المقامة الرابعة: في خروج يوسف من السجن، وصيرورته وزيرًا لفرعون مصر

وفيه فصلان

الفصل الأول: في رؤيا فرعون، وما جرى بينه وبين رئيس السقاة

قال فرعون مصر: وا مصيبتاه، وا حَرَّ قلباه، لقد توالَتْ عَلَيَّ الأحزان، وأَضْرَمْتُ في فؤادي لواعج الأشجان، حتى أصبحت في شدة وبرحاء، وأعياني من القلق حمل تلك الأعباء، فهل من حكيم يدرأ عني الأوهام، ويكاشفني بشرح ما أُوْحِيَ إليَّ في عالم المنام، فقد رأيت الليلة ما أَقْلَقَ مني الخاطر، واستهمى ماء الوساوس من سحاب فكْرٍ ماطِر، فيا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون، واجتازوا معي هذا البحر اللُّجِّيَّ إن شئتم أيها الملأ تعبرون، وما جزاء مَنْ أهداني برأيه القويم، وهداني بصحيح نَبَئِه الصراط المستقيم، إلا أن استخلصه لنفسي وزيرًا، وأُرَخِّص له في القيام بمباشرة الأحكام إدارةً وتدبيرًا.

قال بعض الحكماء: ليهدأْ رُوعُ سيِّدنا، أنجمع الحق آماله، وأوضح بمشكاة الهداية أقواله وأعماله، هذه بوادر أوهام، طالما ذهبت بألباب الألباء، وغادرتهم عقب اليقظة من المنام، لا يهتدون للإلمام بما فيها من الأنباء، مع كونها منزَّهة عن شائبة الحقيقة، لا يحسن أن تَخْفِق لها عَلَى أفكارك حقيقة، وما نراه أقرب لليقين وحَقِّ رب العالمين أنها أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.

قال صاحب شراب الملك: بُشْرَاك أيها الملك، فقد لَبَّاك رسول التوفيق، وقضى لك قاضي العناية العُلْوية قضاء الشفيق، فأتاح لك من يزيل ما عَلِقَ بصدرك من الريب، ويميط حجاب اللبس عن الحقائق لا رجمًا بالغيب، فقاتَلَ الله النسيان الذي أنساني هذا الأمين، الذي هو بكل مكرمة جدير وَقَمِين، ولقد تبيَّنْتُ أنه وَرِثَ الشرف كابرًا عن كابر، وأُوتِيَ من العلوم الوهبية ما يستنفذ مداد المحابر، حيث نبأني وصاحِبَ الطعام بما طَابَقَ الواقع، وكان خَيْرَ ناجع لشفاء الغليل وناقع، حين رأى كلٌّ منامًا مُنِيَ الفؤاد بداء إعلاله، وقُيِّدَ اللب في سجن الحيرة بسلاسله وأغلاله، فقال: ما خطبكما أيها الصاحبان، أمَا عَلِمْتُما أنه متى اشْتَدَّ الكربُ هان، فقلت له: إني أراني أعصر خمرًا، كأن لي في مقام وظيفتي الأولى نهيًا وأمرًا، وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا، تأكل الطير منه وتوسعني — ويا للعجب — وكزًا ووخزًا، نبِّئنا بتأويله، وميِّز لنا أيها الآسي صحيحَ القول من عليله، إنا نراك من المحسنين، أولي الحرص عَلَى الأفضال والمؤمنين، الذين يستضيء بهديهم كلُّ غويٍّ ضالٍّ، فتأمَّلَ في الحديث تأمل الناقد البصير، وقال: أنا أنبئكما بتأويله ولا ينبِّئكما مثلُ خبير، يا صاحبي السجن، أمَّا أحدكما فيسقي ربه خمرًا بكأسه، وأمَّا الآخر فيُصلب فتأكل الطير من رأسه. وقال للذي ظنَّ أنه ناجٍ من ذنبه: اذكرني عند ربك، فأنساه الشيطان ذكر ربه، وها أنا أحنُّ إلى ذكراه حنينًا وأي حنين، وإن كُنْتُ تناسيْتُه فلبث في السجن بضْع سنين، وقد تعيَّن عَلَيَّ من الآن أن أستطلع شئونه وأخباره، وإن شئت أن أجيئك به فأنا رهين الإشارة.

قال فرعون مصر: عَلَيَّ بهذا الأريب؛ لأرى أيخطئ في تأويل الرؤيا أم يصيب.

قال صاحب الشراب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، عسى أن يهدأ بصادق تعبيره رَوْعُك وخَوْفُك.

الفصل الثاني: في تأويل يوسف عليه السلام رؤيا فرعون مصر

ثمَّ جاء به من السجن صاحب الشراب، فتمثَّل بين يدي سيِّده يخاطبه بهذا الخطاب:

أَتَشَرَّف بالعرض عَلَى أعتاب مولاي، بأنني جئت إطاعةً للأمر بالشاب الذي فسَّر رؤياي، فلاحِظْه وأنت الآمر الناهي بأنظارِك، ومُنَّ عليه يا مولاي بإظهار مضمر أسرارك، عسى أن يَجِدَ لتأويل رؤيا الملك سبيلًا، ويصبح بالعناية الفرعونية عزيزًا نبيلًا.

قال فرعون مصر: أيها الشاب الزكي الشمائل، المزدان جيده بحلية الفضائل، إنِّي أرى سبع بقرات سمان، خرجت من النيل تسعى، وما برحت ترتع في المراعي وترعى، حتى تَلَتْها سبع عجاف فأكلتها أكلًا، ولم تَذَرْ لها في عالم الوجود هيئة ولا شكلًا، ثمَّ رأيت سبع سنبلات خضر طالعة في ساق، وأُخَر اشْتَعَلَ فيهن من أحشاء الأرض أور الاحتراق، فأَفْتِنا أيها الصِّدِّيق في هذه الرؤيا التي سَمِعْتَهَا، وقصصت لك تفصيلها فوعيتها، أَتَمَّ الحقُّ نِعْمَتَهُ عليك، ولا برح سعد السعود طوع يديك.

قال ممثل يوسف عليه السلام: لا زالت الآمال تطوف ببيت السيد وتعتمر، والأيام والليالي خادمة لسدته يأمرها فتأتمر، لقد فَهِمْتُ محصل الرؤيا التي سيدي رآها، واجتلى في مرآة النوم مرآها. فأمَّا السنابل الخضر والبقرات السمان، فكناية عن خصب يتسلَّطْنَ سبع سنوات من الزمان، ثمَّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد، يَعُمُّ فيهن الخطب العباد والبلاد، فتصبح في حاجة لمن يَمُدُّ لها يَدَ الإعانة والإسعاف، مصداقًا لإشارة السبع السنبلات اليابسات والسبع البقرات العجاف، فيَجْمُل بالملك أن يقيم من أمناء رجاله، ونبهاء نبلاء عماله، من يكون حفيظًا بأصول السياسة التي هي ذات شعاب وفروع لا تأخذه عن مراعاة شرائط الكياسة سِنَة غفلة، كما لا يقوى عليه هجوم هجوع، فيدخر ما زاد من محصول السنين السبع الأولى، لتكون لك في سد خلة الأهالي مُدَّة القحط اليد الطولى، ولقد أراد الله إنقاذ الرعية من أشراك، فأراك في عالم الرؤيا من الأسرار العالية ما أراك، فاتْلُ آيات الشكر لله على خلاصك من المصائب، واجْلُ جنح تلك الأزمة بنبراس الرأي الصائب.

قال فرعون مصر: لله ما أعلى فراسة صاحب شرابي فيك، وما أغلى ما قرَّظْتَ به سمعي من دُرَرِ فيك، فقد أَعْرَبْتَ عن تأويل رؤياي إعرابًا يَبْعُد عن الإغراب، وجِئْتَ من النصيحة بما يحمدك عليه عجم وأعراب، ومن لي بأغزر منك فضلًا، وأوفر في مسألة الاقتصاد السياسي حكمةً وعقلًا. فأَنْعَمَ عليه برتبة الوزارة إنعامًا، وأَرْكَنَ إليه في الأخذ بمقاليد الأحكام نقضًا وإبرامًا، فاهْنَأْ بما أُوتِيتَ من علوِّ المكانة وسُمُوِّ المكان، وعليك بتدارُك هذا الأمر حسب المقدرة والإمكان، وليكُنْ مطمح نظرك الادِّخار مع دفع غائلة الفساد، والفرار مما يطرأ على سوق الرخاء من الكساد، لا زال التوفيق مظهر أعمالك، وجب الخير العام منجزًا لآمالك.

قال ممثل يوسف عليه السلام: إن لساني ليقصر عن القيام بشكر آلائك، كما أن فؤادي لا ينفك متمسِّكًا بعروة ولائك، حيث اسْتَطْلَعْتَ طَلْع أمري جليًّا، ورَفَعْتَ قدري — أيَّدك الله — مكانًا عليًّا.

ثمَّ أنشأ يقول ما معناه:

لا زِلْتَ تقصد من بعيدِ مرامي
وحماك كعبة آمِلٍ لمرامِ
والدهر يُنْجِزُ ما تشاء وحَسْبُهُ
بك من سرِيٍّ ذي مقام سامي
ولقد أراد الله جَلَّ ثناؤه
إنقاذَ مصر بهذه الأحلامِ
فأراكها حتى تقومَ بشُكْرِه
وبِحِفْظ هذا القُطْر أيَّ قيامِ
وتكون خَيْرَ مُمَلَّكٍ سن الندى
وروى بفيض الفضل كل أوامِ
ولئن أتيتك بالحقيقة مبديًا
في عرض قولي آية الإلهامِ
فلك الجميل عليَّ أَمَّا شُكْرُه
فتحار فيه دقائقُ الإفهامِ
حيث ارْتَقَيْتُ بك الوزارة منصبًا
وأَخَذْتُ من أَمْرِ الورى بزمامِ
فَلَأَذْكُرَنَّكَ كُلَّمَا هَبَّ الصبا
أو غرَّدت في الروض ورْق حمامِ
وَلَأَشْكُرَنَّكَ ما حَيِيتُ وإن أَمُتْ
فَلَتَشْكُرَنَّكَ في التراب عظامي

لا زالت ساحتك الشريفة ملجأ لذوي الآمال، وسدتك المنيفة حرمًا لا تُشَدُّ إلا إليه الرحال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤