الفصل الثالث

زُرْقَة الزمن

(كولوسوك، جرينلاند)

إنَّنا في أواخر الصيف قُبَالة ساحل جزيرة كولوسوك، في جنوب شرق جرينلاند، وها هو ذا أحد الجبال الجليدية الشاهِقة الذي يذوب جليدُه في القناة. ويبلُغ ارتفاعه نحو ١٠٠ قدم من سطح البحر وحتى القمة، ويبدو الجبل على شكل شراعٍ رئيسي ذي طرفٍ مُستدير. إنه يتلألأ بلونِه الأبيض كالشمع الرطب. ويظهر الجزء المغمور كهَالةٍ خضراء داكنة.

لوحةٌ مُلوَّنة يتناغَم فيها اللونُ الأزرق الداكن للقناة، مع اللون الأزرق الحاد للسماء الصافية. وقمرُ النهار فوق جبلٍ على شكل درع. وعلى الجانب الآخر من القناة، ينجرفُ نهرٌ جليديٌّ إلى الماء، على بُعد ستة أميال أو نحو ذلك، وبالكاد يُمكن رؤية جرف وجه الانهيار الجليدي.

إنَّه تيار مَدٍّ مُنخفض. وعند الشاطئ قُبَالة خليج القرية، هناك رجلٌ يستند على شيءٍ ما. ساقَاه مُستقيمتان، وخصره مُنحَنٍ. أكمَامه مُشمَّرة، وذراعاه مُخضَّبتان باللون الأحمر حتى المِرفق. يرتدي سترةً صفراء فسفورية مُضيئة وملابس مقاومة للماء. وهناك خنزير بحرٍ نافق، مُستلقٍ وهامد عبر الصخور ذات الأعشاب البحرية. يَستخدم إحدى يدَيه للإمساك بزعانف الجلد الأسود لخنزير البحر، ثم يجذبها للخلف باتجاهه، مُستخدِمًا سكين السلخ المعقوف في يَده الأخرى لقطع اللحم عند ظهره. يبدو كأنُّه يساعد خنزير البحر في خلع دِثَاره المُبتَل.

في كلوسوك، يُوجَد قرابة مائة بيتٍ خشبي، يجثم كلٌّ منها فوق مستوًى من الصخر الصواني الذي صقله الجليدُ. تبدو كلوسوك أقرب إلى حديقةٍ كبيرةٍ للطيور منها إلى قرية. تحتوي المنازل على ألواحٍ خارجية ذات ألوان زاهية من الأحمر والأزرق والأصفر، مع مسحةٍ بيضاء من طلاءٍ مُضاد للصَّدأ عند رءوس المسامير المُثبَّتة فوق الألواح. وقد ثُبِّتَ أغلبها بكابلاتٍ من الصُّلب كي تتحمَّل عواصف الشتاء الشديدة. فقد تصل هنا قوة البيتيراك — الرياح السفحية الهابطة التي تنبع مُندفعةً من الغطاء الجليدي — إلى قوة الإعصار، فتُجرِّد الأرض وتُحوِّلها إلى صخرة عارية، مُخلِّفةً أكوامًا من الجليد بارتفاع عدة أقدام على الجانب المحجوب عن الرياح من البنايات، ومُحطِّمةً للجليد البحري على خطِّ الشاطئ.

لم يشهد اليوم هبوبًا للرياح. والهواء دافئ. دافئٌ على نحوٍ غير مسبوق. ويبدو الجبل الجليدي كأنَّه يتصبَّب عرقًا. ويقفُ أحدُهم يسلخ خنزير بحرٍ على الشاطئ. وبالأسفل عند الحائط البحري الحاجز للأمواج، تطفو أجسامٌ شاحبة وضخمة لمسافة قدَم أو نحو ذلك، وتتأرجح قليلًا مع الأمواج، كما لو كانت مربوطةً بحبلٍ إلى الدرجات السفلية من السلم الحديدي المُثبَّت بجانب حاجز الأمواج. إنَّها عجول بحر نافِقة مُطوَّقة، مقطوعة الرءوس والزعانف الأمامية، ومُقيَّدة من ذيولها. مضى على وجودها هناك بعض الوقت. تتوهَّج جيفاتُها باللون الأخضر الخافت. وأحشاؤها متناثرة وسط أعشاب البحر. لقد كان شهرًا شحيحًا للصيادين في كلوسوك.

على الجانب الشرقي من الخليج، في جزر الجرف الشديد الانحدار، يتدلَّى عددٌ كبير من الصُّلبان الخشبية البيضاء بمُحاذاة خطِّ المَدِّ تقريبًا. وهي مختلفة الأحجام. ويحتوي بعضُها على قضبان مُستعرضة مُدلَّاة. تبدو من بعيدٍ كأنَّها رقعة ثلجية أو نهرٌ جليديٌّ صغير، ينبثق خارجًا من الأرض الشديدة الانحدار. إنَّها مقبرة؛ فهي أحد المواقع القليلة في القرية حيث تراكمت التربة السطحية بما يكفي لدفن جثة بأكملها.

يُصدِر الهواء صوتًا أشبه بالعُواء الحاد، وما يلبث أن ينضمَّ إليه في الجوقة نحو ثلاثين أو أربعين عواءً آخر. وتجلس كلاب الإسكيمو بظهورها المُستقيمة، وتنبح بأصواتٍ مرتفعةٍ نحو السماء، فيما يُشبه عواء الذئاب. وقد جذبَ أحدُها السلسلة بشدَّةٍ حتى أصبحت مشدودة كالقضيب، والطوقُ يَحُزُّ رقبته عند العواء، فيخنقه.

يُوجَد هناك أربعةُ أطفالٍ يَثِبون مع أحد جِراء الإسكيمو على منصة ترامبولين كبيرة، وتمتدُّ أقدام الأطفال للأسفل لتجعل الشبكة تلامس الصخرة التي وُضِعَ عليها الترامبولين. ويمدُّ جرو الإسكيمو أرجله، ويُثبِّت جسمه. وعندما يبدأ العواء، يعوي الجرو أيضًا، ثم يعوي الأطفال، ويقفزون جميعًا.

لا يزال الجبل الجليدي يتصبَّب عرقًا، والرجلُ يسلخ خنزير البحر، والأطفال يقفزون، والكلابُ تقفز وتعوي.

•••

طوال ذلك الصيف الحار لعام ٢٠١٦، وقبل ذهابي إلى جرينلاند، بدأ الجليدُ في الانحسار حول العالم، كاشفًا عن الأسرار التي احتفظَ بها لفترةٍ طويلة. فقد بدأ الغلاف الصقيعي في الذوبان. وعندئذٍ، بدأت الأشياء التي كان من الأفضل أن تظلَّ مدفونة في الظهور على السطح.

في شبه جزيرة يامال، بين بحر كارا وخليج أوب، ذاب نحو ٤٥٠٠ ميل مربع من الطبقة الجليدية. وتحوَّلت مقابر وأراضي دفن الحيوانات إلى حمأٍ. كما انكشفت جُثَث الرنَّة التي هلكت بسبب بكتيريا الجَمْرة الخبيثة قبل نحو سبعين عامًا. أُصيبَ بهذا المرض ثلاثة وعشرون شخصًا، وتحوَّل لَون بشرتهم إلى اللَّون الأسود بسبب الآفات. كما تُوفِّي طفلٌ جراءَ ذلك. وكان الأطباءُ البيطريون الروس يجوبون المنطقة مُرتدِين ستراتٍ مُقاوِمة للتلوث، حيث أعطوا حيوانات الرنة اللقاحات وقاموا على رعايتها. وحرصت القوات الروسية على حرق جثث المُصابين في محارق ذات درجات حرارة عالية. ورأى المزارعون الروس أنَّ شيئًا لن ينمو على الإطلاق في المنطقة مرةً أخرى. كما تنبأ علماءُ الأوبئة الروس باكتشاف أوبئة أخرى مصدرها مواقعُ الدفن والقبورُ الضَّحلة في القطب الشمالي؛ مثل الجُدَري الذي كان مصدرَه الضحايا الذين لقُوا حتفَهم في أواخر القرن التاسع عشر، والفيروسات العملاقة التي ظلَّت في سباتٍ عميقٍ في أجسام حيوانات الماموث المُتجمِّدة.

على نهر سياتشين الجليدي في كاراكورام حيث خاضت القواتُ الهندية والباكستانية حربًا انمحت من الأذهان منذ عام ١٩٨٤، أدَّى انحسار الجليد إلى الكشف عن القذائف المُستهلَكة، وفئوس الجليد، والرصاصات، والأزياء الرسمية المهجورة، وإطارات المَركبات، وأجهزة اللاسلكي، والرُّفات البشري لمَن لقُوا حتفهم.

وفي شمال غرب جرينلاند، بدأت النفاياتُ السامة التي احتوتها إحدى القواعد العسكرية الأمريكية والمدفونة منذ الحرب الباردة في الظهور. وقد نقَّب سلاحُ المهندسين الطبوغرافيين بالجيش الأمريكي عن معسكر القرن في عام ١٩٥٩. حيث حفروا نفقًا في الغطاء الجليدي وأزاحوا النقابَ عن مدينة مَخفية: شبكة بطول ميلَيْن من الممرَّات التي تحوي مُختبراتٍ، ومتجرًا، ومستشفًى، ودار سينما، وكنيسة صغيرة، وسكنًا لمائتي جندي، وقد زُوِّدت كلُّها بالطاقة عن طريق أول مولِّد نووي مُتنقِّل في العالَم. انسحبت القوات من القاعدة في عام ١٩٦٧. وأخذوا معهم حجرة التفاعُل الخاصة بالمولِّد النووي. لكنهم تركوا بقية البنية التحتية للقاعدة دون أن تُمَسَّ تحت الجليد، بما في ذلك النفايات البيولوجية والكيميائية، والمُشعَّة التي احتوتها، على افتراض أنه — كما أعلنت التقارير الختامية للبنتاجون — سيتم «حفظها للأبد» بفضل التساقُط الدائم للثلوج في شمال جرينلاند. ولا يزال كلُّ شيء مدفونًا هناك: حوالي ٢٠٠ ألف لتر من وقود الديزل، بالإضافة إلى كمياتٍ غير مُحدَّدة من المبرد المشع وغيره من الملوثات، بما فيها ثنائيات الفينيل المُتعددة الكلور. ولكن نظرًا لارتفاع درجات الحرارة العالمية، من المُتوقَّع أن يتجاوز ذوبان الجليد تراكُم الثلوج في منطقة معسكر القرن. في الواقع، لقد شاهدتُه كثيرًا في الأرض السفلية حتى أصبحَ مشهدًا سائدًا، وها هي ذي الفصولُ الأكثر إزعاجًا في التاريخ قد بدأت في الحدوث، والتي كان يُعتقَد أنها ستظل مدفونة للأبد.

سجَّلت درجاتُ الحرارة في القطب الشمالي في ذلك الصيف أرقامًا قياسية، وقد حدث الأمرُ نفسه مع الذوبان. ذلك حيث رُصِدَت انخفاضاتٌ جديدة في حجم الغطاء الجليدي في البحار القطبية الشمالية. وبلغت درجة الحرارة في نوك، عاصمة جرينلاند، ٢٤ درجة مئوية. وقد أعادَ خبراءُ الأرصاد الجوية في الدنمارك فحصَ قياساتهم. ولكنهم لم يجدوا فيها خطأً. وخلال العقد الماضي، بدأ الغطاءُ الجليدي يفقد كتلته بمقدار الضِّعف في القرن البائِد. كما أنه بدأ في الذوبان ذلك العام قبل شهر من الوقت المعتاد، ووصلت معدلاتُ التدفُّق في أنهار مياه الذوبان من الأنهار الجليدية إلى سرعاتٍ غير مسبوقة. وقد تحقَّق علماءُ الجليد من صحة مُخططاتهم. ولكنهم لم يجدوا خطأً بها.

ولقد تدفَّقت مياه الذوبان بشدةٍ بدايةً من أبريل، حيث تجمَّعت على هيئة بُحيراتٍ زرقاء وخضراء أعلى الغطاء الجليدي، مُتدفقةً كالأنهار الجارية فوق الأنهار الجليدية. وساعدت الكمياتُ المُتزايدة من مياه الذوبان على الغطاء الجليدي في تغيير درجة السطوع؛ حيث كانت تَمتص المزيد من أشعة الشمس، ما يؤدي إلى زيادة درجة الحرارة، ومن ثمَّ مزيد من الذوبان، ومزيد من الامتصاص، في حلقة تغذيةٍ راجعة كلاسيكية لا يُوقِفها إلا الشتاء.

أرعدت جوانب الانفصال الجليدي المُعرَّضة للرياح من أنهار جرينلاند الجليدية. وذابت الجبالُ الجليدية في مَضايق جرينلاند البحرية وكأنها تتصبَّب عرقًا. كما أدلى العلماءُ القطبيون بتنبُّؤاتهم حول الوقت الذي قد يُصبح فيه المحيط المُتجمِّد الشمالي خاليًا بالكامل من الجليد. وسُجِّلَت أعلى معدلات ذوبان الجليد في مناطق الشمال الغربي والجنوب الشرقي من البلاد، حيث كانت وِجهتي.

ذاعت قصصٌ مُثيرة للقلق عن حالات اختفاءٍ في الجليد. فقد سافر رجلُ أعمال روسي على متن رحلة جوية فوق الساحل الشرقي، وكان يرتدي معطفًا من جلد الجِمال ويحمل حقيبة أوراق، ولكنه لم يَعُدْ. كما اختفى مُتنزِّهٌ ياباني في غرب البلاد لعدة أسابيع. وقد تحدَّث السكان المحليون بشيءٍ من المزاح عن الكيسواك، وهي كائناتٌ برية زعموا أنها تجوب الجليد وتختطف المسافرين غير الحَذِرين، في جزءٍ مُتحرك من الشق الجليدي أو ثلج البحر الأملس كالحرير.

في تلك المنطقة، وفي هذه الفترة من التاريخ، شعرتُ كما لو كان هناك الكثير من الأماكن التي قد يتعثَّر عندها المرءُ ويختفي تمامًا عن سطح الأرض.

•••

يقول مات: «كان هذا العام استثنائيًّا. فقد ذابَ الجليدُ البحري من المضايق بحلول شهر يونيو. وكان تساقُط الثلوج خلال فصل الشتاء ضئيلًا. لم يَعهد أحدٌ عامًا مثله. فعادةً ما تكون القناة مليئةً بالجليد في مثل هذا الوقت من العام. وقد شُوهِد دبٌّ يسبح قُبَالة كولوسوك منذ أسبوعَين. لا بدَّ أنه كان يائسًا. ولم يُطلِق عليه أحدٌ النار.»

يعيش مات في كلوسوك منذ أن كان في التاسعة عشرة من عمره. وهذا هو عامه السادس عشر هناك. ويُقيم مات مع شريكته هيلين في منزلٍ ذي ألواح زرقاء، يشرف على المتجر والمدرسة مباشرةً. وكلاهما من المُتسلِّقين والمتزلِّجين والمُرشدين ذوي الخبرة الهائلة. كما أنهما يتمتعان بمؤهلاتٍ غير مسبوقة، وخبراتٍ استثنائية في الحياة البريَّة، وليسا في حاجة إلى إثبات نفسيهما إلا إذا اقتضت الظروف. إنَّ التزامهما تجاه مجتمع جرينلاند الذي انضمَّا إليه هو التزامٌ تام، برهَنتْ عليه الفترة الزمنية الطويلة التي عاشها مات في البلدة، والصداقات العميقة التي كوَّنها هناك.

يقول مات عند وصولنا: «مرحبًا بكم في منزلنا.» المنزلُ جيدُ الإضاءة والتهوية من الداخل، وذو أرضياتٍ خشبية فاتحة اللون، وجدران بيضاء. وهناك خريطة للمنطقة بمقياس رسم كبير موضوعةٌ داخل إطار ومُعلَّقة على أحد الجدران. يظهر فيها خط الشاطئ المرجاني بتعقيداته. نجلسُ لاحتساءِ الشاي معًا. وجلسَ ثلاثة أشخاص إلى جانب مات وهيلين، حيث كنا جميعًا أصدقاء تربطنا علاقة جيدة: أنا، وبيل كارسليك، المُلحِّن وقائد الأوركسترا، وهو شخصٌ لطيفٌ ومَرِح، وقد عرفتُه منذ عشرين عامًا، ثم هيلين أخرى، وهي هيلين مورت، التي أعرفُها منذ ما يقرُب من عامٍ أو عامَيْن على الأكثر، ولكني أعتبرُها بالفعل واحدة من أكثر الموهوبين بين معارفي. هيلين إم، كما ندعُوها في الجبال تمييزًا لها عن هيلين الأخرى، مُتسلقةُ صخور، وعَدَّاءة، وكاتِبة ذات قدراتٍ نادرة. وهي متواضعة أكثر من اللازم، وموهوبة على نحوٍ لافت للنظر، ودائمًا ما تتعامَل بلطفٍ مع الآخرين ومع المشاهد الطبيعية أيضًا. جئنا معًا لتسلُّق قِمَم الساحل الشرقي لجرينلاند، واستكشاف الطبقات الجليدية المَخفية تحت الأرض في هذه البُقعة من العالَم، حيث تُوجَد أعظم طبقة جليدية خارج القارة القطبية الجنوبية.

أذهبُ إلى النافذة الغربية. إنَّها تطلُّ على الخليج. وأرى مجموعة من الأمهات والأطفال يسيرون على طول الطريق بجانب البحر. ويرتدون فوق رءوسهم أغطيةً شبكية سوداء، مُثبَّتة بإحكام حول رقابهم. إنهم يُشبهون في ثيابهم السائرين في موكبٍ جنائزي، أو العاملين في مجال تربية النحل.

يقول مات، وهو ينضم إليَّ عند النافذة: «ذلك مشهدٌ لم نألَفه من قبل في كولوسوك. فقبل عشرين عامًا لم يكن هناك بعوض، ولكن مع ارتفاع درجات الحرارة الآن، وصلَ البعوضُ والناموس. ولذا، يرتدي بعضُ الناس هنا أغطيةً شبكية فوق رءوسهم طوال أشهر الصيف.»

تُعَدُّ كولوسوك واحدةً من المستوطنات الصغيرة القلائل في ساحل جرينلاند الشرقي؛ فهي تبدو مثل أنمُلة على حواف هذه الجزيرة الشاسعة. هنا، يعيش أقلُّ من ٣٠٠٠ نسمة في مساحة تُقدَّر بنحو ١٦٠٠ ميل من خط الساحل. وكغيرها من المُستوطنات الصغيرة في جرينلاند، فإنَّ كولوسوك مجتمعٌ مَزَّقه الانتقال من ثقافة صيد الكفاف البدوية في السابق، إلى مجتمع اقتحمتُه الحداثة في شكل نمط حياة يتَّسم بالركود ويسود فيه شربُ الكحوليات.

قدَّمتني هيلين إلى جيو، وهو شخصٌ قويُّ البنية من سكان جرينلاند، وفي أوائل الستينيات من عمره.

يقول مات: «إنَّ جيو بمثابة والدي، ولا أعني ذلك من الناحية العاطفية. لقد أصبح أبي وأصبحتُ ابنَه.»

عندما يبتسم جيو، وكثيرًا ما يفعل ذلك، فإن التجاعيدَ حول عينيه تمتد تقريبًا من أُذنٍ إلى الأخرى. جيو صيادٌ ماهِر للغاية، ومشهور بمهاراته في التعامُل مع القوارب والكلاب، ويتمتع بقدرة تحمُّل خُرافية.

يقول مات: «عندما هبَّت عاصفةٌ قوية منذ فصلَي شتاءٍ مَضَيا، كان الرجال عائدِين من رحلة صيد. اجتاحت العاصفة الأرجاءَ بسرعة، وسرعان ما أصبح الثلج كثيفًا للغاية حتى إنَّ الكلاب أصبحت لا تقوى على سحب الزلَّاجات. كان عليها اجتياز ممرٍّ عالٍ للوصول إلى القرية. وبدأ الناس يتعثرون في الطريق. وكان الوضعُ جِدَّ خطير. فتزعَّم جيو الفريق، وبدأ العمل بهدوءٍ وإصرار، وقاد الطريقَ أمامهم لمدة ستِّ ساعاتٍ. وقد عادوا سَالِمين.»

يستلقي جيو في هيئة رومانية على الأريكة في الغرفة الرئيسية، مُتَّكئًا على ذراعٍ واحدة، ومُستمِعًا إلى القصة التي يُعاد سردها، وقد اعتلت وجهه ابتسامةٌ هادئة. يتواصل مات وهيلين بمزيجٍ غير مُتقَن من اللغة الإنجليزية ولغة جرينلاند. ولا يشكِّل عدم إتقانهما لغةً مشتركة عائقًا للألفة. فهما مُتناغمان معًا. ومتي يجلسان معًا، يضع كلٌّ منهما ذراعه حول كَتِف الآخر، أو يُشبِّكان ساقيهما معًا.

عندما كان جيو صبيًّا، اصطُحِبَ للإقامة في الدنمارك لمدة عام، كجزءٍ من مشروع «الدنماركيين الشماليين» السيئ التصميم في ستينيات القرن العشرين، الذي سعى إلى إدماج سكان جرينلاند في نمط الحياة الدنماركية عن طريق إجبار أطفال جرينلاند على العَيش مع عائلاتٍ دنماركية.

تقول هيلين: «لا يزال جيو يرتجف عندما تسأله عن الأمر.»

لقد زار إنجلترا مرتَيْن، حيث حَلَّ ضيفًا على مات وهيلين، وفي كل مناسبة كان يدق وشمًا؛ واحدًا على كلِّ سَاعِد. يُشمِّر عن ساعدَيْه ليُريَني، ويقول مُشيرًا إلى صليب على ساعده الأيمن: «كان هذا في جلاسجو.» ويشير إلى مرساة على ساعده الأيسر قائلًا: «وكان هذا في كيندال.»

يقول مات: «اصطحبتُ جيو لقضاء ليلة بالبلدة في جلاسجو. وانتهى بنا المطاف في بعض الحانات الشديدة الخطورة. كان جيو شخصًا استثنائيًّا هناك. ففي حانة فيلثي ماكناستي، رأيتُ بعض الرجال ينظرون إلى جيو عبر الحانة، ويفكرون في الاقتراب منه لمشاكسته، ثم بالنظر إليه مرةً أخرى، تراجعوا عن الأمر. حيث افترضوا خطأً أنَّ جيو شخصٌ صعب المنال، على نحوٍ فاقَ حتى ما تكون عليه تدابير الأمور في جلاسجو في ليلة جمعةٍ كهذه.»

يَمدُّ جيو يَدَه لأخذ الجيتار الموجود في زاوية الغرفة، وينشِد أغنيةً هادئةً حزينة من شرق جرينلاند.

يُسمَع طرقٌ على الباب. إنَّه سيجي، بحَّار أيسلندي سافر مات بصُحبته ذات مرة شمالًا إلى الساحل. يمتلك سيجي قاربًا قديمًا وجميلًا قد أُعيدَ تجديدُه، وهو ذو أخشاب منزوعة اللحاء، أبحرَ به إلى هنا قادمًا من ريكيافيك. يرتدي سيجي سروالًا أخضر من نسيجٍ قطني أملس، ويتحدَّث بهدوء.

قال سيجي: «هذا عامٌ بلا جليد. يُمكننا الوصول إلى أي مكان، وإجراء استكشافاتنا بِحُريَّة. لقد كنا نرتدي القمصان القصيرة الأكمام على سطح السفينة.»

هزَّ كتفَيه قائلًا:

«لم نعتَدْ على هذا الطقس، ولكنه سهَّل الحياةَ كثيرًا علينا نحن البحَّارة.»

يتبادر إلى ذهني المصطلحُ الإنجليزي القديم unweather، الذي يعني طقسًا متطرفًا للغاية حتى إنه يبدو وكأنه جاءَ من مناخ أو زمن آخر تمامًا. تعاني جرينلاند هذه الاضطرابات المناخية.

يتوقَّف جيو عن العزف، ويضع الجيتار، ثم يتحدَّث بطريقة عملية. «في عشر سنوات، لا يُوجَد ثلج، ولا جليد، ولا صيد، ولا كلاب.»

لقد انحسر الجليدُ البحري على نحوٍ يجعل الإبحارُ سهلًا على الوافدين، ولكنه يجعل الصيد مستحيلًا على سكان جرينلاند الأصليين. فمراحل التصلُّب المعقدة التي يمر بها الجليدُ البحري سنويًّا — كالتبلُّر، والتشمُّع، وتكوُّن الطبقة الجليدية الملساء الرقيقة، ذات اللون الرمادي — لم تَعُد تحدُث في العديد من الأماكن؛ وذلك بسبب ارتفاع درجة حرارة مياه البحر فوق نقطة التجمُّد الرئيسية، وهي ٢٨٫٦ درجة فهرنهايت. وعندئذٍ لا يستطيع الرجالُ السفرَ بأمانٍ فوق الجليد البحري، ويُصبح الصيد عسيرًا. كما تفر عجول البحر بعيدًا عن الشاطئ. وتموت الدببة من الجوع، لا من الرصاص. ويُصبح عبور المداخل والمضايق أمرًا بالغ الخطورة. كما تتعرَّض عربات الثلوج لخطر الانزلاق عبر طبقات الجليد الرقيق، مُعرِّضةً سائقيها للخطر. إنَّ الصيد — وهو أحدُ الملامح القليلة للحياة التقليدية في جرينلاند التي قُدِّرَت لها النجاة — مُهددٌ بالانقراض، والسببُ هذه المرة هو تغيُّر درجات الحرارة على مستوى العالم.

يؤثِّر الجليدُ في الحياة الاجتماعية. فقابليتُه للتغيير تشكِّل الثقافة، واللغة، وقصصَ مَنْ يعيشون بالقرب منه. وقد بَدَت عواقبُ التغييرات الأخيرة جليةً في كولسوك على نطاقٍ واسع. وسكانُ هذه القرية هم جزءٌ من بريكاريا كوكبٍ مُتقلِّب وسريع التحوُّل. فذوبان الجليد، إلى جانب أنماط الحياة المُستقرة القسرية وعوامل أخرى، له آثارٌ وخيمة على كلٍّ من الصحة العقلية والجسدية لسكان جرينلاند الأصليين، ما تسبَّب في ارتفاع معدلات الاكتئاب، وإدمان الكحول، والسمنة، والانتحار، لا سيَّما في المجتمعات الصغيرة. ووفقًا لما ذكره أندرو سولومون في دراسته لمعدلات الاكتئاب في جرينلاند: «لا يمثِّل فقدان ذلك المشهد الطبيعي الجليدي كارثةً بيئيةً فحسب، بل وثقافية أيضًا.» فقد بدأت لغة الإينوكتيتوت لجزيرة بافين في القطب الشماليِّ الكندي في استخدام مصطلحٍ يُشير إلى التغيُّرات على مستوى الطقس والجليد معًا، وما يترتب عليها من تغييراتٍ تحدث للأشخاص أنفسهم. المصطلح هو «أوجياناكتوك»، ويعني «التصرف بغرابة، وعلى نحوٍ غير متوقع». ومع ذلك، إذا كان ثمة شعب على دراية بما يعنيه العيش دون القدرة على التنبؤ بالجليد، فهو بالتأكيد شعبُ الإنويت، الذي تأقلم مع تقلباته لآلاف السنين.

في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، قدَّمتني هيلين إلى فريدريك وكريستينا، وهما اثنان من أقطابِ مجتمع كولسوك. وُلِدَت كريستينا وترعرعت في كلوسوك، وهي مُعلِّمة في مدرسة القرية. أما فريدريك، فإنَّه من غرب جرينلاند، لكنه انتقل إلى كولوسوك مع كريستينا قبل سنوات. كِلاهما على درجة كبيرة من الثقافة والوعي بالذات، ولديهما عزوفٌ عن أي شكلٍ من أشكال الرومانسية، مع إدراكٍ قوي بأدق حدود التحمُّل للحياة هنا، ولكنهما أيضًا فخوران بالمرونة التي يُبرهِن عليها بقاءُ كولوسوك واستمرار وجودها.

قال فريدريك: «إننا نلمِس تغيُّر المناخ في حياتنا هنا بقوة. فقد ظهرت أنواعٌ بيولوجية جديدة، واندثرت أنواعٌ قديمة. وأحيانًا ما يحدُث رعدٌ وبرقٌ في فصل الخريف. اعتدنا دائمًا أن نرى الجليد البحري سميكًا للغاية.» — مشيرًا بيدَيه من أرضية المنزل إلى سقفه، بمسافة ثمانية أو تسعة أقدام — «ولكنَّ سُمكُه يتناقص كلَّ عام، وقد أصبح في هذا الربيع في هذا السُّمك.» — يَمُدُّ يديه بطول الساعِد — «ويمثِّل هذا خطورة كبيرة للغاية على عملية التزلج بالكلاب. بل وخطورة أكبر على الصيد. ولم يَعُد في مقدورنا السفر لمسافات بعيدة.»

يَهزُّ كَتِفَيه. ويقول: «إنَّه تغييرٌ طرأ على أرواحنا، وكذلك على حياتنا.» تراقِب كريستينا وتستمع. ثم تغيبُ عن الأنظار في غرفةٍ جانبية وتخرج حاملةً زورقًا خشبيًّا مطليًّا بألوانٍ مبهجة، طوله قدمان أو نحو ذلك، وقد رُسِمَ عليه على التوالي حمارٌ وحشي وأسدٌ ونَمرٌ وزرافةٌ.

تقول كريستينا: «لقد صنعَ ابنُنَا هذا الزورق في المدرسة. وأطلقَ عليه اسم سفينة نوح؛ لأنَّه ينقذ الحيوانات من طوفان الاحتباس الحراري.»

لا يُوجَد بشرٌ على متن الزورق.

ينظر البعضُ إلى الذوبان الجليدي على أنه فرصةٌ ينبغي اغتنامها وليس نِقمة. فقد تجمَّع المستثمرون الأجانب عندما تراجع الجليد وانحسرت رقعته، وأصبح الوصول إلى الثروة المعدنية الغنية في جرينلاند أكثر سهولة … لقد أخبرني أحدُ علماء الجيولوجيا قبل مجيئي إلى جرينلاند أنَّ «الكثير من المليارديرات سيَجْنُون ثرواتٍ طائلةً جراءَ ما يكشف عنه الذوبان.» وأضافَ قائلًا: «التعدينُ قادمٌ إلى جرينلاند قريبًا، وبدرجة كبيرة، في بلدٍ لم يكن فيه أيُّ شيء من قبل أعمق من مَحْجَر.»

مُنِحَ خلال السنوات القليلة الماضية أكثرُ من خمسين ترخيصًا للتعدين في جرينلاند، ما يسمح بالتعدين الاستكشافي للتنقيب عن الذهب والياقوت والماس والنيكل والنحاس، وغيرها من المعادن الأخرى. تقع على الطرف الجنوبي من جرينلاند، بالقُرب من بلدةٍ صغيرة تُسمَّى نارساك ذات معدلات بطالة مرتفعة، واحدة من أكبر رواسب اليورانيوم في العالَم. ولقد زارَ العالِم نيلز بُور، عالِم الفيزياء الذريَّة الحائز على جائزة نوبل الذي يعمل في مشروع مانهاتن، نارساك في عام ١٩٥٧، عقب اكتشاف الرواسب بفترة وجيزة. وثمة اقتراحاتٌ في الوقت الراهن بإقامة مشروعِ تعدينٍ صينيٍّ أستراليٍّ مشترَك، لإنشاء منجمٍ مكشوف خلف نارساك، ليس فقط من أجل الحصول على اليورانيوم، ولكن أيضًا للتنقيب عن المعادن النادرة التي تُستخدَم في توربينات الرياح والهواتف المحمولة والسيارات الهجينة ومجالات الليزر.

في ذلك المساء في كولوسوك، كان غروبُ الشمس مُتوهجًا فوق القرية، مكوِّنًا إضاءةً خلفيةً باللون الأرجواني والبرتقالي لسلسلة من القِمَم التي تعلوها شعابٌ برَّاقة من السُّحب المُضلَّعة. إنَّه نوعٌ فريد من الشفق الألبي، ذي القدرة الكهربائية الخارقة.

يشرح مات قائلًا: «إنَّ الغطاء الجليدي هو ما يجعل غروب الشمس يبدو هكذا. ومن المُرجح أنه أكبر مرآة في العالَم؛ حيث تعكس مئاتُ الآلاف من الأميال المربعة من الجليد أشعةَ الشمس أثناء دُنوِّها باتجاه الأفق.»

نسير جميعًا معًا في طريقٍ مُتعرِّج قصيرٍ إلى الجزء العلوي من النتوء الصخري الذي بُنيَت حوله القرية. أذهب إلى حافة النتوء الغربية للتمتُّع بمشهد الغروب في المضيق البحريِّ، ثم أتوقَّف.

إنَّ الخليج الصغير تحتي يبدو كما لو كان المكان المُخصَّص للتخلُّص من مخلَّفات القرية. ذلك حيث تُوجَد الآلافُ من أكياس القمامة، ومُستنقعٌ من الصناديق البلاستيكية، وزوارقُ متصدعة، وخزائن الميلامين، وثلاجاتٌ بيضاء رُفِعَت جميعًا فوق حافة الجُرف هنا لتكوِّن كومةً من النفايات. يبدو المكان في الغسق وكأنه لسانٌ من الجليد ينجرف لأسفل نحو خط الماء: نهرٌ جليديٌ في طور التكوين، لا الاضمحلال.

•••

يتمتع الجليدُ بذاكرة هائلة؛ فهو يحتفظ بأدق التفاصيل لفترةٍ قد تزيد عن مليون عام.

يسجِّل الجليد في ذاكرته حرائقَ الغابات وارتفاعَ منسوب البحار. ويُسجِّل أيضًا التركيب الكيميائي للهواء إبان بداية العصر الجليدي الأخير، منذ ١١٠٠٠٠ سنة. كما يسجِّل عدد الأيام التي شهدَ فيها سطوع الشمس في أحد فصول الصيف قبل ٥٠٠٠٠ سنة. ويُسجِّل كذلك درجة الحرارة في الغيوم عند تساقُط الثلوج في وقتٍ مبكر من عصر الهولوسين. ويُسجِّل جيدًا كلًّا من تفجيرات تامبورا عام ١٨١٥، ولاكي عام ١٧٨٣، وجبل سانت هيلينز عام ١٤٨٢، وكواي عام ١٤٥٣. ويسجِّل أيضًا ازدهار عمليات الصهر لدى الرومان، وكميات الرصاص المميتة التي وُجِدت في النفط في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية … إنه يتذكَّر ويُخبِر. فيُخبرنا أننا نعيش على ظهرِ كوكبٍ مُتقلب، قادر على التحولات المفاجئة والانقلابات السريعة.

للجليدِ ذاكرة، ولون هذه الذاكرة هو اللون الأزرق.

ففي أعالي الغطاء الجليدي، يتساقط الثلج ويستقر في طبقاتٍ ملساء تُعرَف باسم الثلج الحُبيبي. وعندما يتشكَّل هذا الثلج الحُبيبي، يُحتجَز الهواءُ بين رقائق الثلج، ويحدث الأمر نفسه مع الغبار والجسيمات الأخرى. ثم يتساقط المزيد من الثلج، ويستقر على طبقات الثلج الحُبيبي الموجودة، ويبدأ في احتجاز الهواء بداخلها. ثم يتساقط المزيد والمزيد من الثلوج. ويأخذ وزن الثلوج وثقلها في التزايُد فوق الطبقة الأصلية، فيتسبَّب في انضغاطها، الأمر الذي يؤدي إلى تغيير بِنيتها. فتبدأ أشكال الرقائق الهندسية المُعقدة في الانهيار. وتحت وطأة الضغط، تبدأ الثلوج في التلبُّد مُتحولةً إلى جليد. وعندما تتشكَّل بلورات الجليد، ينضغط الهواء المُحتجَز في فقاعاتٍ متناهية الصغر. ويُعدُّ هذا الدفن شكلًا من أشكال الحفظ. وكلُّ فقاعة من فقاعات الهواء هي بمثابة مُتحفٍ ذاخرٍ بالنفائس الفضيَّة التي يُحتفَظ فيها بسجل للغلاف الجوي أثناء تساقُط الثلج لأول مرة. في بادئ الأمر، تتشكَّل الفقاعات على هيئة كرات. وعندما ينجرف الجليدُ لأعماق أكبر ويتزايد الضغطُ عليه، تنضغط هذه الفقاعات متحولةً إما إلى قضبان طويلة، أو أقراص مسطحة، أو حلقاتٍ متصلة.

يكون الجليد العميق ذا لون أزرق، وهو لونٌ أزرق لا يماثل في زُرْقَته زرقة أي شيء آخر في العالم، إنها زُرقة الزمن.

زُرْقَة الزمن التي يُرى وميضُها في أعماق الشقوق.

تَلوح زُرْقة الزمن فوق جوانب الانفصال الجليدي للأنهار الجليدية، حيث تندفع الجبالُ الجليدية التي تتكوَّن من جليد يصل عمرُه إلى ١٠٠٠٠٠ عام فوق أسطح المضايق أسفل مستوى سطح الماء.

إنَّ لِزُرقة الزمن جمالًا أخَّاذًا، يَأسرُ الجسدَ والعقل.

وما الجليدُ إلا وسيلة رَصدٍ ووسيط تخزين. فالجليدُ يجمع البيانات ويحتفظ بها لآلاف السنين. وبعكس الأقراص الصلبة ووحدات التخزين ذات السعة التخزينية الهائلة التي تُقدَّر بالتيرابايت، والتي سرعان ما يتم تحديثها أو تُصبح مُتقادِمة وغير صالحة، فإنَّ الجليد يتميَّز بتقنيةٍ ثابتة ومُتسقة عبر ملايين السنين. وبمجرد التمكُّن من قراءة سجلَّاته الأرشيفية، سوف يُطلِعنا على أسراره رجوعًا إلى أقدم العصور التي شهدت تكوُّن الجليد، ونزولًا إلى أبعدِ مدًى. تحتفظ فقاعات الهواء المُحتَجزة بتفاصيل حول تكوين الغلاف الجوي. كما يُسجِّل درجةَ الحرارةِ المحتوى النظائريُّ لجزيئات الماء في الثلج. ويمكن الاستدلال من الشوائب الموجودة في الثلج — حمض الكبريتيك وبيروكسيد الهيدروجين — على الانفجارات البركانية التي حدثت في الماضي، أو مستويات التلوث، أو احتراق الكتلة الحيوية، أو نطاق الجليد البحري ومدى قُربه. تُظهِر مستويات بيروكسيد الهيدروجين كمية ضوء الشمس التي سقطت على الثلوج. إنَّ تصوُّر الجليد على أنه «وسيط» بهذا المفهوم، قد يعني أيضًا تصوُّره على أنه «وسيط» بالمفهوم الخارق للطبيعة؛ فوجوده يسمح بالتواصل مع الأجساد المندثرة، عبر خلجان الزمن السحيق، التي يمكن أن يسمع المرءُ من خلالها رسائل نائية قادمة من العصر الجليدي.

يتمتع الجليد بذاكرة استثنائية، ولكنه يُعاني أيضًا فقدانَ الذاكرة.

قد يصل وزن جليد عمرُه ٢٠٠٠ عام إلى نصف طن لكل بوصة مربعة. ويكون الهواء بداخل هذا الجليد مضغوطًا لدرجةِ أن العينات الجوفية التي يجلبها الحفر العميق تنكسر وتُطقطِق عند تَمدُّد الهواء. وهذا هو السبب في أنَّ الأنهار الجليدية تبدو مثل ميادين الرماية. وهذا ما يجعل أكوابَ الماء أو النبيذ الزجاجية تنكسِر إذا ما وُضِعَت فيها قطعة من الجليد الأزرق الطاعِن في القِدَم.

ومع الهبوط لأعماق أكبر — في الجليد الذي يتراوح عمرُه ما بين ٨٠٠٠ سنة و١٢٠٠٠ سنة — يصبح الضغط هائلًا لدرجةِ أن فقاعات الهواء لا يمكنها البقاء داخل بنية الجليد. ذلك حيث تختفي في صورة أشكال مرئية، وتندمج مع الجليد لتشكِّل مزيجًا من الهواء والجليد يُسمَّى الكلاثريت. ومن الصعب اعتبار الكلاثريت وسيطًا بمفرده؛ فالرسائل التي يحملها تكون غامضةً وأكثر تعقيدًا.

في الجليد الذي لا يتجاوز عُمقه ميلًا واحدًا، لا يمكن تمييز الطبقات المُفردة إلا ﻛ «نطاقات شبحية رمادية اللون … تمكن رؤيتها في الحزمة المُركَّزة لمصباحٍ من الألياف البصرية.» ونظرًا لاستمرار تدفُّق الجليد — حتى في حالة تعرُّضه لضغوط هائلة — فإنَّ سجلَّه يتغيَّر ويُشوَّه، فتُطوى طبقاته وتنزلق، حتى إنَّ تمييز تسلسُلِه الزمني قد يُصبح أمرًا شِبه مستحيل.

عند نقاط الغطاء الجليدي الأكثر عُمقًا في جرينلاند والقارة القطبية الجنوبية، حيث يبلغ عُمق الجليد أميالًا، ويصل عمره إلى مئات الآلاف من السنين، يكون وزنه كبيرًا للغاية لدرجةِ أنه يؤدي إلى ضغط صخور القشرة الأرضية أسفله. وعند هذا العمق، يُصبح الثلج المضغوط كالوسيط المطاطي، حيث يحتجز الحرارة الجوفية المُنبعثة من صخر الأساس. ويمتص هذا الجليدُ الأعمقُ جزءًا من تلك الحرارة، ويذوب ببطءٍ في الماء. وهذا هو سبب وجود بحيرات من المياه العذبة غارقة لأميال تحت الغطاء الجليدي للقطب الجنوبي؛ إذ تظهر ٥٠٠ أو أكثر من هذه الخزانات تحت الجليدية على هيئة مُخططاتٍ طيفية متقطعة على خرائط المنطقة، غير مكشوفة لملايين السنين، وغامضة كتلك المُحيطات التي يُغطيها الجليد، التي كان يُعتقَد بوجودها على قمر كوكب زُحل، إنسيلادوس.

ومثلما يجدُ العقلُ البشري — عندما يتقدَّم به العُمر — صعوبةً في استرجاع ذكرياته الأولى، التي دُفِنَت تحت كَوْمة سحيقة من الذكريات المُتلاحقة — تجدُ ذاكرة الجليد الأقدم عُمرًا صعوبةً أكبر في استرجاع ذكرياتها، بل ويكون أكثر عُرضَة لنسيانها.

•••

نضع الحمولة بالتتابع على متن القارب عند ارتفاع منسوب الماء أثناء المَد، منزلقين أعلى الصخور المكسوَّة بعُشب البحر، حاملين معنا حاويات تخزين الطعام الزرقاء المقاومة للدببة، والأسلحة، والأمتعة على طول الطريق.

تقول هيلين: «انتَبِه إلى حيث تضع الأشياء على الأرض. فهناك أحشاء عجول البحر، ورءوس أسماك القُدِّ، وكلُّ شيءٍ ملطَّخ هنا على الصخور.»

يستغرق الأمرُ نصفَ ساعة. ثم يطلق جيو إشارة بدء التحرك بقارب ياماها ١٢٠٠، فنُدير دفَّة القارب من الرصيف، وننطلق عبر القناة، بُغيةَ تحديد مكان التقاء النهر الجليدي أبوسياجيك أو — «النهر الجليدي الصغير» — بالبحر.

هناك صرخةٌ عالية — مطاردة، وسقوط، وهَلُمَّ جرًّا، ولون ذهبيٌّ مُفضَّض — تُشعِرني بوخزٍ خفيف في رقبتي.

ينطلق طائرُ الغواص القطبي ذو الحنجرة الحمراء — كلَّا، بل ثلاثة من طيور الغواص القطبي ذات حناجر حمراء — في سربٍ شمالًا فوق القناة، باتجاهنا. ومع أنها طيورٌ كبيرة وثقيلة، فهي تُحلِّق برشاقة في مسارها، في صورة ظِلِّيَّة ناعمة كما لو كانت مسكوبة من الماء، وليست مخلوقة من الريش. لم أسمع صرخة طائر الغواص القطبي منذ عقدٍ من الزمان، منذ أن شاهدتُ عملية صيدٍ في بحيرة مُتصلة بالبحر في ظل جبل سويلفين في أقصى الشَّمَالِ الغربيِّ لأسكتلندا، وقبل ذلك بعقدٍ آخر، في بحيرة في غابات كولومبيا البريطانية.

يقول مات: «إنَّه حقًّا مثالُ طائر الشَّمَال.»

نظل نسمعُ صياحَ طيور الغواص القطبي لفترةٍ طويلة، حتى بعد غيابها عن أنظارنا.

كان القارب يقفز قُبَالة ضربات الأمواج. ورذاذُ الملح والهواء البارد السريع على وجوهنا. قممٌ حادة ترتفع شاهقةً في جميع الاتجاهات. وتقطعُها المضايق. وبدأتُ أستشعرُ حجمَ هذا المشهد الطبيعي، الذي يفوق أيَّ شيء شاهدتُه أو تخيَّلتُه: اتساع الساحل، ومن ورائه في مكانٍ ما غربًا دائمًا ما كان الغطاءُ الجليديُّ يبدو ضخمًا للغاية، لدرجة أنه يطمس كلَّ ما عداه من مَعالم، وسائر الألوان بخلاف الأبيض والأزرق. أشعر بوخزٍ في معدتي، إنها الإثارة المتصاعدة لبداية رحلةٍ كبرى. لن نرى كولوسوك مرةً أخرى لعدة أسابيع.

تظهر الجبال الأكثر انخفاضًا مُغطاةً بالثلوج. والصخور المكشوفة يكسوها اللون الذهبي والبُني والأحمر والأبيض. إنَّها ألوانٌ دافئة مُجزَّعة. إنها إحدى أقدم الصخور السطحية في العالَم، وحسبما أعلم فهي تُكوِّن توافُقًا يُشبه الصحف الممزقة مع الصخر الصوَّاني لجُزر هبرديس الخارجية. اتحد هذان الخطَّان الساحليان منذ مئات الملايين من السنين. وكانت هناك صِلة قديمة بين هذه المنطقة غير المألوفة إلى حَدٍّ كبير، وتلك الجُزر الاسكتلندية التي شعرتُ فيها وكأنَّني في وطني.

تبلغ المسافة عبر القناة من كولوسوك إلى أبوسياجيك حوالي ستة أميال، إلا أنَّ الأمر يبدو كما لو كنَّا نستطيع قطعها بالسباحة. ويبلغ طول النهر الجليدي نفسه خمسة أميال، ولكن يبدو أنه يُمكننا أن نقطعه في غضون ساعتَيْن دون أن نشعر بتعب. ومع ذلك، كنا سنموت إنْ حاولنا القيام بأيٍّ من الأمرَين.

هناك انخداعٌ شديد بقِصر المسافات والأحجام، مصدرُه هو صفاء الهواء المحتفِظ بفطرته الأصلية، وهو أولُ أخطاء القياس التي لا تُحصى، التي ستواجهني في جرينلاند. إنَّه مشهدٌ طبيعي، كما سأعلم، خادعٌ للعين والإدراك، ويستحِثُّ أشكالًا من الوضوح التي هي في الواقع أشكالٌ وهمية. كما تعكس الجدرانُ الصخرية والجليدية الصوتَ وتُعيد توجيهه على نحوٍ خادِع ومضلِّل؛ حيث تبدو الأحداث التي تقع أمامنا وكأنها تصدر من الخلف. لا تُوجَد أيُّ أشياءَ مألوفةٍ مما اعتادتها العينُ؛ فلا تُوجَد بنايات، أو سيارات، أو حتى أشخاص في مرمى البصر. كما أنَّ التضاريس مُكوَّنة من عددٍ قليل من العناصر — صخر، وجليد، وماء — والتي يتردَّد صدى أشكالها صعودًا وهبوطًا حسب ضخامتها.

يدير جيو الدفة بمهارة، بيَدٍ واحدة، مُتجاوزًا مجموعة من الجُزر ذات صخور سوداء بالقُرب من منتصف القناة.

يقول مات: «كانت حيتان الأوركا هنا منذ بضعة أيام. وحيتان ساي. ولقد سمِعنا صوتها قبل أن نراها، ذلك الصرير الصادر من فتحات النفث الموجودة على ظهورها.»

عندما نقترب من أبوسياجيك، تزداد ثخانة الماء بسبب الحصوات البيضاء والزرقاء وجلاميد الجليد التي ترتطم ببدن السفينة. يقود جيو القارب في مسارٍ منتظم ورائع، ولكن في النهاية يُصبح الجليد سميكًا لدرجةٍ يصعب تجنُّبها، ومن ثمَّ يخفض السرعة وينجرف عبره، مع صدور أصوات جلجلة، ثم ارتطام، ودَوِي، وتهدُّم، مقتربًا من خَطْم النهر الجليدي.

يبدو جبل أبوسياجيك منغمسًا في الماء. يبلغ طول جانب الانفصال الجليدي حوالي ٢٥٠٠ قدم، ولونه أزرق باهت عند أحدث نقاط الانفصال. وأعلى جانب الانفصال يتدحرج الجليد فوق مُنحدَر، كما يظهر نتوءٌ مركزيٌّ من الصخور، يقسم مسار التدحرج، مع حزوز جانبية سوداء تتخلَّلها خطوط من مياه الذوبان الجليدي.

يقول مات: «هذا أمرٌ غير مألوف. لم يكن ذلك موجودًا هنا قبل عامَيْن، بل كان جليدًا خالصًا.»

سأتذكَّر تلك الجزيرة الصخرية الجديدة كثيرًا فيما بعد، عندما نتخذ من جزيرة جليدية مشابهة مكانًا للمبيت، والتي ستكون كذلك قد كشفَ عنها ذوبان الثلوج، أعلى نهر جليدي أكبر بكثير.

يُهدِّئ جيو سرعة القارب، ثم يسحب المُحرك مرةً أخرى على وضع الإبطال الخفيف. نرسو بمحاذاة جانب الانفصال الجليدي، مع البقاء على مسافة ١٥٠٠ قدم أو نحو ذلك، بما يتيح لنا وقتًا للمغادرة إذا حدث انهيار كبير آخر. يُشير جيو إلى النهر الجليدي، ثم يعود باتجاه كولوسوك وشبه جزيرةٍ من الصخور العارية تندفع من حافة النهر الجليدي إلى القناة.

يقول مُشيرًا إلى شبه الجزيرة في القناة: «قبل خمسين عامًا، عندما كنت صبيًّا، كان الجليد هناك.»

ثم يُشير إلى جزيرة بعيدة في القناة.

«في عهد والدي، كان الجليد موجودًا.»

يُشير إلى كلوسوك، ثم يضع يديه على أذنيه، ويضغط على أطراف أصابعه وينقر بهما ليفتح أذنيه، مُحاكيًا صوت الانفجار.

«في السابق، كنا في كولوسوك نسمع دويَّ الأنهار الجليدية! أما الآن، فلم نَعُد نسمع شيئًا.»

على مدار حياة جيو، انحسرَ جانبُ الانفصال لنهر أبوسياجيك الجليدي وتراجعَ لمسافة بعيدة، وفي تلك الأثناء لم تَعُد ضوضاء الانفصال الجليدي مسموعةً في القرية. لقد غيَّر الذوبانُ الجليدي المشهدَ الصوتي للحياة اليومية، وباتَ يُنظَر إلى النهر الجليدي على أنه مشهدٌ من المشاهد الصامتة.

•••

نفرغ حمولة القارب بالتَّتابع عند انخفاض منسوب الماء أثناء الجَزْر، رافعين ما في جُعبتنا من مُستلزماتٍ وعتاد على شاطئٍ صخري رملي من الكوارتز الأبيض والميكا السوداء. لقد خلَّفَ الجَزْر جبالًا جليدية صغيرة جانحةً نحو الشاطئ الرملي بامتداد خط الخليج. إنها تلمع باللون الفضي المائل إلى الزُّرقة في ضوء آخر النهار. ثمة شيءٌ غير معهود فيها. وتدور الجبال الجليدية الصغيرة الأخرى ببطءٍ نحو اليابسة، أو تتحرَّك دائريًّا في الأرجاء مع التيارات البحرية.

نحمل أغراضنا لمسافة حوالي ٩٠٠ قدم، حيث نسيرُ ذهابًا وإيابًا أربع مراتٍ، عبر وادٍ صخري ضحل، ثم على سهلٍ مُنبسط من التربة السطحية والجلاميد ذات الحزازيات، حيث ينساب مجرى مائي على مُنحدَر تدريجي نحو البحر.

إنَّ السهلَ عبارة عن طريق نهر جليدي متلاشٍ: تُشير الركاماتُ باتجاه البحر إلى المدى السابق للغمر الجليدي. ونُخيِّم هنا في شبح الجليد المتلاشي.

أُفكِّرُ في الحكايات التي قرأتُها عن صافرات الإنذار التي سوف تطلقها أحيانًا أجهزة الملاحة المجهَّزة بنظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) على متن القوارب الصغيرة التي تبحر عند ساحل جرينلاند، مُحذِّرةً من خطر تصادمٍ ما. وقد أُدخلت إحداثيات نطاق الأنهار الجليدية السابق في رسم الخرائط، غير أنَّ معدل الانحسار كان سريعًا للغاية، حتى إنهم يبحرون في الطيف الرقمي الذي خلَّفه الجليد وراءه وعبره.

يزخر الهواءُ حول خيامنا بِبُقع بيضاء لا أستطيع تمييزها، وهي ليست ثلجًا ولا ترابًا، حتى إنَّ الغلاف الجوي يبدو حاملًا شحنةً كهربائية تجعله وامضًا.

يحلِّق اثنان من طيور النورس الرمادية اللون فوق رءوسنا، ويُحرِّكان أجنحتهما في مواجهة الرياح الشرقية المتزايدة. كما يحوم فوقنا غراب أسود كبير في مسارٍ دائري، وينعب، ثم يَحُطُّ على الأرض على الصخرة المجروفة التي وضعنا عندها أغراضنا. ثم يطوي جناحيه اللامعَيْن، ويَهزُّ جسده لأسفل، ويراقبنا برأسٍ مائل، في فضول.

ننصب الخيامَ على التوالي، واحدةً بجانب الأخرى، مع الحفاظ على فاصلٍ مقداره حوالي ستة أقدام بين كل خيمةٍ وأخرى. ثم نبدأ العمل على إنشاء مُحيط دائري للحماية ضد الدببة. ذلك حيث يمكن للدببة القطبية أن تشمَّ رائحة الطعام من مسافة تصل إلى عشرين ميلًا. وإذا رأيتَ دُبًّا، فثِقْ بأن الدُّب يعرف بوجودك منذ فترةٍ طويلة، وقد جاءَ للتحقُّق. لا أحدَ منا يريد أن يرى دُبًّا، لمصلحتنا ومصلحته. وكان في حوزتنا سلاحان: بندقياتٌ ذات أعيرة كبيرة تُطلِق قذائف بندقيات صيدٍ مُعدَّلة تحتوي على أعيرة نارية مفردة وليس على رصاصاتٍ صغيرة. ويحمل كلٌّ منا مِشعلًا طوال الوقت.

حول المُخيَّم، بدأنا في وضع حَدٍّ مُستطيل من الأسلاك المُفخَّخة، التي — في حال الاقتراب منها — تطلق خراطيش فارغة باتجاه الأرض، لإخافة أي دُبٍّ فضولي. وكنا نربط الأسلاك على ارتفاع قدمَيْن تقريبًا، بحيث لا تعلق فيها أيُّ ثعالب بيضاء تأتي باحثةً عن الطعام.

استغرقَ الأمر منَّا ساعتَيْن لتهيئة المُخيَّم على النحو الذي يُرضي مات. وكنا نغني أثناء العمل. كان بيل مُغنيًا محترفًا، وموهوبًا ذا صوتٍ جهيرٍ ورنَّان. وكنتُ أغرِّد سعيدًا. بدأت الشمسُ في الانخفاض نحو الغرب. وتحرَّك جبلان جليديان من اليسار إلى اليمين عبر الخليج.

في مشهدٍ طبيعي شاسع كهذا بالقطب الشَّمَالي، تُدهَش بالتفاصيل. وعلى الرغم من أن التربة السطحية حول المُخيَّم لا يتجاوز عُمقها بضع بوصاتٍ، فهي تُهيئ بيئة صالحة لمجموعةٍ متنوعة من الحزازيات والنباتات. حيث تزدهر الحزازيات القلبية في جانب الجلاميد المحجوب عن الرياح، والصخور مُغطاة بالأشنات: رُقعٌ صغيرة من أشنات زانتوريا باريتينا البرتقالية اللون، وتشكيلة مُعقدة من الأشنات السطحية التي تُشبه الخريطة، وأشنة هشَّة تُشبه الخَس، لا أعرفُ اسمَها، يُشبه لونها لون الخضرة الحمضية، وذات مَلمسٍ خَشِن.

تُوجَد الأوراق الزمردية لشجر الصفصاف المُتقزم الصغير في كل مكان. أقطفُ ورقةً، في نصف حجم ظفري الصغير، وأمسكُ بها في الشمس. إنها تلمع باللون الأخضر، ويُمكنني رؤية الأوردة الحمراء الرقيقة التي تمر خلالها. لم أصادف هذا الصفصاف إلا في سلاسل جبال كيرنجورمز، وهي النظيرُ البريطاني للقطب الشمالي، حيث ينمو مُتفرقًا في الأجزاء الأكثر ارتفاعًا. ولكنه يفترش هنا الأرض افتراشًا، زاحفًا على الجوانب، ويبلغ سُمك أفرُعِه السوداء القاتمة بضعة ملِّيمتراتٍ على أكثر تقدير.

وهنا أدركتُ أننا نصبنا خيامنا فوق غابة. إننا نُقيم فوق ظُلَّة من الغطاء الأخضر.

أتذكَّر طُرفةً سَمِعتُها في ريكيافيك. سؤال: «كيف تجد لنفسك مخرجًا من غابة في أيسلندا؟» الإجابة: «أقفُ مُنتصبًا.»

بين الحين والآخر، كان صوت دوِيٍّ مكتوم يسري عبر المشهد الطبيعي، ويتهادَى بهدوء ولكن بقوة، فيضغط على طبلة الأذن ويجعلها تهتز. إنَّه صوتُ الانفصال الجليدي، الناتج عن ارتطام لوح من الأنهار الجليدية بالمياه على جانب أبوسياجيك، حول الجبل من مكاننا. وكان الصوت أشبه بلكمةٍ يُسدِّدها الهواء، عبر الأذن، إلى الدماغ والدم، ثم تنتقل إلى الروح.

تتحرَّك الجبال الجليدية الضخمة في مساراتٍ بطيئة عبر الخليج: كغوَّاصةٍ بحرية مُتصدِّعة، أو سفينة سياحية، أو كلب سكوتي من لُعبة مونوبولي، أبيض ونظيف، يشق طريقه عبر المساء.

تصيح هيلين، مُشيرةً إلى الأعلى وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة: «شموسٌ كاذبة!» أقواسٌ دائرية لامعة تُشبه قوس قزح تصطفُّ عند سطحٍ مُحدَّب لمنحنى الشمس نفسها.

جليدٌ في المدخل، وجليدٌ في السماء. وجليدٌ في الخليج. وجليدٌ في الهواء فوقنا. وأصوات الجليد القادمة من النهر الجليدي. إننا نبيتُ في مكانٍ كان ذات يومٍ مُغطًّى بالجليد.

في تلك الليلة، يظهرُ الشفقُ القطبي الشَّمَالي لأول مرة. وشاحٌ من الاهتزازات الخضراء التي تُشبه ما يظهرُ على شاشات أجهزة الرادار يرفرف في السماء. وتطلِقُ الجبال أضواءً كاشفة خضراء اللون مثل حجر اليشم في الفضاء.

نستلقي على ظهورنا في الهواء الأسود البارد ونشاهد العرض، مُتعجِّبين ومَدْهُوشين في صمت.

•••

قبل أسبوع من مُغادرتي إلى جرينلاند، أذهبُ إلى هيئة المسح البريطاني للقارة القطبية الجنوبية في ضواحي كامبريدج لمقابلة رجلٍ يُدعَى روبرت مولفاني. ومولفاني هو عالِمٌ مختص في العينات اللبِّيَّة الجليدية، والمناخ القديم، والجليديات. وقد أمضى حياته المهنية في دراسة الأرض السفلية للمنطقة الجليدية: يقرأُ ذاكرتَها لمعرفةِ ما يمكن أن تُخبره به عمَّا كان عليه المناخُ والبيئة في الماضي، وما قد تُنبئ به عن التغيُّرات المناخية القادمة.

باشرَ مولفاني عَمَله على مدى عشرين موسمًا من مواسم الحفر في القارة القطبية الجنوبية، وخمسة مواسم في جرينلاند. في أثناء عمله الميداني، يُطلِق مولفاني لحيته وشاربه، بينما يكون حليقًا في مكتبه. يُصافحني بقوة، ويقودني بهمَّة عبر أروقة هيئة المسح البريطاني للقارة القطبية الجنوبية، ويتحدَّث بسرعة.

يقول: «قد أبدو شخصًا هادئًا. ولكني لستُ كذلك. على الإطلاق.»

لا يبدو أنه شخصٌ هادئ. بل يبدو شخصًا مُثيرًا للإعجاب قضى معظم حياته في أداء مهام تنطوي على التحدي في ظل ظروفٍ تقتضي بذلَ جُهدٍ جهيد.

كان مولفاني مُتسلقًا مكافحًا عندما كان شابًّا، كما كان مُستكشِفَ كهوفٍ مكافحًا أيضًا. أُخبره عن التيمافو، وعن النزول في هاوية تريبيشيانو مع سيرجيو وهو ينفخ في غليونه الخشبي.

«آه، لقد كنت في الكارست إذن. لقد استكشفتُ بعض الكهوف البعيدة إلى حَدٍّ ما بالقُرب من هناك. وقمت برحلاتٍ استكشافية في يوجوسلافيا، بدءًا من الإبحار عبر بيئاتٍ رطبة على متن الطوافات، وأمور أخرى من هذا القبيل. ولكن لطالما فضَّلت الحجر الكلسي في يوركشاير. إنَّه أكثر جفافًا.» يبدو وكأنه يشعر لوهلةٍ بالحنين إلى الحياة تحت الأرض.

يأخذني إلى مكتبه ويُوجهني إلى أحد المقاعد. ثم يقول: «لقد أقلعتُ عن الرحلات الخطيرة لاستكشاف الكهوف والتسلُّق عندما فقدتُ الكثير من الأصدقاء جراء الموت والإصابة. ومن ثمَّ، أصبحتُ بحَّارًا عوضًا من ذلك.»

على لوحة الملاحظات فوق مكتبه، هناك عَلَمٌ رثٌّ لجامايكا، بألوانه الأسود، والذهبي، والأخضر.

يقول دون أن يُخفِي كبريائه: «لقد حِكتُ ذلك بنفسي، عند اقترابنا من الأرض في نهاية أول عبور لي للمُحيط الأطلسي.»

تُوجَد إلى جواره صورةٌ مُصفَّرة لزوجته وابنتَيْه، يُلوِّحْن للكاميرا خارج قمرة القيادة ليختٍ مائل بشدة، راسٍ على طين رطب. من غير الواضح ما إذا كن يُلوِّحْن بالتحية، أم كُن في مِحنة.

يقول مولفاني: «جنحَت سفينتنا فوق قمة طينية في مكانٍ ما قُبَالة إسيكس. إذا لم تطأ قدمك اليابسة أثناء الإبحار في الساحل الشرقي، فإنك إذن لم تُبحر فيه.»

تستند خلف الكمبيوتر الخاص به لافتةٌ بحجم بطاقةٍ بريدية مكتوبة بخط اليد بقلم لبَّادي متلاشٍ بأحرف كبيرة وخَطٍّ صبياني. تقول:
ذهبَ روب مولفاني إلى القطب الشَّمَالي.

وبينما كان ميرلين وزملاؤه من علماء الفطريات عاكفين على فحص «الصندوق الأسود» للتربة، كان مولفاني وزملاؤه من علماء المناخ القديم عاكفين على فحص «الصندوق الأبيض» للجليد. ذلك حيث كانوا يستخدمون رادارًا حسَّاسًا للأطوار مخترقًا للجليد، يَرتدُّ عن الآفاق العاكِسة، ليُشكِّل صورًا مُفصَّلة تُظهِر الطبقات الداخلية والطيَّات العميقة للجليد. كما كانوا يستخدمون السونار؛ في إطلاق التفجيرات، وتخطيط ارتدادات الصدى. كما استعانوا بتقنية حفر العينات اللبِّيَّة، وهي تقنية وُضِعَت في معسكر القرن على يد العلماء الأمريكيين، بينما كان أقرانُهم العسكريون يحفرون الأنفاق لقاعدة الصواريخ في الجليد خفيةً.

عملَ مولفاني على العينات اللبِّيَّة منذ أيام ظهورها الأولى كتقنية، وصمَّم بنفسه العديد من أنواع الحفر القياسية المُستخدمة في علم المناخ البريطاني وتولَّى إدارتها.

يقول: «يُعَدُّ الحفرُ الضَّحل — حتى عشرين مترًا أو نحو ذلك — بمثابة رجوعٍ بالزمن حوالي ٢٠٠ عام، وهو يُجرى يدويًّا. إنَّه عملٌ سريع. فما عليك إلا أن تُحدِّد موقع الحفر، وتستعِد، ثم تدير المِثقابَ يدويًّا. وإذا أردت الحفرَ لأعماق أكثر من ذلك، فسيكون عليك الاستعانة بالحفر الميكانيكي الكهربائي؛ أي الحفر بالمعدات التي تُدلَّى ثم تُسحَب مرة أخرى باستخدام رافعة.»

ويُريني المِثقاب اليدوي. إنه أداة تناظرية مُدهشة. ويتكوَّن من جُلبة معدنية بطول ١٫٥ متر، ولُقمَة ثقبٍ داخلية بأسنانٍ من الفولاذ، وجزء خارجي على شكل بُرغي مُلولب يُوجِّه شظايا الجليد بين اللقمة والجلبات، وزعانف مُنبثقة تحول دون لَيِّ سِن الجزء الأسطواني أثناء عمل المِثقاب، ولكنه يرتد عندما يُسحَب للخلف إلى السطح.

يُدَلَّى المِثقاب، ويقتطع العينة اللبِّيَّة، ثم يُسحَب مرةً أخرى، وتُؤخَذ العينة اللُّبيَّة، ثم يُدَلَّى المثقاب مرة أخرى. تتوالى خطواتُ إدلاء المثقاب واقتطاع العينة اللبية ثم استخراجها من المثقاب بعد رفعه. وتتكرَّر حوالي ٧٠٠ مرة لثقب كيلومتر واحد من الجليد.

يُعَدُّ علم العينات اللبِّيَّة الجليدية عملًا يتعلق بالمجال الصناعي، وهو عملٌ شاق. عكفَ مولفاني ذات مرة على فحص عيناتٍ لبِّيَّة لمدة اثنين وتسعين يومًا متتاليًا، ووصلت ساعاتُ عمله في اليوم الواحد إلى أربع عشرة ساعة في درجة حرارة سالب ١٥ درجة مئوية. لا يميل علماءُ العينات اللبِّيَّة الجليدية إلى أن يكونوا من ذلك النوع من الأشخاص الذين يرفعون الدعاوى القضائية على جهة العمل عندما تكون مُكيِّفات الهواء في مكاتبهم منخفضة للغاية بما لا يوفر لهم الشعور بالراحة.

كما يختبر علم العينات اللبِّيَّة الجليدية كذلك الصبر. فلقد أخبرني مولفاني ذات مرة، أنه فقد مِثقابًا على عمق ١٠٠٠ متر. هذا ما حدث. ولم يكن ثمة شيء يمكن فعله. كان من المستحيل استعادته.

«استغرق الأمرُ عامًا بأكمله لإنشاء موقع الحفر، وعامًا آخر لحفر كيلومتر واحد، وثانية واحدة لفقد المِثقاب، وعامًا آخر لإعادة تحديد موقع الحفر.»

وعند إحضار العينة اللبِّيَّة، تُقسَّم إلى أطوال قياسية وتُوضَع في «أكياس»، ثم تُغلَّف وتُوضَع عليها البطاقات التعريفية، ثم تُجهَّز لنقلها إلى مخازن التبريد للمختبرات حول العالم. وفي المختبرات، يُقسَّم كل جزءٍ من العينة اللبِّيَّة طُوليًّا إلى ستة أجزاء، وفقًا لصورة قياسية معينة. يُعرف أحد هذه الأجزاء باسم الأرشيف الأبدي، حيث يُحتَفظ به في حالة ضياع كل شيء آخر. وتُستخدَم الأجزاء الأخرى في أعمال البحث.

في جرينلاند، شاركَ مولفاني في مشروعٍ يُعرَف اختصارًا بمشروع «نيم»؛ أي مشروع حفر جليد الإيميان في شمال جرينلاند. كان هدف المشروع هو الحفر وتحليل العينة اللبِّيَّة من عصر الإيميان، وهو العصر الجليدي البَيني الأخير، الذي امتدَّ في الفترة ما بين ١٣٠٠٠٠ إلى ١١٥٠٠٠ سنة مضت. ويحظى عصر الإيميان بأهمية كبيرة لدى العلماء؛ لأنهم يعتقدون أنه يُعطي نظرة تقريبية عن العمليات والآثار المناخية التي ربما تكون متوقعة بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين. يرى مولفاني أنَّ المشروع قد أصبح «نقطة فعَّالة للبحث التنبُّؤي». وقد شاركت في المشروع أربع عشرة دولة.

وفي موقع الأبحاث التابع للمشروع في الشَّمَال الغربي لجرينلاند، استُخرِجَت لقمة ثقبٍ على عُمق ٢٥ قدمًا باستخدام منشارٍ كهربائي من الجليد وغُطيت لتشكِّل «كهفًا جليديًّا». كانت درجات الحرارة المُحيطة أسفل الكهف الجليدي سالب ٢٠ درجة مئوية معتدلة، وتمكَّن العلماءُ من العمل لمدة أربعٍ وعشرين ساعة يوميًّا خلال موسم العمل الميداني لاستخراج العينة اللبِّيَّة وتحليلها. وعلى مدار عامَيْن، تمكَّنوا من حفرِ ما يزيد عن كيلومترَيْن ونصف كيلومتر ليصلوا إلى صخر الأساس. وكانت العينة اللبِّيَّة التي استخرجوها هي أول سجل كامل لعصر الإيميان.

طبقًا لما كشفت عنه هذه العينة اللُّبيَّة، فإن ذوبان السطح المُكثَّف للغطاء الجليدي في جرينلاند قد حدثَ خلال فترة الدفء لعصر الإيميان. ذلك حيث كانت مياه الذوبان الجليدي قد غرقت في الثلج العميق وأُعيدَ تجميدُها، تاركةً آثارًا طويلة الأمد تكشف عن أسرار دفينة في طبقات الجليد. ومما أدهشَ الباحثين أن ظروفًا مماثلة قد تكرَّرت خلال أعمال الحفر في صيف عام ٢٠١٢، حيث ارتفعت درجات الحرارة، وهطل المطر، وشكَّلت مياه الذوبان الجليدي طبقاتٍ أُعيدَ تجميدُها؛ ومن ثمَّ فإنَّ عصر الإيميان يرتد بصداه إلى عصر الأنثروبوسين.

يَمدُّ مولفاني يَدَه خلف جهاز الكمبيوتر ويتناوَل شيئَيْن صغيرَيْن.

«مُدَّ يدك.»

يضع أحد الشيئَيْن في راحةِ يدي. إنه نابٌ صغير، رمادي اللون وثقيل. أعرفُ أنها سِن لقمة حفر تُستخدَم في استخراج العينات اللبِّيَّة. تبدو حافة القطع بالسن مُشوَّهة الشكل، كرصاصةٍ بعد إطلاقها.

يقول مولفاني بتفاخُر: «هذه إحدى أسنان المِثقاب التي اخترقت صخر الأساس في القارة القطبية الجنوبية. على عمق تسعمائة وخمسين مترًا أسفل جزيرة بيركنر.»

إنَّه لا يبدو نافعًا لشيءٍ الآن سوى لفَردِ الزُّبد.

أسأله: «هل يرى أن اختراق صخر الأساس هو أفضل لحظةٍ يعيشها عالِمُ العينات اللبِّيَّة الجليدية؟» «هل تُضاهي لحظة اكتشاف مليونير للنفط؟»

«أوه نعم، ليس هناك ما هو أفضل من ذلك. خُذْ، انظر إلى هذا أيضًا.»

نَاوَلني الشيءَ الآخر. إنَّها قنينةٌ بلاستيكية شفافة صغيرة. أرفعها في الضوء. وأتبيَّن أنها تحتوي على حفنة من الرمل الأصفر.

قال: «هذه هي الحبيبات التي ظهرت في العينة اللبِّيَّة الأخيرة قبل أن نصِل إلى صخر الأساس في بيركنر. هذه هي الرواسب القاعدية. إذا نظرتَ إليها تحت المِجهر، فسترى أنها حبيباتٌ مُستديرة: إنَّها إيولية (ريحية)، شظايا من الكوارتز الذي عصفت به الرياح، يبلغ قطرها حوالي ٠٫٢ ملِّيمتر، وهي مصقولة ومُجمَّدة.

اعْرضْها على أي عالِم جيولوجي، وسيخبرك أنها تكوَّنت في ظروف شبه صحراوية، وحُمِلَت بفعل الرياح. ونستنتج من ذلك أن الأرض القابعة الآن على عُمق كيلومتر أسفل الجليد كانت ذات يوم وفي مرحلةٍ ما صحراء كبرى.»

أُعقِّبُ قائلًا: «إنَّها جميلة. مثل ماساتٍ صحراوية من باطن العالَم.»

فيقول: «أقرأُ في كلامك أنك لستَ عالِمًا.»

يأخذني مولفاني إلى مخزن التبريد. نفتح بابًا ثقيلًا، ونجتاز شرائط طُوليَّة مُعلَّقة من البلاستيك الثقيل كتلك التي تكون في متاجر الجزارين.

برودة مخزن التبريد قاتلة، وذات أثرٍ مؤلِم يُشبه وَقع السكاكين أسفل الجلد، ووخز الإبر في العينين. والطقس في غاية البرودة، حتى إن الحبر في قلمي قد تجمَّد في أقل من دقيقة. لا يبدو أنَّ مولفاني يلاحِظ ذلك. إنه يرتدي قميصًا مُشمَّر الأكمام. بينما أرتدي أنا ثلاث طبقاتٍ من الثياب، وأتساءَل إلى متى يُمكنني البقاء على قيد الحياة.

يرفع مولفاني الغطاء عن صندوق من البوليسترين الأبيض. إنه مملوءٌ بأجزاء من العينات اللبِّيَّة الموضوعة في أكياس شفافة تحمل بطاقات تعريفية. راحَ مولفاني يبحث في الصندوق ثم أخرجَ كيسًا. كان مكتوبًا على الكيس بقلم تمييز أسود «‏١٤٠٠٠٠‏‏ واي إيه».

يقول وهو يُناولني إياه: «هذه العينة مُستخرَجة من بئر قبل العصر الجليدي البَيني الأخير. أحتضنُها وكأنني أحملُ طفلًا حديث الولادة، رغم أنها شديدة القدم، ثم أضَعُها برفقٍ على سطح العمل، بعيدًا عن حافته قدر الإمكان.»

يسحبُ شيئًا من غلاف بلاستيكي ويُمرِّرُه إليَّ. إنَّه قُرصٌ ثلجي بسُمك بضعة ملِّيمترات، قد اجتُزِئ من طرف عينةٍ لبِّيَّة.

يقول مولفاني: «إنَّه جليدٌ يافِع. جليدٌ حديث الولادة. ربما يبلغ عُمرُه قرابة ١٠٠٠٠ سنة، وليس أكثر من ذلك. ارفعه ناحية الضوء.»

أَرفعُه ناحية مصابيح الضوء الشريطية. ويتجلَّى على الفور جماله الساحِر: إنَّه فضيٌّ وشفَّاف، وبداخله أعدادٌ كبيرة من الفقاعات الجليدية اللامعة التي تُشبه النجوم.

يقول مولفاني: «هنا يُخزَّن الذهبُ الحقيقي. كلُّ فقاعة بمثابة مُتحَف.»

أتذكَّر استخدام براون لمصطلح «خزانة الحفظ» في مُؤلَّفه «الدفن في الجِرار»، الذي يعني المكان الذي يُحفَظ فيه شيءٌ ما. ولطالَما كان الجليد من أروع «خزانات الحفظ» الموجودة لدَينا؛ حيث حافظت أماكن تخزين الجليد على ثمار الخوخ والفراولة طازجةً قبل اختراع الثلاجات بفترة طويلة، بينما تنقل حاويات الشحن المُبردة المواد الفاخرة القابلة للتلف في أنحاء العالَم، وتحفظ الأنهار الجليدية جثث الموتى منذ زمنٍ بعيد، وفي مرافق التبريد، يُجهِّز المليارديرات — مُتأثرين بالأوهام المتداولة حول القديس لعازر القائم من الموت — التقنية اللازمة لتجميد أدمغتهم بعد الموت. في كل هذه السيناريوهات، يعمل الثلج كمادةٍ مساعدة لإبطاء التغيير، وتتوغَّل في أزمنة سحيقة في كلٍّ من المستقبل والماضي.

يقول مولفاني: «تجري أعمال البحث الآن على قدمٍ وساق للكشف عن أقدم جليدٍ موجود. نريد أن نحفرَ ما لا يقلُّ عن مليون سنة، وربما حتى مليون ونصف، في القارة القطبية الجنوبية.»

ويواصل حديثه قائلًا: «من المقرَّر أن يستغرق المشروع عشرة أعوام على الأقل. وعلينا أولًا تحديد موقع الحفر المِثالي لضمان حفرٍ فائق العُمق، وثمة جدل واسع حول هذا الموضوع. فمن الغريب أنَّ اليابانيين يعتقدون أنه قريبٌ من أراضيهم، بينما يعتقد الروس أنه يقع حول بحيرة فوستوك، حيث تُوجَد قاعدتهم، ويعتقد البريطانيون والأمريكيون أنه موجودٌ حول قُبَّة سِي، حيث يعملون.»

يتحدَّث مولفاني بفخرٍ عن إنجازات عِلم العينات اللبِّيَّة.

«لقد ساعدنا في التخلُّص من الرصاص الموجود في البنزين. ووضعنا الرسوم البيانية لدرجات الحرارة وثاني أكسيد الكربون التي دقَّت ناقوس الخطر حول تغيُّر المناخ. ومنذ سنوات قليلة، كنتُ أعتقد أن عِلمي على وشك الانتهاء. فماذا عَساه قد تبقَّى الآن لنا لكي نفعله بعد التحذير من الاحترار العالمي وتنظيف وقود السيارات؟ ولكني أرى الآن مستقبلًا شاملًا ومُبشرًا، في مجال البحث عن الجليد الأكثر قِدمًا. هناك لُغز مناخي لم يتمكَّن أحد من حَلِّه. فمنذ حوالي مليون عام، اختلفت وتيرة التغيُّرات المناخية من ٤٠٠٠٠ عام إلى ١٠٠٠٠٠ عام. لماذا؟ لا أحدَ يعرف. وإذا كنَّا لا نستطيع تفسير ما يحدث للمناخ في هذا الصدد، فكيف يُمكننا أن نَدَّعي أننا نعرف أيَّ شيء؟ إذا تمكَّنَّا من العثور على أقدم جليد وحفرِه، فقد نَحلُّ إذن ذلك اللغز. إنَّ الأسرار تكمُن في الأعماق.»

قبل أن أغادر، سألت مولفاني سؤالًا أخيرًا، وهو السؤال نفسه الذي طرحته على كريستوفر، عالِم المادة المظلمة، على مسافةٍ بعيدة أسفل الأرض في بولبي.

«هل العمل في فتراتٍ زمنية سحيقة، كالتي تعملون عندها — ١٠٠٠٠٠ سنة، ومليون سنة — يجعل حاضر الإنسان، من ساعاتٍ ودقائق، يبدو أكثر إشراقًا وصدقًا نوعًا ما، أم أنَّه يَسحقُها فيجعلها تبدو بلا قيمة؟»

يُفكِّر لبضع لحظات.

ثم يقول: «أحيانًا أحمل في يدي قطعة من الصخر وأخرى من الثلج. فكلتاهما جاءت من أعماق بعيدة أسفل السطح، وكِلتاهما تحمل رسائل من تاريخِ ما قبل الإنسان. ولكن في غضون عشر دقائق، سيختفي الجليد بينما سيظلُّ الصخرُ باقيًا.»

يتوقَّف قليلًا.

«هذا هو السبب في أنَّ الجليد يُثير شغفي، بينما لا يفعل الصخر ذلك. وهذا هو أيضًا سبب كوني عالِم جليد، لا عالِم جيولوجيا. ولا يزال الجليدُ يُثيرني بقابليته للدوام وللتلف، حتى بعد كل هذه السنوات وكل هذه العينات اللبِّيَّة.»

•••

تُسمَع أصواتُ سحق وصرير زجاج مكسور، حيث يطقطق الجليد تحت أقدامنا. الشمس مرتفعة ومُتأجِّجة في جرينلاند، وضوءُها يغلِب عليه البياض أكثر من الصفار. الجبال الجليدية في الخلجان، والسماء صافية. نتحرَّك في صفٍّ واحد، مربوطين بالحِبال، ومُنتبهين، ومُزوَّدين بالأجهزة السلكية.

في صباح ذلك اليوم، ننطلِق من الخليج حيث نتَّبع أحد التيارات صعودًا من المُخيَّم وندخلُ واديًا واسعًا مُتدليًا بين القمم. وهناك نرى فجأةً شواطئ بحيرة ضحلة، غير متوقعة، وتظهر شواطئها البعيدة ضيِّقةً في ظلال القمم الشرقية. تبدو البحيرة مُتجمِّدة، ولكن بالاقتراب منها أدركُ أن ما يبدو أنه جليدٌ هو في الواقع طمي: طمي جَرَفته من الصخور الأنهارُ الجليدية التي تُغذِّي البحيرة على مياه الذوبان الجليدي المتدفقة منها، فتمنحها بريقها المُميَّز. تسبَّب وصولنا في إزعاج سربٍ من طيور النورس، التي راحت ترفرف بأجنحتها على سطح الماء إيذانًا بالإقلاع والمغادرة.

نتحرك على طول الشاطئ الغربي للبحيرة، قافزين من جلمودٍ إلى آخر، ونخطو على وسائد الحزازيات التي تُعانق الأقدام. الحياة النباتية المنخفضة تنبض بالحياة: بِركة من السنفيَّات الوردية، وأسِرَّة من الأشنات القرمزية، والصفصاف الأصفر.

وبعد ساعةٍ من السير، تقودنا أقدامُنا إلى ممرٍّ مُنخفض فوق البحيرة، وهناك يتغيَّر صوتُ وقع الأقدام عندما نمر فوق الحصى الناعم، على الشاطئ عند مدخل الخليج بين الجلاميد. نجلس لنستريح. يخلع مات السلاح الذي كان يحمله دائمًا على ظهره، ويَهز كَتِفَيْه بحركاتٍ دائرية في محاولةٍ للتخفيف عنهما. يمكننا سماع صياح الأوز بوضوح، وتزداد قوة صياحه كلما اقتربنا، ويتردَّد صداها في دارة الجبل نحو الشرق.

يقول بيل بسعادة: «ذلك رابع مَشهد مِثالي!» يُحسِن بيل الإنصات إلى المشاهد الطبيعية كما لم يفعل أي شخصٍ سافرتُ معه من قبل، فهو يراها ويستمتع بموسيقاها.

يمرُّ الإوز عاليًا فوق رءوسنا. سربٌ من اثنتي عشرة إوزة أو نحو ذلك، على شكل حرف «في» بالإنجليزية. أُلاحظُ أنه ورديُّ الأقدام، وأظن أنه يبدأ هجرته لفصل الخريف جنوبًا: ربما إلى أيسلندا محطته التالية، ومن هناك إلى إنجلترا، حيث قد يَحُطُّ صائحًا على الحقول حول منزل والديَّ في كومبريا.

يقول: «هذا الوادي هو أحدُ الطرق السريعة الرائعة في هذه المنطقة.» ويواصل قائلًا: «للكائنات المختلفة وللناس أيضًا. إنه الطريق الرئيسي للزلاجة التي تجرُّها الكلاب من كلوسوك ولأعلى حتى المضايق الشمالية. ومن القرية، تعبُر الخليج حيث تمر فوق جليد البحر — إذا كان سميكًا بما يكفي — وتبلُغ اليابسةَ في مكانٍ غير بعيدٍ عن مخيَّمنا، ثم صعودًا فوق هذا الممر المُنخفض، ونزولًا نحو إجتيراجيبيما، ثم نحو سيرميليجاك. لقد اجتزتُ هذا الطريق أنا وجيو وهيلين عشرات المرات. وكنا نتزلَّجه طوال الوقت أيضًا، إذا لم نكن في حاجة للكلاب. إنَّه طريق رئيسي بالنسبة إلينا.»

أفكِّرُ في الشفق القطبي لليلة أمس، ذلك الوشاح الأخضر الطويل الذي كان يتلألأ على طول الوادي نفسه. ما الاسم الذي كان باري لوبيز يُطلقه على هذه الطرق القديمة للهجرة والترحال داخل المشهد الطبيعي؟ ممرات التنفُّس. كان ذلك أحدَها، وبدا ضوءُ الشفق القطبي كشهيقٍ متألق، من العالَم الآخر.

الخليجُ الحصوي هو مسارُ مجرًى جليديٍّ جاف، وهو يؤدي بنا مباشرةً إلى خَطْم النهر الجليدي. هذا هو الجزء الخلفي من أبوسياجيك، أي جانب اليابسة، حيث يتدفَّق شرقًا من الجبل الذي ينبع منه. وحيث ينخفض لسان النهر الجليدي ليلتقِيَ بالصخر، ويختلط بالغبار والحُطام. واللسان مُجوَّفٌ حيث تنبثق مجاري مياه الذوبان الجليدي من تحته، تاركةً درعًا بُنِّيًّا من الجليد الصلب المُقوَّس فوق فوَّهَات الأنفاق الذائبة، التي تمتدُّ بعيدًا أسفل النهر الجليدي.

نصعد على الدرع واحدًا تلوَ الآخر، مُثبِّتين أقدامنا، ومُختبِرين رِقة الجليد وهشاشته. تُصدر كل خطوة دويًّا يتكرَّر عند التوقف تحت الخَطْم.

عندما تتحرَّك فوق نهر جليدي، فأنت بذلك تدخل فضاءَه. تتغيَّر الأصوات، وتنخفض درجة الحرارة، ويزداد الخطر. ويأتيك البرد ليس على هيئة أصابع تلمِسك، ولكن كسحابة، أو هَالة تُحيط بك وتستقر في قلبك، وكأنها تقول: أنت الآن في منطقتي.

يُوجَد جزءٌ كبير من الجبل الجليدي تحت سطح الماء، كما يُوجَد جزءٌ كبير من النهر الجليدي تحت سطح الجليد. ومثلما يتدفَّق النهر العادي بهدوء فوق الأرض المستوية، كذلك يتدفق النهر الجليدي. وعندما يتحرَّك على أرضٍ أكثر انحدارًا — «يتدحرج» أو ينعطف — فإنَّ الجليد يتهشَّم ويتصدَّع. فالشقوق في الأنهار الجليدية تُعادِل مُنحدرات الأنهار العادية، وهي أحد مظاهر الاضطراب الدوَّامي في الجريان.

يتحدَّث مُتسلقو الجبال عن وجود مناطق «جافة» و«مناطق رطبة» في النهر الجليدي. في المناطق الرطبة، يكون الجليد مُغطًّى بطبقة من الثلج المنبسط، بينما لا يُوجَد مثل هذا الغطاء في المناطق الجافة. وغالبًا ما يكون الأسهل التحرُّك على المناطق الرطبة، ولكنها تكون أكثر خطورة؛ لأن أخطار الشقوق والهُوَّات المُجلدة الجليدية تكون مَخفيَّة، ومن الصعب التنبؤ بالوزن الذي يتحمَّله الثلج. فعند الحركة على نهرٍ جليدي رطب، تكون التجربة بمثابة تهديدٍ شِبه مُستمر. تُساورك رغبةٌ مُلِحة في معرفةِ ما يقع تحتك: الأعماق الزرقاء الهائلة تحت الثلج المُنبسط، والأرض السفلية الخالدة للجليد. وعندئذٍ، تُدرك أن الحذَرَ واجبٌ في كل خطوةٍ تخطوها.

كانت الروافد السفلية للنهر الجليدي جافةً في ذلك اليوم، ومن ثم تَمكَّنا من الرؤية بالأسفل في أعماق الجليد. كانت هناك هُوَّات صغيرة على شكل عَين، تتلألأ بماء الكوبالت الذائب. وكانت الشقوق دقيقةً من أسفلنا، لا يتجاوز عرضُها عرضَ أصبع أو راحة يدٍ أو ساعد. شقوقٌ ضيقة تُفضي إلى هُوَّاتٍ كبيرة بما يكفي لابتلاع سيارةٍ أو منزل. وأنابيب مُستديرة تغطس عموديًّا لأسفل، على نحوٍ شديد الاستقامة والاعتدال حتى يتراءى لك أنَّ بإمكانك أن تُطلِق سهمًا في إحداها ليُصيب صخر الأساس.

في كل مكان، تُعلن الأرض السفلية للنهر الجليدي عن نفسها بلَونها أكثر من تكوينها؛ فاللَّونُ الأزرق المُشع يستشري في كل شقٍّ أو بئر. في اسكندنافيا، يُعرَف هذا الضوءُ الأزرق أحيانًا باسم «دماء» النهر الجليدي: صورةٌ خارقة للطبيعة لظاهرةٍ غريبة.

أتوقَّفُ كي أشربَ عند بِركةٍ من مياه الذوبان الجليدي، وأغمس وجهي في الجليد، وأشعر بضوء الدم الأزرق المُنتقِع في عيني، بل في جمجمتي.

كان هدفنا في ذلك اليوم هو قمةً مجهولة، وهي إحدى القِمَم التي تنتج داراتها الجليدية العُليا الجليدَ الذي يتجمَّع ليُصبح نهر أبوسياجيك الجليدي. وبالكاد تظهر هذه القمة في الخريطة الوحيدة للمنطقة، وهي خريطة غير موثوقة بمقياس رسم مقداره  ١‏ : ٢٥٠٠٠٠. قِمَّتُها عبارة عن منحنًى رشيق لصخرٍ أسمر يرتفع من دارةٍ مُجمَّدة. إنَّها قمة جذابة للغاية، وهي مجرد واحدة من آلاف القِمَم التي لا تُحصَى، التي تنبع من الجليد والمضايق البحرية، صعودًا وهبوطًا في هذا الساحل.

وبعيدًا عن النهر الجليدي بالأعلى نعثُر على طاحونةٍ جليدية، وهي أولُ طاحونة جليدية تُقابلنا، ولا تُقارَن بما سنجده وننزل إليه بعد عدة أيام على نهر كنود راسموسن الجليدي، بعيدًا إلى الشَّمَال. عادةً ما تبدأ الطاحونة في التكوُّن عند انحدارٍ على نهرٍ جليدي. ذلك حيث تتجمَّع مياه الذوبان الجليدي في الانحدار، وتكون درجة حرارتها أعلى قليلًا من درجة التجمُّد؛ فتعمل على تسخين الجليد الذي تتجمَّع فوقه. ويؤدي ذلك إلى زيادة الانحدار، وهو ما يؤدي بدَوره إلى جذب المزيد من المياه، التي تبدأ بدورها في حفرٍ أعمق، حيث يعمل التيار والجاذبية أيضًا كقُوى حفر. وفي ظلِّ ظروفٍ مُعينة، تحفر مياه الذوبان الجليدي ثُقبًا في النهر الجليدي، ليخترق الجليد، بما يكفي لنفاذ رُمح. بعضُ الطواحين الجليدية صغيرة، حيث يبلُغ قُطرها بضعَ بوصات. وبعضها الآخر يبلغ قُطره مئات الياردات. كما يصِل قُطر بعضها في الجليد بضع عشرات الأقدام، وذلك قبل أن يتشتَّت في القنوات الجانبية أو يتعثر تمامًا. ويصِل بعضها إلى عُمق ميل عموديًّا، وينخفض وصولًا إلى صخر الأساس.

تزايدت أهمية الطواحين الجليدية لدى كلٍّ من علماء الجليد وعلماء المناخ لسببَين. أولهما أنها تُعطي مؤشراتٍ على ارتفاع معدلات ذوبان سطح الأنهار الجليدية والغطاء الجليدي. وثانيهما أنَّ أعمق الطواحين الجليدية تنقل المياه مباشرةً إلى قاع النهر الجليدي. ونظرًا لأن مياه الجليد الذائب تكون أكثر دفئًا من الجليد نفسه، فإنها تنقل الطاقة الحرارية في أعماق الأنهار الجليدية، وتُذيب مزيدًا من الجليد، فيما يُعرَف باسم التدفئة بالتبريد الهيدرولوجي. ومن المفهوم الآن أيضًا أن الماء يُمكنه العمل كمادة تشحيم، ما يُسرِّع من معدل انزلاق الجليد فوق الصخر وتحته، بحيث تذوب الأنهار الجليدية من تلقاء نفسها.

ويمكن لهذا الانزلاق السريع أن يُسرِّع بدَوره من معدل انفصال الأنهار الجليدية في البحر، وهو ما يؤدِّي بدوره إلى تسريع معدل ارتفاع مستوى البحر. ففي جرينلاند — كما هو الحال في القارة القطبية الجنوبية — تتقلص الأنهار الجليدية وتُسرِّع حركتها. فالأنهارُ الجليدية في شرق جرينلاند في الوقت الحاضر قد سجلت بعضَ أسرع مُعدلات الانحسار وأسرع معدلات التدفُّق مقارنةً بأيِّ معدلات أخرى على الكوكب. وفي درجات الحرارة الأكثر دفئًا، تتكوَّن بحيرات مياه الجليد الذائب بمرور الأيام فوق صفحة الجليد، قبل أن تُستنزَف فجأةً عبر طاحونة جليدية ذاتية التكوُّن في غضون بضع ساعات.

لقد انبثقَ علمٌ فرعي من علم الجليد الكهفي، من خلال تسلُّق بعض العلماء قِممَ الجبال بالحبال نزولًا إلى الطواحين الجليدية لاستخراج معلوماتٍ حول درجة الحرارة ومُعدل التدفُّق، أو لإرسال أجهزة مراقبة البيانات إلى أعماقها. وفي شمال جرينلاند، أطلقَ أحد علماء ناسا، ويُدعَى ألبرتو بيهار، أسطولًا من البط المطَّاطي الأصفر أسفل طاحونةٍ جليدية على مسافة ميلٍ لمعرفةِ ما إذا كانت ستظهر عند خَطْم المَد والجَزر للنهر الجليدي، وهي طريقة مُنخفضة التقنية لرسم الخرائط لأجزاءِ الجليد الداخلية، ما يعيد للذهن المخاريط الصنوبرية التي كان يجري إسقاطُها في أنهار الكارست في اليونان وإيطاليا لسَبْر أغوار مساراتها.

يبلُغ عرض الطاحونة الجليدية التي عثرنا عليها في ذلك اليوم حوالي أربعة أقدام، وهي دائرية تمامًا عند السطح، وينزلق عمودها الأزرق بعيدًا بخطٍّ قُطري مائل إلى داخل أعماق الجليد. إنها تُغني، نعم، الطاحونة الجليدية تُغني بصوتٍ عالٍ وثابتٍ، يُخدِّر العُنق. والهواء يتحرَّك بداخلها، وبداخل بيئةٍ غير مرئية لأنفاقٍ جليدية نحَتَها الذوبان الذي تتصِل به، مندفعةً بتدفق المياه بعيدًا إلى أسفل في نظام أنفاق النهر الجليدي.

يميل بيل برأسه نحو الطاحونة الجليدية، ثم ينظر لأعلى مندهشًا.

ثم يقول: «هذه حروف إيه ودي وسي حادة. إنَّها متسلسِلةٌ مُتناسقة من حرف دي!»

تعمل الطاحونة الجليدية كأنبوبٍ من آلة الأرجن الهوائية الضخمة للنهر الجليدي نفسه. أتمنَّى أن نتمكَّن من ضبط أصواتها، وتسجيلها، ومعرفةِ ما تقوله.

تقول هيلين: «إنَّ جليد البحر موسيقيٌّ على نحوٍ لا يُصدَّق أيضًا. في الشتاء، يُهسهس ويُصفِّر بالفعل، ويبدو حول خط المَد، على وجه الخصوص، كما لو كان يُهمهِم بطريقةٍ ما.» أشعر مرة أخرى بذاك الشعور المُخيف للجليد وكأنه كائنٌ حي؛ ذلك حيث تُمثل وفرة أصواته، وتنوُّع أشكاله وضخامته الهائلة، حضورًا مَهيبًا في هذا المشهد الطبيعي.

ومع اقترابنا من الدارة العُليا للنهر الجليدي، يُصبح الجليد أكثر التواءً، وتُصبح الشقوق مُغطَّاة بالكامل تقريبًا. نتحرَّك فوق حقلٍ ثلجي أبيض ليِّن، ونحن مُدركون أننا نسير فوق عمقٍ كبير. الجميع يتحرَّى الحذَر واليقظة، مع إبقاء الحبل مشدودًا تحسُّبًا لسقوطٍ مفاجئ. يُعاودني شعورٌ بأنَّ أبوابًا تُغلَق خلفنا؛ وأتذكَّر الدخول إلى المتاهات المُخيفة الأخرى التي مررتُ عبرها، وتجعُّد الجلاميد في المنديب، وسراديب الموتى في باريس، والنزول إلى هاوية تريبيشيانو. هنا، تصبح آثار أقدامنا مثل خيط أريادني، ذلك الخيط الرفيع المُتعرِّج الذي يوضح لنا الطريق الآمن للخروج في نهاية اليوم.

تساءَل مات عن احتمال أن تكون الهُوَّة الجليدية غير قابلة للاجتياز، أو احتمال أن نُضطرَّ إلى الهبوط بالحبال داخلها ثم التسلُّق رجوعًا لأعلى جانبها البعيد، وهي حركة غير محمودة العواقب ومُستهلِكة للوقت. ولكن عندما نصِل إليها، وقد أصابنا الإنهاك جرَّاء المجهود الذي بذلناه أثناء الصعود، نجد مكانَ عبورٍ واحدًا فقط صالحًا للسير: نقطة تضاؤل؛ حيث تقترِب الجوانب من بعضها، فتكون المسافة بينها بضعة أقدام، وتمتدُّ الفجوة بجسرٍ ثلجي.

نعبُر واحدًا تلو الآخر، سائرين بهدوء، والمُتسلقون في الأمام وفي الخلف على الحبل، يقِفون مُستعدِّين للنزول في حالة انهيار الجسر.

وجاءَ دَوري. كنتُ أنتوي العبور بسرعة، ولكن لأسبابٍ لا أستطيع أن أشرحها، أتوقَّف على الجسر. أنظرُ إلى أعماق الهُوَّة الجليدية إلى اليمين، وأشعر بالخوف يَدُبُّ في صدري، كانتشار قطرةٍ من الحبر في الماء. فأسفل الجسر الثلجي، كانت جوانب الهُوَّة الجليدية تهبط كخليجٍ أزرق، بعُمقٍ يفوق ١٥٠ قدمًا، وهو عمقٌ كبير بما يكفي لابتلاع شاحنة ومقطورتها، جرْفُها العلوي مُتدلٍّ، وعُمقها الحقيقي متوارٍ في الظل.

تنادي هيلين من ورائي بإلحاح: «استمر في السير يا روب. هذا ليس مكانًا للتوقف.»

أُدرك أنني توقفت؛ لقد استوقفني الفراغ ونظرةٌ خاطفة على الأعماق التي إما أن تمنحنا، أو تأخذ منَّا.

وبعد نصف ساعة، نخرج من الجليد العالي إلى صخرٍ بُنِّي اللون عند نتوء القمة. نخلع الكلَّابات، ونُعِدُّ مُستودعًا للمُعدات، ونربط أنفسنا بالحِبال. أرى مات وهو ما زال يحمل البندقية على ظهره.

أقول له: «يُمكنك بالتأكيد أن تترك هذه هنا، ويُمكننا أخذُها عند الرجوع، أليس كذلك؟» «من غير المُرجَّح أن نصادف دببة هنا، أليس كذلك؟»

يقول مات: «لقد صادفتُ الدببة القطبية على ارتفاع ٢٠٠٠ متر في عام ١٩١٣ عند صعودي لأول مرةٍ لأعلى قمةٍ في هذه المنطقة.»

أقول مُعقِّبًا: «أوه.»

نتحرَّك معًا أعلى الحَيد. لا حاجة هنا لاختباره بمعاول التسلُّق.

وبينما أنا عالقٌ في أشنة جلاميد القمة، إذا بي أعثرُ على ريشةٍ شاحبة لغراب وصَدَفةٍ بيضاء في غاية النقاء لا يُصدَّق أنها موجودة.

نجلسُ معًا بهدوءٍ تحت أشعة الشمس، على الصخور الدافئة لتلك القمة، ونُلقي نظرة على أكثر الأراضي التي رأيتُها وعورةً على الإطلاق. نتوءٌ فوق آخر من القِمم الصخرية، وسلسلة فوق أخرى من القمم المُمتدة جنوبًا وشَمَالًا إلى أقصى نقطة على مَرمى البصر.

مضيقٌ بحري تلو الآخر، ومدخلٌ بعد مدخل، وسلاسل من الجُزر، والقمم.

والمحيط الأزرق اللامُتناهي ناحية الشرق، حيث تتلألأ الجبالُ الجليدية.

والشواطئُ يتناثر فيها بريقٌ أبيض؛ حيث تُوجَد الآلاف من الجبال الجليدية على الشاطئ.

ومَصبَّاتُ الأنهار ذات المياه الخضراء المُجزَّعة برسوبيات الطمي البُني المُلتفَّة في أنماطٍ تُشبه الزهرة.

فوق الوادي، وعلى نفس مستوى ارتفاعنا، تقع دارة دائرية عالية. تُوجَد فيها بحيرة خضراء من المياه، دائرية الشكل، ومُقبَّبة بكُتَل جليدية ضخمة. إنها تشبه في مظهرها جرن المَعمودية في الكنيسة، وسطحُها يلامس السُّحب وضوءَ الشمس الذي يسري خلالها.

تقول هيلين إم مُشيرةً إلى شيءٍ: «انظر خلفك.»

هناك، على مسافة بعيدة غربًا، يمتد الغطاء الجليدي نفسه جانبيًّا بين نتوءٍ أعلى القمم.

إنَّه يبدو كشريطٍ عائم من اللون الأبيض، مرتفع على نحوٍ لا يُصدَّق، وذي مظهر لؤلؤي وخافت. هذا هو «الجليد الداخلي» وهو يمتدُّ دون انقطاع إلى المحيط المتجمِّد الشمالي على الجانب الغربي والشمالي؛ إذ يمتد لعشرات الآلاف من الأميال المربعة. هناك تريليونات الأطنان من الجليد، يصل سُمكها إلى ١١٠٠٠ قدم، وكتلتها ضخمة للغاية لدرجةِ أنها شوَّهت صخر الأساس تحتها وصولًا إلى القشرة الأرضية بعُمقٍ يصل إلى ١١٨٠ قدمًا أسفل مستوى سطح البحر. وفي حال ذوبان الجليد دفعةً واحدة، سينكشِف تقعُّر واسع يَشغل مركز الجزيرة: جبالٌ مستوية، ووديانٌ مُهشَّمة.

يبدو الجليد الداخلي وكأنه من عالَمٍ آخر. أشعر برغبةٍ قوية في الوقوف عليه، واجتيازه، والوقوف في غمار ذلك اللون الأبيض العائم لمدة ثلاثين يومًا.

«مرحبًا أيها الشبح المظلم القابع هناك في المياه أسفل الخليج. أعتقدُ أنه حوت.» يتمتع مات ببصرٍ حادٍّ على نحوٍ لا يُصدَّق، وكذلك الهواء، فضلًا عمَّا يُضفيه صفاءُ الخليج الخالص الخالي من الغبار من تأثيرٍ بصري تنهار معه الأبعاد والمسافات. فمع أننا نقفُ على بُعد ميلَيْن أو أكثر من الخليج، لا يزال الحوتُ مرئيًّا بالعين المجردة.

ولكنه ليس حوتًا واحدًا، بل ثلاثة. ثلاثة ظلال في مياه الخليج الخضراء، اثنان كبيران وواحد صغير، والِدان وابنهما، يأكلون في مجرى التدفُّق الخارجي حيث يجرف النهر الجليدي الذائب الطعامَ في البحر. تتحرَّك الحيتان الثلاثة في الفراغ بين جبلَين جليدِيَّين كبيرَين بكُتلتين فَيروزيَّتَين تحت الماء.

وقفنا نشاهد الحيتان من خلال المنظار، حيث تخرج وتختفي، في أشكال مُعتِمة تكشف عن نفسها، ثم تعاود الغطس في الخفاء.

ويتعقَّب حركتَها سربٌ من النوارس، بارتعاشة فضية.

على مسافةٍ بعيدة أسفلنا، مسيرة نصف يوم، يُمكننا أيضًا رؤية الرُّقَع البرتقالية لخيامنا، ومن هذا الارتفاع، تمَكَنا أن نرى بوضوحٍ الركامات الطرفية والجانبية التي تُشكِّل الامتداد السابق للجليد الذي كان يسقط قديمًا أسفل الوادي، الأمر الذي كان من شأنه أن يغمر مُخيمنا بالثلوج البيضاء.

يقول مات: «لا يأتي شعبُ الإنويت إلى القِمم. فلِمَ يأتون؟» بين الحين والآخر، سيستخدم جيو المُرادف اللفظي لدى شعبِ الإنويت لكلمة «جميل»؛ وذلك لوَصف نهر جليدي أو مكانٍ ما. ولكن هذا المشهد في الغالب هو موقع العمل، والخطر، والحياة بالنسبة إليه. ومع ذلك، فهو يُحب اليابسة أيضًا. أتذكَّر أننا ذات مرةٍ كنَّا على متن قارب بالقُرب من جانب الانفصال الجليدي لنهرٍ جليدي، والتفتَ نحوي، فأومأ برأسه، ثم ابتسم، وقال: «أودُّ أنْ آتِيَ للصيد في هذا المكان في شهر أكتوبر.»

تنزلق الجبالُ الجليدية على طول خط الأفق للبحر. ويصِل فتاتُ هذا الانفصال الجليدي إلينا بعد دقائق من الأحداث التي تسبَّبت فيها. وتَمُرُّ درسات ثلجية بين الصخور إلى الشَّمَال بسرعة مذهلة.

نمكُث في تلك الشمس المشرقة، فوق تلك القمة الرائعة، لمدة ساعةٍ مرَّت وكأنها دهرٌ. لا نتحدَّث كثيرًا. هناك بالأعلى، يبدو التواصُل باللغة أمرًا مُستحيلًا، يتعارَض مع ما يحدث، ويتنافى بشدَّةٍ مع هذا المشهد الطبيعي. فأبعادُه تجعل الاستعارة والتشبيه يبدوان مُنافِيَين للطبيعة. إنَّه ليس كأي مكانٍ ذهبتُ إليه يومًا. إنه يكشف عن أغوار التاريخ، تاركًا الأشكال المُعتادة لصناعة المعنى غير ذات قيمة.

بريقُ الغطاء الجليدي، وخروج الحيتان، ودوَّامات الطمي في مجاري التدفق، وعروق الياقوت الأزرق في حقلٍ من الشقوق.

تنافرٌ قويٌّ يسيطر على ذهني، حيث يبدو كلُّ شيء بعيدًا وقريبًا في الوقت نفسه. أشعر كما لو كان بإمكاني أن أميل بجسدي من تلك القمة، وأضغط بأحد أصابعي في الشقوق، وألمس قطرة ماء من بِركة الكتلة الجليدية الضخمة، وألكز بطرف أصبعي جبلًا جليديًّا على طول خط الأفق. أدركُ كيف تكوَّن إحساسي بالمسافة بعد قضائي وقتًا طويلًا على الإنترنت، حيث يكون كلُّ شيء في المتناول ولكن لا يمكنك لمسه بيديك.

تفوق ضخامة الجليد وحيويته أيَّ شيء صادفتُه من قبل. ومن منظور الزمن السحيق — حتى بالنظر إلى الزمن الضحل نسبيًّا منذ آخر تجلُّد — تبدو فكرة هيمنة الإنسان على الكوكب جشعةً ومُضللة.

هناك بالأعلى فوق تلك القمة، وفي تلك اللحظة بينما ننظر من الجليد الداخلي إلى البحر الزاخر بالجبال الجليدية، تبدو فكرة الأنثروبوسين على أحسن تقديرٍ غرورًا، وعلى أسوأ تقديرٍ خُيلاءَ محفوفة بالمخاطر. أتذكَّر أولَ كلمةٍ لشعب الإنويت سمعتُها في شمال كندا: إليرا، وتعني «شعورًا بالخوف والرهبة»، وتحمل أيضًا دلالةً ضمنية بالقدرة على إدراك الإحساس بالمشهد الطبيعي. أجل. هذا ما أشعرُ به هنا. إليرا. إنه أمرٌ باعث على الراحة.

ولكني أفكِّرُ بعد ذلك في الذوبان الذي يحدث، والذي حدث، والذي يتسارع. يتغيَّر الغلاف الجليدي في جميع أنحاء العالَم على نحوٍ مُثير للقلق، مع ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون وارتفاع درجة حرارة الكوكب. هدير الطواحين الجليدية، وذوبان الجبال الجليدية الذائبة، وانهيار الأرض الدائمة التجمُّد كاشفةً عن محتوياتها القاتمة، مع وصف جيو للتغيُّر الذي طرأ على صوت قريته مع تراجع النهر الجليدي، والمُخيَّم الذي نصبناه في النهر الجليدي الأشبه بالشبح، وجليدُ البحر المتضائل، والعينة اللُّبيَّة التي استخرجها مولفاني من عمق كيلومتر، والتنقيبُ كوسيلةٍ للتنبؤ بمستقبل المناخ … وأفكر في ابن كريستينا الذي بنى زورقًا في المدرسة، يُحاكي سفينة نوح: سفينة النجاة لهذا العالَم الجديد الذائب، التي لا مكان للبشر على متنها.

بالنظر من أعلى تلك القمة، أجدُني لا أشعرُ بالرهبة والبهجة كما كنت، بل أشعر بالدوار. دوار ليس فقط من حجم جرينلاند، ولكن أيضًا بالنظر إلى قدرتنا على احتوائه. هناك شيءٌ بغيض بالنظر إلى الجليد وذوبانه، وبالنظر إلى اتِّساعه وهشاشته. يبدو الجليد «شيئًا» يستعصي علينا فَهمه، ولكن لا يُعجزنا تدميره.

تزحفُ ثلاثة جبال جليدية كبيرة لتُصبح مرئية في الأفق: سفنٌ بيضاء تبحر خلسةً فوق منحنى الأرض. تنعكس الشمسُ على الحافة العلوية للجبل الجليدي الأول، فيلمع باللون الفضي، ثم يتوهَّج على قمته حتى يبدو كأنه مُشتعلٌ.

•••

هناك فقرةٌ في مأساة «أجاممنون» لإسخيلوس تُعرَف باسم قسم «مَرصَد مُوكناي». وتدور الفقرة حول حارسٍ في برجٍ على أحد الأسقف، مُهمتُه هي البحث عن نار الكانون في الأفق، التي ستُخبره بسقوط طروادة، وأن يصرخ مُحذِّرًا إذا رآها. في النهاية، وبعد سنواتٍ عديدة من المُراقبة، يرى الحارسُ لهب النار في الأفق من بعيد. لكنه يُفاجأ أنه لا يستطيع الصياح بالكلمات المُتفَق عليها. فقد أصابه البَكم، وأصبح غير قادرٍ على الكلام. ووفقًا للصورة البلاغية الخالدة التي صاغها إسخيلوس βοῦ𝜍 ἐ𝜋ὶ 𝛾𝜆ώσσῃ μέ𝛾𝛼𝜍 βέβ𝛈𝜅𝜀𝜈، يشعر كما لو أنَّ «ثورًا كبيرًا قد وقفَ على اللسان [لساني].» في نسخة شيموس هيني، يشعر الحارسُ بثِقَلٍ في لسانه على غرارِ ما يكون في حالة «… المَعبر المُتدلِّي من شاحنة لحَمْل الماشية».

عندما أفكِّرُ في محاولاتنا للتحدُّث عن الأنثروبوسين، أتذكَّرُ ذلك الحارس العاجز عن الكلام كأن على لِسانه ثورًا، وهو غير قادرٍ على النطق بكلماته التحذيرية، حتى يقترب الخطرُ أكثر من أي وقتٍ مضى. كثيرًا ما تُصيبنا فكرة الأنثروبوسين بالبَكم. ذلك حيث نقف عاجزين عن الكلام أمام تعقيد هياكله ونطاق مقاييسه من حيث الزمان والمكان — من النانومترية إلى الكوكبية، ومن البيكوثانية إلى الدهر — يُواجهنا الأنثروبوسين بتحدِّياتٍ هائلة. فكيف لنا أن نُفسِّره، أو حتى أن نُشير إليه؟ إنَّ طاقاته تفاعلية، وخصائصها ناشئة، وهياكله مُنعزلة. يبدو مجرد الحديث عن الأنثروبوسين أمرًا عسيرًا. وربما من الأفضل أن نتخيَّله على أنه عصرٌ من فقدان الأنواع، والأماكن، والأشخاص؛ حيث نبحث له عن لغةٍ للرثاء، وربما الأصعب، عن لغة للأمل.

يشير المُنظِّر الثقافي سيان نجاي إلى أننا في حالة الصدمة والحزن نجد أنفسنا لا نقوى على التحدُّث عن التجربة إلا ببضع «كلماتٍ ثقيلة». ويقول نجاي إننا عندما نتحدَّث بكلماتٍ ثقيلة، فإننا نواجه صعوبةً في قُدرتنا المعتادة على «التفسير أو الرد». فيحدث تباطؤٌ حاد وتكرار للغة، في دلالة على التعب والارتباك. وتعمل الأزمنة كلٌّ منها ضدَّ الآخر. ويحدث «تدفُّقٌ عكسي»، وفقدان للدافع السببي، واحتشادٌ لعلامات التردُّد والتلعثم. تدور الكلمات على شفاهنا وتتكرَّر في حركة دوَّامية مُفرغة، وصولًا إلى درجة من التحجر.

هناك بالأعلى فوق الجليد الرقيق، خلال تلك الأسابيع التي قضيتُها في جرينلاند، أدركتُ معنى هذه «الكلمات الثقيلة». فكثيرًا ما كنت أجد صعوبةً لمنع الكلمات من الالتصاق في حَلْقي. بدت الكلماتُ بالحبر الأسود في دفتري بليدة، بطيئة كالقطران. لقد فقدَتْ الكتابة جدواها، وتخثرت لتُصبح بلا هدف، في عالَم جليدي غير مألوف وفي غير أوانه. وفي كثيرٍ من الأحيان كان من الأفضل عدم قول أي شيء، أو بالأحرى الاكتفاء بالمُراقبة، وليس محاولة الفهم. كان لديَّ ثورٌ من الأنثروبوسين على لساني الهولوسيني.

•••

نهبط إلى النتوء الشمالي الغربي للجبل في الظلِّ البارد للقِمَّة، وعندئذٍ تصيح هيلين إم.

وتقول: «انظروا! انظروا! هناك شُهب!»

كيف يمكن أن تكون هناك شُهب في وضَح النهار؟ أنظرُ إلى الوراء على القمة ثم أتوقَّفُ مُندهشًا. ترسم الشمسُ صورةً ظِلِّيةً للقمة، ويزخر الهواءُ الأزرق فوق الأسراب بالنقاط الفضية الصغيرة، التي تحوم وتنطلِق بنشاطٍ وهدف مُفعمَيْن بالحياة. هناك المئاتُ من هذه الأرواح المتلألئة، تختفي على الفور عندما تمرُّ في الظل وإلى خارج الضوء. نشاهدها جميعًا، مفتونين، لمدة دقيقة أو دقيقتَيْن. إنَّه أحد أروع وأغرب مشهدٍ رأيتُه في أي يومٍ من الأيام في الجبال، حيث تظهر هذه الشرارات الفضية المُستعرة، وهذه الشظايا النجمية المُتناثرة.

أدركنا لاحقًا أنه ربما كان ذلك الصفصاف الثلجي الأبيض، تلك الخصلات المُتقزِّمة من الصفصاف الأبيض التي تتساقط بذورها، التي كانت قد عصفت بها الرياحُ الشرقية وجرفتها لمسافة ٢٠٠٠ قدم من الوادي وفوق القمة، إلى حيث تُضيئها شمسُ القطب الشمالي القاسية من الخلف وتُضفي عليها اللون الفضي، وتجعلها الرياحُ القطبية الباردة تبدو كأنها ترقص.

نرجع على أعقابنا بأمانٍ إلى أسفل النهر الجليدي، ونفتح الأبواب التي مررْنا من خلالها في الطريق إلى الأعلى بترتيبٍ عكسي: الهُوَّات الجليدية، وحقل الشقوق، والتدحرج … نقفزُ واحدًا تلوَ الآخر، ونعودُ أخيرًا بضرباتٍ من جليد الخَطْم إلى الحصى الجليدي الناعم، الذي ظلَّ صامتًا تحت أقدامنا.

رجوعًا عبر الوادي بين الجلاميد، ووصولًا إلى شواطئ البحيرة، حيث تُثرثر طيور النورس مرةً أخرى في اهتياج.

في ذلك المساء في المُخيَّم، كانت الشمسُ عبر السهل منخفضة، وبيضاء ومشرقة، وتضرم المشهد الطبيعي. وتتوهَّج رءوسُ حشيش القطن كالمصابيح الكهربائية. كما تُومض الحزازيات باللون الأخضر. وتحمل كلُّ ورقةِ صفصاف، وكلُّ حصاة، وكلُّ جبل جليدي، شعاعًا من ضوء آخر النهار في ذلك اليوم.

يبدو الشفقُ القطبي في تلك الليلة كركامِ ضبابٍ أخضر، مُتدحرج، ومُندمج، ومُنحسِر. يظهر النجمُ الأول فوق النهر الجليدي، ثم لا تظهر نجوم أخرى، ثم تظهر بقية النجوم أسرع فأسرع.

نجلس معًا في صمتٍ مرة أخرى.

وبعد ساعة أو نحو ذلك، يتلاشى الشفقُ القطبي ويحترق مع طلوع القمر. يظهر البدر سريعًا على كتف القمة فوق مُخيَّمنا، كما لو كان يرتفع عن الجبل الجليدي الذي تسلَّقناه في ذلك اليوم. نُمرِّرُ المناظير فيما بيننا؛ حيث نرى القمر من خلال العدسات يكاد سطوعه لا تتحمله العين. يُمكننا أن نرى حلقات الفوهات البركانية، ومواقع الفوهات الصدمية، والبحار القمرية المنخفضة، والجبال القمرية العالية. يُضفي ضوءُه الأصفر، المستعار من الشمس، ظلالًا على الصخور والخيام وعلينا. أشعر بوحدةٍ شديدة، يصنعها ضوء القمر، الذي يفاجئُني بقوَّته.

يُفزعني صوت رعدٍ قادم من الجبل الجليدي في الساعة الثانية في تلك الليلة. فأخطو خارجًا من الخيمة.

تُدوِّي صيحاتٌ حادة من طيور المدروان في الظلام. لا يزال القمر ضخمًا وأصفر. وتُومض الأضواءُ الشمالية كستائر خضراء فوق الغطاء الجليدي، ويقودنا شفقٌ قُطبي شمالي واحد رجوعًا لأعلى وفوق القمة التي صعدناها.

يهدر النهر الجليدي مرة أخرى، على نحوٍ غير مفهوم، وتستغرق أصداء صوته عشرين ثانية حتى تتلاشى.

في صباح اليوم التالي، نستيقظ لنجِدَ المخيَّم وسط ضبابٍ أبيض كثيف، كما لو أنَّ الجليد عاد بين عشيةٍ وضحاها وغمَرَنا. تُزيِّن حبَّاتُ الندى خطوطَ أسلاك التعثر. ويحوم غراب فوقنا، لا نراه، وينعق.

بعد مُضي يومَيْن واجتياز قِمَّتَيْن، أنهينا التخييم وغادرنا نحو نهر كنود راسموسن الجليدي، بحثًا عن طاحونة جليدية تنخرُ في أعماقه الزرقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤