سأربض على الساحل الغربي المكشوف لعدة أيام قادمة. تمتدُّ الرؤية مسافة خمس عشرة ياردة. والأرض تسقط بسرعةٍ تحتي في البياض. تهزُّ إبر البرَد سُترتي مُصدِرةً صوتًا كالخشخشة. إنَّ السقوط في الضباب على أرضٍ غير مستقرة أمرٌ مُريب، لكن ليس هناك شك في العودة من مسار الأخدود. عندما أبدأ في النزول، أتذكَّر إحساسَ غلق الأبواب وقفلها ورائي الذي شعرتُ به في انثناء الصخور بالمنديب.

هذا الجناحُ الغربي من القمة الجبلية أقلُّ حِدَّة بقليلٍ من الأخدود الشرقي، ولكني أشعُر بالراحة في الحركة لأسفلَ فوق أرضٍ شتوية مُختلطة، كما فعلتُ كثيرًا في الجبال من قبل. يتطلَّب الأمرُ البحث والتنقيب عن مسارٍ صالح للسير: اختبار الأخاديد، وجمع المعلومات من السُّحب عبر الطرُق التي تسقط بها المُنحدرات ومسارات الأجراف الشديدة الانحدار؛ من أجل تحديد أي الطرُق سينتهي إلى جرف، وأيها سيأخذني إلى الأسفل بأمان.

أقوم برحلة طويلة أسفل الخاصرة، خافِضًا قامتي أينما تمكَّنت، وأستخدِم لسانًا من الثلج ثم أعبرُ دعامةً من الصخور للوصول إلى اللسان التالي، مُتحركًا بحذرٍ شديد على صخرة ملساء وعشب مجروش، ومُبتعدًا عمَّا أشعر أنه انخفاضٌ كبير إلى الجنوب الغربي منِّي.

بعد عشرين دقيقة من هذا العمل الشائك، تبدأ السحابةُ في التقلُّص. وتظهر الخطوط عبر الألوان؛ الأبيض والأسود المُتقطع والأخضر الرمادي، تصعب قراءتها إلا كأشكالٍ مُجردة. يعلو زئيرٌ في الهواء. ينفلج شقٌّ في السحابة، وها هو ذا الشاطئ على بُعد ٢٠٠ قدم بالأسفل. يُمكنني أن أرى الأمواج وقد وضعت رغوة بيضاء على الجلاميد السوداء، ومجموعة مُتناثرة من أخشاب الأشجار الطافية، وما يُثير الحيرة تناثُر مئات الكرات المثالية ذات اللون البرتقالي الداكن الطافية على الماء.

بعد نصف ساعة من ذلك، أصلُ إلى البحر. أُسقِطُ حقيبة ظهري، وأجلسُ على صخرة، وأُجري تقييمًا للموقف. ثم أنظرُ إلى الجنوب الغربي على طول الشاطئ الذي يجِب أن أتَّبعه الآن لعدة أميال وصولًا إلى كولهيلارين.

تسقط جدرانٌ سوداء من الجرانيت الرطب الشديد التحدُّر في البحر، الذي يبدو من هنا أنَّ من المُستحيل تقريبًا اجتيازه. الجزر الصخرية الحادة إزاء البحر. وخليجٌ من الرمال ثم خليجٌ من الصخر.

أجلسُ وملابسي مُبتلة تمامًا من الأخدود، وأشعر بالبرد يسري في أوصالي. ربما يكون هذا هو المشهد الطبيعي الأكثر رُعبًا فوق الأرض التي كنتُ عليها. إنه مكانٌ يستوجِب منِّي كلَّ ما أستطيع حشده من الاعتماد على الذات ورباطة الجأش.

الكراتُ مُبعثرةٌ في كل مكانٍ حولي على الشاطئ. إنها، كما أرى الآن، عوامات شبكات حديدية مُجوَّفة من سُفن الصيد، أعداد هائلة منها، مدفوعة على الشاطئ وصَدِئة كما لو كانت بَيض مخلوقاتٍ فضائية. ويُوجَد بينها وحولها حطامٌ كثيف من مقذوفات البحر البلاستيكية، تنتشِر ببشاعةٍ على هذا الساحل البري: زجاجاتٌ بلاستيكية، وكتلٌ مُتشابكة من شبكات النايلون، وفتاتُ أقفاص شحن الأسماك.

وفي أقصى الشمال الشرقي، تظهر بقعةٌ زرقاء في السُّحب، ويظهر لبضع ثوانٍ بريقٌ من الضوء على صفحة الماء أدناه. خلال هذه الثواني المعدودة، تروقني تلك الزُّرقة وأُتيَّم بها من كل قلبي، وأحلم بالغوص في أعماقها، وفي أعماق لونها.

•••

أميالٌ من التضاريس الوعرة والقاسية أجتازُها ببطءٍ على طول الشاطئ. حقولُ جلاميد، وغاباتُ أشجار خفيضة، وأجرافٌ شديدة الانحدار. ترتفع الأجرافُ دائمًا بتحدُّرٍ شديد إلى الشرق، وتهبط الأمواجُ دائمًا بيضاءَ إلى الغرب.

يَطِنُّ زوجٌ من التَّرْمَجان بأجنحةٍ فضية. وأرانبُ الثلج البرية تتوقَّف بين الصخور الطحلبية، في مزيج من اللونَيْن الأبيض والأخضر.

يُوجَد التوت، والخلنج، والطحلب. ولكن لا يُوجَد ماء. لا يُوجَد ماءٌ عذب. ومن ثمَّ فأنا عالقٌ ما بين الملح إلى الغرب والجليد إلى الشرق، آكُل الثلجَ لأتغلَّب على جفاف فمي.

ثم أجتازُ، عبر خليجٍ ذي صخورٍ كبيرة كالمنازل، مَتاهةَ وادٍ ضيق بين الصخور. يَصحبني صوتُ الحطام، ويُحيط بي عُشب البحر الزَّلِق.

وتساقُط البَرَد.

ثمَّة حقلٌ من الجلاميد مُغطًّى بكثافةٍ بالطحالب حتى إنك لا تكاد تشعر بالحجر تحت قدمَيك. وتحمل الأشنة جذوع أشجار البتولا المُتقزمة.

ويتساقَط الثلجُ المخلوط بالمطر.

هناك خليجٌ من الرمال الذهبية السوداء، يَحُدُّه قصبُ الرمال، ويمتدُّ في مسارٍ منعطف حادٍّ من قاعدة مُنحدرات مُبطَّنة بالثلج.

تتساقَط الأمطار، ثم البَرَد مرةً أخرى.

ثمَّة غابةٍ من البتولا والصفصاف ذات ظُلَّة بارتفاع ستة أقدام. يلمع لحاءُ البتولا في الضوء، وتنبثِق البراعمُ الأولى على الصفصاف.

بالأعلى وفوق جُرفٍ شديد الانحدار وجلمود إلى حافة الطريق، كلُّ خطوة تُصبح مؤلِمة الآن، والرياح تُصبح أكثر برودة. أشعرُ الآن بحقيبة ظهري ثقيلة، ورأسي ثقيل، وحلقي يرتجف، وجسمي يبدو أكبر سنًّا.

أجتازُ حافة طريقٍ تلوَ الأخرى، حتى يظهر الخليج هناك أخيرًا إلى الغرب، ووراءه ربما تُوجَد فتحة الكهف. البحر الأخضر فوق الرمال الصدفية البيضاء في الخليج. تنحني أذرعُ حماية الصخور للخارج وحول كلِّ جانب، ومياه الخليج هادئة على الرغم من أن المحيط الخارجي عند الدوامة في حالةٍ من الفوضى والاضطراب.

ترتفع خمسُ قِممٍ مخروطية — تُسمَّى هيلسيجا — بحِدَّةٍ من الشاطئ إلى القمة، كلُّ واحدة منها أعلى من سابقتها. وأعلى كلٍّ منها، تبزُغ ريشة بيضاء من السحب، مُنحنية ومسطحة إلى الشرق، وهناك، في مستوًى مُنخفض في باطن إحداها، يُوجَد قبوٌ أسود لكهف.

•••

تدوي الأمواجُ على الشِّعاب البعيدة عن الشاطئ. ويُحلِّق نسران بحريان في صمت، غير مُتأثرَيْن بالرياح. وصوتُ أزيز صياح الغربان يدوي بعيدًا عن الأجراف. وأسمعُ نعيقَ غراب.

أصِلُ مُنهكًا ومتحمِّسًا إلى الجانب الشمالي من الخليج أسفل هيلسيجا، المُسمَّاة على الخريطة خليج ريسفيكا. استغرق الأمرُ منِّي أكثر من ساعة لاجتياز كلِّ ميلٍ فوق هذه التضاريس ذات العوائق الاستثنائية.

وعلى أرضٍ مرتفعة، أجدُ ما يبدو أنه مكانٌ جيد للتخييم. إنَّه مكانٌ مكشوف إذا هبَّت الرياح إلى الشَّمَال، ولكن هذا هو موضع خطورته الوحيد. يوفر جلمودان كبيران مأوًى من الرياح الغربية.

والأهم أنني عثرتُ على بِركةٍ عميقة كانت قد تجمَّعت من مياه الأمطار في منحدر بالتندرا، وكانت على سطحها ريشة طائر نورس بيضاء طافية عند نهاية اتجاه الرياح. وحوافُ البِركة الشرقية مُتخثرة بأحجار البَرَد التي سقطت في وقتٍ سابق. أشربُ حَفنة بعد حَفنة حتى أشعرَ بالبَرد يضرب رأسي.

تُوجَد على الأرض تحت قدمي طبقةٌ من الخلنج والطحالب والأشنة ناعمة كبطانية الشتاء. أستلقي مُمدِّدًا جسدي فيها وأغرقُ للأسفل مسافة قدم، والخلنج يرتفع وينحني فوقي في إيماءةٍ أستشعرُ أنها دليلٌ على إيوائه لي. أستلقي هناك لبعض الوقت، وأنا أنظرُ لأعلى وللخارج، شاعرًا بهموم اليوم وهي تنساب عنِّي. يلمع الضوء المُتأخر في الغرب على كل قطرة مطر مُحتجَزة في عظام الأشنة، ساقطًا كحبَّات الخرز على نتوء الطحالب.

ويَغلِبني النعاسُ وأنا مُستلقٍ هناك، فأنامُ فجأة لمدة نصف ساعة أو نحو ذلك. يُوقظني المطر، وتهبُّ عاصفة قصيرة، ثم تتلاشى الرياح تقريبًا لأول مرة منذ انطلقت عند الفجر. أنصبُ الخيمة وأضعُ البومة المنحوتة من عظام الحوت في أحد جيوب أركانها، والعُلبة البرونزية في جيبٍ آخر. كرهتُ وزن العُلبة في ذلك اليوم، واستأتُ من العبء الذي أضيفه إلى حِملي. عندما أتممتُ نصبَ الخيمة، أكلتُ فطائر السمك المقلية التي أعطاها لي روي. إنَّه أفضل طعامٍ تذوقته على الإطلاق، بلا منافس.

في الناموس المسيحي الكَلتي، «الأماكن الشفافة» هي تلك المواقع الموجودة في مشهدٍ طبيعيٍّ ما حيث تبدو الحدودُ بين العوالم أو الحِقَب في أكثر حالاتها هشاشة. غالبًا ما كان يُعثَر على مثل هذه المواقع، التي خُصِّصت للحجَّاج أو المُتعبِّدين المُرتحِلين حوالي عام ٥٠٠ إلى عام ١٠٠٠ ميلاديًّا، في رءوس البَرِّ الغربية والجُزر والكهوف والسواحل وغيرها من الحواف. ويُعدُّ هذا المكان الآن هو أحدُ أكثر الأماكن شفافية التي رأيتُها على الإطلاق.

•••

هذه هي الليلة الأولى في ريسفيكا، وهي ليلةٌ صعبة ومتقلبة. يتحوَّل الطقس مرة أخرى. إذ تُقعقع الرياح على الغطاء الواقي للخيمة. وتهبُّ زخَّاتُ البَرَد مِرارًا وتَكرارًا، مُلقيةً برذاذها على القماش. ويتساقط المطر لساعاتٍ في المرة الواحدة. أستيقظُ في الخامسة على المطر المُتجمِّد، وآكُل وأشرب الماء من البِركة ذات الريشة. تجمَّدت الشلالاتُ بين عشيةٍ وضُحاها، بالأعلى فوق الأجراف.

هناك خليجان يتعيَّن اجتيازهما للوصول إلى كولهيلارين، وفي أولهما بقايا مُستوطنة.

في الفترة من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، نجا مُجتمعٌ صغير في ريسفيكا: حفنة من المنازل، وحفنة من العائلات. كان هناك اثنان وعشرون مواطنًا عام ١٩٠٠، وثمانية وثلاثون عام ١٩٣٩. وكانوا يُرَبُّون الأبقار، التي كانت تحصد عُشب نطاقٍ ضيق من الأرض بين الأجراف والساحل. مارس الرجال الصيد في المياه الغنية بالأسماك قبالة هيلي (سمَك القُدِّ في الشتاء وأوائل الربيع، والبولوق اللينج في الفصول الأخرى من العام). في الأوقات التي كان الطقس فيها قاسيًا، كما هو في كثيرٍ من الأحيان، كانوا ينقلون الأبقار إلى كهف كولهيلارين لإيوائها. كان الخليجُ مُحاطًا بما يكفي للسماح بمَرسى آمن لقوارب صيد الأسماك، حتى في عواصف الشتاء. ولم تكن لدى هذه المجموعة من البشر كهرباء حتى العقد الأخير من استيطانهم، ولم يكن هناك أيُّ طريق للدخول أو الخروج إلا بالقوارب فوق الدوَّامة، أو سيرًا على الأقدام فوق الجبال، وهي رحلةٌ طويلة حتى في فصل الصيف. ولفترةٍ طويلة كلَّ شتاء، كان سكَّان ريسفيكا يظلُّون معزولين عن العالَم.

في الفترة ما بين عامَي ١٩٤٩ و١٩٥١ — مِثلما هو الحال في العديد من مجتمعات الجُزر على طول الساحل النرويجي — «جُلِبَ» شعبُ ريسفيكا: نُقِلوا بمساعدة الإعانة الحكومية إلى مُستوطناتٍ أكبر، حيث نُقِلوا إلى سورفاجن على الجانب المحجوب عن الرياح من جزيرة موسكينيس. عندما غادرت العائلاتُ ريسفيكا، هُدِّمَت البيوت، وحُمِلَ معظم أحجارها وأخشابها بالقوارب إلى سورفاجن، حيث استُخدِمَ في بناء مساكن جديدة.

أتَّبعُ انحناءَ الأرض مُستديرًا من موقع مُخيمي. تصدر طيورُ صائد المحَّار صافراتِ إنذارٍ تُشبه ما يَصدر من الأنابيب، ولكنها تتشتَّت عند اقترابي. وتَمتطي خمسٌ من بطِّ العيدر الأمواجَ بِالقُرب من مَصبِّ الخليج، متحركةً كما لو كانت جزءًا من البحر وليست واقفةً عليه. أمرُّ بين صخرتَيْن مُغطاتَيْن بأشنة صفراء لا أعرفها.

أحرِّكُ جانبَ عيني، فأرى أنَّ هناك عائلة لا تزال تعيش في المستوطنة المُدمَّرة، أربعة من ثعالب الماء، ثعالب البحر: والدان وطفلان، تتسلَّل صعودًا عبر حقل صخري، وفراؤها لا تزال مُبتلَّة بماء البحر، مُتحركةً بسلاسةٍ بين الصخور، ومُثرثرة، ومُصْدِرةً نباحها، ولكنها لا تنظُر إليَّ ولو مرةً واحدة. أتكئُ على الصخرة الشمالية وأشاهدُها تتحرك، وتتدفق، وتقفز واحدًا تلوَ الآخر في حفرةٍ مُغطاة بالطحالب بين الصخور، وتتلاشى. أشعرُ بسعادة بالغة لرؤيتها هناك، هانئةً في موطنها الطبيعي.

أصِلُ إلى أطلال أول المنازل، الذي لا تُوجَد منه الآن سوى مساحة أرضية مُتلاشية من الحجارة. إنه يُذكِّرني بالحقول المُهمَلة والقرى المهجورة التي أعرِفُها من المرتفعات والجُزر الأسكتلندية. هنا، كما هو الحال هناك، تُرمم الطحالبُ والأشناتُ الأحجارَ. وتزدهِر أشجارُ البتولا المُستقيمة الصغيرة وأشجار الروان الغضَّة النحيلة في جانب الحجارة المحجوب عن الرياح. وبينما أمشي، أُحصي بقايا اثني عشر منزلًا. القليل منها يصِل ارتفاعه إلى أكثر من طبقةٍ واحدة من الحجارة، وهناك شتلاتٌ تصطفُّ عبر الجزء الداخلي من كلٍّ منها. لا أستطيعُ أن أتخيَّل القدرة على الصمود التي كانت لدى هؤلاء الذين عاشوا هنا لفترةٍ طويلة في ظلِّ نُدرة الموارد. تُرى ماذا كان حال المرءِ الذي كان جزءًا من مجتمعٍ بهذا الصغر، وفي مكان بهذا العداء؟

الخليجُ نفسه عبارة عن رمالٍ صَدفية بيضاء وخشنة، مُرقَّطة بشظايا من الحلزون وبلح البحر، ومُبعثَرٌ عليها حطامُ أغراضٍ بشرية. رأسُ دمية، فرشتا أسنان، شظايا من زجاجات بلاستيكية، وأوانٍ، ولفائفُ من الحبال الزرقاء، وتشابُكاتٌ من النايلون بخطَّافات صَدِئة، وشِباكٌ مُلتفة بالأعشاب والحشائش.

تتبادر إلى ذِهني مقولةٌ سمعتُها من عالِم آثار في أوسلو عن الزمن السحيق: «الزمنُ ليس سحيقًا، إنه بالفعل في كل مكانٍ حولَنا دائمًا. والماضي يتحرَّك حولنا كالشبح، ويُوجَد في كل مكان، يتجسَّد في أقل صوره في شكل طبقاتٍ وفي أكثر صوره في شكل انجراف.» تبدو هذه المقولة صحيحة هنا، على ما أعتقد. إننا شبحُ الماضي، إننا نِتاجه الغريب الأطوار.

تظهر الأجرافُ الشديدة الانحدار مُحاطةً بالجليد الأزرق المُتساقط. ويسترعي انتباهي خيطٌ أخضر، يجذب بصري إليه. إنَّه طريقٌ رفيع يقود بين الحجارة، ويمرُّ في خيطٍ رفيع عبر عُشب المُستنقع، رابطًا بين مَدْخلٍ سابقٍ وآخر، ثم تلتقِطه الطحالبُ المُتلألئة التي تنمو حول الخليج. إنَّه طريقٌ ربما أُنْشِئَ قبل قرنٍ من الزمان، ولا يزال هناك أثرٌ في الأرض، وهو الآن لا يزال مفتوحًا بفِعل ثعالب الماء وغيرها.

أضعُ قدميَّ على الطريق، وأشعرُ بالامتنان على مَلمسه الناعم والأملس تحتهما، وعلى أناقة مساره، وعلى حركته في الزمن.

•••

إنَّها ليلة صيفية قبل ٣٠٠٠ سنة. وعلى دائرة العرض هذه، وفي هذا الموسم، نادرًا ما يُوجَد الظلام فوق سطح الأرض. المَدُّ مُنخفض، والبحرُ هادئ. وتُوجَد مجموعةٌ صغيرة من الأجسام تتحرك على طول الشاطئ، وتتنقِل من صخرةٍ إلى أخرى. فُوَّهة الكهف واسعة وحافته السفلية قريبة من خط الماء.

تتوقَّف الأجسامُ عند عتبة الكهف. ويُسمَع هديرُ الدوامة البعيد. ويحلِّق نسرُ البحر دائريًّا في السماء، وطرفا جناحيه بالقُرب من الأجراف التي تنخفض بانحدار شديد إلى الماء. تمرُّ الأجسام الواحد تلوَ الآخر إلى داخل الكهف، ويتغيَّر العالَم.

يخفُّ اللون. وينحسِر اصفرار شمس آخِر اليوم. ويختفي اللونُ الأخضر، ويزيد اللونُ الرمادي. إنَّه اللونُ الرمادي للصخر، وتتخلَّله خطوطٌ باللونَين البُنِّي والأحمر. والرمال الرطبة أسفل الأقدام. وبياضُ الرمال. وسوادُ الظلال الأعمق أمامي. ورائحة الحجر الرطب. على مدى مائة قدمٍ داخل الأجراف يسقط آخِر ضوءٍ كامل على نتوءٍ مركزي شاحب من الصخر، ينقسم حوله فضاءُ الكهف. كان من المُمكن أن تُصبح لوحةً جيدة، لكنها قريبة جدًّا من العالَم الخارجي للأمواج والنسور؛ فهي زمنٌ قريب للغاية رُوي بطُرُقِه المعتادة.

يرتفع ممرٌّ على يمين النتوء الجبلي مُستقيمًا للأمام قبل أن ينتهي بسقوطٍ حجري. ويقطع نفقٌ ضيق الطريق إلى الجبل في الجنوب الغربي. وثمة صدعٌ عالٍ، أطول من قامة البشر، على شكل مقطع عرضي كالدَّمعة، ويرتفع إلى الصخر إلى الشمال الشرقي، إلى داخل الظلام الدامس.

تتبع الأجسامُ الصدعَ الدمعي، وتتحرَّك صعودًا بين الحجارة المُتساقطة.

هنا في الظل، يتداخل الزمانُ مع المكان. ولو كانت هناك حياة، فهي الحياة البطيئة للصخور، إنه استكشافُ البحر الصبور لما داخل الجبل.

في الأعلى حيث يتدلَّى جدار النفق، تتوقَّف الأجسام وتأخُذ استعداداتها. الصخر هنا هو الرسَّام الذي سيتولَّى عملية الرسم على الصخور. في كأسٍ من الحجر، تسحق الهيماتيت وتخلطه مع الرذاذ والتراب ومياه الأمطار لتصنع عجينةً حمراء.

ويبدأ الرسم.

يُغمَس طرَف أصبع ويتحرَّك خطٌّ أحمر واثق عبر المُنحدر الصخري الشاحب، مُنحنيًا لأسفل في صورة قوسٍ يُشبه الصدر وساق واحدة لشكل راقص، شكل يقفز.

يُغمَس طرف الأصبع مرةً أُخرى ليَسحب خطًّا مُنحنيًا لرسم الساق الثانية للشكل الراقص.

مرة أخرى، يُغمَس طرف الأصبع ويُرسَم خطٌّ مُتقاطع للأذرع الممدودة، ثم ينتقل إلى الشكل التالي.

يُغمَس طرف الأُصبع، ثم تُرسَم خطوط حمراء واثقة تتحرَّك فوق مُنحدَر الصخر، حيث تملأ منحدر الحجر بأشكالٍ راقصة.

في الضوء المُضطرب لشعلةٍ مشتعلةٍ والضوء الثابت الخافت لشمس الصيف البعيدة، تبدو الأشكال على الصخر هنا وكأنها تتحرَّك، وتتأرجح مع لعبة الظل واللهب. إنها موجوداتٌ خُلِقَت للعيش في الظلام، ولكن ربما أيضًا للنجاة منه.

غَمْسٌ، وسَحْبٌ، وأنامِلُ ترسُم خطًّا عبر الزمن، يعودُ إلى أحد أيام صيف عام ١٩٩٢.

يفحص عالِمُ آثار شابٌّ يُدعَى هاين بييرك أحدَ الكهوف على الساحل الغربي البعيد لأرخبيل لوفوتين. الطقسُ جيد والبحرُ ساكن وهادئ، فيما يُسمُّونه على الجُزر ترانستيلر؛ أي «سكون طبقة الزيت». أبحرَ الشاب وصديقٌ له في قاربٍ صغير في وقتٍ مبكر من صباح ذلك اليوم. يقع الكهف تحت قِمَم البحر الشاهقة. ويرجع سبب وجود هاين وصديقه هناك إلى عثورهما على شظايا قذيفةٍ في الطمي على أرضية كهفٍ يعود تاريخه إلى ٣٣٠٠٠ عام. إذ يُريدان حفر تجاويف اختبار قد تكشف عن تفاصيل التاريخ البشري القديم، وذلك لمعرفةِ ما إذا كان في مقدورهما عبر هذه الفجوة الزمنية اقتفاء أثر شيءٍ ما يعود للصيادين الذين وفَّر لهم الكهف مأوًى على هذه الحافة.

يرسيان على الشاطئ، ثم يسحَبان الزَّورق، ويتسلقان العشبَ والصخور إلى فتحة الكهف.

يَشَمَّان رائحة الطحلب والحجر. ويتوقَّفان عند عتبة الكهف. أسمعُ هدير المَوجات على الشعاب المُرجانية البعيدة، وأزيز‏ الدوَّامة البعيد. ويُحلِّق نسرُ البحر دائريًّا في السماء، وطرفا جناحَيه بالقُرب من الأجراف التي تنخفض بانحدارٍ شديد إلى الماء.

وما إن يجتازان فتحةَ الكهف حتى يتغيَّر وجهُ العالَم. يلتفُّ الكهفُ إلى داخل الجرف. والزمان عكسُ المكان؛ فكلَّما تعمَّقا، أصبحت مساحة الكهف أكثر حداثةً. فالرحلة إلى الظلام هي رحلةٌ إلى الحاضر. استغرقَ البحرُ آلاف السنين ليستحوذ على كل «ياردة» من الحجر.

يُميل هاين رأسَه ويسقط ضوءُ مصباح رأسه على الجدار الغربي للكهف، وينزلق عنه مرةً أخرى؛ لكن ماذا كان ذلك؟ ينقر لأعلى مرةً أخرى، ويبحث، ويستقر، ولا يجد شيئًا؛ فيبحث مرة أخرى، وهناك يجد خطًّا أحمرَ باهتًا ثابتًا للغاية، وهو حتمًا من صنيع الصخر نفسه، يتحرَّك عكس سقوط الجدار، ويُعاكس الجاذبية كثيرًا لدرجةِ أنه يترسَّب مع المطر المُنهمر، وهناك تُوجَد قطعة صليبية الشكل تتماشى معه، مُتقاطعة بجُرأة مع الخط الأول، وفجأة يتلألأ هناك من الظلام شكلٌ أحمر، شكلٌ أحمر قافز لشخصٍ ما، وشكلٌ آخر، وآخر.

يُشبه الاكتشاف، كما سيقول بييرك لاحقًا، «نيزكًا» — غيرَ مُتوقَّع، وغيرَ مُستحَق، ورائعًا — ويتركه في اشتياقٍ شديد إلى خوض مثل هذه اللحظة مرةً أخرى؛ مرة أخرى يكون فيها أوَّلَ شخصٍ منذ آلاف السنين تقع عيناه على هذه الأشكال الراقصة في الظلام.

بدأ هاين سنواتٍ من السفر ذهابًا وإيابًا على السواحل الغربية، مُبحِرًا وماشيًا إلى الكهف بعد كهف، في تعهُّدٍ يتحوَّل من الاشتياق إلى الإدمان. إذ يجد نفسه مُنجذبًا في كلٍّ من أحلامه وحياته اليومية إلى ما توصَّل إلى تسميته «الهروب الكهفي».

ويجد بالفعل المزيدَ من الأشكال، بما يكفي لإشباع إدمانه. أشكالٌ حمراء، كما هو لونها دائمًا، وفي الغالب بالهيئة البسيطة نفسها: تقفز وترقص في ظلام الكهوف صعودًا وهبوطًا على السواحل، وهي مألوفةٌ في شكلها الآن ولكنَّ سِرَّ تكوُّنها لا يزال غامضًا تمامًا. وفي كل مرةٍ يجدها فيها، يقفز قلبه أيضًا ويَحدُث انهيارٌ في الزمن، أو ميلادٌ لأنواع مُتعدِّدة من الزمن، حيث ترقص الأشكالُ وتومِض في الإضاءة الخافتة.

يُغمَس طرفُ أصبع، وتُسحَب أنملةُ أصبع لترسُم خطًّا عبر الزمن، إلى يومٍ من أيام آخر الشتاء في الوقت الحاضر؛ حيث يقِف رجلٌ وحيد على الخليج بالقُرب من الكهف.

أمشي بضعَ مئات الياردات الأخيرة التي تفصلني عن فتحة الكهف على أرضٍ تنحدِر بحِدَّة من الأجراف إلى البحر. لا يُوجَد خيارٌ سوى الحفاظ على الاقتراب الشديد من مئزر الجرف، على الرغم من أنَّ التهديد الخافت بالسقوط الصخري هنا يعني تَسارع خطواتي. تُومِض الضفافُ الثلجية أسفلَ الأجراف الرطبة باللون الأسود بفِعل الماء. ويدوِّي صياحُ الطيور في الصخر. أنزلُ إلى الماء، وأصعدُ عبر الأرض المكشوفة والعشب وصولًا إلى فتحة الكهف.

ثم أقفُ عند عتبته، وأنظرُ إلى الخلف ومِن حولي. أسمعُ هديرَ الأمواج على الشعاب المرجانية البعيدة، وأزيزَ‏ الدوامة البعيد. يُحلِّق نسرُ البحر دائريًّا في السماء، وطرفا جناحيه بالقُرب من الأجراف التي تنخفض بانحدارٍ شديد إلى الماء.

حجم المَدخل مُذهل. إنَّه كهفٌ رملي بارتفاع ١٥٠ قدمًا. يُمثل قوسُ الخليج، أو فتحة الكهف بوضوح مكانًا لتوليد المعاني. الكهفُ عبارة عن صَدع زَلِق، ومَدخل إلى الظلام حيث يتغيَّر الزمن، ويتوقَّف، وينطوي.

أسمعُ نقراتٍ سريعةً للماء المُتساقط، وتتساقط قطراتُ الفضة أمام عيني، قادمةً من الجرانيت الموجود بالأعلى بعيدًا. وتنمو الأشنات عند المدخل، فتشوبه باللون البرتقالي والأخضر الرمادي. وأشعرُ بوخزٍ في الكتِفَين وأنا أعبرُ العتبة.

على الصدع الرئيسي وأسفله، يتَّسع بؤبؤ عيني، ولا يزال الضوءُ هنا لكن الألوان تتلاشى بالفعل. وبعد التقدُّم لمائة قدَم، يُصبح الكهف صليبيَّ الشكل في معماره. ويتفرَّع صدعان جانبيان إلى اليسار واليمين، وتفصلهما مناطق حصينة بيضاء من الحجارة تنقسم المساحة أمامها إلى ثلاثة أجزاء. أبسط يدي على الحصن، وأشعر بقشعريرة باردة تسري سريعًا إلى أعلى ذراعي.

الهواءُ هنا يعزف ألحانًا متأتِّية من أصوات البحر والرياح، حيث يندفع إلى هذا التجويف ثم ينعطف. ظفرت الأمواجُ بهذه المساحة، وكذلك الحربُ.

أسلكُ طريقَ الصَدع على اليسار، صاعدًا إلى الصخر. ويميل الجرانيت الأصفر والأبيض إلى الجانب العلوي بعيدًا، ويميل فوقي الآن حجرٌ أغمق، تتخلله خطوطٌ حمراء وسوداء، وتشوبه خدوش وتجزيعات. ويظهر شكل دمعةٍ من الضوء الصافي في الخلف عند الحصن.

ها أنا ذا قد وصلتُ أخيرًا. إنَّها رحلة طويلة وباردة قطعتُها من أجل الوصول إلى هذا المكان. أستريحُ على الصخرة ورائي، وأدَعُ عينيَّ تتكيَّف مع الظل، ثم أنظرُ إلى جدار الجرانيت أمامي.

لكن لا تُوجَد أشكالٌ على الحجر.

لا يُوجَد شيءٌ على الإطلاق.

أنظرُ مرةً أخرى. أُحدِّق. وأبحث.

لا يوجد شيءٌ هنا.

كلُّ هذا الطريق، وكلُّ هذه الأميال، وقد اختفت الأشكالُ الراقصة. هل كانت هنا حقًّا في يومٍ من الأيام؟

أميلُ برأسي إلى الوراء، إلى الصخرة الموجودة خلفي مباشرةً، وأدَعُ الحجر يستوعب وزن رأسي، وأدعُ الظلَّ يستقرُّ في عينيَّ اللَّتين أرهقهما البحث.

وعندما أفتحُ عينيَّ وأنظرُ مرة أخرى، أراها هناك، وميض خطٍّ ليس بفِعل الصخر فقط. يتقاطع الخط مع خطٍّ آخر، ويتصل به خط ثالث؛ وهناك، أرى حقًّا شكلًا أحمر راقصًا، بالكاد يُمكن رؤيته، ولكنه موجودٌ بلا شك، شبحٌ أحمر راقص يقفز على الصخر. هناك شكلٌ آخر وآخر، اثنا عشر شكلًا أو أكثر، لا تزال أطيافًا ولكنها موجودة الآن، تقفز وترقص على الصخر، بأذرُعٍ ممدودة وسيقانٍ متباعدة: أشكال تتحرك وترتعش بينما ترمش عيناي.

اللون الأحمر حادٌّ عند حواف الأشكال، ويتلاشى بالرجوع إلى الصخر الذي كوَّنه؛ فيُصبح غير واضحٍ بفِعل الماء والتكثيف، وكلُّ هذه الظروف — الضباب، والإضاءة الخافتة، والإرهاق، وطرفات عينيَّ — هي التي تبعث الحياة في هذه الأشكال، وتجعلها تتغيَّر على هذه اللوحة السريعة الزوال، حيث يكون كلٌّ من الماء والصخور والإرهاق راسميها، ولمرةٍ واحدة يبدو المفهوم القديم للأشباح جديدًا وصحيحًا في هذا المكان. هذه الأشكال أشباح ترقص كلُّها معًا، وأنا شبحٌ أيضًا، وثمة علاقة صداقة تربطها، وتربطنا، مع آلاف السنين التي كانت ترقص فيها هنا معًا.

فجأة، وعلى نحوٍ غير مُتوقَّع، يبدأ رأسي بالوخز ثم يبدأ ظهري وصدري يرتجفان، وأجدُ نفسي أبكي، وأتشنَّج، ويرتجف جسدي في الصَدع الدمعي بعيدًا عن البشر الآخرين وقريبًا للغاية من هذه الأشكال الغنية. تتراجع أخطارُ رحلة الوصول إلى الأشكال الراقصة أمامي، وتنحسر الفرحة بحركتها داخلي، وأبكي هناك مَشدوهًا وعاجزًا، في أعماق الجرانيت والظلام، أبكي لشعورٍ لا أستطيعُ تسميته.

يحوم نسرُ البحر بالقُرب من الجرف. وتتكسَّر الأمواجُ على الجلاميد تحت الكهف. وتدور الدوامة وتتفكَّك. تمتدُّ أيدي الموتى عبر الصخر من الجانب الآخر، لتلتقي بأيدي الأحياء، فتكون كلُّ راحة يدٍ على الأخرى، وكلُّ أصبع على الآخر … يمر الوقت وفقًا لإيقاعه المُعتاد بعد العتبة، ولكن ليس هنا في هذا المكان الضيق.

•••

كتبَ جون بيرجر: «يُولَد الفن كالمُهر الذي يُمكنه المشي على الفور، وترافق موهبةُ صناعة الفن الحاجةَ إلى ذلك الفن؛ فيصلان معًا.»

في ديسمبر ١٩٩٤، كان ثلاثة من مُستكشِفي الكهوف الفرنسيين بقيادة جان ماري شوفيه يستكشفون مَضيقَ أرديش العميق القريب من التعرُّج العظيم لدارة ديستر. وباستخدام الدخان المُنبعث من الأقراص الطاردة للبعوض، كشفوا عن حركة الهواء من شقٍّ من الحجر الكلسي مخنوق بالجلاميد ومرتفع على جانب الوادي. أزالوا الصخر وحفروا ما كشف عن نفسه كمدخلٍ إلى نفق مائل للأسفل، ويتَّسِع فقط بما يكفي لأن تزحف أسفله أنحف مُستكشِفي الكهوف، وهي امرأةٌ شابة تُدعَى إلييت برونيل. باستخدام إزميل ومطرقة، تمكَّنت برونيل من تنظيف النفق من عوائقه الحجرية بحيث يتمكَّن مُرافقوها الأضخم بنيةً من اتباعها. وبعد منعطفٍ على مسافة ثلاثين قدمًا، انخفض النفق انخفاضًا شبهَ عمودي نحوَ ما بدا أنه غرفةٌ كبيرة. نزلوا من هذا المجرى المائل، وكانوا مُتحمِّسين ليجدوا أنفسهم في مساحةٍ ضخمة، قِيست فيما بعدُ ليجدوا أن طولها يبلُغ حوالي ١٣٠٠ قدم وأنَّ عرضها يصل إلى ١٦٥ قدمًا. في بعض الأماكن، كانت الهوابط واقفةً كالأعمدة، دامجةً الأرضية بالسقف. تقدَّم الثلاثة أبعدَ من ذلك، ماسكين بأشعة مصابيحهم ومُشاهدين ما حولهم في دهشة. كان حُلم كل مستكشِف كهوف هو أن يكون أول مَنْ يكتشف غرفةً بمِثل هذه الأبعاد، ويكتشف الأنظمة المُتصلة بها. ثم صرخت إلييت وتوقَّف الثلاثة مدهوشين. وذلك لأن مصباحها كان حسب ما تذكرت لاحقًا «قد ومضَ كاشفًا عن ماموث، ثُم عن دُبٍّ، ثم عن أسد، وفي نصف دائرة من النقاط بدت وكأنها تظهر من خطمه كقطرات الدم … رأينا أيادي بشريةً تُعطي كِلا الانطباعَيْن؛ الإيجابي والسلبي. وإفريزٌ من حيواناتٍ أخرى يبلغ طوله ثلاثين قدمًا.» جابت الأيائلُ العملاقة ذات القرون المُسنَّنة جدرانَ الغرفة على نحوٍ رائع، وقاتلت حيواناتُ الكركدن بقرونها المُتشابكة، وحَطَّت بومةٌ على حافة الحجر. كان بعض الصور منقوشًا، وبعضها الآخر مرسومًا بأصباغٍ حمراء وسوداء. وعلى لوح صخري يقف عاليًا، استقرَّت جمجمة دُب.

دخلَ الثلاثي ما أصبح يُعرف باسم كهف شوفيه، والملقَّب أيضًا ﺑ «كهف الأحلام المَنسية»، وكان يحتوي على أعظم صالة عرض اكتُشِفَت لفنِّ ما قبل التاريخ. وخيَّم على المكان إحساسٌ فوري خارق للطبيعة في ذلك الوقت الذي شهدَ أول دخولٍ حديث إليه. كانت بعضُ لوحات الطلاء التي استُخدِمت لإنجاز هذا العمل قبل ما يزيد عن ٣٠٠٠٠ عام لا تزال على أرضية الكهف، مهجورة تحت اللوحات التي ساعدت في تصويرها. وقد أُسقِطت الشموع التي كانت تُضيء الغرفة حيث كانت تُوضَع، ورمادها مُتناثر على الحجر الكلسي. كما كان العديد من الجدران قد كُشِط لتنظيفه قبل وضع الطلاء أو حفر النقوش؛ من أجل زيادة التبايُن بين الشكل والوسيط المرسوم عليه.

يتميَّز فن الحجرة بالحيوية المُذهلة. وعلى الرغم من المواد البدائية والافتقار — على حَدِّ علمنا — إلى أي نوع من أنواع التدريب أو المُحاكاة الذي يمكن للفنانين الرسم بناءً عليه، بدت حيواناتُ شوفيه وكأنها مُستعدة للخروج من الحجر الذي يحويها. رُسِمَت قرونُ البيسون وحوافره المشقوقة مَرتَيْن، بخطوطٍ متقاربة لإعطاء انطباع بالحركة: هَزَّة الرأس، وأَثر القدم. أما الخيول، فذات خطام وشفاهٍ مَطلية بنعومة تُثير الرغبة لدى المرءِ في الاقتراب منها ولمسها، وتحسُّسها، وإطعامها. كما أنَّ هناك ستة عشر أسدًا — ذات عضلاتٍ مُنقبضة وعيون مُثبَّتة، ويَقَظة الصيد في محاجرها — تطارد قطيعًا من البيسون من اليمين إلى اليسار عبر جدار من الحجر. ويُدرك المرءُ هنا أنَّ هذه هي نسخة مُبكرة من تقنية إيقاف الحركة في التصوير، في التجارب السينمائية الأولية. يُولَد الفنُ كالمُهر الذي يمكنه المشي على الفور.

تتميَّز جميعُ أنحاء الكهف، على نحوٍ لافت للنظر، بنُدرة وجود الأماميات؛ فليس ثمة خطٌّ من مشهدٍ طبيعي أو غطاءٍ نباتي تُوجَد عليه هذه الكائنات. حيث لا يُوجَد مَوئِل سوى الصخور والظلام، وهكذا تبدو أنها تطفو حُرَّة، غير مُرتبطة بالعالَم. وهي موجودة الآن كرسوماتٍ تشريحية شديدة الإتقان، وكتجسيدٍ لرؤية مختلفة تمامًا للعالَم عن رؤيتنا. تعيش هذه الحيوانات، كما يقول سيمون ماكبرني في وصفه الخالِد لها:

في حاضرٍ هائل، يستوعبُ كذلك الماضي والمستقبل. حاضرٌ لم تكن فيه الطبيعةُ مجاورةً لها فحسب، بل ومستمرة. وكانت تتدفَّق داخل تسلسُل مُستمر من كلِّ شيء حولها وخارجه؛ كما تتدفَّق الحيواناتُ داخل الصخر وخارجه. وإذا كان الصخرُ حيًّا، فكذلك هي الحيوانات. كلُّ شيءٍ كان نابضًا بالحياة.

وكما يخلُص ماكبرني، ربما يكون «هذا هو ما يفصلنا حقًّا» عن صانعي هذا الفن، «ليس مساحة الزمن بل الإحساس بالزمن … إننا في تقسيمنا المُتناهي الصغر لحياتنا إلى أجزاءٍ من الثانية، نعيشُ مُنفصلين عن كلِّ ما يُحيط بنا.» اكتشفَ مُستكشِفو الكهوف الثلاثة — بالطبع — عندما كانوا واقفين هناك في ذلك اليوم الأول عام ١٩٩٤، شيئًا ينتمي لهذا الإحساس القديم بالوجود. كتبَ جان ماري شوفيه: «كان الأمرُ كما لو أنَّ الزمن قد مُحِيَ، وكأن عشرات الآلاف من سنوات الانفصال لم تَعُد موجودة، وأننا لم نكن وحدَنا، بل إن الرسَّامين كانوا هنا أيضًا.»

سَجَّل التاريخُ الحديث لفن الكهوف، من خلال لحظات الاكتشاف، هذه البارقة كالنيازك، التي يعتبر شوفيه الأكثر سطوعًا فيها. ولكن هناك قصصٌ أخرى عن الاكتشافات العظيمة، أذكرُ فيما يلي إحداها. في سبتمبر عام ١٩٤٠ وبعد أربعة أشهُر من غزو الألمان لفرنسا، خرجَ مُراهقٌ يُدعَى مارسيل رافيدات مع كلبه في الغابة بالقُرب من قرية مونتينياك في دوردوني، واكتشف شقًّا في الحجر الكلسي بالقُرب من شجرة مُستأصَلة من جذورها، وكان الشقُّ عريضًا بما يكفي كي ينضغِط عابرًا من خلاله. وكان رافيدات قد أغرته شائعةٌ محلية عن مكان اختباء سِرِّي يحتوي على كنزٍ مدفون، فعادَ مع ثلاثة من أصدقائه، ودخل الشُّبَّان الأربعة معًا في الفتحة، ثم اتبعوا ممرًّا طويلًا بالأعلى ونزولًا إلى داخل غرفةٍ عميقة داخل الصخر. كانت الغرفة تحوي كنزًا بالفعل، لكن ليس من النوع الذي توقَّعوه. إذ كانت جدران هذه القاعة المُستديرة المُقبَّبة، كتلك الموجودة في كهف شوفيه، مُغطَّاة بالرسومات: موسوعة حيواناتٍ رائعة بدت مُتحركةً في الضوءِ الخافت. وإفريزٌ من ستة وثلاثين حيوانًا في دائرة حول صالة العرض، مؤلَّف من ستة أيائل، ودُب، وأحد عشر أرخص، وسبعة عشر جوادًا، ومخلوق خيالي يُشبه وحيد القرن. انبثق المزيدُ من صالات العرض من القاعة المُستديرة المُقبَّبة، كما حملت جدرانها لوحاتٍ رائعة رُسِمَت قبل أكثر من ١٥٠٠٠ سنة: مئات الخيول ذات الأعراف الخشنة، وأَيْل بقرون مُلتوية يرمي برأسه لأعلى ويدحرج عينيه إلى الوراء وهو يخور، وأراخص، وثيران، وقطط، ودببة، وإنسان برأس طائر في مواجهة بيسون حانيًا رقبته في تحدٍّ لإظهار قرونه.

بعد خمس سنواتٍ من اكتشاف لاسكو، اكتشفَ أشخاصٌ آخرون المزيدَ من الغُرَف المُظلمة في أماكن أخرى من أوروبا. وفي ٢٧ يناير عام ١٩٤٥، دخلت القوات السوفييتية معسكرَ الموت أوشفيتز، وذلك بعد أحدَ عشر يومًا من إخلاء الألمان له، ما دفعَ الناجين من المعسكر إلى القيام بمسيرةٍ وحشية في اتجاه الغرب من شأنها قتل أكثر من ١٥٠٠٠ منهم. ونظرًا لاستعجالهم في إخلاء المعسكر، لم يكن لدى الألمان الوقت لتدمير بِنيته الأساسية. ومن ثمَّ عثر السوفييت على الأجزاء الداخلية المُظلمة لغرف الغاز، وجثث الموتى والمُحتضرين، والآثار اللاحِقة للقتل الجماعي على نطاقٍ لا يمكن تصوُّره: مئاتُ الآلاف من السترات الرجالي والفساتين الحريمي، وأكوام من أطقم الأسنان والنظارات، وأطنان من شعر الإناث المجزوز. وخلال الأشهر التالية لذلك، سوف تصِل القوات السوفييتية وقوات الحلفاء إلى العشرات من معسكرات العمل والموت وتَدخُلها، وتجد في تلك الأماكن دليلًا على أسوأ الجرائم التي أثبتت الإنسانية أنها قادرة على ارتكابها. لم يتمكَّن العديد من الرجال الذين «حرَّروا» المعسكرات وغرف الغاز من وصفِ ما رأوه هناك. وهكذا، فإن أسرار لاسكو الغنية — كما كتبت كاثرين يوسوف في مقالٍ رائع عن هذه الاكتشافات المزدوجة — «أصبحت معروفة شأنها شأن أي شيءٍ مرئي على السطح وكان من قبل رابضًا في الظلام، ولم يُضِئه سوى انفجارُ حَيز الدمار. في هذا المشهد الطبيعي المُمزَّق، تصل [وصلت] هبة من هذه الثروة للإشارة إلى إمكانات الكون لأنْ يكون غير ذلك.»

زار الفيلسوفُ جورج باتاي الكهفَ في لاسكو عام ١٩٥٥، بعد خمسة عشر عامًا من اكتشافه، عندما كان سباق التسلح النووي يدخل في تصعيدٍ سريع، وكانت الاختبارات الذرية تُجرى في الغرف تحت الأرض وفي البقاع الصحراوية. وكان يلوح في الأفق أمرُ تدميرٍ جديد، يهدف إلى إبادة الجنس البشري، والكوكب برمَّته.

كتبَ باتاي بعد صعوده من لاسكو: «أنا حقًّا مذهول بحقيقةِ أن تتجلَّى فكرة ميلادنا في اللحظة نفسها التي تتجلَّى لنا فيها فكرة موتنا.»

•••

أتوقفُ عند عتبة الكهف، وأخرجُ من الصخر إلى الهواء. المطرُ أكثر غزارةً الآن. ويعود المشهد الطبيعي إلى أصله: أولًا السطوع، ثُم اللون. يتنامَى على سمعي صوتُ اندفاع المياه، وصدى الأمواج في فراغ الكهف ورائي. وأعودُ على طول مسار الخليج نحو بقايا المُستوطنة.

لديَّ إحساسٌ قوي وغريب بأنني مُراقَب.

النوارسُ تُراقبني من الصخور الملطخة بالغائط في الخليج.

ماذا رأيتُ في الظلام؟ ظلالُ ماضٍ تتراقَص، أحداثٌ ترفض التسلسل، ترسم أناملُ الأصابع مساراتها عبر الزمن بعيدًا عن العالَم الجيد الإضاءة، هناك في الكهف الذي لا يُسبَر غوره. كان هذا مكانًا استحوذ على أذهان هؤلاء الزوَّار الذين تجاوزوا عتبته، مثلما استحوذ على ذِهني أكثرَ من مرةٍ التاريخُ الطويل للباحثين عن المعاني وصانعي المعاني في ظلاله.

يُراقبُني نسرُ بحرٍ من الهواء الثقيل فوق هيلسيجا.

أُفكِّرُ في الأماكن المظلمة الأخرى التي دخلتها تحت الأرض. ولا أعلمُ بعدُ أنني سأدخل واحدًا آخر على بُعد ٤٠٠ ميل في الجنوب الشرقي من هنا، والذي ربما يكون أكثرها ظلامًا.

تُشاهدني طيورُ صائد المحَار من رمال الخليج.

وتتحرَّك مياه الأمواج بين صخور الشاطئ الكبيرة، مُتلاطمةً لأعلى حول قدميَّ كما لو كانت تتدفَّق إلى الأعلى من داخل الأرض، وهناك أشعرُ بشوقٍ عارم لاحتضان مَنْ ماتوا من أحبائي.

تراني ثعالبُ الماء من بين أحجار ريسفيكا المُغطاة بالطحالب.

وأنظرُ عبر الخليج إلى الشاطئ الشمالي، وهناك بجوار أشجار البتولا اللامعة، يقف شكل مُظلم على أرضٍ مرتفعة حيث لا ينبغي لشيءٍ أن يكون. الشكل هو صورة ظِلِّية ولا يتحرك، وهو على هيئة إنسانٍ ويواجهني.

كما يُشاهدني من أشجار البتولا.

ثم يحوم طائران من طيور صائد المحَار بعرض المياه بيننا مُصدِرَيْن صيحات تحذير عالية، تلفت نظري، وعندما أنظر إلى الوراء عبر الخليج لا أجدُ شيئًا على الأرض المُرتفعة، لا أحدَ هناك على الإطلاق.

•••

أنا الآن في وقتٍ مُبكر من المساء في آخِر ليلةٍ لي في الخليج، والرياحُ لا تهبُّ على شيءٍ تقريبًا. بات الصمتُ مذهلًا بعد أيام العاصفة. ويخلو المكان من صوت اندفاع الرياح، تُصبح كلُّ الأصوات الأخرى أكثر وضوحًا. أجلسُ على الحجر المسطح بالقُرب من خيمتي.

تظهر أعالي القِمَم صافيةً وتكسوها الثلوج. والسماءُ فوقها تتخلَّلها خطوط زرقاء، ويمتدُّ ضوءُ الشمس عبر الضباب إلى البحر. نصف ساعةٍ بلا رياح. ولا تزال الأمواجُ تدوِّي على الشعاب المرجانية. وأبدأ في الشعور بالهدوء.

ثم أسمعُ ضوضاءَ. إنها تُشبه ضوضاءَ بدء تشغيل مُحركٍ نفَّاث. تعلو زمجرةُ شيءٍ به حبيبات باطِّراد. لا يُمكنني تحديد مصدر الضوضاء. وهذا يُقلقني. ثم تبدأ درجة حرارة الهواء في الانخفاض. وأرى أنَّ السُّحب المتراكمة من أعالي القمِم فوق الكهف لا تتدفق الآن باتجاه الشرق نحو هيلسيجا. بل تتأرجح جنوبًا، تتدفَّق للداخل، وتُصبح أطول. تهبُّ الرياح مرة أخرى، ولكن الآن من القطب الشمالي. إنها قوية وباردة، وتزداد في قُوَّتها وبرودتها. أُدركُ أن الضوضاء المُزمجرة هي الصوت الذي تصنعه هذه الرياح الشمالية الجديدة أثناء اندفاعها فوق قِمَم الجرانيت. يبدأ البحر بالفعل في الاضطراب والعراك، وقد تغيَّر لونه من الأخضر الرمادي إلى الأسود الرمادي. تتحرَّك خَيمتي وتهتز دعائهما الضعيفة.

يندفع نحوي جدارٌ أبيض، وحجر برد بحجم حَبِّ الفلفل، مُصدِرًا حفيفًا في الأشنة من حولي. ثم رقائقُ ثلج صغيرة، تليها قطعٌ حادَّة متجمدة.

في تلك الليلة لا أملَ في النوم. تزداد الرياحُ الشمالية ويعلو صوت أزيزها، وكذلك تزداد همومي. كيف سأخرجُ من هذا الفضاء المُستحكم، من هذا الخليج المُفخخ؟ تبدو الأمواج المُتكسِّرة على الشِّعاب المرجانية كأنها دويُّ قنابل تنفجر كلَّ بضع ثوانٍ.

في منتصف الليل، تضرب عاصفةٌ ثلجية عنيفة الخَيمة وتقطع كلَّ أوتادِها باستثناء اثنَيْن. لا خيارَ أمامي سوى النضال في طريقي للخروج من الخيمة المُنهارَة، ثم حَمْلِها بالكامل في مُنخفضٍ مغمور في الأرض، وتثبيت الأركان بالصخور، ثم الزحف رجوعًا إلى المأوى المتبقي.

يَحلُّ ظلامٌ جزئي في الرابعة صباحًا. أشعُرُ بالبرد الشديد فلا يُمكنني البقاء ساكنًا أكثر من ذلك، مُنحنيًا على القماش الرطب. وأمشي إلى نقطةٍ عالية حيث يُمكنني من هناك رؤية البحر عبر العاصفة الثلجية المُستمرة. إنَّه مشهدٌ مُروِّع. يبدو كما لو أن جهنم قد تحرَّرت بالقوة وراء الجدران المُحيطة للخليج. تتلاطم أمواج رمادية كبيرة وتتكسَّر. وينطلق رذاذُ مياهها خمسين أو ستِّين قدمًا في الهواء حيث تضرب الأمواج المتكسرة الشِّعاب المرجانية.

ويُعتم المطر المُتجمِّد السماءَ إلى الشمال. يَطِنُّ طائر غلموت فوق مستوى الموج مباشرةً، شاعرًا بالألفة في هذه العاصفة. ثم أرى شيئًا هناك، وأتساءل: هل هذا ممكن؟ أنظرُ، في اتجاه الدوامة، وأرى خيطًا رفيعًا من الضوء، ينسابُ تحت العاصفة الثلجية. إنه بريقٌ من البرونز، ويُشير هذا إلى سقوط الشمس على صفحة الماء في مكانٍ ما وراء العاصفة، وهذا بدوره يُخبرني أنَّ العاصفة ستنتهي خلال وقتٍ قصير، وهو ما يعني أنني قد تكون لديَّ النافذة الجوية التي أحتاجها لمغادرة الكهف بمُشتملاته.

ظللتُ لفترةٍ طويلة بعد تلك الأيام التي قضيتُها في كهف الراقصين الحمر غير قادر على التخلُّص من الإحساس بأنني تركتُ أحدَ ذواتي في الخليج، تركت صورةً لي على الشاطئ. لا يزال هذا الشعور يُصاحبني بقوةٍ وأنا أسافر إلى أبعد من ذلك شمالًا لأعلى ساحل النرويج من لوفوتين، إلى جزيرة أندويا القطبية الشمالية الكبيرة في أرخبيل فسترالن، حيث تدور معركة تحت قاع البحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤