عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق

كتاب عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق للكاتب الأديب والنابغة الفاضل الأريب حضرة «وهبي بك» ناظر مدرسة حارة السقائين القبطية ومُدرِّس فن الإنشاء والعلوم العربية والفرنساوية، حفظ الله كماله وبلَّغه من المقاصد الحسنة آماله آمين

وإذا بدا لا تستقلُّوا حجمه
وَحياتِكم فيه الكثير الطيب
الطبعة الأولى
برخصة من قلم المطبوعات بنظارة الداخلية
بالمطبعة الإعلامية سنة ١٣٠٢ هجرية
فهرست كتاب عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق.
صحيفة
٢ خطبة الكتاب.
٧ مقدمة الكتاب، وفيها فصلان.
٧ الفصل الأول: في ملخص قصة يوسف عليه السلام.
٩ الفصل الثاني: في الدلالة على عُلوِّ درجة مصر من قصة يوسف.
١٢ المقامة الأولى: في مبدأ أمر يوسف عليه السلام، وفيه فصلان.
١٢ الفصل الأول: في بيع إخوة يوسف إياه، وما حدث بينهم حين قصَّ عليهم رؤياه.
١٥ الفصل الثاني: في بيع يوسف للإسماعيليين.
١٧ المقامة الثانية: في حزن يعقوب على يوسف عليهما السلام، وما جرى له مع أبنائه بالتفصيل في هذا المقام، وفيه فصلان.
١٧ الفصل الأول: فيما جرى بين يعقوب وبين الرسول.
١٩ الفصل الثاني: فيما جرى بين يعقوب وبين أبنائه حين دخلوا عليه وهو يخاطب الرسول.
٢١ المقامة الثالثة: فيما جرى ليوسف عليه السلام بدار فوطيفار وزير فرعون مصر، وفيه فصلان.
٢١ الفصل الأول: في مراودة امرأة العزيز ليوسف عن نفسه.
٢٥ الفصل الثاني: فيما جرى ليوسف عليه السلام مع فوطيفار وزير فرعون مصر.
٢٦ المقامة الرابعة: في خروج يوسف من السجن، وصيرورته وزيرًا لفرعون مصر، وفيه فصلان.
٢٦ الفصل الأول: في رؤيا فرعون، وما جرى بينه وبين رئيس السُّقاة.
٢٨ الفصل الثاني: في تأويل يوسف عليه السلام رؤيا فرعون مصر.
٣٠ المقامة الخامسة: في قُدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر من أرض كنعان لالتماس المؤنة، وفيه فصلان.
٣٠ الفصل الأول: فيما جرى بينهم وبين يوسف عليه السلام.
٣٢ الفصل الثاني: في مفارقتهم يوسف وتأسُّفهم على ما وقع منهم في حقه.
٣٤ المقامة السادسة: في تعرُّف يوسف عليه السلام بإخوته، وفيه أربعة فصول.
٣٤ الفصل الأول: في قدوم إخوة يوسف مع بنيامين من أرض كنعان إلى مصر.
٣٥ الفصل الثاني: في إرسال يوسف عليه السلام وكيلَه خلف إخوته عقب رحلتهم من مصر.
٣٥ الفصل الثالث: فيما جرى بين الإخوة وبين الوكيل وأصحابه.
٣٦ الفصل الرابع: في وقوف الإخوة بين يدَي يوسف عليه السلام، وما جرى بينهم وبينه من الحديث في هذا المقام.
٤٠ المقامة السابعة: في قُدوم يعقوب عليه السلام من أرض كنعان إلى مصر، وفيه فصلان.
٤٠ الفصل الأول: في اجتماعه بيوسف عليهما السلام.
٤٣ الفصل الثاني: في اجتماع يعقوب عليه السلام بفرعون مصر.
٤٥ المقامة الثامنة: في نقل جثة يعقوب عليه السلام من مصر إلى أرض كنعان، وفيه فصلان.
٤٥ الفصل الأول: في رثاء يوسف ليعقوب عليهما السلام.
٤٧ الفصل الثاني: فيما خاطب به الإخوة يوسف عليه السلام.
٤٧ خاتمة وعظية وصفية لمجمل السيرة اليوسفية.
٤٩ مقامة وهبية تروي بحلاوة روايتها الغليل، وتأتيك بالخبر المسلسل عن وادي النيل، مُنشأة بقلم مؤلِّف هذا الكتاب، لا زالت فرائد فوائده تملأ الحقيبة والوطاب.
٥٧ فائدة تاريخية: في الكلام على الدولة المصرية التي قَدِم في عهدها يوسف عليه السلام إلى مصر.
٥٩ تفسير ألفاظ ما تضمَّنته هذه المقامات الأدبية من كلمات لغوية مع مراعاة الحروف الأصول وضبطها على ترتيب حروف المعجم ضمن أبواب وفصول.
٨٧ خاتمة الكتاب.

تمت الفهرست.

إصلاح خطأ وقع في بعض نُسَخ هذا الكتاب.
صحيفة سطر خطأ صواب
١٦ ١٥ فارحموه وواخوه فارحموه وآخوه
١٧ ٩ بالله إن جزتم عَلَى بالله إن عجتم إلى
٤٢ ٥ وألفيت به اثنين ودخله معي فتيان
٤٤ ١٩ أسعد بأخبار اللقاء واسعف فاذكر أويقات اللقاء واسعف
٤٦ ١٣ ورفوا لثوب الغم ورفأ لثوب الغم
٤٩ ١٤ بِيد الذي برأ العباد بِيد الذي أنشا العباد
٥٦ ١٩ من مصر تمكن أمكن من مصر تمكنا أمكن
٥٧ ١٩ ونسخوا ما وجدوه ودمَّروا ما وجدوه
٦١ ٥ في المثل حبلك وفي المثل حبلك
٧٣ ٢٢ الخفوق والخفقان مصدرا الخفوق والخفقان مصدر
٧٥ ٢٣ السدل مصدر أسدل السدل مصدر سدل
٨٤ ١٤ والموسى آية والموسى آلة

ملاحظة: قوله «أمم» في صحيفة ٧٦ سطر ٢٣ حقه أن يوضع بعد قوله «أزم» في الصحيفة التالية.

(١) صورة ما كتبه الحسيب النسيب رب المعالي المزرية أقلامه بالسمر العوالي من إجابته السعيدة بلبيك، حضرة الأمير صاحب العزة علي بك فهمي، نجل المغفور له رفاعة بك، لا برح يعزز بطارف مجده تلاده، ومآثره الغر في جيد الزمان قلاده

بسم الله الرحمن الرحيم

باسمك يا مصوِّرَ الكائنات يُسْتَفْتَح المقال، وبإرشادك يا مُقَدِّر تجري الحركات والسكنات عَلَى أَبْدَعِ مثال، فنحمدك عَلَى أن جعلت أرواحنا لبديع ذاتك القدسية مرايا تمثيل وتشخيص، وأشباحنا لمظاهر صفاتك الجمالية والجلالية ربوع تأنيس ومعاهد تنصيص، ونصلِّي عَلَى جميع أنبيائك في أرضك وسمائك، الذين طبعوا صور الهداية في قلوب تابعيهم، وتخلَّقوا بأخلاق الله فصدع بأمر الحق داعيهم، وعلى ختام مسكهم وعقد نسكهم محمدنا الأكرم وهادينا الأعظم أفضل صلاة وأزكى سلام، يتأرَّج بغررهما ويتتوج بدررهما سواد الليالي وبياض الأيام. وبعد … فمن البيِّن ما ينجم عن فن التاريخ من الفوائد، وما يصل من تلك الفوائد إلى المجتمع الإنساني من العوائد. وكما أن سلسلة العلوم والفنون متصلة الحلقات، مرتبطة العلاقات، لا يستغني الواحد منها عن الآخر من حيث ضرورة الهيئة الاجتماعية، عَلَى اختلاف الجنسية، وتبايُن النوعية، فكذلك الصدور القابلة والألسنة القائلة والأعين الناظرة وسائر القوى المدركة، وهي وإن اختلفَتْ أميالها الاختلافَ المحسوس، لكنها جعلت الائتلاف العام متحدة المذاهب عَلَى إيراد مورد العلم المأنوس، ونخص في هذا الموضع من بين ما ذكرناه فن التاريخ المعتبر؛ فإنه فضلًا عن إجماع الأديان عَلَى استحسان تَعَلُّمه، قد عدَّه علماء الإسلام مما له بين العلوم العربية النفع الأكبر، حيث متجددات الأزمان، والمستحدثات التي قضى بضرورتها الإمكان، ولدت فرعًا منه مجهول النسب، حارب الممالك بمعنوياته، فتارة غلب وتارة غلب، إلى أن سَمَى عَلَى التخصيص باسم فن التمثيل والتشخيص، ولُقِّبَ هذا الطفل اليفاع بألقب البطل الشجاع، وخاطب نفسه بنفسه بعد أن تمكَّن من إخماد أثره وإنتاج غرسه بقوله:

وقولي كلما جشأت وجاشَتْ
من الأبطال ويحَكِ لا تراعي
فإنك إن سألْتِ بقاءَ يومٍ
عَلَى الأجل الذي لَكِ لم تطاعي

إلا أن هذا الفن المستحسن لا يمكن لنا الحكم له أو عليه، وأن نسبة التحريم أو الجواز تصل إليه إلا إذا عرضناه بذاته وصفاته عَلَى حاكِم الشرع، الذي قبل الأصل ولم يَنُصَّ عَلَى قبول الفرع. أمَّا من حيث ذاته والغاية المقصودة، فهو الضالة المنشودة والآية المحمودة، التي تدفع غائلة الاستبداد، وتضمن خلوَّ البلاد من الفساد والإفساد، وتطهِّر الأخلاق وتجدِّد في العروق دمًا أصيل الأعراق، وتوافِق بلا شك ما عليه قواعد الدين من السعي في قطْع دابر الظلمة الملحدين. وأمَّا من حيث صفاته العارضة، فهي التي يُنظر فيها بعين المعارضة والمناقضة، اللهم إلا أن يكون في الإمكان إزالتها حيث ساءت حالتها، واشتملت عَلَى ما ليس يليق بالإنسانية، المشروط اعتبارها في الأديان، واشتبهتْ عَلَى أهل البلاد الأجنبية فسمَّوْها بتكميل أنواع المدنية، وهو مَحْض بهتان، بل وساوس شيطان، فينتج من ذلك أن هذا الفن بمدلوله الأصلي إن خلا عن عوارض تشينه، وتحلَّى بمباحات تزينه، وتقلَّدَ بعلو همة، وتجرَّد عن انتهاك حُرْمَة، ولم يكن آلة موصلة للنفوس الدنية، إلى ارتكاب ما لا يليق بالإنسانية، فهو الواجب سياسةً والجائز شرعًا، والمباح عادةً والمحلل طبعًا، والحسيب النسيب أصلًا وفرعًا. وكما أن عين الأهمية لحظت هذا الأثر الحميد، واعتبرتْهُ كلُّ جمعية إنسانية لجيد المدنية عِقْدَهُ الفريد. كذلك كان القائمون بالتأليف فيه، وجميع عماله وواضعيه، معدودين في الطبقات الأهلية من الطراز الأول، وفي رَفْع راية المدنية ممن عليهم المُعَوَّل، فلا جرم أن قادت النفس الناطقة والهمة الصادقة ذا الفضل الكسبي والوهبي، المتفنن في كل فن سائغ المشرب هني، الماجد الأنجب، والأكمل المهذب، حضرة وهبي بك ناظر مدرسة حارة السقائين القبطية، ومعلم دروسها اللسانية والعلمية إلى الانتظام في رجال هذا السلك النفيس، بتأليف هذه القصة التي اشتملت عَلَى تشخيص أعاظم رجال طيوة ومنفيس، وأسفر بدرها الغير المحجوب، عن وَجْه يوسف وسرور يعقوب، وانتظم درها وما انتثر، بالكواكب الأحد عشر، هذا ولا لَوْمَ ولا تثريب عَلَى مؤلف هذه القصة الأديب الأريب كما يسبق إلى الذهن من أول وهلة، وإلى من لا يألف هذا الفن في الجملة، لا زالت دولةُ القلم ظافرةً بجيوش الجهالة، وصولة العمل قائمة عَلَى تبديد البطالة، ورجال التأليف آخذين بعنان الاجتهاد وبنان الترصيف مخضبة بسواد المداد ما بلغ أولو العلم المشتهى، وتَمَّ أمْرٌ وانتهى. آمين.

(٢) صورة ما كتبه الأديب رب البراعة، وحائز قصب السبق في ميدان اليراعة، حضرة حفني أفندي ناصف، أحد متوظفي قلم النيابة العمومية بمحكمة مصر الاستئنافية. قال فراع الألباب بأدبياته، ونظم الثريا في أبياته

أُعِيذُكِ من شر الحواسد يا مِصْرُ
فقد آن أن يزهو بأبنائك العصرُ
وتظهر للأيام منهم براعةٌ
يكون بها بين البلاد لك الفخرُ
وما أنتِ في حوز الفخار دَعِيَّة
ولكنْ قضاءٌ والليالي لها سِرُّ
وتلك صروف في ظروف تَقَدَّمَتْ
لتأخيرنا حينًا فلا ردَّها الدهرُ
فإن كُنْتِ قد قَصَّرْتِ فيما مضى ففي
طوالِعِ الاستقبالِ ينتظم الأمرُ
وحسبُكِ أن قد لاح فيك أئمة
لهم في دواوين النُهى النَّهْيُ والأمرُ
غنوا بابتياع المجد حتى علا لهم
عَلَى المشترى قَدْرٌ وسار لهم ذِكْرُ
ومالوا إلى نَشْر المعارف والهدى
ففاح عَلَى الأكوان من طِيبِها نَشْرُ
وإن جَحَدَ الغر الجهول فخارهم
فهذا دليلٌ أن آثارهم غُرُّ
كتاب لوهبي بك عز نظيره
إذا قِسْتَهُ بالدر يُسْتَحْقَرُ الدُّرُّ
تخال إذا طَالَعْتَهُ أنَّ ما مضى
من الأمر مشهود وهذا هو السحرُ
وتنظر في أسجاعه حُسْنَ يوسُفٍ
فيا حبذا في حُسْنِهِ السجع والشعرُ
به تُشْحَذُ الأذهان والروح ترتوي
بعذب معانيه ويَسْتَرْشِدُ الفكرُ
فإن تكُ أقوالُ الأنام كثيرةً
فما مثل هذا يحسن النظم والنثرُ
فيا قومي احذوا حذو ناسج بُرْدِه
فما للفتى من دون آدابه قَدْرُ
وأحيوا بهذا العصر لهجة قومكم
فليس عَلَى نسيانها يَحْسُن الصبرُ

كتاب عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق للكاتب الأديب، والنابغة الفاضل الأريب حضرة «وهبي أفندي» ناظر مدرسة حارة السقائين القبطية ومدرِّس فن الإنشاء والعلوم العربية والفرنساوية حفظ الله كماله وبلغه من المقاصد الحسنة آماله آمين

وإذا بدا لا تستقلوا حجمه
وحياتكم فيه الكثير الطيب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الدنيا أم العبر، يَعْتَبِرُ المتأخِّرُ فيها بأنباء من مضى وغَبَر، فأَوْرَدَ من اختصه بتوفيقه موارِدَ نعمائه السائغة، وأَوْرَدَ في كُتُبِهِ ما فيه مزدجر حكمة بالغة، فسبحانه من إله جَعَلَ شمائل أنبيائه ديوانًا أُودِعَ ما رَقَّ من الفوائد وطاب، وفضائل أصفيائه عنوانًا عَلَى ما أوتوا من الحكمة وفَصْل الخطاب. أمَّا بعد … فإن من تَوَشَّحَ من الأذكياء بوشاح الأدب، وترشح لأن يميز من الحقائق بين الدرر والمخشلب، يتبيَّن ما قَضَتْ به الأقدار بتزكية شهود العادة، من أن كل مملكة يتنازعها قوتان شقاء وسعادة، فحيثما كان ولي الأمر طيب المزايا، تَشِفُّ عن ضياء سيرته الحميدة مرايا، فهو ولا مرية أولى من الأول بالثاني، وخير من يغني ذِكْر ما آثره اللبيب عن رنات المثاني، وإن أدل بدولته فأشقى الرعية، وأسخط الحق بانتهاكه حرمة الأصول المرعية، كان بمصير أَمْرِه في الآخرة غير بصير، وما له في الأرض من وليٍّ ولا نصير، وبطرفي هذا في القياس تُعْقَد سعادة البلاد وشقاؤها، ويجري القضاء بما فيه انقراض الدولة أو بقاؤها، فالحمد لله؛ أتاح لمصر أميرًا هو السيد المرتضى.

والهمام الذي استأصل شأفة الطغاة بسيف عزمه المنتضى، أصبحت المدارس بعنايته كأنها روض وريف وريق، أو حلبة آداب يَسْتَبِقُ فيها كماتها فريقًا يتلوه فريق، فلله دره ابتسم عَهْدُهُ فاستبكى كل عهد ذَهَب، وارتسم اسمه في تاريخ ملوك مصر بماء الذهب، وإن لمصر في التاريخ لشأنًا دونه الفرقدان، وفخرًا يرويه عنها من أبناء الزمان قاصٍ ودانٍ؛ لأنها البقعة المباركة التي ضُرِبَتْ فيها سرادقات العمار، والكعبة التي كان بها للطائفين هناك اعتمار، ولَكَمْ يؤمها الآن حريص من العلماء، عَلَى مشاهدة آثار القدماء، فيتهيب أنى جاء تلقاء أبي الحجاج أو الهرمين، تهيب جماعة الحجاج ساعة زيارة الحرمين، ولو هاله أبو الهول وهو يُحَدِّق لعين شمس، ويفرق بين حاله اليوم وما كان عليه بالأمس، لارتضى بالدلالة الالتزامية قولًا شارحًا لعظم هاتيك القرون، الذين كانوا يبيعون المعارف عَلَى سواهم من الأمم ولا يشترون، ثمَّ أَوْسَعَهُم الدهر حسدًا، وَكَرَّ عليهم بصروفه أسدًا، فاضطروا الآن يستبدلوا الإقدام بالإحجام، وأن يدينوا وهم صاغرون لملوك الأعجام، الذين طفقوا يقيمون عليهم من حيث لا يحتسبون أدلة، وإذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة، ولقد مكَّن الله في الأرض لذي القرنين، وخضعت له الأمم عَلَى بُعْد المشرقين، فأغلق في وجوه أولئك الفرس بابَ النصر، وافتتح برأيه المسدَّد وسيفه المهنَّد مُلْكَ مصر، ثمَّ ثَبَّطَتْه المنون عما كان يروم إليه الجنوح، فأصبحت ممالكه تبكي عَلَى شبابه الغض وتنوح، وتقسم بعض قادته آخذًا من القسمة المقدَّرة بنصيب، مصيبًا زعيم البطالسة عروس الأقطار الشرقية بنصيب، فكانت له في إنشاء مكتبة الإسكندرية يد بيضاء، ولخلفائه من بعده عزيمة ذات مضاء، إلى أن أخنى عَلَى دَوْلَتِهِمْ بمصر الزمان، واعتاض عنها بالتي هي لقياصرة الرومان، فأرسل إليها أولئك من الرعاية طرفًا كليلًا، ولم يُقْبِلُوا عَلَى ملاحظة شئونها إلا قليلًا، فلو لم تَدْفَعْ بمقاليد الطاعة لابن العاص، ويستسلم لأحكامه من أهلها منقادٌ وعاصٍ، لما نزلت منزلةَ الصدر في صدر الإسلام، ولما اعتزت بصيرورة دار الخلافة مدينة السلام، وما زالت الأيام تحكم عراها وتحلها، وآونة ترحل عنها السعادة وآونة تحلها، حتى انقلب ملوكها مماليك، واستوى سراتها والصعاليك، فأغار عليها في ولاية الغوري آل عثمان، واستسلمت للسلطان سليم عقب فتكه بطومان، لكنها لم تَبْرَح حالها متشاكسة متعاكسة، لتداوُلِها بين أيدي الولاة وبقاء نفوذ الشراكسة؛ فلهذا طمعت الجمهورية الفرنساوية في افتتاح أبوابها المغلقة، وأن تسود عليها — والحالة هذه — سيادة مطلقة، وأصرَّت عَلَى أن تجعلها إقليمًا فرنسويًّا، ولم تَعُدْ إلى دار الخلافة إلا بعد ثلاث سنين سويًّا، حين أُتِيحَ لها من نَاضَلَ عنها بحسامه وقَلَمِه، وبسط عليها منصور لوائه ومنشور عَلَمِه، فاقتطف من الآمال ثمرًا جنيًّا، وشرف وهو — محمد علي باشا — لكون أصله مقدونيًّا، بل نَظَمَ المنتثر من أحوالها نَظْم العقود، ونَبَّهَ أجيالًا بها كنت تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، وقد اقتدى به — ولله الحمد — خلفاؤه، الذين هم أولياء التمدُّن وحلفاؤه، فاخْتُصُّوا بمنشآت يتمدَّح بها من شدا أو أشاد، وأوتي ولو مثقال ذرة من الرشاد، وحسبك بمن يتنقل في الرئاسة من أصل لفرع، مؤيدة سياسته وهو سَمِيُّ التوفيق بنصوص أحكام الشرع، حتى اعتز به القطر بعد البؤس والباس.

وافترت ثغور المعارف كأنه الرشيد في بني العباس، مدارسه العامرة تَدْحَضُ بآياتها البيِّنات حُجَّةَ الممتري، وتغلو سيمتها عَلَى ذات الراصد القاصد المشتري، هي الروضة الناضرة، ذات القطوف الدانية، والغادة الناظرة، إلى مديرها اليعروف سرًّا وعلانيةً، ومنها المدارس القبطية التي هي شامة في وجنة المدارس، كما أن مَنْ عَرَفَ غبطة رئيسها الروحي وشامه، علم أنه المحيي من مآثرها الطَّلَلَ الدارس، وكأيٍّ للجناب العالي من منن كبرى وآلاء، يخفق لها عَلَى المدارس القبطية لواءُ علاء، حتى روى حَدِيثَها أولو الفضل أيما رواية، وتجاوَزَتْ في ترقية أبناء الوطن حدَّ الكفاية، لا سيَّما مدرسة حارة السقائين الزاهرة، في محروسة مصر القاهرة، فقد تفرَّق طلبتها بين مُمْتَطٍ غارب الآداب، أو متعلق من العلوم العقلية بالأهداب، وبين مادٍّ للخدمة الأميرية ليفوز في الوطن بالوطر باعًا، أو معمر عَلَى حداثة سنه من معاني الأدب أبياتًا ورباعًا، ولقد قمت بخطة نظارتها وفْق الأرب قيامَ الأمين، وتلقيت بها راية العلوم الأدبية تَلَقِّي عرابة العرب باليمين، فانتقيت الدر المختار، من أصداف المنافع، واستسقيت بيد الاختبار، السائغ من مياه تلك المنابع، ولما كانت قصص الأنبياء ريحانة الألباء، والمرآة التي تجلو بصيرة المشتغل بفن الألف والباء، عنَّ لي أن أُفْرِغ قصة الصديق عليه السلام، في قالب من صياغة التمثيل، وأقدم بها عَلَى رحاب أمراء الكلام، مع كوني حفيظًا عَلَى معاني التنزيل، إذ هي قصة مدبجة المعاني، بديباج عجائب المقدور، مؤسسة المباني، عَلَى دعائم عظة تنشرح بتلاوتها الصدور، قصة يوسف حُسْنُها عزيز، وثمين كَنْزها جوهر وإبريز، تَعَانَقَ فيها التاريخ بالحكم، فعزَّ أن يكون لها نظير في الكيف والكم، اشتملت عَلَى تجارة رابحة، ومخاصَمة ومصالَحة، ورشاد وغواية، ومبدأ وغاية، ومكائد نساء، وإحسان لمن أساء، وخَفْض ورَفْع، وضَرَر ونَفْع، وتدبير وسياسة، وتوفير في القوت حَكَمَتْ به الكياسة، وعفة وأمانة، واهتمام بخيانة، وعالِمُ مَنَام، وصادِقُ أحلام، صَحَّحَها عالَمُ الحقيقة، عَلَى أبدع طريقة، وفن حفْظ زراعة، لدفع أَزْمة مجاعة، وبالجملة فهي جوهرة من أنفس الودائع الفاخرة، وسفينة ببضائع البدائع ذاخرة، وأكمل قصة جمعت بين خيرَي الدنيا والآخرة، ولَرُبَّ مُنْتَقِدٍ يَطَّلِع عليها فيستوكف مُزْن الانتقاد، ويقوده الغرض إلى سوء الاعتقاد فينقاد، عَلَى أنه لو تصفحها تصفُّح الذكي الأريب، وأَلْحَقَها بالمقامات التي لها كبير مدخلية في التهذيب، لَأَدْرَكَ بأن هذا الأسلوب أشد عَلَقَة بالأسماع، والصراط الحميد الذي انعقد عَلَى تقريظه نطاق الإجماع، وأين أنت ويوم عروبة شهدها فيه أولو الألباب، وتقاطروا علينا في حديقة الأزبكية من كل باب، فنهضنا بتمثيلها نهضة الرجال، وأسْعَدَتْنا المقادير ببزوغ شموس طلعة الأنجال، وها أنا أبديها خريدة، عَلَى منصة الجمع بين الأصول، وأهديها فريدة، في عقد مقدمة وثماني مقامات وخاتمة وفصول، موسومة «بعنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق»، واللهَ أسأل أن يتولاني بتوفيقه فيما عوَّلت، فهو وحسبي تبارك اسمه وعليه توكلت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤