خاتمة وعْظية وصفية لمجمل السيرة اليوسفية

بسم الله الرحمن الرحيم

حمدًا لمن أطلع في آفاق بصائر المؤمنين أضواء الهداية، ونزَّه عباده المخلصين عن موارد الغواية، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء، الذين هدوا الخلق بما جاءوا به من الأنباء. أما بعد … فيا أيها الناس، أما فيكم ذاكِرٌ غَيْرُ ناسٍ، أو حبيب مواسٍ، أو طبيب للأرواح آسٍ، حتام ترتعون في نضير روضة الآثام، ولا ترتاعون لنذير زئير قسورة الحمام، تطلقون يد الأفكار في اقتطاف اللذات، وتنفقون نَقْد الأعمار في اقتراف السيئات، تزدهيكم عروس الدنيا الفانية، وتلهيكم عن الصواب أغنية وغانية، طالما شهدتهم الجنائز بعين الإغضاء، وقرع الوعظ أسماعكم فأَعَرْتُمُوه أذنًا صمَّاء، كأنما خطرت على أفهامكم خواطر أوهام، ولم تدركوا أن سحاب الأماني سحاب جهام، فهلا قطعتم بمدى العزائم علائق الآمال، ووردتم شريعة الإنابة قبل حلول الآجال، وعلمتم أن العمل الصالح تجارة لن تبور، وأن الله عز وجل يبعث ما في القبور، فيا لها من ساعة تخشع فيها الأبصار، وتخضع الجبابرة أمام الواحد القهار، ولا تنفع المرء حينئذ حُماة ولا أنصار، ساعة تبيض فيها وجود وتسودُّ وجوه، ويفوز من يرجو رضوان الكريم بما يرجوه، ساعة تكفهر فيها وجوه الفجرة اكفهرارًا، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، فرَحِمَ الله امرأً انتهز الفرصة قبل الفوات، وعالَجَ بداء التوبة الخالصة داء الهفوات، وكان ممن سَمِعَ المواعظ بأذن واعية، ولَاحَظَ العِبَرَ بعينٍ مراعية، وكيف لا يَتَّعِظُ العاقل بمن مضى من القرون، ولا يتيقظ الغافل لمآل كسرى وقيصر وقارون، وقد أصبح أثرهم مدثورًا، وجعل الله ما عملوا من عملٍ هباءً منثورًا، فلأقسم برب الأرباب، الذي فطر السموات والأرض، وقدَّر العقاب والثواب، وهو الفاعل المختار يوم العرض، أن المرء لينظر ما قدَّمَتْ يداه، والسعيد من ابتاع دينه بنقد دنياه، نسأله تعالى أن ينير بمشكاة يقينه منَّا البصائر، ويحشرنا مع من أوتي كتابه بيمينه يوم تبلى السرائر، آمين.

يا من يجيب إذا دعاهْ
داعٍ له يبغي رضاهْ
اغفر لِجانٍ ما جناهْ
وأَزِلْ بواعِثَ كَرْبِهِ
المرء في الدنيا خيالْ
بفنائه ولع الزوالْ
لكن إذا زكى الفعال
أو كان متَّسِعَ النوالْ
أو أعقب النسل الحلالْ
ربح الخلود بِكَسْبِهِ
أمَّا الذي يجني الذنوبْ
وتراه يقترف العيوبْ
والعمر آذَنَ بالغروبْ
ويقول سوف غدًا أتوبْ
هيهات في عظم الكروبْ
تغني شفاعة صَحْبِهِ
لله در أخي الصلاحْ
ومن اقتدى بأولي الفلاحْ
فأضاء بالحسنى ولاحْ
من صنعه ضوء النجاحْ
وإلى الإله غَدَا وراحْ
كيما يفوز بقُرْبِهِ
إن الضلالة والرشادْ
بِيَدِ الذي أنشا العبادْ
وإليه يُرْجَعُ في المعادْ
سبحانه مغو وهادْ
إن شاء يعفُ وإن أرادْ
أَخَذَ المسيء بذَنْبِهِ

مقامة وهبية، تروي بحلاوة روايتها الغليل، وتأتيك بالخبر المسلسل عن وادي النيل، منشأة بقلم مؤلف هذا الكتاب، لا زالت فرائد فوائده تملأ الحقيبة والوطاب.

•••

حدث نسيم الصبا، قال كلفت منذ الصبا، بانتهاج أقْوم المسالك، في معرفة أحوال الممالك، فكنت لطمعي في اختلاس هذه الأمنية بيد الاقتباس، وفرط شغفي باستطلاع أخبار الناس، كلما سنحت لي فرصة أنتهزها لوقتها، أو تهيأت لي رغيبة أعزِّزها بأختها، حرصًا على ثمرة أَقْتَطِفها أو طرفة أستطرفها أو نادرة أوردها، أو شاردة أقيِّدها، فبينما أنا في بعض الأيام، مع رفقة من العلماء الأعلام، نتجاذب أطراف الحديث في الأحوال الحاضرة، ونقتطف ثمارها من أفنان روضتها الناضرة، أذ وفد علينا شيخ ظريف الشمائل، تُسْتَرَقُ من لُطْفِ خلائقه نسمات الشمائل، يترجم لسان حاله عن براعة وفصاحة، ووقوف على الحقائق باقتحام عناء السياحة، وقد أخذ بيد فتًى بلغ قاصية الجمال، وملك من الحسن ناصية الكمال، فحيَّانا تحية نُسِجَتْ حُلَّتُها على منوال الأدب، وصِيغَتْ حِلْيَتُها في قالبٍ من شذور الذهب، ثمَّ قال: قد بلغني أنكم آخذون للعلم بناصر، محتفلون بإحياء فنونه التي تُعقد عليها الخناصر. فأُفْعِمَ فؤادي بهذا الخبر سرورًا، لعلمي بأن من أوتي الحِكْمَة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وقد آليت أن يخفق لوائي على ناديكم، وأن أسعى اليوم للقيام بشكر أياديكم، فتهنأ وأيما آتاكم الله من فضله، وتهيأوا لأداء واجب فَرْض العلم ونفله. قال الراوي: فلما خلينا بعذوبة بيانه، وأهدى إلينا طرفًا من حلاوة لسانه، قلنا له: لله درك كيف وَصَلْتَ إلينا، واستدللْتَ من تلقاء نفسك علينا. فقال: أَمَّا أنا فقد ولعْتُ بالأسفار، وشَغِفْتُ باستنشاق أخبار الأخيار، فحيثما وُجِدَ فريقٌ منهم جذبني إليه مغنطيس حلاه، وأرشدني أرج شذاه إلى حماه. فَكِدْنَا نطير بقدومه طربًا، وقضينا مما حكاه لنا عجبًا، وعلمنا أن هناك من عجائب المقدور درًّا مكنونًا، وسرًّا لا يزال ضميره في حيز الاستتار مصونًا، ورجونا أن يتحفنا بذكر ما رآه في أسفاره، ويطرفنا بغريبة من غرائب أخباره، فقال: لقد بَلَوْتَ من ظروف الزمان صروفًا، وشهدت من صنوف الوقائع مئات وألوفًا، فإن شئتم استماع نبأ ما عاينته في أسفاري، ولم يَجْرِ لأحد بمثله قطُّ قَلَم الباري، فدونكم ما أقصه عليكم مما تتعلق به الأطماع. ثمَّ صعد منبر الخطابة وقال: سماع سماع.

اعلموا يا أولي الألباب، وكواكب سماء الفضل والآداب، إنني رجلٌ من أولي العزائم، لا أُقْدِمُ إلا على الأمور العظائم، ولا تأخذني في الله لومةُ لائم، ولي صاحب كريم الأخلاق، مُتَحَلٍّ بحلية الفضل بين الرفاق، إذا وفد على مملكة فأكرمت وفادته كما ينبغي، واستضاءت بنبراس آرائه الأصيلة فيما تروم وتبتغي، علا شأنها على ممالك الدنيا، وصارت كلمة أهلها بهذه المثابة هي العليا، بخلاف ما إذا تخلَّت عن القيوم بشئونه، أو تولَّتْ عن المسابقة في مضمار فنونه، فإنه ينتقل إلى غيرها من الممالك، داعيًا عليها بالوقوع في مهاوي المهالك، وليس بين دعوته وبين الله حجاب، فلا جرم كانت تعم تلك المملكة أسباب الخراب، وقد عوَّدني — أطال الله بقاءه وجعلني فداءه — أنه كلما انتقل من مملكة إلى أخرى، ورآها أحق به من غيرها وأحرى، لا يستطيع بدوني على الإقامة صبرًا، فيوعز إليَّ بالقدوم، فلا أعصي له أمرًا، أما مسقط رأسنا فهو القطر المبارك الذي لا يُجارَى في مجال فخار، ولا يشارك لبثنا في أهله ليالي وأيَّامًا، كانت في جبين الدهر غرة وفي فم الدنيا ابتسامًا، وكان هذا الصاحب صدر الصدور، الآخذ فيها دون سواه بمقاليد الأمور، آتاه الله الحكم صبيًّا، ولم يجعل له من قبل سميًّا، وكنت أنا زعيم جنوده، وعاقد ألويته وبنوده، فكنا نجتني ثمار النصر من ورق الحديد الأخضر، ونبتني منار الفخر على دعائم العز والمظهر.

الدهْرُ طَوْع يمينِنَا
والسعد بَيْنَ جَبِينِنَا
والحب يجمع بَيْنَنَا
ويزيد في تَمْكِينِنَا

ثمَّ فَوَّقَ إلينا الزمان سهام غدره عن قوس مكره، فعاد ضياؤنا ظلامًا، وارتواؤنا أوامًا، وسعودنا نحوسًا، وابتسامنا عبوسًا، وخزائن أموالنا أَفْرَغ من فؤاد أم موسى، فارتحل صاحبي من تلك الأنحاء، إلى بعض أقطار شاسعة الأرجاء، بَيْد أنه رآه مركزًا للاختلال، متأصِّلة في أرضها جرثومة الضلال، فأحب أن يعقد له فيها لواء رئاسة، وتراءى له أن مفاوضة رجال السياسة من الكياسة، فنظروا إليه نظرة المريض إلى طبيبه، أو المحب إلى حبيبه، ثمَّ قاموا بنصره، وأجمعوا على شد أَزْره، وولَّوْه عليهم أميرًا، وأوعزوا إليه بأن يجعل له من أهله وزيرًا وسميرًا.

لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة لمن جُهَّالُهُمْ سادوا

فأرسل لي بالحضور طبق عادته، وكأن أولئك القوم اطَّلعوا على إرادته، فلبَّيْتُ دعوته بقلب فرح وصَدْر منشرح.

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظنِّ أن لا تلاقيا

ولم آل جهد في إنجاز مآربه، واستنباط أسرار غرائبه ورغائبه، حتى تفجَّرَتْ بها عوارف المعارف عيونًا، وتوفَّرت فيها أسباب الرفاهية فقرَّت بها الأهالي عيونًا، وصارت مَحَطَّ رحال الفضلاء، وموئل القُصَّاد والنبلاء، تزجي الركائب إلى حَرَمِها الآمن من كل واد، وتُرْجَى الراحة من راحة عميدها الذي هو نعم العماد، ولم يَزَل الشوق إلى الوطن الأول كامنًا في الصدور، نودُّ لو تُظْهِرُه من حَيِّز الخفاءِ عجائبُ المقدور:

كم مَنْزِلٍ في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ

وكلما غرَّدت ورقاء على فنن، حرَّكت ما سَكَنَ في صميم الضمير وما استكن، وذَكَّرَتْنا سالِفَ أوقاتٍ مَرَّت حلوة، كأنها لِقِصَرِها سويعات، ويأبى الله إلا قضاء ما أَوْدَعَ في أم الكتاب، وهو العليم بما انطوى عليه مطويُّ ذلك الحجاب، حتى استفتحنا بتكرار الدعاء بابًا كان مقفلًا، واجتلينا من خدور الاستجابة وَجْهَ الرجاء أَغَرَّ محجَّلًا، وأتاح لنا الله محمد علي باشا نزيل الجنة، وأوحى إلينا باتخاذ حماة من الكوارث وقاية وجنة، فخفق طائر الفكر إلى رؤياه وطار، وحدانا حادي الإجابة إلى القدوم من تلك الأقطار، بفيقان نطالعه بما في النفس من الأوطار، فألفيناه رجلًا جمع بين الرئاستين؛ رئاسة السيف ورئاسة القلم، وفاز بالسبق في الحلبتين؛ حلبة الشجاعة وحلبة الكرم، فعرضنا عليه تلك القضية، ورجونا أن تكون حاجتنا بعنايته مقضية، فبرقت أسارير محيَّاه سرورًا، وآنس من هذا الاقتراح ارتياحًا وحبورًا.

وقال: الآن أبشرك يا مصر بالعمار، وأؤمل أن تصبحي بتوفيقه تعالى شامة وجنة الأمصار، ثمَّ قال: أسألكما معذرتي عن قضاء تمام الأرب، وأرجوكما أن لا تتمسكا والحالة هذه بعروة الطلب، فإنه لا تتلألأ أضواء فضائلك يا حضرة الشيخ في سماء الإمارة، ولا تنتقل مواكب وسائل في مناكب المملكة تَنَقُّل الكواكب السيَّارة، إلا إذا والى هذه الأقطار المباركة سمي وتولاها، وأجل في ميزان الممالك الشرقية علاها، وإنِّي لأغبطك على كونك ستعاصره، وتشد عضده وتناصره، فتمحو ما كان على صفحات المقادير سطورًا، وكم يأتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فهو الذي تقسم به دولتي غارب العلياء، ولا تبرح به عائلتي دوحة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فحمدت الله الذي قرب انجاز الأمل ثمَّ أخَّره، وأماته مدة عشرين جيلًا ثمَّ أَنْشَرَهُ، ونَطَقَتْ مني الرغبة بتأويل تلك الرموز، ورجوت أن أفتتح بمفتاح الصبر أبواب تلك الكنوز، حتى حَقَّقَ الله أمنيته التي تمنَّاها، وقد كانت حاجة في نفس يعقوب قضاها، واجتبى لمصر بعد فترةٍ سميَّهُ رافع منار العدل، وأتم نعمته عليه وعلى آل إسماعيل كما أتمها على أبويه من قبل، فاجتمعت قلوب الرعية على ولائه، وتقاطرت النفوسُ الازدحامَ تحت لوائه، فنهضت لاستلفات أنظار نجباء مصر، ليأخذوا بنصيبٍ من مزايا هذا النصر، إلى أن خلا لي الجو مع ذلك الرفيق الشفيق، وغشيني — ولله الحمد — نور التوفيق، كيف لا وقد طِرْتُ إلى سماء المنى بجناحِ نجاحِهِ، وكافحْتُ الأيام بسلاح إصلاحِهِ، وطمحت إلى مطالب لم تَخْطِرْ لي على بال، ومآرب أخرى هي في الحقيقة من ذوات البال، ولا مرية في أن عموم المصالح قبل الولاية، قد بلغت من سوء الإدارة كل حد وغاية، فأصبحَت الآن دائرة على محور الانتظام، قائمة بأمر الإصلاح خير قيام، يعلم ذلك من قاسَ الحاضر بالغابر، وكان على مطالعة الوقائع أول مثابر، وما ذلك إلا بعناية عزيز مصر سَمِيِّ الهمم، ورعاية وزرائه النبلاء أرباب السيف والقلم، حيث حَرَّكَتْهُم أريحية حب الوطن لتسوية صعاب المسائل بوسائط هنَّ لتحسين الحال نعم الوسائل، ولا مجال لِسَرْد مآثرهم التي يضيق عنها نطاق الحصر، وعد مفاخرهم التي تضوعت بنشر أريجها آفاق مصر، فقد تغنَّت بذكرها صحف الأخبار، وسارت بها الركبان في سائر الأقطار.

وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليلِ

قال الراوي: فلما وعينا ما سمعناه، واستنبطنا من سياق الخطاب مُحَصَّل معناه، قلت له: الله أكبر، لقد خلبتنا بحديثٍ أَرَقَّ من النسيم، وجلوت علينا من حميا السياسة كأسًا كان مزاجها من تسنيم.

من كل معنًى تكاد الراح تعشقه
لطفًا ويحسده القرطاس والقلم

فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، إنه لقول فصل، يعرب عن كمال نبل وفضل، مصدره ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثمَّ أمين، فبالله إلا ما أخبرتنا عن اسمك، وأعربت لنا عن حَدِّكَ ورَسْمك، فإنا ما سمعنا بمثل ذلك فيما غبر، وإن ما ألم بك كله لعبرة لمن اعتبر. فأومأ إلى فتاه، وقال: سلوه فإنه لسان حالي، ومعتزى روايتي في حلي وترحالي، إن شئتم أن أكاشفكم بحقيقة خبري، وأطلعكم على عجري وبجري، فانبرى الفتى كأنما نشط من عقال، وقال: لكل مقام مقال، وإن حديثي وحديثه لأغرب ما أنتجته الليالي الحبالى، وأعذب ما ارتشفت صرف كوثره الأسماع معينًا زلالًا.

والليالي من الزمان حبالى
مثقلات تلدن كل عجيبة

ولقد رفعني في النشأة الأولى مكانًا عليًّا، ثمَّ تولى عني فأصبحت من بعده مهجورًا شقيًّا، تحدق بي المصائب من كل جانب، وتعبث بحقوقي أيدي الأقارب والأجانب، فطفقت أعلل النفس بعودة النائي إلى سكنه، ورجوع الغريب إلى وطنه، حتى أظفرته يد الأقدار بهذه المنية، وأنالته قوة الاقتدار الفوز بهذه البغية، وعاد متلقيًّا راية التمدن بيمينه وشماله، منفقًا من سَعَتِه على الوطن إبريز نواله، فعدت بيمنه إلى خطة العز بعد الخمول، وأبصرت في سماء المعالي شموس المعارف بعد الأفول، ولئن كنت أختال اليوم في بُرْد الشباب، وأسحب مطارف الفخار على الأتراب، فله المنة التي لا تحيط بإيرادها دائرة الكلام، ولا تنفد ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام.

ولا فضل لي فيما أقول وإنما
أياديه عندي أَلْسُنٌ تَتَكَلَّمُ

قال المخبر بهذه الحكاية: فأمعنَّا النظر في المقالتين إمعان أولي الفطن، وأدركنا أن الشيخ هو التمدن وفتاه هو الوطن، ثمَّ أستأذن الشيخ في الانصراف من أرباب النادي، واحتفز للرحلة وهو يترنم بمدحنا تَرَنُّم الشادي، بعد أن دعانا لمشاهدة ما رواه بلسان الحديث، ورآه أثناء اجتيابه البروج من القديم إلى الحديث، فتعلَّقنا بأهدافه وسَرَتْ في أفهامنا حميا آدابه، وما برحنا نُجِدُّ السير مع ذلك الأمين، حتى هَتَفَ بنا داعي الشوق ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ، فرأينا بها ما شاء العزيز من مدارسَ جامعة، جَرَتْ فيها جداول العلوم والفنون، وتغنَّت بمَغْنَى رَوْضَتِها الغَنَّاء حمائمُ الآداب على الغصون، ومن مجالس تحرت العدل فحررت الأحكام، وراعت حرمة القوانين مع الضبط والإحكام، ومن جرائد أُفْعِمَتْ من الفوائد بغرائد، وعاد عائد موصولها على الصادر والوارد، ومن أماكن مُعَدَّة لتهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، وإبداء عرائس الآداب مكتسية من صورة التمثيل أَفْخَرَ جلباب، ومن سكك حديدية تطير آلاتها على أجنحة البخار، وأسلاك برقية سخَّرتها مَلَكة الاختراع لنقل رسائل الأخبار، ومن شوارع لا تَذَرُ فيها الأشجار شمسًا ولا زمهريرًا، تجري بها عيون يشرب بها عباد الله يفجِّرونها تفجيرًا، ومن رياض ائتلفت فيها صحبة الأزهار، وصارت كأنها جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن مصابيح دبَّت أرواحها في مجاريها دبيبَ السيل، ونسخت مشكاتها من صحيفة الجو آية الليل، وناهيك بدار التحف التي تأخذ بالأبصار، وتحار في وصفها دقائق الأفكار، وأمَّا النظارات الكبرى التي هي مركز دائرة الأعمال، وقِبْلَة الأماني والآمال، فقد رأينا بها ما ملأ الجوانح انشراحًا، وملك الجوارح طربًا وارتياحًا، من الانتظام الذي بلغ الغاية والنهاية، وطاب لأرباب الأقلام في وَصْفِه مقام الرواية.

رأينا بها ما يملأ العين قرةً
ويُسْلِي عن الأوطان كُلَّ غَرِيبِ

ثمَّ سألناه عمن اشتغل بمدح خلاله من الأطناب، وافتتح لشرح حاله باب الإعراب، فقال: أوَمَا رأيتموه مستويًا على عرش المدارس، يقتبس من فوائده كل لبيبٍ مُمَارِس. فقلنا: الظاهر أن العِلْم هو المقصود بذلك الصاحب المعهود. فقال: إي وربي إياه أقصد، وبنار هداه أَأْتَمُّ وأَسْتَرْشِد، فشكرًا لمن تَمَكَّنَ بواسطته من مصر تَمَكُّنًا أمكن، وأجاد فيما آتاه من فنون الإبداع وأتقن، ثمَّ انتقل من مقام الثناء، وأقبل على أداء فريضة الدعاء، فأمَّنا عليه بلسان الخلاص، وعَقَدْنا على حُبِّ الجناب العالي شرائط الاختصاص.

قال الراوي: وقد اضطرني بسحر شجونه وملح فنونه، أن أتَّخذه وأصحابي خليلًا صفيًّا، وأُعَاهِدُ الله أن أروي هذه المقامة ما دُمْتُ حيًّا.

(١) فائدة تاريخية: في الكلام على الدولة المصرية التي قَدِمَ في عهدها يوسف عليه السلام إلى مصر

تنقسم دولة الفراعنة إلى ثلاثة أقسام أصلية؛ أحدها: الدولة المصرية القديمة، وهي عبارة عمن تولى على مصر من ابتداء العائلة الملوكية الأولى إلى العاشرة، وذلك من سنة ٤٠٠٠ إلى سنة ٣٠٠٠ق.م ثانيها: الدولة المصرية الوسطى، ومبدأ أَمْر ملوكها من العائلة الحادية عشرة إلى السابعة عشرة، وذلك من سنة ٣٠٠٠ إلى سنة ١٧٠٠ق.م ثالثها: الدولة المصرية الحادثة، وأوَّل عائلاتها العائلة الثامنة عشرة وآخرها السادسة والعشرون، وذلك من سنة ١٧٠٠ إلى سنة ٥٢٧ق.م.

وقد شنَّ الغارة على مصر في عهد العائلة الخامسة عشرة القوم البغاة، المعروفون في تاريخها بالملوك الرعاة، «ويُلَقَّبون أيضًا بلقب إيكسوس، وهي كلمة مُرَكَّبة من لفظين، أحدهما إيك، ومعناه باللغة المصرية القديمة مَلِك، وسوس ومدلوله راعٍ»، وكانت مصر حينئذٍ مُخْتَلَّة النظام، متوفرة بين أمرائها أسباب البغضاء والاختصام، ومن ثمَّ امتلكها أولئك القوم، ونسخوا أحكام الدولة المصرية المتوسطة، ودمَّروا ما وجدوه من آثار الفراعنة الأصليين كما صنع التتار لدى استيلائهم على بلاد الصين، ثمَّ لم يلبثوا أن تخلَّقوا بأخلاق أهل مصر، واتَّخذوا بيوت مُلْك كالتي كانت للفراعنة في ذلك العصر، ونازَعَهُمْ في المُلْك قومٌ من أهالي الصعيد، ممن تَوَفَّرَتْ فيهم العصبية الملية والنخوة الأصلية، فانقسمت مصر إلى مملكتين؛ أحدهما بالجهة الجنوبية، وهي مصرية محضة، أخذ بمقاليد الحكم عليها فراعنة العائلة الخامسة عشرة والسادسة عشرة، وقاعدة مُلْكِهم مدينة طيبة. وثانيتهما بالجهة الشمالية، وأولياء أمورها الملوك الرعاة، وقاعدة ملكهم مدينة تانيس أو «أواريس». وقد ذكر المؤرخ يوسيفوس العبراني أن الملوك الرعاة يهود، جاءوا إلى الشام واستوْلَوْا على الوجه البحري الاستيلاء التام، وهو قَوْل مُتَشَيْنَع في نسبة الأقدمية لقومه. وقال شامبوليون الفرنساوي: إنهم من سكان آسيا الشمالية، من أبناء السيتيين، مستدلًّا بما رآه مرسومًا على الآثار المصرية، من كونهم ذوي بشرة بيضاء وعيون زرق وشعر أشقر أو أحمر، والصحيح ما قاله مانيتون المصري من أنهم فينيقيون وعرب لا غير.

وقد قَدِمَ يوسف عليه السلام في عهد فرعون «آبوفيس» أحد الملوك الرعاة إلى مصر، وترقى إلى منصب الوزارة، وَأَقْطَعَ إخوته أرض جاشان، التي تُعْرَف برعمسيس أيضًا، وفي خطاب بعث به المغفور له مارييت باشا الفرنساوي إلى الكونت روجيه العالِم بعلم الآثار المصرية، ما يدل على أن استيلاء الملوك الرعاة على مصر لم يَمْحُ آثارها، ويطفئ — كما زعم مانيتون المصري — أنوارها، بل انتهى الأمر بهم إلى أن أَقْبَلُوا على التمدُّن المصري كل الإقبال، وأعانوا على توسيع نطاقه لكونه أمرًا ذا بالٍ، والدليل على ذلك ما وُجِدَ في أطلال مدينة أواريس من إتقان الصناعة، الذي يُثْبِت للملوك الرعاة السبق في ميادين البراعة، هذا فضلًا عن كَوْن فرعون يوسف الآنف الذكر اتخذ اللسان الهيروجليفي اللغة الرسمية، وآثر أداء العبادة للآلهة المصرية، مشركًا معها إلهًا آخر يُقال له «سوتيكا»، مع حرصه في ذلك كله على عدم الإخلال بشعائر المصريين الدينية، حتى إنه صوَّر الإله المذكور بصورة تُمَاثِل صُوَر آلهتهم.

ولم يَزَل الرعاة حكَّامًا على مصر حتى انقرضت العائلة السادسة عشر وأَعْقَبَتْها السابعة عشرة، وفي عهدها قام المصريون على ساق وقدم، وتَمَشَّى دَمُ النخوة في مفاصلهم كتمشي البرء في السقم، وانْتُدِبَ مؤسسها المسمى فرعون آموزيس، وحارب الملوك الرعاة وظفر بهم، واستولى بطريق العنوة على قاعدة ملكهم، ثمَّ اضطروا لأن يفرُّوا إلى ما وراء برزخ السويس، ويهاجروا إلى قارة آسيا، غير أنه رَخَّصَ لبقية منهم في المقام بمصر مستأمنين، وأقطعهم بعض أراضٍ يفلحونها (قال مارييت باشا)، وقد صارت تلك البقية طائفة مخصوصة في شرقي الأقاليم البحرية، كما كانت طائفة بني إسرائيل في ذلك العصر، والفرق بينهما أن بقية الملوك الرعاة لم تكن لها حادثة هجرة وطنية كالتي أُثِرَتْ في التوراة عن بني إسرائيل، بل هي مقيمة إلى الآن على شواطئ بحيرة المنزلة، وتمتاز بقوة البنية وعبوسة الوجه.

ومن هذا الفصل يُؤْخَذ بأن التي رَاوَدَتْ فتاها عن نفسه لم تكن مصرية الحسب، بل هي من الملوك الرعاة غريبة المحتد والنسب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤