الفصل الرابع

مياه الذوبان الجليدي

(نهر كنود راسموسن الجليدي، جرينلاند)

نسمعُ صوتَ الطاحونة الجليدية قبل أن نراها: حيث كان يعلو صوت جعجعتها الخافت كلما اقتربنا منها أكثر، وهي تقبعُ في وادٍ غيرِ عميق، على مسيرة يومٍ واحدٍ باتجاه أعالي النهر الجليدي، حيث تتدفَّق باتجاهها ثلاثةُ مجارٍ من مياه الذوبان الجليدي، وهي تُشبه في منظرها ذاك دوَّاماتُ جزر لوفوتين إذ يعلوها الزَّبَد.

أدورُ حول الطاحونة الجليدية، محافظًا على بقائي بعيدًا عن حافتها بمسافةٍ آمنة، إلى الحد الذي يُمكنني معه رؤية أعمق نقطةٍ بداخلها، إنَّها بالتأكيد أكثر الأماكن التي نظرتُ إليها جمالًا ورعبًا على الإطلاق، فُوَّهَتُها بيضاوية الشكل، يبلُغ قطرها في أقصى اتساع لها اثني عشر قدمًا، وتتكوَّن جوانبها من الجليد الأزرق البرَّاق كالزجاج، ذات نتوءاتٍ صدفية في بعض الأماكن، تتجه عموديًّا إلى الأسفل من سطح النهر الجليدي كعمود بئر، وعند الوصول إلى عُمق عشرين قدمًا يتلاشى آخر بصيص للضوء، كما تتلاشى القدرة على الإبصار كذلك، يبدو أن الطاحونة الجليدية تخترق عُمق النهر الجليدي حتى تلتقي بصخور قاعه الصلبة، على عُمق مئات الأقدام، وينهمرُ من حافتها الغربية سيلٌ من مياه الذوبان الجليدي ليصبَّ في الفراغ.

نشعرُ جميعًا في ذلك اليوم بطريقة أو بأخرى بقوة السحب التي تمتلكها هذه الطاحونة؛ فهي تُؤثِّر في المشهد الطبيعي من حولِها كما تؤثر الدوَّامة في البحر، حيث يبدو أنَّ كلَّ شيءٍ ينجذب نحوَها، ففي وجودها المَهيب أشعرُ برغبةٍ تجتاح صدري تحثُّني على الاقتراب من حافتها أكثر فأكثر، إنَّ الطاحونة الجليدية حقيقية وقوية، وهي بوابةٌ تُتيح الوصول إلى الأرض الزرقاء المُمتدة تحت الجليد.

•••

وقبل سبعة أيام من العثور على الطاحونة الجليدية، نصلُ إلى نهر كنود راسموسن الجليدي. إنَّه ذو كتلة جليدية ضخمة للغاية حتى إنَّها تجعله ينفرد بطقسٍ خاص به.

لم يكن النهر الجليدي ظاهرًا للعيان بعد ظهيرة اليوم الذي وصلنا فيه، فقد كان مُختفيًا خلف ركام الضباب المُمتدِّ على طول المضيق، والذي يبلُغ عرضه ميلًا أو نحو ذلك؛ إلا أن ارتفاعه لا يتعدَّى بضعَ مئاتٍ من الأقدام. وتعلو ذلك الضباب سماءٌ زرقاء، ومن تحتها تمتدُّ المياه الزرقاء التي يحتضنها الجليدُ الأزرق من خلفها. وتُكثِّف الكتلة الباردة للجليد غير المرئي الهواءَ الرطب لتُكوِّن ذلك الضباب الذي يُخيِّم على الأرجاء.

لم يكن باستطاعتنا رؤية النهر الجليدي ولكن كان بإمكاننا سماع صوته بوضوح. يبدو نهر أبوسياجيك الجليدي أمام نهر كنود راسموسن الجليدي وكأنه شخصٌ ضعيف مُنطوٍ. تهادَى إلى سمعنا الهديرُ الأول بعد دقائق من وضْعِنا لأمتعتنا على حواف صخر النيس الصوَّاني حيث سنُقيم حتى فصل الخريف. أتى الضجيج دون تحذير عبر الكتلة الضبابية الكثيفة، فارتجَّت أجسادُنا كأنها أكياسٌ من الهُلام.

تقول هيلين حينما سمِعَت ذلك: «بُووم! مرحبًا بكم في نهر كنود راسموسن الجليدي. ها هنا يتحدَّث الجليد!»

كانت السماءُ فوقنا مُزركشةً بألوانٍ باهتة من درجات ألوان الطيف. إنها ألوانُ شعاع الشمس المُتكسِّر عبر بلورات الجليد المتناثرة في الجو في الجزء العلوي من طبقة التروبوسفير، على ارتفاع أربعة أو خمسة أميال رأسية فوقنا.

ودوَّى صوتُ انفجار آخر من خلف الضباب الكثيف.

لا يُمكننا رؤية النهر الجليدي ولكن يُمكننا الشعور به. إنه يُحيط نفسه بهَالة من البرودة، ما يؤدي إلى انخفاض درجة حرارة الهواء بمقدار خمس درجاتٍ أو أكثر، يبتعِد المكان الذي اخترناه للتخييم عن القشرة المُنهارة للنهر الجليدي بأكثر من ميل. ولكننا لا نزال داخل هَالة النهر الجليدي. خلال الأيام التي نقضيها في نهر كنود راسموسن الجليدي، نُصبح جليديين. ذلك حيث نشربُ الجليد، ونغتسل في الجليد، وننام على الجليد. يملأ الجليد آذاننا وأحلامنا وكلامنا. كما يملأ الماءَ والهواءَ والصخور. إننا نتماهَى مع الجليد حتى نَصير منه ويصير هو مِنَّا.

•••

يقودنا الطريقُ المُتجه إلى نهر كنود راسموسن الجليدي بعيدًا إلى شَمَال نهر أبوسياجيك الجليدي، ومنه إلى نظامٍ آخر من الأبعاد والأوزان. نجتازه عبر مضايق تُشبه الأخاديد العميقة، التي تصطفُّ حولها جدرانٌ مُغطاة بألواح من صخور النَّيس المُسنَّنة القمم بارتفاع آلاف الأقدام. وأرى هناك نوعًا من الصخور غير مألوف لي في هذه المنطقة: إنَّها صخور مُتفتِّتة، ذات حبيباتٍ خشنة، وفي لون الشوكولاتة، تُقسِّم صخور النيس إلى عروقٍ واسعة يصل عرضها إلى ١٠٠ ياردة، وتمتدُّ لمسافة أميال عبر القمة والوادي. يمكنك تتبع تلك الصخور التي تُشبه الأوردة عبر المشهد الطبيعي، متعقِّبًا إياها إلى النقطة التي تختفي عندها تحت مياه المضيق على أحد السواحل، ثم تراها تظهر من جديد على الجانب الآخر.

حتى في هذا المشهد الطبيعي الذي لا وجود لبشرٍ فيه، نجد أن الصراع البشري قد تركَ عليه بصمته. ففي وادٍ جانبي، في سفح قمة ترتفع مُكوِّنةً ذروةً مُتشعبة كأنها ذيل سمكة، نمرُّ على أطلال قاعدة أمريكية ترجع إلى فترة الحرب الباردة وقد هُجرت قبل نصف قرن من الزمان. يكسو الصدأ هيكلَ حظيرة الطائرات، التي انثنت عوارضها بفِعل الانهيارات الثلجية المتواترة في فصل الشتاء، وكان هناك جرار بكاسحة ثلج مُثبَّته فيه من الأمام، مغمور في التندرا الضحلة، والآلاف من براميل النفط المُتآكلة بفِعل الصدأ حتى إنَّ لونَها أصبح يميل إلى اللون البرتقالي، والتي وُضِعَت مُكدَّسة في قضبان مُعشَّقة أو مُصطَفَّة في صفوف مُتعرجة. إنها تنشر في الأرجاء رائحةً مثل رائحة المزارع السمكية، وتذكِّرني بعوَّامات الصيد الصَّدِئَة التي احتشدت على شواطئ موسكينيس في لوفوتين. اصطبغ كلُّ شيء اصطناعي في القاعدة بألوان التندرا، بدرجات ألوانها البرتقالية والبُنية والخضراء. تزدهر نباتات الأشنة والحزازيات في فتحات البِنية التحتية المُتهدِّمة المُموَّهة بألوان القطب الشَّمَالي.

على مدًى أبعدَ في الاتجاه المنحدِر نحو نفس المضيق البحري، وفي خليجٍ يُغذيه جدولٌ من المياه العَذبة، يرتفع هنالك جبلٌ جليدي في غاية الجمال. إنَّه يلمع مُتلألئًا في ضوء الشمس، وهو جبلٌ طويلٌ وغير شاهق، لا يرتفع لأكثر من خمسة عشر قدمًا فوق سطح المياه المظلمة التي تُحيط به. تنحني الحافة العلوية انحناءةً أنيقة، لكن ما يلفت الأنظار هي الأخاديد المنحوتة بعُمق في خاصرة الجبل، والتي تمتدُّ مستقيمة ومتوازية بعضها مع بعض، كما لو أنها تعرَّضَت للطَّرْق الممنهج المقصود. يتوهج كلُّ أخدود من تلك الأخاديد بدرجة مختلفة من ظلال اللون الأزرق. وفي المواضع التي تكون الأخاديد فيها ضحلة، يُحدِث الجليدُ نقرةً صغيرة في الماء، تُشبه في تكوُّنِها شكلَ اللحم المُلتئِم بعد الإصابة.

يتفرَّعُ المضيقُ البحري على شكل حرف واي بالإنجليزي، حيث يصير له ذراعان؛ إحداهُما تتجه إلى الشمال الشرقي، والأخرى تتجه إلى الشَّمَال مباشرة تقريبًا. وفي طريقنا لعبور فتحة المضيق في الذراع الشمالية، نرى من بعيد نهرًا جليديًّا، إنَّه نهر الكارالي، منحدرًا لأسفل باتجاه خط المَدِّ والجَزر. وإلى غربه، يظهر نهرٌ جليدي أصغر منه. وقد تراجعَ للخلف فوق الماء، وينتهي تحت قوسٍ جليدي أعتقدُ أنَّ عرضَه يبلغ عدة مئات من الأقدام. ويتوهَّج القوسُ بالضوء الأزرق للجليد القديم، ويتدفق منه مجرًى من مياه الذوبان الجليدي، التي تندفعُ باتجاه مصبِّها في البحر.

يقول مات: «خرجتُ أنا وجيو ذات مرةٍ من كلوسوك قاصدَيْن الكارالي، الذي بلغناه في غضون يومَيْن بواسطة زلَّاجة تجرُّها الكلاب. كنَّا نقطع ثمانين كيلومترًا يوميًّا، في ظروفٍ بائسة. كان الطقس فظيعًا، والجليدُ البحري عَطِنًا. وكثيرًا ما كنَّا نُضطر أنا أو جيو إلى الترجُّل من الزلَّاجة للتحقُّق من سُمك الجليد باستخدام حربة، ومن ثمَّ نُقرر العبور عليه أم لا.

سلَكنا الذراعَ الشَّمَالية الشرقية للمضيق البحري. وعندما اقتربنا من الكتلة الضبابية الموجودة في نهايته، لاحظنا ازدياد كثافة الماء بفِعل جرش من شظايا الجليد، كما لاحظنا انزلاقَ جبلٍ جليدي غريب باتجاه المجرى. وعلى بُعد ميلٍ من الكتلة الضبابية، وفي سفح قمةٍ ترتفع بالقُرب من حافة الماء، ووسط حقلٍ جلمودي من الصخر المجروف الشاحب، نجدُ أرضيةً مسطحة صالحة للتخييم. يجري فيها جدولٌ من حقلٍ ثلجي يُتيح لنا الحصول على المياه العذبة. وفي أعلى المُنحدَر، هناك كتلة عشبية نامية من عنب الأحراج بدأت ثمارها في النضوج. وفي أعلى المضيق من جهتنا، يرتفع جدارٌ شديد التحدُّر ينتهي بقمةٍ حادة كالمسمار المُلولَب له لون الشوكولاتة.

نحن على بُعد بضع يارداتٍ من حافة المضيق البحري، والصخور عبارة عن التفافاتٍ مُنحدرة وممتدَّة من صخور النيس، التي تمتدُّ لمئات الياردات على طول شاطئ المضيق، المزدهر بخطوط من معدنَي الكوارتزيت والميكا السوداء.

تنجرف الجبالُ الجليدية الزرقاء الصغيرة مُصدرةً أصوات طقطقاتٍ بعيدًا عن الشاطئ.

أقول: «أودُّ أن أموت وأُولَد من جديد على هيئة جلمود هنا. إنَّه واحدٌ من أكثر الأماكن الاستثنائية التي زُرتها على الإطلاق.»

يقول مات: «هذا سيكون مفيدًا لنا.»

•••

قبل الغسق بساعة، مساءَ يومِ وصولنا، تنقشِع الكتلة الضبابية لتكشف عن القشرة المنهارة لنهر كنود راسموسن الجليدي. تمرُّ القشرة عبر أعرض منطقةٍ في المضيق البحري، منعطفةً من الشاطئ الشرقي إلى نقطةٍ أمامية بزاوية حادة، ثم تتلاشى بعيدًا عن الأنظار باتجاه الغرب.

البحرُ حول جانب الانفصال للنهر الجليدي مصبوغٌ باللون البُنِّي بفِعل الطمي، في تبايُنٍ جميل مع اللون الأخضر اللَبَنِي للمياه الخارجية. ذلك حيث يتدفق الطمي لأعلى بفِعل مجاري مياه الذوبان الجليدي المُتدفقة بعيدًا عن الأنظار تحت سطح المضيق البحري. تتجمَّع الطيورُ على أكوام الطمي، مُتغذِّيةً على ما فيه من عناصر غذائية وفيرة. وهي مصدر القياس الوحيد على هذه المسافة، حيث تبدو صغيرةً كالذباب. تضطرب الطيور من حينٍ لآخر بالقرب من القشرة الجليدية المُنهارة، وتحوم وتختلط، ثم تعود لتستقرَّ على الماء. وبعد ذلك بحوالي عشر ثوانٍ أو اثنتَي عشرة ثانية، يتهادَى إلى مسامعنا ضجيجُ انهيارٍ خافِت.

يكشِف جانب الانفصال الجليدي عن مقطعٍ مُستعرَض لأعماق النهر الجليدي. ذلك حيث تنصدع الشقوق لأسفل لمسافة مئات الأقدام. ويُمكنني، من هناك، رؤية آبارٍ مُستديرة؛ وهي امتداداتٌ لمنظومة ذوبان الطاحونة الجليدية. كما يُمكنني أن أرى، حتى من هذه المسافة، التكوينات الرسوبية لطبقات الجليد. تتدرَّج طبقات الجليد من نطاقاتٍ أكثر بياضًا واتساعًا إلى نطاقاتٍ أكثر زرقةً ورقَّةً حتى تنتهي إلى نطاقاتٍ من الجليد الأزرق العديم الطبقات بعيدًا في الأسفل.

تُشبه قطع الجليد المندفعة من جانب الانفصال الجليدي مدينةً على الطراز القوطي المدفوعة في البحر. ذلك حيث تمتدُّ القلاعُ، وأبراجُ الحراسة، والمداخنُ، والكاتدرائياتُ، والتيجانُ، لتسقط على الحافة. كما تتحطَّم الأنفاق والأقبية والمقابر وتتحوَّل كلها إلى جبال جليدية. ويجعلني هذا أفكِّر في وزن الأجسام العلوية التي تظل تُضغَط لأسفل في مقبرة القديسين الأبرياء، حتى ينسحِق خلالها في النهاية رفات الموتى مُتحوِّلًا إلى المساحات الخالية حول فناء موقع الدفن.

تقول هيلين: «إنَّ القشرة المنهارة الناتجة عن انفصال النهر الجليدي هي المرحلة الأخيرة من حياة الجليد الذي سقط على صورة ثلجٍ في أعلى ذلك النهر في العصر الجليدي العظيم، منذ عشرات الآلاف من السنين.»

وكلما كانت القشرة المُنهارة حديثة العهد، كان الجليد أكثر زرقة. ولا تبدو علاماتُ التصدُّع هذه مثل نَدبةٍ بل كَشْفًا. هذا هو أولُ ضوء للشمس يراه الجليد منذ عشرات الآلاف من السنين.

يظهر عجلُ بحرٍ ذو حلقاتٍ بعيدًا عن الشاطئ، وينظر إلينا، ثم يغوص مُجددًا ويختفي في المياه الفيروزية. وهنا أتساءلُ: كيف يبدو حدثُ الانفصال الجليدي في نظر عجل البحر؟ تُرى كيف يبدو ذلك؟

يقول مات: «تُوجَد في الأرجاءِ هنا بعضُ الأنهار الجليدية التي من الواضح أنها فتَّاكة. فهناك نهرٌ لا يقترب منه سكانُ جزيرة كولوسوك؛ لأنه مشهور بعدائيته. وإذا اضطُرِرتَ يومًا إلى العبور بالقُرب منه، فلا تتحدَّث أو تأكل أو حتى تنظر إلى النهر الجليدي أثناء العبور؛ لأنه يتشعَّب بعيدًا أسفل خطِّ الماء لدرجةِ أنه يستطيع أن يقتلك من الأسفل دون سابق إنذار. إنَّهم يُسمُّون هذا بويتسوك؛ أي «الجليد القادِم من الأسفل».»

في الجانب المحجوب عن الرياح لأحد الجلاميد بأعلى المُخيَّم، وجدتُ مخبأً فسيحًا للآلاف من أوراق الصفصاف القزم المنفردة. إنَّها أوراقٌ هشَّة وذو لونٍ بُني داكن، تمتدُّ على عُمق ثلاث أو أربع بوصات. لا بدَّ أنها قد تراكَمت هناك منذ سنوات، وجمَعَتها الرياح، وتجمَّدت كلَّ شتاءٍ وذابت مُجددًا مع كلِّ صيف. لا تزال الخطوطُ الوريدية مرئية على كل ورقة. التقطتُ حَفنةً منها، وخشخشتُ بها بين أصابعي. إنَّها حادة المَلمس ولا وزنَ لها. ففي هذا الهواء الجاف، ومع نُدرة التربة السطحية، تتباطأ معدلات تلَف المواد العضوية. ويتحرَّك الزمنُ على نحوٍ مُتباين في هذا المشهد، من السرعة الكارثية المباغتة لأحداث الانفصال الجليدي إلى السرعة الصبورة المُتأنية لتراكُم الأوراق.

ينزلق جبلٌ جليدي أمامنا، على شكل إفريز منزل. يجثو على حَيْدِه سبعة عشر طائرًا من طيور النورس، تتَّجِه جميعُها في اتجاه الرياح.

•••

يُشبه العيشُ بجوار نهر كنود راسموسن الجليدي التحرُّك قُرب عاصفةٍ رعدية. وفي نهار كلِّ يوم نتسلَّق ونستكشِف المزيد من أرجاء المشهد الطبيعي حولنا. ونعود كلَّ مساءٍ إلى خيامنا بجوار النهر الجليدي. وخلال ذلك، يخورُ الجليد ويبكي ويدوِّي طوال النهار والليل. لا تُوجَد علاقة واضحة بين درجة حرارة الهواء ونشاط الانفصال الجليدي. تَصدُر بعضُ أعلى الزمجرات في سكون الليل، في أكثر الأوقات برودةً، وتُوقِظنا من نومنا خائفين، ظانِّين أنها أصوات الدِّببة القطبية.

يقول مات ذات صباح: «ألا تعتقد أن هذا أمر ديناميكي؟» يتدفق نهر هيلهايم الجليدي بالقرب من بلدة سيرمرسوك الآن في البحر بمعدل حوالي خمسة وثلاثين مترًا في اليوم. إنه أحدُ أسرع الأنهار الجليدية في العالَم.»

سُمِّي النهرُ الجليدي على اسم عالَم الموتى السُّفلي في الأساطير الاسكندنافية: هيلهايم؛ أي «عالَم الجحيم»، «المكان الخَفي»، المدفون تحت جذور شجرة إجدراسيل التي تربط العوالم. تضربُ كلمة «الجحيم» التي نستخدمها، مثلها مثل الكلمة الأيسلندية «هيلفيتي»، بأصولها في أعماق تاريخ اللُّغة؛ فهي مُشتَقة من اللفظة الجرمانية البدائية المُعاد صياغتها إكساليو أو هاليو، وتعني «العالَم السفلي»، «المكان المَخفِي»، وهي نفسها مشتقة من جذر هندي أوروبي بدائيكيل- أوكول-، والذي يعني في الوقت نفسه «يغطي»، و«يخفي»، و«يحفظ».

تتراجع بعضُ الأنهار الجليدية عند ذوبانها في أنحاء جرينلاند، بينما يتزايد معدل تدفُّق أنهار أخرى، ما يؤدي إلى تناقُص الجليد في طبقاته العُليا. وتُشير التقديرات إلى أن الغطاء الجليدي المتناقص في سُمكه قد فقدَ حوالي تريليون طن (صافي) خلال السنوات الأربع الأخيرة وحدَها. ونظرًا لكونه زلِقًا بفِعل الطواحين الجليدية، فإن مزيدًا من أطنان الجليد ومياه الذوبان تتدفَّق في المضايق والمحيط الخارجي، ما يُساهم في ارتفاع مستويات البحار حول العالَم، وتزايُدها على نحوٍ مُطرد.

في صباح يومِ راحةٍ حار، أستلقي على ألواح النيس حيث تمتدُّ في خط المَدِّ والجَزر، وأشاهدُ الجليد بنظرةٍ فاحصة مُترقِّبة، على أمل أن أرى حدث انفصالٍ جليدي بدلًا من مجرد سماع ما يعقب ذلك من آثار. لكن لا شيءَ يحدُث في ذلك الصباح. فأغمض عينيَّ وأُنصِتُ إلى المشهد الطبيعي، إنصاتًا قلَّما قمتُ به، مُفسِحًا المجال أمام كل صوتٍ كي يصدر ويتفرَّد بنفسه عن النسيج كخيطٍ لامع، في محاولةٍ لاستنتاج مصدره من خلال صوته. أحاولُ سماع الأغنية القادمة من الأسفل لهذا المشهد الطبيعي، الأصواتُ المُركَّزة لمكانٍ معيَّن، الهمهمة المُحيطة التي غالبًا ما تكون غيرَ مسموعة أو على الأقل لا يُنصَت إليها.

لا يُمكننا أن نرى الأمور المتوارية عنَّا، لكن يُمكننا أن نسمعها. إنَّ أصواتها تتهادَى إلى مسامعنا من جميع الاتجاهات.

إنَّها صيحات النورس الصاخبة.

وطقطقة الجبال الجليدية المدفوعة إلى الشاطئ على خط المَدِّ والجَزر القريب، حيث يُكثِّف دفءُ الشمس فقاعاتِ الهواء القديمة.

والخشخشة التي تُشبه خشخشة الأواني الفخارية التي تصدرها شظايا الجليد في الماء، وصوتُ الارتطام القوي للجليد الطيني نصف الذائب عندما يندفعُ في مجرى المياه المقابل، والصوت المتخبط لقبقبة جبل جليدي أكبر يتدحرج بينما يُغيِّر الذوبان أو التيار وزنه.

ينهمِر شلالٌ على الجانب الأقصى من المضيق، مُتساقطًا من مسقطٍ مُرتفع، مع سماع صوت انهمار مُنتظم، كصوت الذرة عند انسكابها من القادوس.

في خلفية هذا كلِّه، وفي خلفية الأغنية القادمة من الأسفل، نسمع صوتًا متواصلًا، كالضوضاءِ البيضاء التي لا أستطيعُ تمييزها بأذني البشرية، همساتٌ أو همهماتٌ بعيدة تجعل أخفَتَ الأصواتِ مسموعة.

يشقُّ دويُّ طلقٍ ناري مفاجئ حاجز الصمت. انطلقت رصاصة مُحدِثةً تردداتٍ وأصداءً مُدوية عبر جدران المضيق البحري ومياهه. يُصيبني شيءٌ من الهلع يجعلني أنتفض. إنَّه مات واقفًا على صخرة على حافة ماء النهر. هناك حيث يُطلِق اثنَيْن من الأعيرة النارية من كل بندقية باتجاه المضيق البحري كإجراءٍ اعتيادي لتنظيف فُوَّهتيهما. يُطلق النار مرةً ثم مرتَيْن. ويهتز كَتفُه للوراء مع كل ارتداد. ويتناثر رذاذٌ من الماءِ لأعلى كما لو أنَّ سمكةً كبيرة قد اخترقته. صوتُ الأعيرة النارية مُدوٍّ على نحوٍ مروع. ويستغرق صوتُ كل لقطة خمس عشرة ثانية أو عشرين ثانية ليتبدَّد عبر الآفاق.

•••

كان ذلك بعد ظهيرة ذلك اليوم عندما كنا جميعًا مجتمعين معًا، واقفين بالقرب من خيامنا نتحدَّث بكلامٍ غير ذي أهمية، ونستمتع في خمول وتكاسُل بيوم الراحة.

عندئذٍ، راعنا صوت فرقعةٍ كإطلاق النار، أو كصوت ضربة سوطٍ سَرت عبر المضيق البحري وتردَّد صداها عبر جنبات الجبال.

أتساءل: «أتُراه يكون أحد الصيادين؟»

لكنه لم يكن صيادًا، بل كان النهرَ الجليدي وصوتَ التصدُّع الذي يُميِّز انهيار كتلة من الجليد بحجم حافلة من أعلى جانب الانفصال الجليدي. لم نرَها وهي تنهار، لكننا رأيناها تندفع مرةً أخرى لأعلى وتتمايل.

ولولا انتباهنا لذلك الحدث الثانوي، لربما كان قد فاتنا ما تبِعَهُ، وهو حدثٌ، على حد تعبير هيلين لاحقًا، «نادرًا ما يحدث على مرأى الأبصار.»

وبينما كنَّا نشاهد ذلك المنظر المهيب، صاحَ بيل: «انظروا هناك!» حيث سقطت إحدى الكتل الجليدية أولًا، والتي بدت وكأنها قطار شحنٍ أبيض ينحدِر سريعًا من جانب الانفصال للنهر الجليدي، هادرًا وهو يسقط أفقيًّا عبر الفضاء قبل أن ينقلب نحو الماء، ساحبًا خلفه على نحوٍ مُباغِتٍ سلسلةً من الكتل الجليدية التي تُشبه عربات قطار بيضاء مُنطلِقةً من داخل النهر الجليدي، يبدو المنظر وكأنه خدعة سحرية لا يُصدِّقها العقل، ثم تتبع العرباتِ البيضاء كتلة على شكل كاتدرائية — كاتدرائية زرقاء من الجليد، بكامل أبراجها ودعائمها، وكلُّها مُرتبطة معًا في صرحٍ واحد غير طبيعي ينهار جانبيًّا — ثم تتبع الكاتدرائيةَ مدينةٌ كاملة باللونَيْن الأبيض والأزرق، بينما نصيح ونتراجع على نحوٍ لا إرادي من قوة الحدث، على الرغم من أن ذلك يحدث على بُعد ميلٍ منَّا، وينادي كلٌّ منا على الآخر في صمت قبل أن يصِلنا الصوت الهادر، مع أننا لا نبتعد عن بعضنا أكثر من بضع ياردات فقط، ثم تنهار مئات الآلاف من الأطنان من هذه المدينة الجليدية برمَّتها في مياه المضيق البحري، ما يؤدي إلى ظهور موجةِ ارتطامٍ هائلة بارتفاع أربعين أو خمسين قدمًا.

ثم يحدُث شيءٌ فظيع، في موضع المياه التي سقطت فيها المدينة هناك — يبدو من حيث نقف — إلى اليمين من أعلى جانب الانفصال الجليدي نفسه، حيث يخرج هرمٌ أسود لامع، ذو مقدمة مُدبَّبة، مُندفعًا ومتلألئًا، يبدو أنه مكوَّن من مادة جليدية ولكنها لا تُشبه أي جليدٍ رأيناه من قبل؛ فهو يُشبه حسب ما أرى شكلًا من أشكال المعادن النيزكية، قادمًا من فتراتٍ زمنية سحيقة حتى إنَّ كلَّ ألوانه قد زالت بفِعل الزمن، وتنتابنا حالةٌ من الرقص والسباب والصراخ، في مزيج من الرعب والتشوُّق إلى رؤية هذا الشيء القبيح الساحر وهو يظهر أمامنا رغم أنه يجب ألا يظهر أبدًا على السطح، هذا الجبل الجليدي الساقِط من النجوم الذي استغرق حوالي ثلاث دقائق و١٠٠ ألف سنة حتى ظهر إلى السطح.

وبعد عشرين دقيقة، استعادَ المضيقُ هدوءَه مرة أخرى.

يتدفق تيار الماء الجاري برفق عبر القنوات الصخرية. ذلك حيث ينسابُ مترقرِقًا خلال صخور النيس، بينما تتردَّد أصواتُ طقطقات الجليد الذائب، مع تلألؤ الشمس على حواف صفحات المياه، ونقرات عشب السعادى وهو يتجاوب مع الرياح.

ما كان يجب أن يحدث هذا الحدث الغاضِب.

استقرَّ الجبلُ الجليدي في الماء كلوحٍ أزرق مائل، وشغل مئات الأقدام المُربعة في المنطقة. تهبط النوارس بالعشرات على هذه الأرض الجديدة، تهز أجنحتها، وتُثني ساقًا واحدة لأعلى إلى ريش صدورها للتدفئة، والاحتماء من البرودة.

أُخيف أحدُ طيور الدريجة البيضاء، فيخرج من ثنيات صخر النيس البرونزي.

في اليوم التالي عند خطِّ المَدِّ، أجد جبلًا جليديًّا بالغ الصغر، وهو مُستدير وذو لونٍ أزرقَ داكنٍ، محصورًا في بِركة تحوطها الصخور. إنَّه من بقايا النجم المظلم. تمكَّنتُ من رفعه بصعوبة. أمسكتُ به بين ذراعي، واحتضنتُه، ثم ناديتُ على الآخرين. إنه يُخدِّر يدي وصدري. فهو أثقل بكثيرٍ مما يبدو عليه. تعثرتُ وأنا أصعدُ به باتجاه المُخيَّم ثم وضعته فوق صخرةٍ بجوار الخيام.

تخترقه أشعة الشمس. وتظهر فقاعاتُ الهواء بداخله كقطع الفضة: ثقوبٌ دودية، وانحناءاتٌ قائمة الزاوية، وتعرجاتٌ مُذهلة، وطبقاتٌ حادة.

في تلك الليلة، جاء ثعلبٌ قُطبي إلى مُخيمنا، كأنه ظلٌّ أزرق لعوب.

استغرقَ ذوبانُ الجبل الجليدي الصغير يومَيْن. ولكنه خلَّف وراءه رقعةً لا تزول على الصخر الداكن.

•••

استعصى الجليد، مِثله في ذلك مثل النفط، على محاولات تصنيفه ضمن فئات المادة المعروفة لدَينا. إنَّه ينزلق، وينحدِر، ولا يبقى ساكنًا. إنَّه يخلط بين المفاهيم، ويعوق محاولات وضع تعريف له. في ستينيات القرن التاسع عشر، عندما ظهر عِلمُ الجليد، كَثُرَ الجدلُ حول الأنهار الجليدية بسبب الخلاف الذي ظهر حول فئة المادة التي يجب تصنيف الجليد تحتها: مادة سائلة، أم صلبة، أم نوع آخر من المواد شِبه الغروانية.

من غير المُستغرب أن يستعصي الجليدُ على عادة الإنسان في توليد معانٍ ومفاهيم واحدة للأشياء؛ لأن الجليد مُتغيِّر الشكل والحالة. فهو يطير، ويسبح، ويتدفَّق. ويُغيِّر لونه كالحرباء. وتتجمَّع بلُّوراته على ارتفاع ٣٠٠٠٠ قدم مُكوِّنةً هالاتٍ وشموسًا زائفة تتلألأ حول الشمس والقمر. ثم يتساقط الجليدُ في صورة ثلجٍ وبَرَد ومطر مُتجمِّد؛ حيث يتبلور كالريش ويلمع كالمرآة. ويكون بالقوة التي تجعله يمحو سلاسل جبلية، وبالرقة الكافية ليحافظ على فقاعات الهواء لآلاف السنين، ويحافظ على جسمٍ بشريٍّ سليمًا لعدة قرون. إنه يصمت، ويُصرصر، ويدوِّي. إنَّه يشحذ البصر ويخلق السراب.

إننا ننظر الآن إلى الجليد باعتباره مادةً حيَّة جديدة. فعلى مدى عدة قرون، كان التصوُّر التقليدي للمناطق القطبية أنها مناطق جامدة: «النفايات المجمدة» للشَّمَال والجنوب. أمَّا الآن، وفي سياق الوضع الحالي لكوكبٍ يُعاني الاحترارَ، أصبح الجليد نشطًا مرةً أخرى في خيالنا وفي المشاهد الطبيعية. ذلك حيث بدأ القطبان «المُتجمِّدان» في الذوبان، وعواقب ذوبانهما ستَعمُّ العالَم بأسره. يُترجَم الاصطلاح الروسي вечная мерзлота إلى «أرض دائمة التجمُّد»، ولكن الاسم يبدو غير مناسِب على نحوٍ متزايد. فقد أصبحت الآن جرينلاند والقارة القطبية الجنوبية والقطب الشمالي الآن مناطق بالِغة الأهمية، حيث سيُشكِّل قَدَرُ الجليد ومصيرُه مستقبلَ الكوكب.
اعتدنا أن نستخدم مصطلح glacial pace؛ أي «وتيرة بطيئة للغاية»، لنقصد به الحركة البطيئة للغاية إلى الحَدِّ الذي يقترب من السكون، وهو مصطلحٌ مُشتَق من كلمة glacia التي تعني الجليد، إشارةً إلى الجمود. أمَّا الآن، فالأنهار الجليدية تتدفَّق وتنحسِر وتضمحل. ويُهدِّد انحسار الأنهار الجليدية في الهيمالايا سُبُل العيش والحياة لأكثر من مليار شخص في آسيا، يعتمدون على الماء الذي يُخزَّن عبر هذه الأنهار الجليدية ثم يعود ليتدفق موسميًّا. كما ينفصل الغطاءُ الجليدي في غرب القارة القطبية الجنوبية ويتفكَّك إلى جبال جليدية وأغطية تنجرف على نحوٍ خارجٍ عن السيطرة. ويعجز رسم الخرائط عن مواكبة السرعة التي يتقلَّص بها الجليدُ البحري. كما لا يمكن لصُنَّاع مُجسَّمات الكرات الأرضية الاستمرار في تغطية مجسَّماتهم الكروية بثقةٍ باللَّون الأبيض. أصبح الجليدُ مُلوَّثًا، وفقًا لتعريف ماري دوجلاس الشهير للتلوث بأنه «مادة في غير موضعها».

في ثقافات السكان الأصليين الذين يعيشون في تأقلُم وترابط وثيقٍ مع الجليد، كان هناك دائمًا كيانٌ غامض، وكانت القصص التي تُروى عن الأنهار الجليدية غالبًا ما تجعل الحدودَ بين النشاط البشري وغير البشري غير واضحة. تظهر الأنهارُ الجليدية في هذه القصص كما لو كانت أشخاصًا فاعلة، ذات وعيٍ وهدف، لطيفة أحيانًا وخبيثة أحيانًا أخرى. في التقاليد المَرويَّة لأثاباسكان وتلينجيت في جنوب غرب ألاسكا، على سبيل المثال، كما وثَّقَت عالِمة الأنثروبولوجيا جولي كروكشانك، تُعتبر الأنهار الجليدية «حيَّة (حُبِيَت هِبةُ الحياة) وإحيائية (مانحة للحياة) للمشاهد الطبيعية التي تسكنها.» ووفقًا للُغات هذه المنطقة، هناك أفعال خاصة تُشير إلى القوة الحَيَّة لما يمكن تصنيفه في اللغة الإنجليزية على أنه حضورٌ سلبي للمشهد الطبيعي. هذه الأفعال تُقِرُّ للجليد أفعالَه، وحيويته، وقدراته على التصرُّف. يُشير علماءُ الأنثروبولوجيا اللغوية إلى التأثير «الإحيائي» لمثل هذه الأفعال: الإقرار العميق ببيئةٍ واعية تستمع وتتحدَّث، ما يُذكِّرنا برغبة روبن وول كيميرر في وجود «قواعد نحوية للعاقلية»، التي قد تُقِرُّ استقلالية الحياة النباتية.

على مدى سنوات سفري على الأنهار الجليدية أو بالقُرب منها، أقرأ عشرات القصص المُترجَمة عن الأنهار الجليدية والجليد من منظور ثقافات السكَّان الأصليين الشماليين. يُعنى كثيرٌ منها بعالَم الأرض السفلية الخطِر للجليد، مملكةٌ قد يهلك المرءُ حال الغَوص في أعماقها. تروي قصةٌ واسعة الانتشار، مع بعض الاختلافات حسب كل منطقة، عن مسافِرٍ «يسقط خلال الجليد» (إما من خلال الجليد البحري الرقيق أو في شق)، ويظن الناس أنه مات، ولكنه يعود إلى السطح من جديد قادمًا من هذا العالَم السفلي، حاملًا معه حكاياتٍ عن رُؤًى وشدائد ومحاولات شاقَّة للبقاء. يكاد يكون هو ذاته تسلسل الأحداث والموضوعات التي تتكرَّر في أشهر قصص الأنهار الجليدية الغربية الحديثة عن الأرض السفلية في كتاب «لمس الفراغ» لجو سيمبسون. ذلك حيث تتعلَّق كلُّ هذه القصص بالحدث الإعجازي الخارق لقيام المَوتى من الأعماق. لقد شهدنا «ظهورنا» على السطح في يوم انفصال النهر الجليدي، باستثناء أنَّ الجليد نفسه، وليس أيًّا منَّا، عادَ إلى النور قادمًا من الأعماق.

في الأيام التي تلت الانفصال الجليدي، شغلتني ردودُ أفعالنا تجاهها ورُحت أُفكِّر فيها كثيرًا؛ أعني الطريقة التي تحوَّلت بها صيحاتُنا من رهبةٍ إلى شيءٍ كالرُّعب، عندما ترنَّح ذلك الهرمُ الأسود اللامع لأعلى مُنبثقًا خارج الماء، والبحر يتدفَّق منه. اضطربت معدتي أيضًا عندما ظهرَ الجليد، وحلَّت محل الرهبة استجابةٌ أكثر عمقًا تجاه هذا المشهد الذي لا ينتمي إلى هذا العالَم. كثيرًا ما كنتُ أشعرُ بحالةٍ من عدم الاكتراث بما تتكوَّن منه الجبالُ، ولكني وجدتُها مُبهجة. غير أنَّ الجليدَ الأسود قد كشفَ عن شكلٍ آخر من أشكال الشذوذ في المشهد، شذوذ مفرط للغاية لدرجةٍ تُسبِّب الغثيان. أطلقَ كامو على هذه الخاصية من خصائص المادة اسم «الكثافة». وعند تعرُّضه إلى المادة في أشكالها الخام، كتبَ يقول «غرابتها تتسلَّل بداخلنا»:

مُدركين أنَّ العالَم «كثيف»، ومُستشعِرين إلى أي درجة، الحجر غريبٌ ويتعذَّر علينا ردُّه، وإلى أي درجة يمكن للطبيعة أو المشهد الطبيعي تجاهلنا. في قلب كل جمال يكمُن شيءٌ غير إنساني … تستيقظ العدائية البدائية للعالَم لتُواجِهنا عبر آلاف السنين … كثافة هذا العالَم وغرابته تستعصيان على التصديق.

لقد رأيتُ نسخة من تلك «الكثافة» — تلك «العَبثية» — في جرينلاند بدرجةٍ كانت جديدة بالنسبة إليَّ. ففي هذه المنطقة، نُحِّيَت اللغة جانبًا بفِعل المادة. ترك الجليدُ اللُّغةَ على ساحله. واستعصت الأشياءُ على توصيفها. وأصبح الجليدُ عصيًّا على المعاني، وكذلك الصخور والضوء؛ ومن ثمَّ أضحى هذا عالمًا غريبًا، بالمعنى القديم والقوي للغرابة؛ حيث لا يمكن التعبير عن الأرض بالمُصطلحات أو الصيغ البشرية. تذكَّرتُ ميرلين، وفطرياته ومملكته الرمادية المدفونة، تلك الأرض السفلية المُرتجفة والزلِقة التي ساعدَني على النظر من خلالها.

كانت جرينلاند مكانًا تتسرَّب فيه المادةُ عبر حُجبٍ مُعتادة. وعندما حدث انهيار النجم الأسود، تحوَّل التسرُّب إلى سيل. ولاحقًا، سأُصادفُ هذا السيل مرة أخرى، بعيدًا بالأسفل في الضوء الأزرق للطاحونة الجليدية.

•••

يحين أوانُ أيام التسلُّق الكبيرة للأنهار والقمم الجليدية وينقضي. وتتحوَّل أوراق الصفصاف من اللَّون الأصفر إلى البرتقالي. وذات صباح، نُغادر خيامنا بحثًا عن الصقيع الأول، الذي تجعل تجاويفُه الأرضَ تتلألأ.

نحاول تسلُّق الجبل المجهول الاسم، الرابض خلف المخيم. يبدو منظره من الأسفل كأنه سطح بلاطة أملس، ويبلُغ ارتفاعه آلاف الأقدام. ولكن، يتَّضح بعد ذلك أنه أكثر تعقيدًا؛ فهو غنيٌّ بالسِّمات التي لا تراها من أسفله. ففي قلبه دارة جليدية. وله كَتِفَان للخلف، يتخلَّلهما العديدُ من البحيرات الصغيرة والحقول الثلجية الدائمة.

نتسلقه بسبع مسافات تسلُّق على مدار سبع ساعات، وتتصدَّر هيلين إم بقوة، مع التدافُع وانتقاء الطرق على أرضٍ أَنْعَم بين مسافات التسلُّق. في الممرَّات الضيقة المُغلقة وعلى الألواح، لا أشعر بأي قدْرٍ من الجرأة. وعلى الحيود، يعتصر الخوفُ قلبي.

إنَّ الحَيد ذا النتوءات الخماسية للقمَّة عبارة عن صخرةٍ ذهبية نظيفة، وبالنظر منها لأعلى ولأسفل يُمكننا أن نرى دارةً جليدية ضخمة على شكل حدوة حصان إلى شرقها. تُحيط بالدارة جبال حادة وتتوسَّطها واجهة ذات كتلةٍ جليدية ضخمة مُنهارة، جدار بارتفاع ٦٠٠ قدم يُسقِط حطامًا جليديًّا باللون الأزرق المُخضر كلون النعناع على حقل الثلج بالأسفل. وترتفع رياحٌ شديدة البرودة من الدارة، تجعلني أشعرُ بالخوف.

يقود مات مسافة التسلق الأخيرة: صَفٌّ عمودي من الصخور الباردة والثابتة، التي نعبُر فوقها ونستلقي فوقها واحدةً تلو الأخرى. تنهار واجهة الدارة ثلاث مرات أثناء تسلُّقنا، ودوِيُّ أصوات طاحنة يُسمَع من جنبات الدارة. ومن القمة، يُمكننا أن نرى نهر كنود راسموسن الجليدي على مسافةٍ بعيدة. إنَّه يبدو من هنا كبحرٍ جليدي أكثر من كونه نهرًا جليديًّا، حيث يغمر القِممَ المُحيطة به.

نعكسُ مسارَ القمة بأيادٍ باردة. وتحوم سُحبٌ عَدَسِية فوق قِمم الكارالي. وتقترِب طليعتُها. وفي وقت متأخِّر من النهار، تُشرق الشمسُ بأشعةٍ ذهبية مائلة، وتضيء خلفية الجبال الجليدية الكبيرة في المضيق البحري أسفلَنا، فتلمع كأحجار الأوبال.

نجلس معًا في ذلك المساء مُرهَقَين ومُؤتنِسَين. إنَّه وقتُ المَشارف والبشائر. الغسق، أوائل شهر سبتمبر، أسفل الدائرة القطبية الشمالية مباشرةً، بجانب نهر جليدي على خطِّ المَدِّ والجَزر في شرق جرينلاند. مَشارف اليوم، ومَشارف المواسم، ومَشارف الكرة الأرضية، ومَشارف اليابسة. يأتي الثعلبُ القُطبي مرةً أخرى إلى المُخيَّم، ويبقى في الظلال حيث يظهر بلَونٍ فضي مائل إلى الزُّرْقَة.

نبقى في الخارج لوقتٍ مُتأخِّر. ويتجمَّع آخر ضوءٍ على مياه المضيق البحري، وعلى حواشي وحواف الجبال الجليدية، وعلى راقات الكوارتز في صخور النيس. يُحدِّد الشفقُ مشهدًا طبيعيًّا بتفاصيلَ مُضاءَةٍ بدقة، ولكنه أيضًا يُشتته. تزول الروابط بين الأشياء، حتى يحدث هذا التحوُّل في الشكل. وفي الدقائق الأخيرة قبل حلول عَتمة الليل المُطبقة، أعاني هلوسةً قوية، حيث بدأت عيناي المُتعَبة ترى كلَّ صخرةٍ شاحبة حول خيمتنا على أنها دبٌّ قُطبي، رابض استعدادًا للانقضاض علينا.

يُوقظني صوتُ انهيارٍ ضخم في تلك الليلة. وبعدها بدقائق، ترتفع الأمواج فوق صخور الخط الساحلي.

وفي صباح اليوم التالي، وجدْنا تِسعَ قِطَع جليدية — في حجم الإنسان — تجوب خليجنا بين عشيةٍ وضُحاها وتستقر على الشاطئ. وتطقطق أثناء ذوبانها في صوتٍ أشبه بدقات الساعة مُعلِنةً عن تمام التاسعة.

•••

نُغادر مبكرًا في اليوم اللاحِق، حاملين حقائب ثقيلة على ظهورنا: معداتٌ تكفي لمسيرة سفر بعيدٍ يستغرق عدة أيام. نتَّجِه نحو الداخل، على طول النهر الجليدي، لإقامة مُخيم انطلاق بعيدًا عن نهر كنود راسموسن الجليدي، نستخدمه كنقطة ارتكاز لاستكشاف القِمَم والممرَّات البعيدة في الداخل.

نُريد أيضًا البحث عن طاحونة جليدية واسعة بما يكفي للنزول إليها.

سوف نصِل إلى النهر الجليدي عبر مُخلَّفاته الصخرية، ونعبُر من خلال جليدٍ مُمزَّق وصلب فوق جانب الانفصال الجليدي، ثم نَسلُك طريقَ الثلج المسطح في مركز النهر الجليدي، والذي يُمكِننا من خلاله أن نُحرز تقدمًا جيدًا. كانت تلك هي الخطة على أبسط تقدير. وبعد ذلك سيصف مات ما يُقابلنا في كنود راسموسن باعتباره «أرضًا شديدة الانفجار». بينما سأفكِّر فيها باعتبارها متاهة. إنَّها تجعل متاهات الشقوق في أبوسياجيك تبدو كأُحجية الأطفال، وتجعل ما خلفها يبدو ككائن المينوتور الأسطوري.

نسير على شاطئ المضيق البحري حتى نبلُغ جانب الانهيار الجليدي، ثم نشقُّ طريقنا فوق مُنحدرات عنب الأحراج والصفصاف حتى نلتقيَ بمنحدر الركام الجانبي، وهو جدارٌ من الأنقاض التي جُرِفت إلى جانب الوادي بجانب النهر الجليدي باتجاه البحر.

إنَّ أيَّ حقلٍ من الجلاميد المُنحدرة انحدارًا حادًّا لهو مكانٌ محفوف بالمخاطر. أعرف شخصًا لقي مصرعه في مُنحدر من الجلاميد في جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية، عندما كان يقترب من قمةٍ ثُنائية السطوح، حيث كان ينوي تسلُّقها بمُفرده. ولكنه لم يصل حتى إلى سفح القمة؛ فأثناء صعوده منطقة الجلاميد، تسبَّب في قلقلة صفيحةٍ ضخمة من الصخور، والتي انزلقت عليه مُخترقة خصره، فسحقَت منطقة الحَوْض، وسريعًا ما أوقعته في شراكها.

ومِن ثمَّ، يتعيَّن عليك — عندما تمشي على مُنحدر مُثقَل بالركام — أن تمشي مِشيَةَ قِط. ويجب أن تنتبه جيدًا إلى ألا تُزيح شيئًا، ولا حتى حَبَّة كوارتز. ينبغي أن تتحرَّك بلُطف. ولا بدَّ أن تواصِل سَيرك بخطواتٍ ناعمة، مع وضع ضَرَّتي القدَمَين أولًا، دون الوكز بالعقب، مع شَدِّ الساق. ولا تشدَّ صخرةً أبدًا بيدِك، بل اضغط براحة يدِك أو أطراف أصابعك بحيث تُثبِّت أي قوة يبذلها الصخر في موضعها. ولا تطأ أبدًا بكامل وزن قدَمَيك على جلمودٍ دون اختباره أولًا. ولا تتحرَّك أبدًا عندما يكون هناك شخص خلفك مباشرةً على خط الهبوط. ولا تضع أبدًا قدمك أو ذراعك في فجوةٍ بين الصخور، في حال سقوط الجزء العلوي. فقصبات الساق والسواعد تنكسر بسهولةٍ في فكِّ الحَجر.

صعدنا واجهة الركام بأمان، كأربع قططٍ تمشي في صفٍّ واحد، بينما كنتُ مثل ثورٍ أخرق يتبعهم. من أعلى نقطة في كتف الجبل، يُمكننا أن نرى أعلى النهر الجليدي والمساحة على امتداده، وخلفنا في الأسفل نرى جانب الانفصال الجليدي. من هذه المسافة القريبة، نشعر بحجم القشرة المنهارة. إنه جُرف بحري. تبدو فيه النوارس كالمُتزلِّجين على البحيرات عند مدخل الوادي الصخري.

من هناك، نختبر بمعاول التسلُّق في حذَرٍ الجانبَ البعيد من الركام، حيث الجلاميد بحجم المكاتب التي تتأرجح وتُدمدِم أسفل أقدامنا عندما نحمل عليها أوزاننا، وفي النهاية نتقدَّم واحدًا تلوَ الآخر على الحافة الزجاجية السوداء التي يلتقي فيها النهرُ الجليدي بالركام، ومن هناك نتسلَّق لأعلى فوق الكُتَل المُتدحرجة كالأمواج لنهر كنود راسموسن الجليدي نفسه.

لقد خلَّف الليلُ طبقاتٍ رقيقةً من الجليد فوق المياه الراكدة في البِرَك. يُصدِر هذا الجليد الرقيق خشخشة عند تكسُّره. والنهرُ الجليدي عبارة عن بحرٍ مُتجمِّد، ولكنه بالهدوء الذي يجعلنا لا نحتاج إلى الحِبال أو الكلَّابات.

إنَّه يمتدُّ لمسافة نصف ميلٍ داخل البحر، حيث يُصبح أكثر عصفًا. ترتفع الكتل المتدحرجة كالموج من الجليد، وتُصبح أكثر حِدَّة في خطوطها الكونتورية؛ إذ تبدو كظهور الخنازير أكثر منها ككتلٍ مُتدحرجة، ثم كزعانف سمك القرش أكثر منها كظهور الخنازير. نتسلق مَربوطين بالحِبال، ومعنا الفئوس، والكلَّابات. والآن، باتت عواقبُ الانزلاق أو التعثُّر وخيمة. تَقدَّمنا ببطءٍ؛ لأن مات كان مُستغرقًا في فحصه ليجد طريقًا عبر متاهة الصدع. ويَقلُّ حديثُنا.

تتصدَّع الشقوق من حولنا، بعُمق بضعة أقدام فقط في البداية، ثم سرعان ما تزداد عمقًا لتصِل إلى عشرين، أو ثلاثين، أو خمسين قدمًا، إلى عددٍ لا يُحصى من الأقدام. وتتغيَّر الألوان. فيُصبح الجليد السطحي أكثر بياضًا مما هو عليه عند المصب. وتتوهَّج الشقوق بدرجاتٍ من اللون الأزرق السماوي الذي لا ينتمي لهذا العالَم الذي رأيناه على نهر أبوسياجيك. اللونُ الأزرق هنا أكثر حِدَّة، وأكثر إشراقًا، وأكثر قِدمًا.

يرجع السبب في لون الجليد الأزرق إلى أنه عندما يمرُّ شعاعٌ من الضوء خلاله، فإنه يصطدم بالبنية البلورية للجليد وينحرف، مُرتدًّا إلى مكان بلور آخر، وينحرف مرة أخرى، ويرتد إلى آخر، وآخر، ويستمر هكذا في الارتداد حتى يصل إلى العين. ومن ثمَّ يقطع الضوءُ المار من خلال الجليد مسافةً أبعد بكثير من مسافة الخط المُستقيم التي يقطعها إلى العين. وعلى طول الطريق، يُمتَصُّ الطرفُ الأحمر للطيف، ويبقى فقط الأزرقُ.

في المناطق الجليدية المُماثلة، عليك أن تتحرَّك كالضوء خلال الجليد. يضيع منك الوقتُ بفداحة، ويُعاملك المكان بقسوة. وتستغرق ساعة لكي تتحرَّك مسافة نصف ميل في الاتجاه الذي تريده. إنَّ التحرك في خطٍّ مستقيم إلى وجهتك لا يعني بالضرورة الوصول إليها؛ لأنَّ الجليد يدفعُ بك إلى مسارٍ مُرتد ومنحرف، مسار أزرق وليس مسارًا مُستقيمًا.

إننا عالقون في هذه المتاهة على مدى أربع ساعات. وأخيرًا، يجد مات طريقًا عبر الجليد المسطح وفوقه، ويُمكننا أن نضع أمتعتنا ونتناوَل الطعام والشراب ونقف بأمان. أشعرُ بأعصابي المشدودة وهي تتراخى مرة أخرى. ينخرط أحدُنا في البكاء لفترةٍ وجيزة. نشعرُ جميعًا أننا فرائس طريدة لهذا الجليد.

لا يزال من الصعب الانتقال من هناك، صعودًا للتل وإلى الداخل، إلا أنَّ الجليد أصبح أهدأ الآن، وأحرزنا تقدمًا جيدًا. وبينما نحن نتحرك، تتدفق أنهار جليدية رافدة جديدة لتشقَّ الآفاق على كِلا الجانبين. ونلمح قِممًا جديدةً في الأفق. لم نتسلَّقْها من قبل. ومن ثمَّ، استهوتنا. وتُساورنا الرغبة في إقامةٍ مؤقتة في مكان مرتفع في تلك الليلة، ومن هناك ننطلق في طريقنا إلى إحدى القِمم في اليوم التالي؛ حيث نُمارس تسلُّق الجبال الاستكشافي، بلا خرائط، وبالقليل من المعرفة عن التضاريس التي ستقابلنا.

الشمسُ حارقة الآن، ويذوب سطح النهر الجليدي بسرعةٍ كبيرة نستطيع رؤيتها وسماعها. إنَّها صفائح صغيرة من الثلج، تكوَّنت في غابات النَّدى المُجمَّد التي ترتفع إلى حوالي سنتيمتر كلَّ فجر، حيث تميل ثم تومِض عندما تتحوَّل إلى ماء. يزمجر النهرُ الجليدي استهجانًا. ويطقطق. وفي بعض الأحيان، تنهار ضفةٌ من الجليد الطيني لتتحوَّل إلى مجرًى يحمل مياه الذوبان الجليدي، وتندفع البلُّورات أسفل القناة كالدهون المُشتعلة.

أسأل مات: «أين تذهب كلُّ مياه الذوبان الجليدي هذه؟»

«أسفل الطواحين الجليدية. سنجدها هناك. وسوف ترى.»

نجدها بالفعل. طاحونتان جليديَّتان صغيرتان أولًا، ثم طاحونة جليدية أكبر قليلًا من تلك التي وجدناها على نهر أبوسياجيك. الطاحونة الكبيرة عبارة عن فُوَّهة مفتوحة حقيقية بالقُرب من شريطٍ جانبي من الركام. وهناك ثلاثة مجارٍ من مياه الذوبان الجليدي تلتف باتجاهها، حيث تتضافر في مجرًى واحد في الياردات الأخيرة لتسقط في المنحدَر.

ندور حول الطاحونة الجليدية بحذَر، كما لو كنا نقترِب من حيوان بري. أربطُ حبلًا حول خصري، ثم يُدلِّيني مات إلى حافتها. أميل للخارج قليلًا فوق الحافة، وأنظر مباشرةً إلى الزُّرقة الداكنة بالأسفل، إلى الجبل الجليدي المُخضَّب بحُمرة الدم. أشعرُ بغثيانٍ ووخزٍ في عظامي من أثر اللون، فأتراجَع بسرعة. إنَّه الفراغُ يَنزح إلى السطح.

يقول مات: «هذا ما نبحث عنه. يُمكننا النزول. ولكن علينا العودة مبكرًا للغاية، بينما لا يزال النهرُ الجليدي مُتجمِّدًا، وقبل تدفُّق مياه الذوبان الجليدي. لكننا الآن بحاجة للعثور على مكانٍ نقضي فيه هذه الليلة. إنني أُفضِّل النومَ على صخرةٍ على النوم على الجليد.»

في المواضع حيث يندفع نهرٌ جليدي رافِد لأسفل ليصبَّ في كنود راسموسن، ظهرت جزيرةٌ صخرية صغيرة. إنَّها قطعةٌ أثرية حديثة من معدلات الذوبان المُتزايدة، مَعلم من مَعالم الأنثروبوسين الذي لا تُسجله أيُّ خرائط موجودة، حتى خرائط جوجل، وتبرُز كجلمودٍ في مُنحدَر حيث يهوي التدفق الجليدي لمسافة ٤٠٠ قدم رأسية ليصبَّ في كنود راسموسن. نقفُ على بُعد ميلَين نرقُبَها، ونتساءل عما إذا كانت فيها أرضٌ مسطحة بما يكفي للتخييم.

بالقرب من الغسق، نتسلق منحدرًا من الجليد الرمادي للوصول إليها. ونحن بالتأكيد أول أشخاص على الإطلاق تطأ أقدامُهم ذلك العالَم الجديد، الذي انبثقَ من الأرض السفلية للجليد. إنَّه يُعادِل نصف ملعب تنس في مساحته تقريبًا.

تقول هيلين إم مُندهشةً: «الأمرُ يُشبه المشي على القمر. وهو كذلك بالفعل. فالصخرُ كما تركَه الجليد. وهناك طبقةٌ سميكة من غبار الحجر الرمادي تكسو كلَّ شيء. وتركَ مرور الجليد أثرَه على صخر الأساس فصَقله، بينما سطحُه مبعثَر بأحجار مستديرة سائبة نتعثَّر فوقها كالسكارى.»

تُشرِفُ القبابُ الكبيرة والانتفاخات الجليدية على الجزيرة في إطلالة مباشرة عليها، ومنها نلتقط بامتنانٍ مياه الجليد الذائب في زجاجاتنا، فنروي ظمأَ يوم العمل الطويل.

نستغرِق نصف ساعة في تنظيف مكانٍ لِنَصب الخيام، نزيح الغبار، ونُدحرِجُ الأحجار. نغني أنا وبيل وهيلين إم أثناء عملنا. وينساب صوتُ بيل الرخيم فوق النهر الجليدي مع غروب الشمس، فيبقي معنوياتنا مُرتفعة. ثم ننصبُ الخيام ونُثبتها بالحجارة والحِبال تحسُّبًا لرياح الليل. ويُغطي غبار الصخور أيدينا ووجوهنا.

تنادي هيلين، مُشيرةً بيدها: «انظروا، الجبالُ تحترق!»

إنها تبدو كذلك بالفعل؛ حيث يتدفَّق ضوءٌ شديد فوق القِمَم من الغرب، ويسفَع صخر أعلى القِمم، فتبدو حمراء وكأنها تسيل منها الحِممُ البركانية.

•••

في فجر اليوم التالي، قطعَ شريطٌ مُنخفض من السُّحب الأرض. نستيقظ في سكون بعد ليلةٍ من الرياح العاصفة. الجو هادئ. والجبل الجليدي تحجَّر بفِعل التجمُّد طوال الليل.

نُمارس التسلقَ في ذلك اليوم، حيث نصعد لمسافةٍ طويلة إلى قِمة بعيدة، نفشل في الوصول إلى ذروتها.

في الصباح التالي، نستيقظ في الساعة الخامسة في الضوء الخافت. نرفع الخيام عن سطح الجزيرة الصخرية بسرعةٍ وتوتر. وسط الجو الهادئ. ونجتاز المُنحدَر لنصِل إلى كنود راسموسن، ثم نسلك مسارًا من حطام الركام ونتَّبعه إلى الطاحونة الجليدية.

وقبل أن نرى ما يحدث، يُخبرنا الضجيجُ الصادر أنه حتى في تلك الساعة الباردة كانت الطاحونة تُباشرُ عملَها في طحن النهر الجليدي. وينهمِر فيها سيلٌ من الماء خارجًا من فُوَّهَتها الغربية.

تقول هيلين: «إنَّ الشمسَ تبعث الدفء في الأشياء بالفعل. ويزداد التدفُّق مع كل دقيقة.»

نُتابع العملَ بسرعة. ويتدبر مات أمر المعدات. حبلان، وأربعة أوتاد لتثبيت الحِبال، كلٌّ منها مزدوجة الطرف. نُزيل كل الجليد العَطِن للكشف عن الثلج الصلب، تلك المادة الصالحة لتثبيت بُرغي، ثم نضغط على أسنان بُرغي ثلج حتى تثبت، مع التأكُّد من انتصابه عموديًّا على السطح، ثم نمسك بيد الجزء الأسطواني من البُرغي وباليد الأخرى ندير المِقبض. سوف يمتصُّ أيُّ جسمٍ غريب عن الجليد الحرارةَ ويُذيب الجليد، ومن ثمَّ علينا أن نُكوِّم الجليد ونُعبِّئه حول البراغي والمشابث.

يستغرق الأمر نصف ساعة لتجهيز المعدات تجهيزًا يُرضي مات. يزداد الشلالُ قوةً وضجيجًا على نحوٍ ملحوظ. من الواضح أننا بمجرد دخول الطاحونة سيكون التواصُل الصوتي بيننا شِبه مُستحيل. ومن ثمَّ، نتفق على نظام تواصل بسيط بالإشارات: لأعلى، ولأسفل، وقِفْ، مع وضع الساعدَين مُتصالبَين لتكوين علامة عندما نعني أن نقول: «أخرجني من هنا بسرعة.»

نربط حبلًا للنزول، وحبلًا للصعود، ونتحقَّق منهما جيدًا، لنتأكَّد من إحكامهما. ثم نُثبِّت أقدامنا، ونرتدي الخوذات بإحكامٍ فوق رءوسنا، ونراجع المعدات في وضعها النهائي مرةً أخرى. تهوي الطاحونة بعيدًا: أنبوب يُشبه أنابيب الخيال العلمي المُشعة الزرقاء، جاهز ليُضيء لي بالأسفل. لا أخشى تجاوُز الحافة، ويجب ألا أخشاه، وأسمعُ فقط الطنين المألوف في الرأس كطنينٍ من النحل.

يسترعي انتباهي على الفور منظر الطاحونة، حيث بدت فائقة الجمال من الداخل. للهواء هالة زرقاء، والجليد المُحيط بي أملس الملمس. أنزلُ بقدَمٍ تلو الأخرى، بينما تضيق الفُوَّهَة البيضاوية البيضاء للطاحونة من فوقي شيئًا فشيئًا. وبإلقاء نظرةٍ خاطفة لأسفل، لا أستطيع أن أرى أيَّ قاعدةٍ وأتذكَّر فجأة إلقاءَ العملات المعدنية في المياه اللازوردية الصافية من قاربٍ في البحر المتوسط عندما كنت طفلًا، حيث كان الناسُ يُلقون العملات الفضية ويشاهدونها وهي تغوص في الأعماق، حيث تظلُّ تدور وتومِض لمدة ثلاثين وأربعين وخمسين ثانية.

كلما أتعمَّق أكثر، أقتربُ أكثر من مياه الذوبان الجليدي المُتساقطة أسفل الطاحونة، ثم تنزلق كلَّاباتي على الجليد وأخرج من القشرة إلى السَّيل، الذي ينهار على رأسي بضرباته الباردة وتَلْكُمني قوَّته فتُخرجني من السيل، إلا أنني من هناك لا يُمكنني الإمساك بالجوانب الزجاجية للطاحونة مرةً أخرى، ومن ثمَّ أعودُ مرةً أخرى إلى السيل، وهناك أخرجُ منه مرةً أخرى، وأبدأ في التأرجُح ذهابًا وإيابًا داخل السَّيل وخارجه، ومع كل انغماسةٍ باردة أفقدُ قوَّتي، وأشعرُ أنني مُحاصَر في آلةٍ دائمة الحركة يُمكنها أن تعمل إلى أجلٍ غير مُسمًّى حتى بعد موتي.

أُلقي نظرة خاطفة لأعلى وأنا أتأرجح، ويُمكنني أن ألمحَ وجه مات وهو ينحني برأسه ناظرًا إليَّ بالأسفل، مُتحدِّثًا إليَّ بكلماتٍ لا أتبيَّنها؛ فهو على السطح الآن وأنا في الأعماق، وهذان عالَمان مُختلفان تمامًا. إنه يُوجَد في كوة السماء مُحاطًا بضوءٍ أبيض وذهبي، ولكن بالأسفل هنا لا مجال لأي لونٍ أو زمن بخلاف اللون الأزرق. هناك بالأعلى، يتحرَّك كلٌّ من بيل وهيلين إم وهيلين بِحُرية على الجبل الجليدي، أما هنا بالأسفل، فلا شيءَ سوى زجاج الجليد وسيل المياه والقيود التي يفرضانها علينا.

ولكن المكان هنا شديد الغرابة بحيث لا يمكن للمرء تركه إلا إذا اضطرَّ لذلك، ولذا أشير إلى مات أنَّ عليه أن يَدُلَّني أكثر، حيث أدركتُ أنَّني إذا نزلتُ أكثر فقد أستطيعُ إخراج نفسي من التدفُّق، ومِن ثمَّ أتعمَّق أكثر، وأدورُ وألتف، وأرى أنَّ هناك — على مسافة ستِّين قدمًا بالأسفل في الجبل الجليدي، وعلى بُعد اثني عشر قرنًا أو نحو ذلك — شُرفةً من نوعٍ ما تتحدَّر منها المياه على طول مسار مُتعرج أعمق في ثقبٍ أرضي مُتعرج وضيق للغاية لدرجةٍ لا تسمح لي بدخوله، ولكن مع وجود ممرٍّ جانبي أزرق الجوانب يؤدي إلى مكانٍ بعيد. أتأرجح لأُمسك بحافةِ الجليد من المدخل الجانبي. ثم أسحب نفسي نحو الممر وخارج نطاق المياه المُتدفقة، وأرى تحتي ما يُشبه شفرة رمحٍ من الثلج، بطول اثنَتَي عشرة قدمًا أو نحو ذلك، تشكَّلت بطريقةٍ ما باتِّجاه أعلى الشرفة، وأعلق إحدى قدميَّ حولها ثم أجثم على طرفها. وأخيرًا، أصبحُ في مأمن، حيث أمسك بيدٍ واحدة حافة الممر، وأنزلُ بقدمٍ واحدة على شفرة الرمح الجليدي. أتوقَّف وألتقِط أنفاسي، ثم أُلقي نظرةً على الكوة وأُشير بإبهامي لأعلى باتجاه مات دلالةً على أنَّني بخير. أُثبِّت نفسي هناك جيدًا، حيث يُمكنني دراسة المكان وفحصه.

على عُمق عشرين قدمًا أسفل منِّي، يشقُّ مجرًى تكوَّن من مياه الذوبان طريقَه منحدرًا بعيدًا نحو الأرض السُّفلية للنهر الجليدي، ومن المُستحيل أن أتبعه. ومع ذلك، يبدأ الممر الجانبي كنفق، ويُمكنني أن أرى تجويفًا أشبه بالغرفة مليئًا بمزيدٍ من اللَّون الأزرق في نهايته، وأريدُ أن أتبع الممرَّ وصولًا إلى ذلك التجويف. لكنني أعلَم أنهم سيسحبون الحبلَ بعد وقتٍ قصير من اللحظة التي أبدأ فيها في التحرُّك جانبيًّا من البئر، ما يجعل التقدُّم صعبًا ويَعني أيضًا أنَّ الِانزلاق في الممر الجانبي سيُعيدني إلى الوراء في البئر الرئيسية بسرعة. أتمنَّى لو كان معي براغي جليد، حتى أتمكَّن من وضع حبال رفعٍ للتحكُّم في الحبل من أجل اجتياز النفق. ولكن ليس معي واحد منها، ومن ثمَّ لا يُوجَد خيار سوى البقاء لبعض الوقت على شفرة الجليد تلك في هذا العالَم الآخر، ثم على مضض، وبامتنانٍ، أُشيرُ إلى مات بما معناه: «أخرجني من هنا.»

إنهم يتناوَبون العمل على الرافعة، ويسحبونني جميعًا للخارج — هيلين وهيلين إم وبيل ومات — لاستيعاب وزني على طريقة عقد بروسيك ببكرةٍ على شكل حرف زِد بالإنجليزية، وأخرج من فُوَّهَة الطاحونة الجليدية كسنجابٍ خرج من جُحر، وتلوح رأسي نحو العالَم العلوي حيث يضحك الجميع ويسألون عمَّا جرت عليه الأمور وأفواههم فاغرة، وتمدُّ هيلين يدَها للأمام لتُخرِجني إلى برِّ الأمان، والشمس تسكب ضوءها الذهبي على الوهج الفضي للجليد، وتظل الزُّرقة تتسلَّل داخلي حتى النخاع على مدى عدة أيامٍ من هذا الغوص في الزمن السحيق.

وفي وقتٍ لاحق، نُرسل بيل أيضًا إلى الأسفل، ويُغني لنا من عمق ثلاثين قدمًا لحنًا من أوبرا توسكا. تنسابُ الأنغام من خلال آلة العزف الطبيعية هذه الشبيهة بأرجن ضخمٍ أزرق اللون، وتُحلِّق فَرِحةً في الهواء الساكن.

•••

في وقتٍ ما بعد الظهيرة، نخرج من نهر كنود راسموسن الجليدي للمرة الأخيرة، ونعود بالقُرب من المضيق البحري. تقفز ألوان التندر في عيوننا فجأة، فتصدمنا بسطوعها بعد ما قضينا أيامًا بين الجليد والصخور. لهبٌ كبريتي من الصفصاف ذي الأوراق الرمادية عند المُنعطف، وأشنة باللون الأخضر الفاقع، وكسرات من الميكا السوداء في الصخور.

بَدت أوراقُ الصفصاف وقد تخضَّبت عند أطرافها باللون الأحمر في الفترة التي غِبنا فيها.

تزقزق ستةٌ من طيور الترمجان بين عنب الأحراج، وريشها في طور التحوُّل إلى اللون الأبيض استعدادًا لموسم الشتاء. إننا سعداء برؤية حياة بخلاف الجليد. إنَّها لا تخاف منَّا. يراها بيل على أنها علامات، ويرى مواقعها على المنحدر كستِّ نُوتات على السُّلَّم الموسيقي.

عند الوصول إلى مُخيمنا الذي كان النقطة التي انطلقنا منها، أنزلنا أمتعتنا واغتسلْنا في ماء المضيق المُتجمِّد، حيث ننفضُ آثار أيام من الغبار والإرهاق عن أجسامنا بين الجبال الجليدية، صائحين وهاتفين.

في تلك الليلة، يظهر شفقٌ قُطبي يفوق في توهُّجه أيَّ شفقٍ قطبي رأيناه. ونجلس في أكياس النوم لمشاهدته. إنَّه يبدو مثل ستائر خضراء تلمع وتومِض دواخلها، فوق نهر كنود راسموسن الجليدي، وفوق الجزيرة الصخرية، وفوق الطاحونة الجليدية. ولأول مرة، تلوح درجاتُ اللون الوردي لعُشب الصفصاف مع اللون الأخضر. وتنطلِق أشعةٌ خضراء كالكشَّافات من القمم باتجاه الغرب. إنَّه عرضٌ غنيٌّ، ونابضٌّ بالحياة، ويجوبُ آلاف الأميال في السماء، عملٌ دءوب للطبيعة مُستقل تمامًا عن الأرض، ويبدو أنه يستمرُّ في شكلٍ من الزمن لا يمكن حسابه بحسابنا للأيام والسنين.

تقول هيلين إم: «هل لاحظتُم كيف تتزايد أعداد النجوم التي تظهر عبر الشفق القطبي؟»

إنَّها مُحقَّة. كنت أتوقع أنْ يقلِّل الشفقُ القطبي من وضوح النجوم، لا أن يزيده؛ حيث تغلب شدَّة الوهج على وميض النجوم. ولكن بدلًا من ذلك، كان للشفق القطبي تأثيرٌ معاكس للحدس حيث تسبَّب في ظهور المزيد من النجوم، بل حشود منها، والتي تتلاشى مرةً أُخرى في السواد عندما يخمد وهج الشفق القطبي. لا أحدَ منَّا يستطيع شرحَ العلاقة التكافُلية غير التنافسية بين الضوءِ الأخضر وضوءِ النجوم.

في تلك الليلة، تُراودني رؤيا وتستمرُّ لساعاتٍ فيما يبدو؛ ذلك حيث أرى أن طُحلبًا ناعمًا أزرق اللون نمَا تحت جلدي، وبدأ من ساعدي الأيمن، ثم ينتشِر لأعلى إلى كَتِفي وعبر صدري. إنَّه إحساسٌ غير مُؤلِم وجليل.

•••

نعود بعد أيام إلى كولوسوك، حيث كانت تلك هي أُمسيتنا الأخيرة في القرية؛ وأذهبُ مع هيلين ومات للتجديف بالزَّورق في الخليج مع نوكا، أحد شبَّان القرية. يرتدي نوكا قُبعة بيسبول مربعة سوداء، وسلسلة ذهبية، ولدَيه سنٌّ ذهبية. إنه في الثامنة عشرة من عمره. ويعزف على الجيتار عزفًا هادئًا، وبشغَف، مثل خوسيه جونزاليس. كما أنه يُحب التجديف.

ترتفع السُّحب فوق نهر أبوسياجيك الجليدي وحولها. وتبدو شمسُ آخر اليوم مُشرقة وحامية. ثمَّة عاصفة في الطريق. تَحُطُّ طيور النورس على الماء، بيضاء كالورَق في ضوء العاصفة. ويجوب جبلٌ جليدي مُنخفض الخليجَ. وثمَّة رجلان وامرأة يجلسون مُحدَودبِي الظهر في الجانب المحجوب عن الرياح من كوخٍ بجانب الخليج، ويحتسون جعة هاينكن المُعلَّبة.

ندفع زوارق الكاياك بين الجلاميد. ونُجدِّف فوق رءوس سمك القُدِّ وزعانف عجول البحر، يأخذ نوكا زمام المبادرة بخطواتٍ قصيرة وسريعة، ثم يُسرع مات وراءه، وكِلا الرَّجُلَين يبتسمان ببهجةٍ لوجودهما في الماء.

يصيح مات: «هنا اختُرِع الكاياك!»

يُجدِّف مباشرةً في اتجاه الجبل الجليدي الصغير، ويضربه بسرعة عند أدنى نقطة له، ويضحك عندما يرتفع النصفُ الأمامي للكاياك لأعلى فوق الجبل الجليدي. ثم يفلت نفسه ويتراجع في الماء مُصدرًا رذاذًا.

يصيح نوكا مُمسكًا بجسم طويل ونحيف يقطُر بالمياه، وبه جزءٌ خشبي وسنُّ رمحٍ في أحد طرفيه قائلًا: «انظروا!»

يقول مات «لقد وجدَ حَربة!» إن نوكا يستهدف مات، ويرمي الحَربة على زورقه. لكنها تسقط بسلام على مسافة قصيرة؛ فيُجدف مات، ويمسك بالحربة العائمة ويقذفها نحوي.

لم ألعب من قبل كرة الماء بالحَربة، ولستُ مُقتنعًا أنها رياضة تقليدية في جرينلاند، إلا أن قواعدها تبدو واضحة بما فيه الكفاية: صوِّب ولا تنحرِف.

يرمي كلٌّ منا الحربة تجاه الآخر، في مطاردة حول الخليج، بينما نندفع في تجديفنا. يخرج صبيةٌ آخرون من القرية على متن زوارقهم البخارية التي تَطِنُّ مِن حولنا، مندفعين بمحركات إيفينرودز، ويمرون أمامنا. باتجاه الشَّمَال، يضيء نهرُ أبوسياجيك الجليدي طريقه لأسفل إلى خط المَدِّ والجَزر. وبعد فترةٍ وجيزة، نتجمَّع، ونطوف فوق الأمواج الصغيرة المُتلاطمة، ناظِرين إلى الوراء على قرية كولوسوك الجاثمة على قاعدتها الصخرية، حيث تظهر الصلبان البيضاء للمقبرة الساحلية واضحةً في ضوء الشمس.

وعندما نعود إلى الشاطئ، يُظهِر نوكا الحربة بفخرٍ ويُريها لجيو.

فيهزُّ جيو رأسَه.

ويقول لنوكا بلغة جرينلاند: «هذه ليست حَربة.»

ينظر إلينا، ويأخذها، ويُمسكها من جزئها الخشبي كعصا سيرٍ من أسفلها، ويضرب بها لأسفل، مُتقدِّمًا بحذرٍ للأمام وهو يفعل ذلك، وينظر مُتفحِّصًا أمامه وهو يضغطُ بطرفها على الأرض.

إنَّها ليست حربة، وليست سلاحًا على الإطلاق، بل هي أداةٌ تُستخدَم لفحص عُمق الجليد البحري قبل الخوض فيه. إنها وسيلةٌ لمعرفة ما إذا كان من الآمِن التقدُّم فيه أم لا، وسيلةٌ لاختبار المُستقبل القريب.

وعندما أعود إلى بريطانيا، أعلمُ أنَّ فريقَ عمل الأنثروبوسين التابِع للجنة الفرعية لطبقات الأرض الرباعية قد أوصى خلال الأسابيع التي كُنَّا فيها في الجبال الجليدية بإعلان الأنثروبوسين رسميًّا عصر الأرض الحالي، وبأنَّ تاريخ بدايته هو عام ١٩٥٠، تزامُنًا مع فجر العصر النووي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤