الفصل الرابع

النشاط الاقتصادي

(١) النقابة الزراعية المصرية العامة

أُسست في سنة ١٩٢١ بحضور جمهور كبير اجتمعوا للدفاع عن مصالح الزرَّاع، وانتُخب حضرات أعضاء مجلس إدارتها من بينهم.

وهذه خلاصة صغيرة جدًّا من أعمالها التي تملأ القرارات الصادرة منها بعد البحث المستفيض، مجلَّدين كبيرين، وتملأ تفاصيل تلك الأعمال مجلدات كثيرة موجودة في محفوظاتها، إذ كان يستغرق البحث في كل موضوع من المواضيع التي اهتمت بها اجتماعات كثيرة، ويشتمل على ما يصعب إحصاؤه من المطالعات والمراجعات والمداولات.

وقد أوجدت النقابة منذ تأسيسها روح الكفاح عند الشعب عن قطنه وسائر محصولاته، تفاديًا من أن تُباع سلعه بخسة، واستخدمت لذلك تارة طريقة الوساطة لدى الحكومة في تبيين مواضع العلل لتداركها، وتارة طريقة النصح للزرَّاع والدلالة على وجوه الصواب مما فيه جلب خير لهم أو درء شر عنهم.

كان أول عملها في سنة ٢٠–١٩٢١ أنها توصلت بمداولاتها ومساعيها لدى الحكومة إلى أهم الأمور الآتية؛ وهي: إقرار تكليف البنك الزراعي فتح أبواب التسليف لصغار الفلاحين من غير إخلال بقانون الخمسة الأفدنة، والإيعاز إلى البنك الأهلي بإقراض كبار الزراع بضمان الخزينة، على أن لا يضطرهم إلى بيع أقطانهم، ودخول الحكومة سوق القطن شاريةً في داخلية البلاد وفي ميناء البصل، ووقف إنفاذ قانون الحلج قبل ٣٠ أبريل مؤقتًا. فكان من أثر هذه القرارات نهوض سعر القطن من ١٨ ريالًا إلى ٢٨ فما فوق، وإنقاذ البلاد من كارثة اقتصادية كانت شديدة التهديد لها.

وما زالت منذ عشر سنين توالي مباحثها في أسعار القطن يومًا بيوم ولا تنقطع عن الاتصال بالحكومة لإبلاغها كل ما يطرأ من الأمور الموجبة لاتخاذ الحيطة أو دفع المحذورات، وهي تدعو كلما أنذرت الحالة بخطر إلى اجتماع عام كبير للزرَّاع. وقد بلغت هذه الاجتماعات العامة أربعة، فكان الذين يشهدونها ينظرون في الوسائل التي تتفادى منها الأزمات، وتُرفع نتائج قراراتهم وأمانيهم إلى الحكومة، وتُنشر في الصحف على أثر كل اجتماع.

وقد مثلت النقابة مصر حكومةً وشعبًا في المؤتمر القطني العالمي الذي عُقد في مانشستر وليفربول بين ١٣ و٢١ يونية من سنة ١٩٢١، حيث ناب عن وزارة الزراعة وعن النقابة عضوان من مجلس إدارتها في حضور ذلك المؤتمر، وأسمعا الغزَّالين لأول مرة صوت مصر ومطالبها ودلَّا على وسائل حسن التفاهم بين المنتجين المصريين والغزَّالين، وهي التي قامت بقسم ذي بال في أعمال المؤتمر القطني العالمي الذي عُقد في القاهرة سنة ١٩٢٧ والمؤتمر القطني العالمي الذي عُقد في برشلونة سنة ١٩٣٠. ومن أعضائها من يعمل بكل جد ومثابرة في لجنة القطن الدولية المختلطة التي ألفها اتفاق الرأي في المؤتمر لدراسة كل حالة تُوطد بها الصلات وتُزال منها وجوه الخلاف بين المنتجين والغزَّالين.

النقابة ناضلت في مسألة التنافس على شحن القطن المصري سنة ١٩٢٠ وسنة ١٩٢١ نضالًا مشهودًا، كان من نتيجته هبوط أجر القطن المشحون من ٦٠ شلنًا لأمريكا إلى ٣٥ شلنًا لإنجلترا و٤٠ شلنًا لأمريكا.

النقابة والت مساعيها لتقليل الوسطاء بين منتجي القطن وغزَّاليه، فلم تظفر بتحقيقه مباشرة، ولكنها فازت فوزًا كبيرًا من طريق آخر برد الأرباح الطائلة التي كان يغنمها الوسطاء إلى أرباح معتدلة. ومن هذا القبيل نذكر أهم وسيلة استخدمتها وهي الآتية:

النقابة درست أحوال بورصة العقود وأحوال بورصة البضائع، وتباحثت فيه سنوات كثيرة في عشرات من الجلسات، وقدمت عنها مذكرات ضخمة وافية للحكومة، وظلت تتعقب أنواع الحيف الواقعة فيها على المنتج حتى أفضت إلى إقناع ولاة الأمور بضرورة تعديل لائحتي البورصتين المذكورتين، وفي خلال العمل على تعديلهما كانت النقابة توالي معاونة الحكومة في دراسة تلك المواضيع من وجهاتها العلمية والعملية الدقيقة، وتدل على مظنات الخطر حتي يسَّر الله تحقيق تلك الأمنية بعد العناء الذي لم ينقطع مدة العشر سنوات.

النقابة سعت مساعي متكررة، بعد تقديمها مباحث ومذكرات متعددة، لتعين مندوبًا للحكومة في بورصة ميناء البصل، وقد تقرر وعُيِّن في النهاية. وأهمية هذه الرقابة لمصلحة المنتجين لاتخفى.

النقابة سعت وكررت القرارات والالتماسات في تخفيض أجور النقل بالسكة الحديدية على المنتجات الزراعية، وقد تحقق جانب مهم من أمانيها.

النقابة بدأت المباحث في مسألة نقاوة بذرة القطن، فلما اقتنعت بها وزارة الزراعة وشرعت في الأخذ بها. كان لمندوبي النقابة عمل متصل جليل الأثر فيما أعدت لذلك من القوانين التي يجني القطر الآن فوائد جمة منها.

النقابة سعت لخفض السعر المقرر للحليج بعد أن كان قد جاوز في الغلاء حد المعقول منذ سنة ١٩٢١، فاستمعت لها المحالج الوطنية آنئذ وأنزلت السعر إلى نصف ما كان عليه، وقد ظلت النقابة عامًا بعد عام تكرر مجهودها لذلك كلما آنست مسوِّغًا.

النقابة بذلت أكبر مجهود عندما شُرع في فرض الضريبة الأمريكية على القطن الطويل الشعرة، وقدرها سبعة دولارات على القنطار لتحول دون إقرار تلك الضريبة، فاجتمعت بحضرات ممثلي الولايات المتحدة في القطر وأدلت لديهم بحججها، وبعثت بالبرقيات الكثيرة الكلفة وبالتقارير الوافية والبيانات إلى الصحف الكبرى والغرفة التجارية العليا في واشنطن، وإلى رياسة اللجنة المالية بمجلس شيوخ الولايات المتحدة، وإلى جميع الغزَّالين الأمريكيين الذين يشتغلون في القطن المصري، وكان من حسن الطالع أن عُدل عن تلك الضريبة في المرة الأولى.

فلما فكرت فيها حكومة الولايات المتحدة للمرة الثانية منذ عامين، بذلت النقابة مجهودًا كالأول لإقناعها بالإقلاع عنها، وتوسلت لحكومتنا المصرية التي فعلت ما في وسعها لدرء ذلك الحيف، وما زالت تعمل له.

النقابة كررت مساعيها لدى الحكومة بعد هبوط سعر القطن إلى إلغاء ضريبة الخمسة والثلاثين قرشًا التي فُرضت على كل قنطار يُباع من القطن المصري، وقد فازت على توالي السنين بتخفيض بعد آخر في تلك الضريبة، فأصبحت عشرة قروش في هذا العام ثم أُلغيت.

النقابة هي التي بمباحثها وتكرار مساعيها أقنعت الحكومة بضرورة إلغاء البيع تحت القطع، فوضعت لذلك مشروع مرسوم، ولكن محكمة الاستئناف المختلطة عاقت صدوره إلى الآن مع ما له من النفع العظيم للمنتجين.

النقابة بدأت منذ تأسيسها المباحث والمساعي لتقرير التسليف الزراعي، وقد وافقتها عليه الحكومة المرة بعد المرة حتى انتهت إلى تأسيس البنك الذي خصته بهذا العمل، وكم من اقتراح مُفصَّل رفعته إليها النقابة لتحقيقه.

النقابة آزرت بمباحثها ومساعيها زرَّاع قصب السكر تارة وزرَّاع البصل طورًا، بما يتسنى معه تحسين حالهم لضمان تنويع الزراعة في القطر بما في الوسع.

النقابة عملت غير مرة مع منتجي الغلال، وعاونتهم ما تستطيع على التماس إقرار الحماية الضرورية لهذه المحصولات في البلاد، وقدمت في ذلك المذكرات والبيانات المقنعة، وآخر ما رفعته منها وباحثت أولي الأمر فيه كان في الأشهر الثلاثة الأخيرة.

النقابة طالبت منذ عام ١٩٢٢ بإنشاء الجمعيات التعاونية وبينت في مذكرات مفصلة فوائدها إلى أن شُرع في تأسيسها.

النقابة رفعت الاقتراحات المتعددة في التماس المؤازرة على تأسيس مغازل القطن وتبين وجوه منافعها للبلاد مما بدأ يتحقق عمليًّا في هذا العام على مد الشركة التي وُفِّق بنك مصر إلى تأليفها والمصنع الذي أقامه في المحلة الكبرى.

النقابة بحثت وناضلت سنين متوالية في مشكلة الرطوبة القطنية إلى أن حُلَّت أخيرًا.

النقابة التمست المرة بعد المرة تحديد الزمام القطني حين قضت به ضرورة الدفاع عن سعر المحصول، وقد قدمت في ذلك مذكرات متضمنة صنوف البيانات المقنعة.

النقابة رفعت إلى الحكومة في السنتين الأخيرتين ما أفضت إليه مباحث أعضائها والزرَّاع الذين لبوا دعوتها من الوسائل المقترحة لتخفيف ويلات الكارثة الاقتصادية الحاضرة، وقد شهدت بارتياح موافقة الحكومة على معظمها.

النقابة عملت على استصدار قانون بمنع خلط القطن في داخلية البلاد، وبعد أن تبينت عدم كفايته لما علمته من مندوبيها المتصلين بالغزَّالين اقترحت استصدار قانون آخر بمنع خلط القطن في المكابس، وكررت فيه مساعيها، وما زالت على أمل بإنفاذه ولو عاقته محكمة الاستئناف المختلطة إلى الآن.

النقابة اقترحت كبس القطن المخزون لدى الحكومة كبسًا بخاريًّا لصونه من التلف وتقليل نفقاته. وقد أجابت إليه وزارة المالية.

النقابة بدأت منذ سنة ١٩٢٣ في الدعوة لإنشاء بورصة الغلال، وقد أخذت أمنيتها تتحقق، وستُفتح هذه البورصة في ١٥ مايو المقبل.

النقابة بدأت منذ سنة ١٩٢٤ مباحثها في حقيقة مركز القطن السكلاريدس لدى عالمَي الصناعة والتجارة، وفيما ينبغي لمصر أن تعتمد عليه من جهة هذا الصنف الممتاز، واستحضرت إذ ذاك بيانًا لجميع المنتجات الصناعية التي يدخل فيها، كما أن النقابة هي التي نبهت الحكومة والزُرَّاع في العام الماضي إلى ما طرأ من قلة الطلب على الأقطان الجيدة، وكررت الرجاء أن تستخدم الحكومة وسائلها في الخارج لتبين حقيقة هذه الحالة ومعرفة المقدار الذي تستطيع زراعته من هذه الأصناف، حتى لا يجني محصولنا على السعر بزيادة المعروض منه على المطلوب.

النقابة التمست تعيين مندوبين تجاريين لدى ممثلي مصر في الخارج، فلما آنست من الحكومة أن صعوبةً تحُول دون ذلك التمست تعيين مندوبين؛ أحدهما في المفوضية المصرية بلندن، والثاني في مفوضية واشنطن، وقد بينت الأسباب المتعددة التي تدعو إلى هذا التعيين، والفوائد التي تترتب عليه لمصلحة محصولات القطن في أسعارها وفي رواجها.

النقابة اقترحت عدم مجاوزة سعر القطن صعودًا أو هبوطًا ريالين في الجلسة الواحدة، وذلك منذ سنة ١٩٢٥، وقد أخذت به وزارة المالية.

النقابة اقترحت إنشاء المصارف والصناديق القروية لتسهيل التسليف الزراعي، وهو ما يعمل على إنفاذه اليوم في صورة أخرى باعتبار تلك الصناديق فروعًا لبنك التسليف الزراعي.

النقابة بحثت في رخص الآلات الرافعة من حيث اعتبار الحكومة إياها شخصية لا عينية، وأبانت أن اعتبارها عينية أيسر لمصلحة المالك وأعدل من جانب الحكومة مع عدم المساس بأية مصلحة من مصالحها.

النقابة بحثت مرارًا في شئون الصرف والري، وقدمت في ذلك اقتراحات متعددة، وهي الآن توالي البحث من جهة الصرف على وجه خاص؛ لأنه لم يتيسر له من وسائل التحسين والإصلاح ما هو جدير به بعد التوسع في أعمال الري الكبرى.

النقابة توالي العمل كل سنة لإخراج تقدير للمحصول القطني بجانب التقدير الرسمي وغيره مما تصدره الهيئات التجارية، وذلك لتضرب بسهم في تقريب الإحصاء إلى الحقيقة جهد المستطاع.

النقابة التمست وألحَّت في إنشاء مكتب خاص للقطن، وتعيين خبراء فيه من النخبة المدربين الذين يعوَّل على آرائهم في عالم المشتغلين بمزاولات القطن، وقد حققت المالية جانبًا من هذا الاقتراح.

النقابة اتصلت بغزَّالي فرنسا عام ١٩٢٥ وغزَّالي إنجلترا بعدهم، وطرحت عليهم أسئلة لتعرف بها آراءهم في تصريف القطن المصري وتبين هل لهم شكايات مما يصدَّر منه إليهم؛ لإزالة أسبابها وتسهيل السبيل لاتساع نطاق التصدير وتسهيل إقبال الغزَّالين على القطن المصري، وقد تلقت أجوبتهم وعرضتها على أولي الشأن، وكان منها إصلاح كبير في تفادي وجود المواد الغريبة في القطن، وتنوير ما كان غامضًا من جوانب التصدير.

النقابة اتصلت بالوفد التجاري الأمريكي الذي حضر في عام ١٩٢٥ واستفادت من مداولاتها من أشياء تعود بالنفع على المنتجين المصريين ونشرتها في حينها. وكذلك اتصلت بالبعثة التجارية البريطانية التي جاءت فيما مضى، وجرت بين الفريقين مبادلة في الآراء أُذيعت في الصحف أيضًا.

النقابة ناضلت في مسألة الفليارات وسوء استعمالها للضغط على السوق أحيانًا، وجاهدت في منع تسليم القطن القديم فليارات منذ عامين؛ للتخفيف عن السوق وصيانة حقوق المنتجين.

النقابة سعت لتعيين الفرَّازين الرسميين بميناء البصل منعًا للحيف الذي كان يقع على المنتجين المصريين.

النقابة ممثلة من اللجان الحكومية في المجلس الاقتصادي والمجلس الاستشاري الزراعي ولجنة القطن الدولية ومجلس التعاون الأعلى، وقد مثِّلت في لجان أخرى حكومية؛ منها اللجنة التي تشرف على أعمال شراء القطن، ومنها اللجنة التي ألفتها وزارة الزراعة حين قررت تحسين بذرة التقاوي ووضعت لها القوانين الجديدة.

النقابة أصبحت معروفة في أمريكا وأوروبا ومعظم هيئاتها الاقتصادية. بدأت تخاطبها منذ سنة ١٩٢١، وما زالت تخاطبها العام بعد العام فيما يتعلق بالشئون الاقتصادية المصرية.

ولدى النقابة مجلدان لمحاضرها، ومجلدان نقلت إليهما مذكراتها واقتراحاتها؛ ما رُفع منها إلى الحكومة وما نُشر لاطلاع الجمهور عليه، وفي عزمها أن تطبع مجموعة أعمالها في خلال هذا العام إن شاء الله.

النقابة بذلت في السنتين الأخيرتين مجهودات متواصلة حتى أقنعت الحكومة بالتجاوز عن مليوني جنيه من الضرائب للزراع، وأقنعتها بالتنازل عن ضريبة القطن وقدرها عشرة قروش، وأقنعتها بتسوية الديون العقارية للمرة الأولى وهي الوقتية، وللمرة الثانية وهي التي أُنجز منها الاتفاق مع بنك الموركدج والبنك العقاري المصري، ويعمل لإنجازه مع بنك الأراضي وصندوق الرهنيات العقارية ومع أصحاب التسجيلات الثانية.

(١-١) الدكتور يوسف نحاس بك

figure
الدكتور يوسف نحاس بك.

سكرتير عام النقابة الزراعية. زارع قمح، واقتصادي مطلع، وباحث. عضو في لجنة القطن الدولية والمجلس الاقتصادي وفي لجان وجمعيات كثيرة، وآخر ذلك البعثة الاقتصادية في السودان ثم في لندن، وهو من الذين عرفتهم فأحببتهم. في حديثه جاذبية، وهو قوي الحجة، محب للسلام والتوفيق، وكم وفَّق بين الوزراء إذ كانوا مختلفين!

(١-٢) المهندس مصطفى نصرت

ولد مصطفى نصرت بالقاهرة في ٢ فبراير سنة ١٨٩٤، وترك مصطفى نصرت في سنة ١٩٠٨ المدرسة السعيدية وسافر إلى جلاسجو والتحق بجامعتها في سنة ١٩٠٩ بمدرسة الهندسة المدنية، وفي شهر مارس سنة ١٩١٣ تخرج من الجامعة بعد أن نال درجة B. S. C. في فن الهندسة مع لقب شرف، ثم التحق بشركة درايزديل وشركاه Drys dale & CO للأعمال الهندسية بجلاسجو، حيث اشتغل مدة سنة كمهندس، وبعدها عرضت عليه الحكومة العثمانية أن يشتغل في مصلحة الري بالعراق كمهندس، فقبل وذهب إلى بغداد في شهر يونية سنة ١٩١٤، وهناك اشتغل في مشروعات الري؛ وأهمها قناطر الهندية التي كانت الحكومة قائمة ببنائها بواسطة شركة جاكسون وزملائه المقاولين المشهورين الذين قاموا ببناء قناطر نجع حمادي. وعند نشوب الحرب بين الحكومة العثمانية وإنجلترا في فبراير سنة ١٩١٤ انسحب الإنجليز من العراق وباشرت الحكومة العثمانية تنفيذ مشروعات الري هناك بواسطة مهندسيها، وكان مصطفى نصرت من القائمين بذلك.
figure
المهندس مصطفى نصرت.

وفي سنة ١٩١٦ عُين مصطفى نصرت مهندسًا مقيمًا لقناطر الهندية على نهر الفرات. وفي الوقت نفسه كُلِّف بإصلاح أساس القناطر المذكورة الذي كان قد اختل اختلالًا يخشى سقوطها في أي لحظة، وكان السبب في هذا الخلل غلطات فنية وقعت في أثناء بنائها. وفي الوقت نفسه عزمت قبائل العرب هناك على أن تقاوم الإصلاح وتمنع العمل بالقوة؛ لأن عملية الإصلاح تمنع المياه من الوصول إليهم لري أطيانهم، فوصلت للحكومة أخبار هذا الاتفاق فأطلعت مصطفى نصرت عليه نظرًا لخبرته بأحوالهم، وكان القرار الذي صدر هو أن يقوم مصطفى نصرت بهذه العملية بالرغم من تهديد العرب على شرط إعطائه القوة المسلحة الكافية للمحافظة على القناطر، ووضع هذه القوة تحت أمره مباشرة فذهب على رأس هذه القوة المسلحة لقناطر الهندية، وقام بعملية الإصلاح خير قيام، وفي أثناء العمل قامت ثورة في البلاد المحيطة بالقناطر؛ مثل كربلة والحلة وبلدة الهندية، فانقطعت المواصلات بينه وبين الحكومة العثمانية، ولكنه قاوم العرب هناك، ومنع امتداد الثورة لقناطر الهندية؛ تارة بالسياسة وتارة بالتهديد وتارة بمحاربتهم حتى تم الإصلاح والترميم.

وبعد ذلك أرسلت الحكومة العثمانية قوة عسكرية لتأديب الثوار مكونة من ٦٠٠٠ عسكري، وبطارية مدافع سريعة الطلق، وطابور متراليوز وطيارتين، فقامت هذه القوة وعلى رأسها عاكف باشا القائد السواري المشهور، وكانت الخطة المرسومة لها أن تفتح الطريق لقناطر الهندية أولًا، وفعلًا وصلت للقناطر وتقابل قوادها مع مصطفى نصرت وهنأوه على العمل الجليل الذي قام به وقت أن كانت الحكومة العثمانية لا نفوذ لها في هذه الجهة، ثم زحفت القوة العسكرية هذه على بلدة الحلة حيث نكلت بالثوار وفتحت البلد، وحاكمت العصاة أمام المحاكم العسكرية وحكمت على ١٣٦ شخصًا بالإعدام ونُفِّذ الحكم.

بعد ذلك نُدب مصطفى نصرت مهندسًا لقيادة الجيش العثماني السادس المعسكر في العراق علاوة على وظيفته الأصلية، وهو مهندس مقيم لقناطر الهندية، فقام بتأدية وظيفتيه خير قيام مما استأهل به الإنعام عليه بميدالية الحرب العثمانية في سنة ١٩١٧.

وبعد سقوط بغداد في مارس سنة ١٩١٧ في يد الإنجليز تقهقر الجيش العثماني إلى الموصل، ولحق به مصطفى نصرت الذي عُهِد إليه بدراسة مشروعات الري بولاية بورسة في الأناضول، ثم عُيِّن للقيام بعمل مشروعات ري ولاية أطنة في الأناضول أيضًا، وقبل تمامها عُيِّن في سنة ١٩١٨ مساعد باشمهندس ولاية قونية، ومكث بها لغاية ١٩٢٠، حيث صُرح له بدخول مصر، واستقال من وظيفته وجاء مصر، ومن يومئذ التاريخ لم يدخل وظيفة حكومية، بل باشر أعماله الخصوصية فقط.

(١-٣) السيد أحمد أبو الفضل

figure
السيد أحمد أبو الفضل الجيزاوي.
كان من رجال الإدارة مأمورًا للجيزة والزقازيق، واعتزل الإدارة، وانتُخب شيخًا في مجلس الشيوخ عن الجيزة سنة ١٩٣٠. نجل فضيلة الأستاذ الأكبر المغفور له الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي. مهذب، يتخير أصدقاءه، وهو تقي مؤمن.
figure
في ميناء بور سودان القارب الذي استقله الأعضاء حيث شاهدوا من سطح صندوقه الزجاجي صخور البحر العجيبة.

(٢) وزارة التجارة والصناعة

كانت مصلحة أُنشئت في أبريل سنة ١٩٢٠ بناء على اقتراح لجنة التجارة والصناعة المُشكَّلة بقرار من مجلس الوزراء الصادر في ٨ مارس سنة ١٩١٦، وأُلحقت بوزارة المالية، ومهمتها إنشاء نظام دائم لتنشيط التجارة والصناعة في مصر وترقيتها.

وكان بالمصلحة معرض للنماذج به طرائف فاخرة من قطع الأثاث المستوردة من أشهر مصانع العالم، وفيه موظف مصري خبير في الأثاث، وآخر أجنبي خبير بتصميمه لإرشاد الجمهور والصناع. كذلك به حجرة للرسم لمن يشاء من أرباب الصناعة، وهو مفتوح للجمهور أيام الأسبوع ما عدا المواسم والأعياد.

وقد أصبحت المصلحة في هذا العام وزارة بمرسوم ملكي، ووزيرها الحالي سعادة أحمد نجيب الهلالي بك وزير المعارف أيضًا، وهو أول وزير لها، وقد عُين لها خبير فني إنجليزي يقوم الآن بتنظيمها.

(٢-١) المجلس الاستشاري للتجارة والصناعة

أُنشيء هذا المجلس بقرار أصدره وزير المالية في ٣ نوفمبر سنة ١٩٢٩ مكونًا من: وكيل وزارة المالية … رئيسًا.

المستشار الملكي لوزارة المالية. جناب المستر أ س بارنس رئيس مجلس إدارة فرع بنك باركليز بالإسكندرية، مدير عام مصلحة الأملاك الأميرية، وهنري نوس بك المدير العام لشركة السكر، ومدير عام مصلحة التجارة والصناعة، ومراقب التعليم الفني والصناعي بوزارة المعارف ومراقب مصلحة المناجم، ومندوب يمثل الغرفة التجارية المصرية بالقاهرة، ومندوب يمثل الغرفة التجارية المصرية بالإسكندرية. أعضاء.

(٢-٢) أقسام الوزارة

وتنقسم الوزارة إلى فرعين رئيسيين: أحدهما الفرع الاقتصادي والإداري والتجاري، والآخر الفرع الصناعي.

وينقسم الفرع الاقتصادي والإداري والتجاري إلى الأقسام الآتية:
  • (١)

    قسم المباحث.

  • (٢)

    الإحصاء.

  • (٣)

    التشريع التجاري.

  • (٤)

    النقل والتعاريف.

  • (٥)

    الغرف التجارية.

  • (٦)

    المخابرات التجارية.

  • (٧)

    المشتريات.

  • (٨)

    قسم المعارض.

  • (٩)

    النشر والترجمة.

  • (١٠)

    المكتبة.

  • (١١)

    الحسابات والمستخدمين.

  • (١٢)

    المحفوظات.

  • (١٣)

    السواحل وأسواق الغلال: في أثر النبي والجيزة وروض الفرج وغمرة وبولاق والإسكندرية ورشيد.

وينقسم الفرع الصناعي إلى الأقسام الآتية:
  • (١)

    قسم الجلود والدباغة.

  • (٢)

    الصباغة.

  • (٣)

    الغزل والنسج.

  • (٤)

    قسم الاقتصاد الزراعي.

  • (٥)

    الصناعات الكيماوية.

  • (٦)

    قسم المباحث الصناعية.

  • (٧)

    الأثاث.

  • (٨)

    الصوف والسجاد.

  • (٩)

    الزجاج.

ويوجد معمل كيماوي بالوزارة التي تصدر مجلة اسمها «صحيفة التجارة والاقتصاد».

(٢-٣) الغرف التجارية المصرية

الغرض من هذه الهيئات هو حماية مصالح التجار والصناع، والدفاع عن حقوقهم، وإيجاد رأي تجاري عام، وإعداد أداة صالحة لجمع المعلومات والبيانات التي تهم التجارة والصناعة وتبويبها ونشرها، وكان إنشاء أول غرفة تجارية مصرية بمدينة القاهرة عام ١٩١٣ إذ وضع أساسها جماعة من تجار العاصمة؛ على رأسهم المرحوم عبد الغني سليم عبده وعبد الخالق مدكور باشا. ومنذ سنة ١٩٢٠ أخذت تنتشر في هذه البلاد فكرة إنشاء الغرف التجارية؛ إذ تكونت غرف تجارية في معظم مدن القطر، إلا أن تلك الغرف كان يتنازعها عاملان: عامل النجاح، وعامل الفشل، لأسباب كثيرة؛ أهمها: ضعف ماليتها وفقدان روح التعاون بين أعضائها، وعدم وجود رقابة حكومية منظمة عليها لضمان إرشادها ومساعدتها ماديًّا وأدبيًّا، مما كان من أثره ظهور عجزها عن تحقيق الأغراض التي أُنشئت من أجلها.

قانون الغرف التجارية

رأت وزارة التجارة والصناعة ضمانًا لحياة الغرف أن تسنَّ لها قانونًا يتسنى معه أن تكون لهما الشخصية المعنوية، وتحدد به اختصاصاتها، وتنظم به رقابة الحكومة عليها، وقد صدر القانون رقم ١٤ لسنة ١٩٣٣ بتاريخ ٢٣ مارس سنة ١٩٣٣ لهذا الغرض، ونصَّت المادة ٣٨ منه على إصدار لائحة عامة للغرف التجارية تبين النظام الداخلي لسير العمل فيها وتنظيم لجانها، وتحدد القواعد الخاصة بماليتها، وبانتخاب أعضاء مجلس إدارتها، ولذلك صدر مرسوم بتاريخ ٣ أغسطس سنة ١٩٣٣ بالموافقة على اللائحة المذكورة.

إعادة تكوين الغرف التجارية

وبمجرد صدور اللائحة العامة للغرف التجارية نشطت المصلحة «الوزارة» في تنفيذ أحكام التشريع الجديد، فعملت على حل الغرف الحالية وإعادة تكوينها.

وطبقًا لأحكام التشريع الجديد، لكل غرفة لائحة داخلية يصدق عليها، وللغرف معارض، وتمنح المصلحة الغرف إعانات سنوية.

أنشئت «غرفة مصر التجارية» في أول يوليو سنة ١٩٢٧، وانتخبت جمعيتها العمومية مجلس إدارة.

ولقد سارت منذ نشأتها سيرًا حثيثًا بفضل مقاصد الأعضاء وتساندهم، وبما كسبته من الثقة لدى الهيئات الرسمية والهيئات الأخرى في مصر وفي الخارج، فأصبح يُرجع إليها في كل أمر يتعلق بالتجارة.

ولم يقف مجهود الغرفة عند هذا الحد، بل رأت أن تخص الصناعة بشيء من عنايتها فافتتحت معرضًا دائمًا للصناعات المحلية دون سواها وبثت لها الدعاية، فقابل الجمهور المصري هذا العمل بالتشجيع، وأقبل على مشترى مصنوعات بلاده إقبالًا ترتب عليه استخدام كثير من الأيدي العاملة وإتقان الصناعات إتقانًا جعل مصر تفاخر بها في المعارض الخارجية. ولقد اشتركت الغرفة اشتراكًا فعليًّا في المعرض العربي بالقدس وفي معرض باري بإيطاليا، وكان لاشتراكها هذا أكبر الأثر في الدعاية لمصر ولمصنوعاتها.

ولقد طالبت الغرفة منذ تكوينها الحكومة بتنظيم الغرف التجارية المصرية والاعتراف بها رسميًّا، وظلت كذلك حتى فازت بأمنيتها وصدر القانون رقم ١٤ لسنة ١٩٣٣ الخاص بالغرف التجارية فحُلَّت بموجبه جميع الغرف وأُعيد تكوينها، وصدر بعد ذلك قرار وزاري رقم ٨١ في ٢ أكتوبر سنة ١٩٣٣ بإنشاء «الغرفة المصرية التجارية للقاهرة»، وهو الاسم الرسمي الذي تحمله غرفة العاصمة، كما حدد هذا القرار عدد أعضاء مجلس إدارتها فجعلهم ثلاثين عضوًا، وجعل دائرة اختصاصها محافظة القاهرة.

ويتألف المكتب الذي يدير الغرفة من حضرات: يوسف قطاوي باشا رئيسًا، ومحمد حفني الطرزي باشا وعبد الفتاح اللوزي بك وكيلين، والسيد عبد المجيد الرمالي سكرتيرًا، وإبراهيم نصير أفندي أمينًا للصندوق.

الوجيه عبد المجيد الرمالي

figure
الوجيه عبد المجيد الرمالي.

بعد أن تخرج من المدارس رأى والده أن يشركه معه في إدارة مخابزه ومطاحنه، وبعد أن توفي إلى رحمة الله قام بإدارتها، وأنشأ مطحنًا على أحدث طراز، ومصنعًا تُصنع به الحلوى على اختلاف أنواعها، فنالت الرضاء العام وسدت فراغًا كان يشغله الأجانب، وفابريقة لصنع الجيلاتي بأحدث الآلات الأمريكية.

وقد انتُخب من يوم اشتغاله بالتجارة قاضيًا محلفًا بالمحكمة المختلطة، وعضوًا مؤسسًا في جمعية المواساة الإسلامية، وسكرتيرًا عامًّا للغرفة التجارية بالقاهرة من تاريخ إنشاء الغرفة للآن، وعضوًا بمجلس النواب سنتي ١٩٢٧ وسنة ١٩٣٠، ووكيلًا للجنة التنفيذية للجان الوفد بالقاهرة، وسكرتير شرف جمعية اتحاد الصناعات بالقاهرة.

محمد عبد الرحيم سماحة

figure
محمد عبد الرحيم سماحة.

من أسرة سماحة بفارسكور ومصر، وهو تاجر عصامي مجتهد نشيط كثير الطموح كثير الدعاية سيكون له مستقبل رشيد …

الوجيه علي شكري خميس

figure
الوجيه علي شكري خميس.

وقد نشأ حضرته نشأة تجارية، وقد كان أول من فكَّر في إنشاء غرفة مصرية لتجار الإسكندرية تجمع شتاتهم وتنظم جهودهم وتؤلف منهم جبهة للنهوض بتجارة المصنوعات المصرية.

ففي أمسية من أمسيات سنة ١٩٢٢ اجتمع ببعض أخصائه وبسط لهم مشروعه بتأليف لجنة تحضيرية، فاستجابوا الدعوة ووضعوا أيديهم في يده، ودعوا التجار لعقد اجتماع كان بمثابة جمعية عمومية للغرفة.

وقد مضت اللجنة التحضيرية لهذا قدمًا في سبيلها، فعدت نفسها لجنة تنفيذية وألَّفت من أعضائها مجلسًا لإدارة الغرفة، واستأجرت غرفة متواضعة في ميدان المنشية، وطفقت تباشر فيها عملها وتنشر نشاطها، وواصلت النمو. ويرأسها الآن سعادة أمين يحيى باشا ووكيلها التاجر الكبير الخواجة أسعد باسيلي.

وللغرفة الآن عمارة من أجمل العمارات في شارع سعيد الأول بالإسكندرية، أما المعرض فهو أول معرض عام دائم أُنشئ للصناعات المحلية في القطر المصري، وعلى منواله نسجت الغرفة المصرية لتجار القاهرة وغيرهما من المعاهد والهيئات التي عُنيت بعد ذلك بالمعارض الصناعية العامة، وهو في الحقيقة فخر أعمال غرفة الإسكندرية؛ فقد عرَّف الجمهور إلى صنَّاعه، وعرَّف الصنَّاع إلى جمهورهم، وبلغ من نجاحه أن بلغت مبيعاته في السنة الماضية زهاء عشرة آلاف جنيه.

وفي الغرفة قسم للاستعلامات التجارية على أحدث النظم، وقد اشتركت الغرفة في إعداد اللوائح والقوانين المنظمة للأسواق التجارية في الإسكندرية، كما كانت لها اليد الطولى في تنظيم أحوال الطوائف العاملة في التجارة والصناعة والسوابق الطيبة في توثيق العرى التجارية بين الأسواق المصرية والأسواق الخارجية، و«خميس» عضو في المجلس الاقتصادي الأعلى لمصلحة التجارة والصناعة، وعضو في المجلس الحسبي بالإسكندرية، وقاضٍ محلف في المواد الجنائية والتجارية بالمحكمة المختلطة، وعضو في هيئة الاتحاد السكندري، وعضو في جمعية المواساة الخيرية الإسلامية بالإسكندرية.

الشقيقان محمد قاسم وأحمد قاسم

هما نجلا المرحوم حسن أفندي قاسم، كان من كبار تجار مصر والسودان، وكان له جملة أفرع في جميع أنحاء السودان، كما أنه تخرج على يديه كبار التجار الحاليين هناك، وقد ورث الوجيهان محمد وأحمد حسن قاسم التجارة عن والدهما، وقد اتسعت دائرة أعمالهما هناك. وقد أصبح لهما وكلاء في جميع أنحاء أوروبا لتصريف حاصلات السودان من سمسم وصمغ وفول، فضلًا عن تأسيسهما فابريقة بمصر لعمل الحلوى وزيت من سمسم السودان، ولهم مقطوعية عظيمة من هذا الصنف.
figure
أحمد حسن قاسم.

هذا فضلًا عن تصدير كثير من البضائع اليابانية إلى السودان. وكانا معنا بالبعثة، وكنا نلاحظ في أثناء مصاحبتنا للأول في جميع أنحاء السودان مقابلته من جميع التجار هناك ومعرفته لهم ومعرفتهم له معرفة تامة، وكان يُقابَل في جميع المحطات بالترحاب والإجلال، وقد كان التاجر المهم في البعثة الذي يشتغل في المحاصيل السودانية، وبفضله وفضل شقيقه الذي انضم إليه في الخرطوم تحسنت أسعار المحاصيل حيث اشتريا كميات وافرة تقدر بعشرين ألف جنيه مصري في برهة وجيزة، وكان لهما في العام الماضي مشتريات جمة من الذرة السودانية، ولولاهما لبارت هذه الذرة في محلها وما بيعت بمصر. هذا فضلًا عن كون سمعتهما التجارية طيبة جدًّا في الدوائر التجارية والمالية بمصر والسودان.

إلياس عوض بك

  • (١)

    حصل على الليسانس في علم الحقوق من كلية باريس.

  • (٢)

    عُيِّن بقسم قضايا الحكومة للمرافعة في القضايا المدنية لوزارات الأشغال والحقانية والخارجية ومصلحة السكة الحديد.

  • (٣)

    وفي سنة ١٨٩٢ عُيِّن وكيل النائب العمومي لدى محكمة الاستئناف الأهلية. في سنة ١٨٩٦ عُيِّن رئيسًا للنيابة العمومية بمحكمة الاستئناف. وفي ١٨٩٧ عُيِّن رئيسًا لمحكمة بني سويف، وبينما كان جاريًا التفتيش على البوليس سقط من الجواد الذي كان يركبه، وكانت إصاباته خطرة، ومكث ثلاثة شهور مريضًا، وبعد أن شُفِي نُقل إلى محكمة الاستئناف، وفي سنة ١٩٠٤ طلب إحالته إلى المعاش احتفاظًا بصحته، ثم اشتغل في المحاماة، ولكن في سنة ١٩٢٥ طلب نقل اسمه إلى جدول المحامين غير المشتغلين. وفي سنة ١٩٣٠ عُيِّن عضوًا بمجلس الشيوخ، وكان من الأعضاء البارزين في المجلس كما تدل على ذلك آراؤه ومناقشاته ومباحثاته المدونة في مضابط جلسات المجلس، وهو من أرباب الثروة والمصالح الكبيرة، وكان أيام البعثة هادئًا، كثير الصمت، دقيق الملاحظة مغتبطًا بالرحلة.

figure
إلياس عوض بك.

عطا عفيفي بك

ولد سنة ١٨٩٠، وتعلم بمدارس الفرير ونال منها البكالوريا، والتحق بكلية الحقوق بباريس فنال منها شهادتي الليسانس والدكتوراه وعُيِّن بوظائف الحكومة حتى شغل وظيفة تشريفاتي، ثم استقال، وكان من أعضاء الوفد المصري، ثم من أعضاء نادي الوفد السعدي، وهو مولع بالصيد والرحلات، وهو أنيق الملبس دقيق المحافظة على الإتيكيت، أقرب في طبعه إلى رجال الدبلوماسية والأرستقراطية منه إلى سواهم.
figure
عطا عفيفي بك.

أحمد الحناوي

figure
أحمد الحناوى.
عرفنا هذا الشاب فلمسنا فيه عنصرًا كريمًا من أبناء السلف الصالح لأعيان الزرَّاع في الشرقية، أدب في حياء، وحياء في كرامة وهو من مندوبي الزرَّاع.
figure
لفيف من أعضاء البعثة في ممر الباخرة إلى بور سودان. من اليسار: محمد حسين الرشيدي. عبد الله حسين. محمد عبد الرحيم سماحة. فؤاد أباظة بك. عبد المجيد الرمالي. محمد حسن قاسم. محمود مصطفى الجمال.

محمد حسين الرشيدي

من مندوبي الغرفة التجارية بالقاهرة، وصاحب «فابريقة حلويات وطحينة ومعصرة زيوت الميزان» رقم ٢٣٤ السيدة زينب شارع الخليج المصري، وهو أكبر مصنع لعمل هذه الأصناف بالقاهرة، وله شهرة ممتازة بين سكان مصر، وهو يستهلك من محصول السمسم السوداني كمية كبيرة، ويورد منتجاته إلى الخرطوم وبور سودان وأم درمان وبقية عواصم السودان، فضلًا عن البلاد الغربية والشرقية؛ ومنها سنغافورة ومرسيليا وشيكاغو وتريستا وأزمير على شهرتها واختصاصها بعمل الحلوى، ويوزع ٧٥ في المائة للقاهرة من مقطوعية سكانها من الحلوى الطحينية. وماركة الميزان هي شعار الفابريقة المسجل، ولها شهرة عالمية تنفرد بها.

وهو مصري صميم وعصامي متواضع صادق الود والوعد، نجل المرحوم الوجيه الحاج حسين حسن الرشيدي، ومن أسرة عريقة في التجارة برشيد، وقد زار الأناضول وأوروبا.

عُرف بالإخلاص لأصدقائه وسهره على راحتهم، ولم ينسَ أحد الأعضاء حلاوة حديثه «كحلاوته الطحينية».
figure
فابريقة الوجيه محمد حسين الرشيدي بالخليج المصري، وترى صورته في أعلاها.

الدكتور محجوب ثابت

figure
الدكتور محجوب ثابت.
ولد الدكتور في دنقلة، إذ كان والده قومندانًا في سنار ووكيلًا لمديرية فازوغلي المندمجة مع سنار.

ثم تزوج بوالدة الدكتور في سنار، وهي من أسرة تنتمي إلى سيدي طلحة خال السيد البدوي بكفر الشيخ، وكان والدها يوزباشيًّا بالجيش، وحضر حروب الشام وساعد في إطفاء الثورة المهدية تحت إمرة عبد القادر حلمي باشا الذي أطفأ الثورة في شرقي السودان.

والدكتور محجوب أنيس المجالس، وأنس المجتمعات، وحبيب الأصدقاء والأعداء، وله جولات سودانية وخطب رنانة ومحاضرات طنانة.

والدكتور محجوب فريد في البيئة الطبية والاجتماعية، وهو أديب وطبيب، قوي الذاكرة والحافظة، ولو كنت صاحب حزب سياسي لجعلت الدكتور داعية للحزب؛ لأن الدكتور يصلح للدعاية، ولا سيما إذا كانت للسودان …!

وكان الدكتور يحب السودان دون أن يعرفه، فقد نُقل منه طفلًا إلى مصر، وكانت رحلة البعثة فرصة لرؤيته للسودان، وقد بدا منه التقاعس عند أوبتنا وخشي فؤاد أباظة بك أن ينسى الدكتور مصر، فتصعب عودته من السودان، فما زال به حتى حمله على السفر مع الفوج الثاني، وهو منذ عودته يقص على أصدقائه وطلبته ما رأت عيناه في السودان. فهل تُتاح الفرصة للدكتور ليعود إليه ويقضي ما بقي من حياته به؟!

الأستاذ فخري الزق

نال إجازة الليسانس من مدرسة الحقوق الخديوية سنة ١٩١٤، وقُبل للمرافعة أمام محكمة الاستئناف سنة ١٩١٧، وهو نائب طائفة الإخوة البليموثيين بالقطر المصري، ونائب جمعية الشبان المسيحيين بأسيوط، ومن أعضاء نقابة المحامين بأسيوط، ولأسرة الزق علاقة قديمة بالسودان، فكانت تتجر بسن الفيل وريش النعام والمصنوعات الأسيوطية، وأسسوا مراكز تجارية بالسودان، وكان الاتجار عن طريق درب الأربعين — وهو أحد الطرق الأربعة بين مصر والسودان — بالقوافل، وكان المرحوم لوقا الزق والد الأستاذ فخري وجده المرحوم ميخائيل الزق من أشهر تجار أسيوط.
figure
فخري لوقا الزق المحامي بأسيوط.

الدكتور رياض شمس

هو زميلنا الفاضل الدكتور رياض شمس المحامي، ومندوب جريدة «الجهاد» في البعثة، وصاحب كتاب الحرية الشخصية بالفرنسية والعربية. ومع اشتغاله بالمحاماة يميل إلى الصحافة ويكتب في الصحف المقالات المدعمة …

(٣) البعثة المصرية

(٣-١) كلمة المؤلف المنشورة بالأهرام الصادرة في ٢٥ يناير سنة ١٩٣٥

يسافر بعد ظهر اليوم حضرات أعضاء البعثة المصرية إلى السودان، وقد وقف القراء على أغراضها من هذه الرحلة وبرنامجها منذ يوم السفر حتى أوبتها إلى مصر، وقد تحددت الأغراض المُشار إليها فيما يلي:
  • (١)

    إعداد مكان لمعروضات السودان في المعرض الزراعي الصناعي القادم.

  • (٢)

    مشروع تأليف شركة من أهالي مصر والسودان لمشترى أراضٍ زراعية بالسودان واستثمارها.

  • (٣)

    دراسة إنشاء فرع للجمعية الزراعية بالخرطوم.

  • (٤)

    دعوة بنك مصر لإنشاء فرع له بالخرطوم.

لهذه الأغراض تسافر البعثة، محوطة برعاية المصريين، وبترحيب إخوانهم السودانيين؛ فأما المصريون فإنهم يرون في بعثتهم النواة الأولى لتدعيم العلاقات الاقتصادية والودية مع السودان، بعد زوال الظروف الأليمة الماضية المعروفة التي أعقبت حادث السردار المشئوم، ولذا جردت البعثة مهمتها من كل طابع سياسي، وقصرت أغراضها على الناحيتين الاقتصادية والزراعية. وقد صدق حضرة فؤاد أباظه بك مدير الجمعية الزراعية في قوله: «إن للسياسة رجالها وميدانها، كما أن لبعثتنا مهمتها المحدودة.» ومن حسن الحظ أن المندوب السامي والحاكم العام للسودان ووكيل حكومة السودان — وهؤلاء الثلاثة أصحاب الكلمة العليا في السودان اليوم — قد عملوا على تسهيل سفر البعثة والترحيب بها، وهذا يدل على صحة ذلك القول المأثور للمغفور له شريف باشا: «إذا تركنا السودان فهو لا يتركنا، وإذا نسيناه فهو لن ينسانا.»

لقد كنا على اعتقاد دائمًا بأن انفعالات السياسة والحوادث الطارئة، لن تؤثر في العلاقات التاريخية والروابط الاقتصادية بين مصر والسودان، وأنه إذا جمدت السياسة أو شذت، فإن النشاط الاقتصادي والزراعي مفتوح، أو فُتح على مصراعيه.

لن تكون زيارة السودان محصورة في المستقبل في التجار والزراع كما هو شأن البعثة الأولى المسافرة، بل في اعتقادنا أن هناك رحلات مدرسية وزيارات فردية للترويح عن النفس ومشاهدة البلاد السودانية وخزاناتها، ستتوالى على الأيام، وتتعاقب على الأعوام.

إن الروابط الحقيقية بين بلدين هي ما تقوم على أساس تبادل المنافع؛ فالمنافع هي اليوم متجه الأفراد والأمم، وإذا قلت المنافع، وهنت العلاقات، وإذا كثرت المصالح، نمت الصلات. ونحن نشكو من نظام الامتيازات، والواقع أن مصدر قوتها هي قوة المصالح الأجنبية في مصر، فهذه المصالح من الوفرة والتغلغل ما يجعل الأجانب يحرصون على الامتيازات، وما يجعل الوزارات المصرية تتردد في إلغائها، ومنذ بدأ المصريون يساهمون في الأعمال المالية وينشئون المصانع، قويت حركة المطالبة بإلغاء الامتيازات، وهكذا تقوى الروابط بين بلدين بوفرة المصالح المشتركة.

لقد صور لنا رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم كيف شقي السودان بخروج الجيش المصري، وكيف يسعد بعودة المصريين إليه. ونحن نقول أيضًا إن مصر تجد في السودان المنفذ الطبيعي لها، ويكفي أن يكون بالسودان منابع النيل وخزانات مصر عليه، حتى تكون علاقتنا بالسودان وثيقة أبدية.

(٣-٢) يوم السفر

عند الساعة الثانية بعد ظهر ٢٥ يناير سنة ١٩٣٥ بدأ المودعون للبعثة المصرية للسودان يفدون على أرض المعرض بالجزيرة، وفي تمام الساعة الثالثة ركب حضرات أعضاء البعثة عربتين من عربات شركة الأوتوبيس المصرية التي قامت بهم بين تصفيق الحاضرين ودعواتهم الطيبة بسلامة الذهاب والعودة مع تمنياتهم الحارة بنجاح البعثة وتوفيقها في تنمية العلاقات الاقتصادية والزراعية بين مصر والسودان. وقد لمحنا بين حضرات المودعين الذين يربو عددهم على الثلاثمائة حضرات أصحاب السعادة والعزة والأفاضل جناب المستر هاملتون مندوب حكومة السودان، وعيسوي زايد باشا، وحسن سعيد باشا، وحسين بك السيد أباظة، وعثمان بك زكي أباظة، والأستاذ فكري أباظة المحامي، ومحمود حمدي إسماعيل بك، والأستاذ توفيق دياب، ومصطفى بك محفوظ، والأستاذ راغب إسكندر المحامي، ومحمود بك إسماعيل أباظة، ومحمد سرور قنصل مصر سابقًا، وعبد العزيز بك رضوان، وعباس الرمالي، وسعيد بك جميعي، والمستشار ذهني بك، ومحمود أبو العلا وعلي البرير وعلي أفندي القوش أعضاء الغرفة التجارية السودانية بالقاهرة، ومحمد إبراهيم سماحة بك، وعبد الحميد أفندي كيرة، ومحمد عبد الله، ومحمد الإمام سماحة أفندي، وأحمد بك الحناوي، وسليم عز الدين، وحسن بدران أفندي، وعبد الحميد بك سماحة، والدكتور سعد الدين التاودي، وأحمد شعير أفندي، والخواجة توتنجي سامي، والخواجة إسكندر أوجي، ومصطفي بك الشوربجي، ومصطفى بك سرور، وغيرهم من أفاضل القوم من أجانب ومصريين.

وتفضل حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون فأوفد حضرة حسين بك فريد وكيل مدير الجمعية الزراعية الملكية إلى السويس لتوديع البعثة نيابة عن سموه.

وقد أرسل صاحب العزة فؤاد بك أباظة المدير العام للجمعية الزراعية الملكية قبل قيام البعثة التلغراف الآتي:

حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء، سراي عابدين القاهرة:

أعضاء بعثة السودان وعددهم اثنان وثلاثون عضوًا المجتمعون الآن بالجمعية الزراعية الملكية وهم على أُهبة القيام للسويس فالسودان، يلتمسون أن ترفعوا للأعتاب الملكية خالص ولائهم والدعاء لجلالة الملك بكمال الصحة وتمام العافية.

كما أنه أرسل لحضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون التلغراف التالي:

حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون بباكوس:

أعضاء بعثة السودان وعددهم اثنان وثلاثون عضوًا المجتمعون الآن مندوبين عن الجمعية الزراعية والنقابة الزراعية وخريجي الزراعة والغرف التجارية بمصر والإسكندرية، وكبار التجار والزرَّاع ومندوبي الصحافة المجتمعون الآن بسراي الجمعية الزراعية الملكية بالجزيرة، كلفوني جميعًا وهم على أهبة القيام للسويس فالسودان أن أتقدم لسموكم معبرًا عن عميق شكرهم لتوفيق الجمعية الزراعية تحت إرشادكم، وتشجيع سموكم الشخصي لتنظيم هذه الرحلة وتنفيذ هذا العمل القومي لتوطيد العلاقات الاقتصادية والزراعية بين مصر والسودان، ودوام إمداد البعثة بإرشاداتكم الطيبة، ويتمنون لشخصكم الكريم كمال الصحة وتمام العافية، ويرفعون للمولى أكفَّ الضراعة أن يحفظكم ذخرًا للبلاد.

كما أنه قد أرسل تلغرافًا لحضرة صاحب العزة حمدي بك سيف النصر الذي كان مزمعًا السفر مع البعثة لولا مرض انتابه أخيرًا بالنص التالي:

أسف أعضاء البعثة عظيم. نرجوكم اللحاق بنا قريبًا.

وقد وصلت الردود على هذه التلغرافات.

وقد تلقى صاحب العزة فؤاد بك أباظة من المسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم «يومئذ» التلغراف الآتية ترجمته:

بالنيابة عن أعضاء الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم وأعضاء لجنة تنظيم البعثة الاقتصادية المصرية أرجو أن تبلغوا جميع زملائكم أعضاء البعثة خالص التمنيات لرحلة سعيدة وموفقة، وأؤكد لكم أن أعضاء البعثة سيلاقون حفاوة قلبية واستقبالًا رائعًا من السودانيين في كل مكان يمرون به أو ينزلون إليه، وتقبلوا جميعًا تحياتنا الصادقة.

figure
في استقبال الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني.
فرد عليه بالتلغراف الآتي:

جناب المسيو كونتو ميخالوس بالخرطوم:

أبلغت زملائي أعضاء البعثة الاقتصادية المصرية التمنيات الطيبة التي عبرتم عنها بالنيابة عن أعضاء الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم وعن أعضاء لجنة التنظيم، فتقبلوها شاكرين ممتنين وطلبوا مني أن أعبر لكم عن اغتباطهم العظيم بتلك التمنيات الطيبة، ولما سيلاقونه من حفاوة واستقبال، وهم يتطلعون بشوق عظيم إلى ملاقاة السودانيين إخوانهم الأعزاء.

(٣-٣) الوصول إلى السويس والإبحار منها

وصلت السيارة الأولى في الساعة السابعة مساءً، ووصلت السيارة الثانية الساعة الثامنة بعدها، وقد قابلهم الجمهور بالتصفيق عند وصولهم إلى السويس.

وكان في استقبالهم بالفندق حضرة صاحب العزة عباس سيد أحمد بك محافظ السويس وكبار الموظفين وأعضاء المجلس المحلي والأعيان.

وفي الساعة التاسعة مساءً أقام حضرة المحافظ حفلة عشاء فاخرة في كازينو السويس تكريمًا لأعضاء البعثة، وكانت الموسيقى تعزف وتطرب المدعوين.

وقد وصلت الباخرة «شندوين» عند منتصف الليل، واستقلها المسافرون وأبحرت بهم من السويس في الساعة الثانية والنصف من صباح السبت.

وكانت صحة أعضاء البعثة جيدة، وقد تلقوا تلغرافيًّا دعوات كثيرة من السودان؛ من ذلك حفلة شاي يقيمها سعادة الحاكم العام بقصره في الخرطوم، ودعوة من السيد الميرغني ومن حضرة عبد القوي أحمد بك المهندس المقيم بخزان جبل الأولياء، ومن الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير حضارة السودان، ومن مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم، ومن علماء السودان، ودعوات أخرى.
figure
مزارع القطن في طوكر، وترى امرأة هدندوية تجني القطن وعلى ظهرها طفلها، وإلى جانبها فؤاد أباظة بك.

(٣-٤) اليوم الأول من الرحلة (الباخرة شندوين في ٢٦ يناير)

ركوب البواخر

إنني مولع الولع كله بركوب البواخر خاصة وبالأسفار عامة، وكنت أود أن تسمح الظروف لي بأن أكون رحالة. ومنذ خمس سنوات لم أسافر إلى الخارج بحرًا، وقد أُتيح لي في أكتوبر الماضي السفر إلى السلوم بحرًا على الباخرة «نفتس» طوافة مصلحة خفر السواحل، ولكن الطوافة كانت سقيمة؛ هانت على البحر وأسخطتنا على السفر فيه، فكان السفر متعبًا ومزعجًا، ولذا آثرت العودة من السلوم برًّا.

وأُتيح لي السفر في البعثة المصرية بحرًا، وكانت باخرتنا إنجليزية، وللبواخر الإنجليزية عادات هي العادات الإنجليزية، فالباخرة ليست إنجليزية، ملكية ولواء خفاقًا فقط، ولكنها إنجليزية خلقًا، وكان بحارتها من الهنود المسلمين في برما، وهي تبحر من ليفربول حتى رانجون، وقد أحسنوا الخدمة وكانوا مثال الأدب والنظافة.

الجنس اللطيف

حرمت بعثتنا من عنصر الجنس اللطيف، وقد علمت أن السيدة منيرة صبري كبيرة المرشدات ومفتشة التربية البدنية للبنات قد رغبت إلى فؤاد بك في السفر مع البعثة، فأبلغها أن قبول السيدات ليس مسموحًا به، وقد يكون السبب في ذلك أن للبعثة مهمة معينة، ليس للنساء سبيل إلى المساهمة فيها، أو محافظة على التقاليد في مصر والسودان. على أنني أعتقد أنه في البعثات التالية — ولا سيما المدرسية — سيكون مستطاعًا قبول السيدات.

طعام البواخر

تتنافس شركات الملاحة في إعداد الطعام وتنويعه وكثرة وجباته وصنوفه:

والشركات الإنجليزية تعنى بهذا عناية أصبحت مثلًا لغيرها: ففي الصباح الباكر — الساعة السادسة صباحًا — نستيقظ على نداء الخادم يقدم لنا قدحًا من القهوة وقطعة من الخبز وتفاحة، وفي الساعة الثامنة والنصف صباحًا نتناول طعام الإفطار وقائمته حافلة بصنوفه من الشاي واللبن والحلوى والسمك والبطاطس المقلي والعجة والبيض المقلي والبيض المسلوق والروزبيف والهام «لحم الخنزير البارد» والفاكهة.

وقد أضاف زميلان لنا هدية إلى قائمة الطعام وهما: السيد عبد المجيد الرمالي والسيد محمد حسين الرشيدي. الأول أهدى إلينا الملبس والشكولاتة، والثاني «الحلاوة الطحينية»، فكانت دعاية ظريفة وكرمًا بديعًا.

وقائمة الغداء في الساعة الأولى والعشاء الساعة السابعة مساءً حافلة بصنوف الطعام من لحوم السمك والديكة والأرز والطيور واللحوم الساخنة والباردة … إلخ. وبين الساعة الرابعة والساعة الخامسة مساءً نتناول «الشاي الكامل» وقائمته حافلة باللبن والسندوتش والبسكويت وأنواع الجاتو.

وبين هذه الوجبات تُقدم لنا قطع السندوتش والشربة في أقداح، خوفًا علينا من الجوع!

ويزعجني في البواخر صنوف الطعام المتعددة ووجباته الكثيرة، وأعتقد أن وزن الراكب يزيد يومًا بعد يوم، ومن جهة أخرى يعد الطعام من المسليات والمرفهات والمنومات.

اسموكن …!

إنني شديد الكراهة للملابس الرسمية؛ ولا سيما السموكن والسهرة، ولما كانت باخرتنا إنجليزية فمن اللائق لبس سترة السموكن عند العشاء، وقد احتاط الأعضاء فأحضروها معهم، ولكني اقترحت عليهم أن نقرر عدم لبسها؛ خصوصًا لحرارة الجو، فقال فؤاد أباظة بك: لا بد من سؤال قبطان الباخرة عن هل لبسها إجباري فيها. فقال له: إن لبسها غير إجباري، وعندئذ لم نلبس «السموكن».

هذه الملابس الرسمية عادات وتقاليد، ولست أدري ما الذي يحملنا على مجاراة تقاليد غريبة علينا، إن جونا حار، وحاجتنا ملحة إلى الثياب الفضفاضة.

وبهذه المناسبة أذكر رواية سمعتها عن شدة احتفاظ الإنجليز بتقاليدهم؛ ولا سيما السموكن عند العشاء، ذلك أن سائحًا وصل إلى جبل من جبال الهملايا في الهند فدهش لرؤيته إنجليزيًّا وحيدًا أقام ثلاثين سنة فيها ويحتفظ بلبس السموكن عند العشاء وحده، مع أن لبسها في الواقع هو من باب تكريم السيدات واحترامهن والرقص معهن مساءً. الإنجليز يحتفظون بالتقاليد ولا يسألون عن الحكمة فيها.

(٣-٥) اليوم الثاني (الباخرة شندوين في ٢٧ يناير سنة ١٩٣٥)

الجو حار، وقد اضطررنا إلى ارتداء ثياب الصيف. والبحر الأحمر هادئ جدًّا، والباخرة تسير قدمًا، والسماء مصفية، والجو صحو.

عصاميون وعظاميون

جمعت البعثة بين العصاميين؛ وهم من نالوا النجاح بجهدهم وكفايتهم، والعظاميين؛ وهم من ورثوا المجد عن آبائهم.

وقد حدثنا الشيخ الوقور إسماعيل بركات بك — وجده من أبناء ديروط ووارث تجارة الغلال عن جده وأبيه — حديثًا ممتعًا عن حياته، وعن حياة مصر قبل انتشار المواصلات الحديدية وتعميم المدنية، وهو شديد السخط على تلك المواصلات وهذه المدنية، ويراها مجلبة الشر ومفسدة الأخلاق والرجولة، ومهلكة الشباب الناضر، والمقادة إلى الشيخوخة العاجلة.

روي لنا أنه كان يقطع أحيانًا المسافة بين حلوان — حيث يسكن — وروض الفرج — حيث توجد مخازن غلاله — راجلًا.

وهو يأسف على اختراع السيارات والترمويات، فإنها لم تدع له فرصة لتحريك عضلاته وتقوية بدنه. على أنه يحمد الله لأنه ينعم بصحة وافرة وقامة مديدة غير مقوسة، وقد تنافست معه في الطواف على سطح الباخرة، وسرنا ثلاثة كيلو مترات، وقد دعا حضرته الشبان لهذا الطواف فلم يلبوا النداء، فأسف على شباب تدب إليه الشيخوخة.

ويرى إسماعيل بركات بك أن التربية المدرسية الحالية قد أفسدت العقول وعطلت نشاط البدن، وأنه يجب أن يحتفظ التاجر أو الزارع بحالته الأولى من النشاط ومن احتمال الشدائد، وقال إنه يوم مُنح رتبة البكوية غُمّ عليه، وقال لأحد مهنئيه: «هذا يوم شر؛ فإنني لن أستطيع أن أشارك عمالي تنقية القمح وغربلته، لأنني إذا فعلت سلقني الناس بألسنة حداد قائلين: «شوفوا البيه البخيل مش هاين عليه يجيب له عامل بخمسة قروش ويريح نفسه!»

بعض الناس لا يوافقون إسماعيل بك على رأيه، ولكنني مقتنع به الاقتناع كله، وأرى أننا لن ننجح النجاح المنشود، إلا إذا كانت التربية المدرسية على أسس جديدة، وإلا إذا تقشفنا وصابرنا الأيام.

والحق أن المدنية تحمل معها متاعب وأمراضًا، إلى جانب مباذلها ومناعمها.

روح الجماعة والنظام

عند ظهر يوم الأحد ٢٧ يناير عقدت البعثة اجتماعًا شهده جميع الأعضاء فتعارفوا وتآلفوا وتناقشوا، وكم كانت المناقشة بديعة، وقد سادتها الألفة، وكم سعدنا بمجتمع تملؤه المحبة وينتظمه الود، ويدعو إليه حب مصر والسودان.

إنني أعتقد أننا ننمو، وتنمو فينا روح الاجتماع والنظام. وقد ذكرت هذا في تعليقاتي على المؤتمر الوطني العام، وأذكره ثانية لمناسبة اجتماع أعضاء البعثة.

رحلات الجماعات

دفع كل عضو في البعثة خمسين جنيهًا مصريًّا لمدة ٢٤ يومًا لأداء جميع النفقات من سفر بحرًا وبرًّا بالدرجة الأولى ونزول الفنادق، وهو مبلغ زهيد أمكن الحصول عليه لأن القوم جماعة. ومن الممكن أن تكون النفقة أقل إذا لم يكن الركوب بالدرجة الأولى، وإذا لم يكن النزول بفنادق الدرجة الأولى أيضًا، فقد كان راكب الباخرة من السويس إلى بور سودان يدفع ثمانية جنيهات ونصف الجنيه، ولكن تمكنت البعثة من تخفيض الأجرة إلى خمسة جنيهات.

تستطيع البعثات المدرسية والرحلات الاجتماعية أن تأخذ طعامها وفراشها معها، وأن تفترش سطح الباخرة وركوب الدرجة الثالثة بالقطارات، ولن يجد الأعضاء غضاضة في ذلك؛ لأن عامل الخجل أو عاطفة الكبرياء أو مزعوم الكرامة لن يكون له وجود؛ لأن الأعضاء سواسية، وقد ينعمون بهذه الحياة البسيطة أكثر من نعيم الدرجات الأولى والطنافس والرياش.

إن أكثر الناس رفاهية ونعيمًا وترفًا ليملُّ أحيانًا حياة الترف، ويصبو إلى حياة البساطة والتقشف. بل هذا المترف المجدود، لن يحس أنه وافر الخير ومتمتع بمناعم الحياة، إلا حين يحيا حياة أخرى، هي حياة الزهد والبساطة والشظف، وهو على هذه الحال يحس بسعادتين، أو يتمتع بغبطتين؛ الأولى: غبطة القدرة على دفع المال مع محبة التغيير، ثم غبطة الإحساس بأن الله قد أعطاه مناعم وحباه بخير حرم منه السواد.

وفوق ذلك كله، تتآلف الطبقات وتزول الوحشة والجفاء بين الأكثرين.

القطن في مصر والسودان

بين مصر والسودان روابط عديدة، وفي رأيي أن المهم فيها اشتراك مصر والسودان في زراعة القطن، وحاجة هذه الزراعة في البلدين إلى إقامة الخزانات على نهر النيل. لقد فشل مشروع الجزيرة وخابت الآمال التي عقدتها الشركة الإنجليزية في زراعة السكلاريدس في أرضها، وضاعت ملايين الجنيهات، وكان من وراء ذلك أن تبين أن خطة الاقتصار على جهود الشركة ليقف السودان وحده ويستغني عن مصر والمصريين ليست صالحة، وأحس ولاة الأمر أن من المصلحة تسهيل سفر المصريين واشتراكهم في تعمير السودان.

إن مصر تجود بسبعة ملايين قنطار في العام، ومحصول السودان ٧٠٠ ألف قنطار؛ منها ٦٥٠ ألف قنطار سكلاريدس «مشروع ري الجزيرة».

الدكتور محجوب ثابت

آلمنا يوم سفر البعثة من القاهرة وفي اليوم الأول من ركوبنا الباخرة؛ أي يوم ٢٦ يناير، أن الدكتور محجوب ثابت كان معتكفًا في غرفته متألمًا من التهاب قدمه بسبب اصطدامها بحجر في بعثة طلبة الجامعة في فلسطين وسوريا. وابتهجنا في ٢٧ يناير حين رأينا الدكتور ينهض ويفرفش.

ونذكِّر أن الدكتور محجوب ولد في دنقلة، وكان والده ضابطًا بالجيش المصري، ولكن الدكتور لم يزر مسقط رأسه بعد انتقال والده إلى القاهرة.

وسن الدكتور ٥٣ سنة — كما يقول هو — وعلى الرغم من عدم معرفته السودان، لأنه كان صغيرًا عند انتقاله منه، فإنه يحدثك عن السودان قبيلًا قبيلًا ودربًا دربًا، ويأبى على العارفين وأبناء السودان أن يناقشوه في صحة معلوماته.

(٣-٦) اليوم الثالث (الوصول إلى بور سودان)

بور سودان في ٢٨ يناير سنة ١٩٣٥.

استيقظنا مبكرين صباح اليوم، متطلعين إلى بور سودان، وقد ظهرت لنا عند الساعة الحادية عشرة والنصف، وسارت الباخرة الهوينا، فوصلت إلى الرصيف الساعة الأولى بعد الظهر، ونزلنا بفندق البحر الأحمر. وقد أرسلت التفاصيل بالتلغراف كما يأتي:

بيان البعثة بالتلغراف

أرسلت البعثة المصرية التلغراف التالي لدى وصولها إلى بور سودان:

بورت سودان في ٢٨ يناير:

وصلت الباخرة شندوين المقلَّة للبعثة المصرية إلى السودان في الساعة الأولى بعد ظهر اليوم إلى ميناء بور سودان، وقد قوبلت بمزيد الحفاوة والحماسة، وكان في استقبالها جمهور كبير من رجال الحكومة والقضاء والعلماء والتجار والأعيان ومديري الشركات والبنوك ورؤساء الجمعيات وغيرهم، وفي مقدمتهم محافظ بور سودان ومدير الميناء ومدير الجمارك والمسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم والسيد عمر الصافي والشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير جريدة حضارة السودان ومصطفى أفندي أبو العلا ومحمد أحمد البرير والسيد محمد البرير ووكيل شركة مصر للملاحة ومدير شركة جلاتلي وهانكي وقومندان البوليس وضابط قلم الجوازات ووكيل محلج دباس بسواكن ومدير شركة الشحن ومستر فلبس هاوس والمسيو عزيز كفوري والمسيو توتنجي ووكيل السيد إبراهيم عامر بك.

وفضلًا عن ذلك فقد ازدحم رصيف الميناء بالموظفين السودانيين وضباط البوليس وجنوده وجنود الجمارك وخفر السواحل، وقد أدوا التحية للبعثة. وقدم رجال الحكومة كل ما في استطاعتهم من التسهيلات للنزول من الباخرة للميناء، وأخذ المصورون صورًا عديدة للبعثة مع مستقبليها. وقد نُقلت أمتعة البعثة مباشرةً إلى القطار الفاخر الخاص الذي أعدته حكومة السودان لسفر الأعضاء اليوم إلى سواكن، وسيظل هذا القطار تحت تصرف البعثة في جميع تنقلاتها حتى وصولها إلى الخرطوم.
figure
فندق البحر الأحمر ببور سودان الذي نزلت به البعثة.

وقد توجه الأعضاء من الميناء إلى فندق البحر الأحمر ببور سودان، حيث استراحوا واستقبلوا وفود المهنئين.

وقد تلقت البعثة لدى وصولها إلى بور سودان خمس دعوات لتناول الشاي عند الساعة الخامسة مساء اليوم من المحافظ ومدير الجمارك ومدير شركة جلاتلي هانكي ومدير شركة مسيو كونتو ميخالس ومستر ورمس، فاضطرت البعثة إلى تقسيم نفسها خمس جماعات لتتمكن من تلبية الدعوات الخمس. وفي الساعة السابعة والنصف من مساء اليوم يستقل الأعضاء القطار الخاص إلى سواكن حيث يبيتون به الليلة.

وفي صباح غد يتوجه بالسيارات من سواكن وفد مؤلف من مندوبي الجمعية الزراعية والنقابة الزراعية العامة والغرفة التجارية بإسكندرية إلى طوكر لمشاهدة زراعة القطن في منطقتها، ويظل باقي الأعضاء في سواكن غدًا حيث يعود إليها وفد طوكر مساءً ويتلاقى مع الأعضاء المنتظرين ويعودون جميعًا بالقطار الخاص إلى بور سودان، فيصلون إليها عند منتصف الليل وينزلون في فندق البحر الأحمر. ا.ﻫ.

وفي صباح الأربعاء يزور الأعضاء مصانع ومنشآت بور سودان، ويلبون الدعوات الموجهة إليهم. وفي الساعة السادسة مساءً يستقلون القطار إلى كسلا.

وصحة جميع الأعضاء جيدة جدًّا، وسرورهم عظيم، ووسائل الراحة متوفرة، وقد اغتبطوا الاغتباط كله عندما علموا أن جلالة مولانا الملك — حفظه الله — تفضَّل بالإنعام على المسيو كونتو ميخالس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم بنيشان النيل من الطبقة الثالثة، وقد تلقوا تلغرافًا من القاهرة يفيد تحسن صحة حمدي سيف النصر بك، فكان له وقع عظيم في نفوسهم، وتمنوا له عاجل الشفاء، وقد أرسلت البعثة تلغرافًا إلى معالي كبير الأمناء ترجو رفعه إلى الأعتاب الملكية ينبئ بوصولها، داعية لجلالته بدوام الصحة والعافية، وأرسلت لسمو الأمير عمر طوسون تلغرافًا آخر تعبر فيه عن عظيم شكرها لسموه، وتلغرافًا لدولة رئيس الوزراء ولمحافظ السويس تشكره فيه على حفاوته بالبعثة عند سفرها من السويس.

فؤاد أباظة
ووزعت شركة روتر التلغراف الآتي:

بور سودان في ٢٨ يناير: وصلت البعثة التجارية المصرية بعد ظهر اليوم فقوبلت بمظاهر الترحيب الحماسية، وقد حياها على ظهر الباخرة القومسيير وكبار الموظفين، وكذلك المسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية. وقد اشترك كبار التجار في بور سودان في استقبالهم كذلك.

تحية البعثة: للأديب محمد حسني العامري

دع السكون إلى الأوطان والكسل
ومتع النفس بالأسفار والعمل
سافر وجدَّ تجد عزًّا ومكرمةً
في كل ناحيةٍ كالسادة الأُوَل
ترى الأوائل جابوا الأرض قاطبةً
بحرًا مع الريح أو برًّا على الإبل
ولم تكن سبل الأسفار دانيةً
ولا البخار جرى في البحر والجبل
فما لنا قد قبعنا في منازلنا
ولا نفرُّ من الأزمات والعلل

ماذا رأينا ببور سودان

بور سودان ميناء صغير هادئ جديد على البحر الأحمر، دفعت مصر نفقة بنائه. أُنشئت في محل قرية تدعى الشيخ بوغوث يرجع تاريخها إلى سنة ١٩٠٥، مبانيه أكثرها مؤلف من دور واحد، والكثير منها من الأكشاك والمنازل مخصصة في الغالب للموظفين الحكوميين ورؤساء الشركات وموظفيها. وسكان بور سودان خليط من السودانيين واليمنيين والحجازيين والهنود، وهي مركز تجاري عظيم، وهي الميناء البحري المباشر الوحيد للسودان.

وقد وضعت الحكومة تحت تصرفنا قطارًا خاصًّا، كل صالون من صالوناته لعضو واحد من الأعضاء، وتتوافر في مركباته وسائل الراحة، وفي كل صالون حنفية ماء بحوضها، والمركبات نظيفة، وقطارات السودان خير من قطارات مصر من جهة الاستعداد.

وأهالي بور سودان أهل جد وسكون واتزان، وكان البِشر باديًا على مُحيَّاهم والسرور ظاهرًا في أساريرهم. وبينهم شُبَّان مديدو القامة وافرو الصحة والعافية، وفتيات جميلات، في أعينهن سحر، وفي حدقاتهن إيناس ونبل، وفي مسيرهن خفر.

وهذا المسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم عصامي كبير من أبناء اليونان، له نفوذ بعيد كسبه بكفايته التجارية حتى قبلت جميع الجاليات؛ ومنها الجالية البريطانية أن يكون رئيسًا للغرفة. وللرجل مكتب في إسكندرية، وفروع لتجارته في مدن السودان. وتجارته شاملة تصدير حاصلات السودان والاتجار في الواردات وتسيير البواخر والشحن والتفريغ والتأمين.

والرعايا اليونانيون منبثون في بور سودان، وقد علمت أنهم هكذا في أنحاء السودان؛ فهم أصحاب المعامل والمحالج والمصانع ومديرو البنوك وأصحاب الزراعات الواسعة.

وهكذا يدلل الشعب اليوناني على جده وكفايته وعصامية أبنائه وصبرهم، ويبرهن على أن النجاح حليف المُجد الصبور المتواضع.

تُنار بور سودان بالكهرباء، وشوارعها نظيفة، وفيها فيلات صغيرة وكبيرة، وسيارات التاكسي بها مريحة وجديدة، وهي من ماركة فورد وشفروليه.

وقد بلغت نفقات تشييد ميناء بور سودان من سنة ١٩٠٥ إلى سنة ١٩٠٩ ٩١٤٣٢٠ج.م، وبلغت قيمة تجارتها سنة ١٩٠٦ أربعمائة وسبعين ألف جنيه مصري، وفي سنة ١٩٠٨ سبعمائة وخمسين ألف جنيه مصري، وتبعد عن السويس ٧٠٠ ميل بحرًا، وعن الخرطوم ٤٩٥ ميلًا برًّا، وعن سواكن ٣٦ ميلًا، وعن جيبت ٤٠ ميلًا.

(٣-٧) اللجنة السودانية لاستقبال أعضاء البعثة ومرافقتها

figure
مصطفى أبو العلا.
figure
قديس عبد الملك.
figure
فضيلة الشيخ أحمد عثمان رئيس تحرير جريدة حضارة السودان.
figure
مسيو توتنجي.

وتألفت لجنة لاستقبال البعثة في بور سودان ومرافقتها حتى نهاية رحلتها، وهي مؤلفة من حضرات: مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم سابقًا، ومسيو عزيز كفوري التاجر الشهير بالسودان، والشيخ محمد أحمد البرير التاجر الكبير، ومصطفى أبو العلا أفندي التاجر بمصر والسودان، ومسيو توتنجي، وفضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير حضارة السودان، ومستر فيليبس ومستر ريد ومستر كوكسين رئيس تحرير جريدة سودان ديلي هيرالد الإنجليزية ووكيل شركة روتر بالخرطوم، وقديس عبد الملك أفندي وكيل بوستة الخرطوم سابقًا، هذا عدا لجان الاستقبال المحلية الكثيرة.

(٣-٨) يوم طوكر وزيارة سواكن (في الثلاثاء ٢٩ يناير سنة ١٩٣٥)

استيقظنا صباح اليوم مبكرين، وتوجهنا — نحن وفد البعثة — لزيارة زراعة القطن في طوكر، فقد رئي ندب وفد مؤلف من حضرات فؤاد أباظة بك وعبد الحميد أباظة بك وعبد الحميد فتحي بك، والأساتذة علي شكري خميس وحسين الرشيدي ومحمود مصطفي ومصطفى نصرت ورياض شمس، ومؤلف هذا الكتاب؛ ذلك لأن طريق السيارات — وهو طريق القوافل والطريق الوحيد من سواكن إلى طوكر، التي لا تتصل بالبلاد السودانية بالسكك الحديدية — طريق وعر شاق، ولأن الغرض من زيارة طوكر زراعي محض، فإن حضرة فؤاد أباظة بك لم يتمكن من زيارتها في رحلته إلى السودان والحبشة في العام الماضي.

«وطوكر» اسم معروف في مصر؛ فيقول الجمهور عن كل مكان بعيد «أنت عاوز توديني طوكر!» فقد كانت طوكر منفى المجرمين السياسيين وغير السياسيين.

بدأت السيارات مسيرها قبيل الساعة السابعة صباحًا من سواكن، ووصلت الساعة العاشرة والنصف، وكان في استقبالنا مستر بترسون مفتش الزراعة بطوكر وعبد الله شفيع أفندي مأمور مركز طوكر، ومعهما الموظفون. وكان معنا سندويتش وبيض وخبز وجبن وشاي ولبن وقهوة في زجاجات الترموس وليمون. ولضيق الوقت تناولنا طعام الإفطار بمجرد وصولنا إلى استراحة الحكومة بطوكر. وكانت ثيابنا محملة بالغبار، والعرق يتصبب من أبداننا، فبادرنا بالاغتسال بالماء.

وفي الساعة الحادية عشرة صباحًا توجَّهنا بالسيارات ومعنا مفتش الزراعة وحضرة مستر فيليبس مدير شركة كونتو ميخالوس إلى مزارع القطن بطوكر، فوصلنا إليها بعد نصف ساعة، وهناك شهدنا منطقة واسعة خضراء قد فُرشت بشجيرات القطن، فنزلنا من السيارات ومررنا بين الحقول.

وفي مكتب مستر بترسون مفتش الزراعة شهدنا خريطة منطقة طوكر، وهي على شكل دلتا مساحتها ٢٥٠ ألف فدان ترويها السيول والأمطار وروافد الأنهر الصغيرة — كنهير بركة — وهي غير متصلة بالنيل. وتنزل هذه السيول في هذه المنطقة في أثناء فصل الصيف، ولكن ما يزرع منها عشر مساحتها؛ من ذلك ٣٢ ألف فدان من القطن، وسبعة آلاف فدان من الدخن والعدس والذرة.

وقبل بدأ الأمطار يبذر الزرَّاع بذرة القطن بواسطة أداة تسمى «السلوكة»، وهي قطعة من الحديد يحفر بها الزارع حفرة في الأرض ويضع البذر. وعلى بعد متر ونصف المتر من الحفرة الأولى يفتح حفرة أخرى وهكذا، وتسمى الحفرة عند سكان طوكر «جورة».

وفي أول أغسطس يكون فصل الأمطار قد انتهى وينبت الزرع. وفي أواخر نوفمبر تظهر بواكير لوز القطن، وبين أواخر يناير وفبراير يمكن الحصول على «الجنية الأولى» من القطن. ويستمر الجني حتى وسط شهر يونية. ثم يبدأ فصل الصيف وتهب فيه ريح صرصر خطرة تسمى «الهبوب»، ويسمون الريح التي تهب في أثناء موسم الزراعة «الهبهب» مصغر «هبوب»، ويسمون «الجنية» من القطن «تلجيطة»؛ أي «تلقيطة» من «لقط» يعني جمع.

وفي أثناء فصل الصيف — أو فصل الهبوب — يهجر الزارع طوكر إلى أعالي الجبال أو إلى مساكنهم الأصلية، فإن كثرة الزراع من غير سكان طوكر، وإنما ينتقلون إليها من أنحاء مختلفة من السودان ومصر في فصل الزراعة وهو فصل الشتاء.

والأراضي ملك للحكومة، ولكنها توزعها للزراعة على القبائل، وعددها ٧٢ قبيلة مسجلة، وهناك قبيلتان غير مسجلتين. وتوزع الأرض الصالحة للزراعة على القبائل بنسبة عددها، والأهالي لايملكون أرضًا. على أن الحكومة تستبقي بضعة آلاف من الأفدنة لتوزعها على الأفراد من غير القبائل لزراعتها فقط أيضًا، ومنهم يونانيون.

ويحضر الزرَّاع القطن بعد جنيه إلى مركز طوكر، ويتولى بيعه سماسرة رسميون، وعددهم ١٢ من الأهالي. ويكون بيعه في بورصة مجاورة لمكتب مفتش الزراعة تحت إشرافه. وثمن القنطار ٨٠ قرشًا في المتوسط، وتختلف الأسعار سنة عن أخرى ويومًا عن يوم. وقد حُدِّد بدء بيع المحصول الجديد في ١١ فبراير القادم، ويستمر في الأيام التالية إلى يونية حتى يباع كله.

ويوضع القطن عند وصوله إلى المركز في شونة مسورة ويوزن، وبعد البيع ينقل إلى شونة أخرى ويوزن مرة ثانية، وينقص وزنه نحو ٨٪ في الوزن الثاني بسبب تبخر ماء القطن.

وأهم مشتري قطن طوكر هم مسيو كونتو ميخالوس وبيل بالإسكندرية، وشركة إسكندرية التجارية وأولاد إلياس دباس بمصر والسودان، ومستر راي إيفانس بليفربول. ويُصدر القطن إلى إنجلترا وفرنسا. وقطن طوكر كله سكلاريدس.

ويجود الفدان الواحد بنحو ستة قناطير صغيرة. والقنطار الصغير هو ما كان وزنه مع بذرته مائة رطل. ويحلج هذا القنطار؛ أي بعزل البذرة منه فيصبح قطنه متراوحًا بين ٣٠ و٣٥ رطلًا والباقي بذرة. وكان محصول العام الماضي سيئًا؛ إذ كان حوالي قنطارين ونصف، ولكن بشائر المحصول الجديد تنبئ بأن متوسط محصول الفدان سيكون ستة قناطير صغيرة، وأجود محصول فيه ثمانية قناطير.

وهناك مشروع لإنشاء خزان للانتفاع بماء السيول؛ لأنه يجري نحو البحر الأحمر فيضيع أكثره.

ويهرع أكثر الزراع بعد انتهاء الموسم إلى جبال سنكات العالية، أو إلى جبل أركويت، مصيف الحاكم العام للسودان، وهذه المناطق الجبلية العالية — على ما يقول العارفون — تشبه جبال سويسرا ولبنان في جوها وصلاحيتها كمصيف.

ولطوكر ميناء يسمى «ترنكتات»؛ منها سكة حديد بضائع ضيقة تصل إلى طوكر، وتحمل قطنها على بواخر مسيو كونتو ميخالوس.

وأهم القبائل قبيلة الهدندوة، ولأفرادها رطانة، وفيهم جمال، ويقول بعض المؤرخين إن أصل المصريين من هذه القبيلة أو إنهم مع المصريين من أصل واحد. قامتهم متوسطة، وأنوفهم مدببة، نحاف، ونساؤهم بارعات الجمال، ويساعدن الرجال. ويحمل الرجل منهم قوسًا وسكينًا مقوسة، وشعرهم أسود فاحم، وهم حديدو البصر، ويعرفون العربية ويتعلمونها، ولكن لهم رطانة خاصة من أصل غير عربي يتحدثون بها.

وبعد هذه المشاهدة عدنا بالسيارات إلى المركز، حيث كانت الساعة الأولى والنصف، وبعد الاستراحة قليلًا ورد الزيارة لمفتش الزراعة والمأمور ووكيل البريد والتلغراف — والثلاثة سودانيون — ركبنا السيارات عند الساعة الثانية بعد الظهر وعدنا إلى سواكن في الساعة الخامسة، حيث كان باقي الأعضاء في المدينة.

وقد أقام حضرة جورج شكري أفندي وكيل شركة أولاد دباس بسواكن بمحلهم بها حفلة شاي، وقال: إن أنجال المرحوم إلياس دباس كانوا يودون الحضور إلى سواكن لاستقبال البعثة، وهم يعتذرون بارتباطهم بأعمال منعتهم من السفر. وقد أسس المحلج المرحوم إلياس دباس في سنة ١٨٧٤؛ أي في أثناء الحكم المصري للسودان، وقد نهبه الثوار في الثورة المهدية، وبعد إخمادها فتح من جديد، وهو يحلج قطن طوكر. وأصحاب المحلج مصريون، وجميع عماله من سكان سواكن، ولذا يمون قسمًا كبيرًا منها بالعمل والأجور.

وزاروا مصبغة الشيخ محمد السيد البربري وبها عشرون عاملًا، ثم زاروا منزل الشيخ الكبير محمود عثمان أرتيجه بك عمدة سواكن وزعيم قبائل الأرتيجة، ويبلغ عمره تسعين سنة، وقد فقد بصره. وعندما اعتذروا عن تناول القهوة بداره، دمعت عينا الرجل تأثرًا، وقال: هذا خيركم، فإن الخير جاء على يديكم. فاضطروا لتناول القهوة وشكره. وأخذ الرجل يروي قصصًا تاريخية غريبة عن حوادث السودان في عهوده المختلفة، وكان اللورد كتشنر باشا يزوره ويقدره.

وزاروا دار المحافظة القديمة بسواكن، وهي مشيدة على الطراز التركي القديم كقصور القاهرة القديمة في الأحياء الوطنية، وهي تشرف على ميناء سواكن. وأمام الدار مدفعان تركيان، وبجوارهما وقعت المعركة الفاصلة والختامية في حرب استعادة السودان، وأقام اللورد كتشنر باشا السردار العام للجيش المصري يومئذ في تلك الدار، حيث أسر البطل السوداني الكبير المرحوم عثمان دقنة زعيم دنقلة.

كانت سواكن الميناء السوداني الوحيد، وكانت مركزًا تجاريًّا عظيمًا بين السودان وأفريقيا من جهة، وبين الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب وفارس والهند وغيرها من جهة ثانية. ومن تجارتها تجارة النخاسة، حيث كان للرقيق الأسود سوق رائجة، ولذا كان بين سكانها السابقين والحاليين الكثير من أبناء اليمن ومكة وحضرموت.

وبها قصور وعمارات للسادة الميرغنية وللشناوي — وهو غير شناوي المنصورة — والبربري وأصله من السويس. وتدل المباني والشوارع على أنها مدينة قديمة المدنية، وأنها كانت ترفل في حلة العز، وتنعم بالجاه والثروة، ولكن كارثتين حلتا بها بدَّلتا بسعادتها بؤسًا، وبعمرانها خرابًا، وبعزها ذلًّا:
  • الكارثة الأولى: إنشاء ميناء بور سودان. ويقال إن اللورد كرومر هو الذي أوحى بإنشاء الميناء الجديد؛ لأن سواكن كانت موقعًا مهمًّا في خلال الثورة المهدية، ولأن سكانها شجعان وكانوا على ولاء للمصريين والأتراك ومتّصلين بحركة الخلافة الإسلامية. ومن جهة أخرى قيل بأن ميناءها لم يكن يصلح لرسوّ البواخر الكبيرة، وأن موقع بور سودان أصلح طبيعة للميناء من سواكن.
  • الكارثة الثانية: خروج الجيش المصري من السودان. فقد كان هناك معسكر كبير لذلك الجيش، وكانت النقود التي ينفقها الضباط والجنود تُتداول بين السكان.

وقد رأينا أكثر بيوتها بين مهدمة ومغلقة ينعق فيها البوم، وأكثر دكاكينها موصدة. وبهذا أصاب الفقر المدقع أغنياءها؛ فقد زالت تجارتهم وأقفرت عماراتهم الكبيرة جدًّا، حتى إنهم لم يجدوا سكانًا ولو مجانًا لتعميرها والحيلولة دون تهدمها. وقد هاجر أكثر من أربعة أخماس السكان إلى بور سودان وطوكر وغيرهما.

والحق أن الإنسان ليتأثر من هذا المنظر، والحق أن الشقاء مقدور للبلدان كما كُتب للإنسان.

ولم يبقَ لسواكن من مظاهر الجاه، غير أنها ظلت حتي اليوم ميناء حجاج السودان، فتقلهم الباخرة «تلودين» التابعة لشركة البوستة الخديوية يوم الاثنين كل أسبوعين، وتزورها الباخرة الثانية يوم الأربعاء كل أسبوعين، ولأهمية سواكن كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر والسودان، وقد مُنحت ولايتها لمحمد علي مضافة إلى ولايته على مصر. وبعد استعادة السودان ظلت تابعة لمصر، حتى ضُمّت بعد عشرة أعوام تقريبًا إلى السودان وصار شأنها كالبلاد التي شملتها اتفاقية سنة ١٨٩٩. وكانت إدارتها الصحية تابعة لمصلحة الكورنتينات المصرية حتى بعد خروج الجيش المصري سنة ١٩٢٤، ولكنها فصلت أخيرًا، وأُنشئت فيها مصلحة سودانية يديرها مفتش إنجليزي يُندب في موسم الحج، وله مساعد وهو طبيب سوداني مستديم.

وبها مدرسة أولية فيها ١٢٠ تلميذًا. وتناولنا العشاء بالقطار الخاص وبتنا فيه.

توفيق بك بطل سنكات

قال الأديب محمود ذو الفقار الكاشف:

قرأت مقالًا للأستاذ عبد الله حسين يصف رحلة البعثة المصرية عند زيارتها سواكن وطوكر وسنكات، وفات الأستاذ أن يذكر ما لسنكات من تاريخ حافل بالبطولة والشجاعة؛ فقد ترك قائد هذا الموقع الضابط توفيق بك صفحة خالدة من صفحات المجد في تاريخ مصر الحديث، إذا ذكرت حوادث السودان الشرقي ومعارك عثمان دقنة الزعيم السوداني المشهور. ويؤلمني جهل أبناء مصر التاريخ، وأمثال هؤلاء الضباط الذين أراقوا دمائهم في سبيل مجدها ونشر نفوذها في مجاهل السودان، وخليق بمصر أن تؤدي واجب الوفاء نحو هذا البطل وقد عرف له الإنكليز بطولته وقدروا بسالته فوضع جلالة ملكهم الحالي تذكارًا له ولجنوده الشجعان عند زيارته سنكات في سنة ١٩١٢. ولمناسبة ذكرها في مقال حضرة مندوبكم رأيت أن أكتب على صفحات «الأهرام» لمحة موجزة من تاريخ هذا الضابط العظيم.

ولد توفيق بك من أب مصري وأم سورية، وتعلم في المدرسة الحربية في عهد إسماعيل، وبعد أن جاز امتحانها أُلحق بالخدمة في محافظة سواكن، وتدرج في الرقي إلى أن عُين محافظًا لها في عهد الخديوي توفيق، ولما استتب الأمر للمهدي في السودان الغربي بعد إبادته لحملة هكس «أكتوبر ١٨٨٣» أرسل عثمان دقنة أحد أمرائه إلى سواكن ليدعو أهل السودان الشرقي لمبايعة المهدي ونصرته، فتمكن أميره من إثارة القبائل، والتف حوله عدد كبير منهم بجهات سنكات وما حولها، ولما بلغ توفيق بك أمره — وكان محافظًا لسواكن — توجه إليه بنفسه على رأس ستين جنديًّا، ولما وصل إلى هذه الجهة طلب من عثمان دقنة الحضور إليه فلم يحضر، بل فاجأه هذا بالهجوم عليه بغتة، فتحصن توفيق بك ومعه هذا العدد القليل من جنوده داخل سنكات، وكان ذلك في أكتوبر سنة ١٨٨٣، ولما زاد عدد الثوار تحت إمرة زعيمهم حتى بلغوا عشرين ألف مقاتل، واشتد الحصار على طوكر وسنكات التي استبسل قائدها في الدفاع عنها، رأت الحكومة المصرية تجهيز حملة بقيادة محمود باشا طاهر لإنقاذ المحصورين فهُزمت شر هزيمة «نوفمبر ١٨٨٣»، ثم عادت وسيَّرت حملة أخرى بقيادة بيكر باشا فدحرها الدراويش «فبراير سنة ١٨٨٤»، ولما رأى توفيق بك ما حل بالحملتين من هزيمة منكرة خرج بجنوده وهو شاهر سيفه مخترقًا صفوف محاصريه وهم يبلغون عشرين ألف مقاتل، وظل يقاتل مستبسلًا على رأس جنوده إلى أن وقع أسيرًا، فأمر عثمان دقنة بقتله بعد أن عذبه كثيرًا. وكان أمير الدراويش قد طلب منه تسليم سلاحه ليؤمنه على حياته، فرفض الضابط الباسل الاستسلام مفضلًا الموت في ساحة الوغى على الخضوع والتسليم بعد أن قاوم أعداءه أربعة أشهر كاملة مقاومة دلت على بسالة وشجاعة نادرة.

فهل آن لمصر أن تذكر أمثال هؤلاء الضباط البسلاء فتهمَّ بتخليد ذكراهم ولو بكتابة تاريخ موجز لكل منهم في كتب التاريخ التي توزع على المدارس! إذ بينما نجد فيها ذكر غوردون وكتشنر وصمويل بيكر وغيرهم من الضباط الإنكليز نجد هذه الكتب تغفل ذكر ضباطنا الذين استشهدوا والإنكليز جنبًا إلى جنب في مجاهل السودان. ألا يجدر بنا ونحن نذكر السودان ونتحدث عنه الآن أن نقيم في أرضنا تذكارًا خالدًا لهؤلاء الأبطال الذين أفنوا حياتهم في سبيل مجد مصر كي يحدث الأبناء عما فعله الآباء؟ وإنه لواجب أدنى لا يجوز التهاون فيه.
figure
وصول أعضاء البعثة إلى ميناء بور سودان (ويرى من اليمين: محمود مصطفى الجمال. أحمد السيد أبو الفضل الجيزاوي. مسيو كفوري. فؤاد أباظة بك. عبد اللطيف أبو رجيلة. محمد عبد الرحيم سماحة. محمد أحمد البرير.)

(٣-٩) العودة إلى بور سودان (يوم ٣٠ يناير سنة ١٩٣٥)

بتنا ليلة أمس — ٢٩ يناير — بالقطار الخاص الذي وضعته حكومة السودان تحت تصرفنا للانتقالات وللمبيت فيه حتى نصل إلى الخرطوم.

وقد استيقظنا الساعة السادسة صباحًا وتوجهنا إلى فندق البحر الأحمر، التابع لمصلحة السكك الحديدية السودانية.

هذا الفندق الأنيق الصحي الفسيح المشيد على أحدث طراز للفنادق الصيفية الأوروبية من مفاخر مصلحة السكك الحديدية في السودان، فقد أنشأت المصلحة طائفة من الفنادق التي تتوافر فيها وسائل الراحة؛ من جريان الماء الساخن والعادي، والإنارة بالكهرباء، والمراوح، والأبهاء، والصالونات، والحدائق، وبكل غرفة سريران وحمام متصل بها، والأجرة اليومية مع الأكل ١١٠ قروش، ولكن يمكن الاتفاق على أكثر من ليلة بأجر مخفض.

وخدم الفنادق من سكان حلفا والشلال وأسوان، يلبسون العمائم السودانية ويتمنطقون بحزام أخضر اللون، وهم مؤدبون وأذكياء، وكثير منهم اشتغل في مصر.

أنشأت المصلحة فندقًا في كل من الشلال وجوبا والخرطوم وبور سودان.

ومن العجيب أن مصلحة السكك الحديدية المصرية — وهي أغنى من زميلتها بالسودان — لم تنشيء فندقًا على الأقل في مدينة كطنطا ثالث عواصم المملكة المصرية وعاصمة الوجه البحري، فليس بطنطا فنادق من الدرجة الأولى أو حتى الثانية، ومن المخجل أن لا يجد النزيل فندقًا يماثل الفنادق الحكومية بالسودان.

وبعد الاستحمام في فندق البحر الأحمر تناولنا طعام الإفطار، وكان مليئًا من البيض والسمك والفاكهة والجبن والكبد والقهوة والشاي والحلوى. وفي الميناء ركبنا قوارب صغيرة لمشاهدة قاع السواحل المرجانية، ومن أجل هذا رُبطت بالقوارب صناديق خشبية كان قعرها من الزجاج العادي وسطحها الأعلى غير مغطى، وإذا نظر الإنسان في الصندوق، رأى قاع البحر عند الساحل المرجاني. رأى عجبًا؛ فهناك صخور وأحجار قد طُويت وتحلت وأشبهت عناقيد العنب والإسفنج والعقيق والأصداف، كأنما هناك أطباق عُرضت فيها أنواع الفاكهة والزهور. وهناك أسماك اختلفت ألوانها بين الأحمر والأسود والأصفر والأخضر، والملون بأشكال الطيور؛ كألوان الببغاء والعصافير الزاهية. ولولا أن الرائي يعرف أنه يشاهد أنواعًا من السمك، لحسبها أنواعًا أخرى من الطيور. وهناك أسراب بديعة فيها ألوف من السمك صفوفًا وصفوفًا.

أمضينا نحو ساعة ناظرين دهشين في هذا الساحل العجيب، وقد تساءلت متى يجيء اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يعيش في البحر وفي جوف الماء وبين الأسماك بعد أن استطاع أن ينتفع بالجو طائرًا ومتنزهًا.

ألا تكون هناك اختراعات تسهل للإنسان أن يعيش في الماء، حيث هناك جبال وتلال وأودية وسهول وحزون وألوف من الحيوانات، وحيث يستنقذ حياته من شقاء المدينة أو عذاب البر.

وقد دفع كل شخص عشرة قروش عن هذه المشاهدة، وأهدى إلينا البحارة قطعًا من هذه العناقيد الصخرية العجيبة اقتطعوها أمامنا بمهارة مدهشة.

وقد أنشأت مصلحة السكك الحديدية حمامًا في المينا به عشرة كابينات؛ وذلك لأن الاستحمام في البحر مباشرة خطر، لوجود سمك القرش وعقارب الأسماك، فتصيب الأبدان بجروح دامية.

وهناك حوضان للحمام: حوض كبير طوله مائة قدم وعرضه ٧٥ قدمًا، ويسع ١٢٠٠ طن، ويُملأ في ساعتين ونصف ويفرغ في ساعة ونصف. ويكون ملؤه بموتور كهربائي من البحر الأحمر مباشرة، وعمق الحوض طبقات: و٤ و٥ و٧ أقدام. وحوض صغير للأطفال عمقه قدمان ونصف قدم.

وأجرة دخول الحمام خمسة قروش، وللأطفال قرشان ونصف القرش.

ثم زرنا حضرة عبد اللطيف أبو رجيلة أفندي وكيل شركة مصر للملاحة البحرية في مكتب الشركة ببور سودان، حيث أنشأه على نفقته لمعاونة الشركة في أعمالها، وهو شاب نابِه ألَّف شركة مع حضرات السادة يونس أحمد وعبد المنعم محمد وآخرين للاتجار والشحن والتصدير والتأمين وتعاطي أعمال بنك مصر. وهو من أبناء إسنا، ووالدته سودانية، وتعلَّم بالمدرسة السعيدية الأميرية.

وسيُنشئ فرعًا لشركة مصر لمصايد الأسماك في بور سودان بإنشاء ثلاجة بها، فيصاد السمك — وهو غزير — في مينا بور سودان ويوضع في سيارة لوري بها ثلج، ويُنقل إلى بور سودان، ويصدر إلى مصر.

زار الأعضاء محلج الحكومة، واستقبلهم مديره الإنجليزي. ويحتوي المحلج على ثمانين دولابًا، ويُدار بالكهرباء، وطرازه حديث، وبه ٣٠٠ عامل سوداني، ورؤساؤهم مصريون. وبجانب المحلج مخازن مسيو كونتو ميخالوس، وهي تَسَع مليون قنطار من القطن.

وزرنا مصبغة إبراهيم عامر بك ومديرها نصري أفندي، وبه ٤٢ عاملًا من أسيوط، وقد شكر فؤاد بك حفاوة إبراهيم عامر بك، ورد عليه حضرة نصري أفندي شاكرًا.

وأقام مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم حفلة شاي مساء اليوم بفندق البحر الأحمر، حضرها مديرو الشركات والبنوك، وألقى فؤاد بك خطابًا بالإنجليزية، وقد تجلت المودة بين الحاضرين وهم من مختلف الجنسيات، وكانت حفلة اجتماعية جامعة.

وببور سودان مدرسة حكومية ومدرسة كاثوليكية، وبها مستشفى، وهو خير من أي مستشفى في عواصم المديريات المصرية.

وبور سودان تشبه مصر الجديدة من حيث سعة شوارعها ووجود البواكي والمتنزهات ونظافتها وهدوئها، وقد احتملت أزمة شديدة، ولكن منذ العام الماضي أخذت الحالة في التحسن، والدلائل تنبئ بأنه سيكون لها مستقبل كبير.

وفي الساعة السادسة استقل الأعضاء القطار الخاص إلى كسلا، حيث يمضون ٢٦ ساعة لمشاهدة دلتا الجاش ومزارع القطن وغيره.

لقد كانت رحلتنا شاقة ومتعبة، وأشعر أن معرفة هذه البلاد تنقصنا، ولكن احتملنا العناء بلذة واغتباط.

(٣-١٠) بين بور سودان إلى كسلا (يوم ٣١ يناير سنة ١٩٣٥)

يقصر القلم حقًّا عن وصف حماسة إخواننا سكان بور سودان؛ أعيانًا وحكامًا وأهلين، عند توديعنا في فندق البحر الأحمر ببور سودان وفي محطتها، ولم يتمالك بعض الأعضاء والمودعين من ذرف دموع امتزج فيها فرح اللقاء بأسف الفراق. وقد شعر كل عضو بأنه يودع أهلًا وإخوانًا، وأنه يفارق ذوي الأرحام. وكنا نسمع لغة عربية فصيحة ونشاهد عادات مصرية طيبة في الكرم والاستقبال الباسم؛ «أهلًا وسهلًا» يقولونها دائمًا. وقد نسيت أنني في رحلة مع رفاق، وأن لنا برنامجًا محدودًا، وأن لي عملًا وأهلًا ومقامًا بالقاهرة، فوددت لو بقيت مع البور سودانيين!

وهؤلاء الشبان أعضاء «نادي السواكنيين» ببور سودان التفوا حول الدكتور محجوب ثابت، ودعوه ولفيفًا من صحبه لزيارة ناديهم، وخطبوا وخطب الدكتور وخطب السيد علي شكري خميس وصفق الجميع، فكأنهم كانوا في حفل مصري بالقاهرة. ولقد كنا كلما وصلنا إلى محطة أو بلد، ألفينا الأهالي — رجالًا ونساءً، شيبًا وشبانًا — قد خرجوا للقائنا ثم عادوا لتوديعنا كأننا الغيث ينزل عليهم، أو ذوو الأرحام الغائبون يعودون إليهم، وكانت الأسرات الأوروبية — من إنجليزية ويونانية وغيرها — تشترك في استقبالنا وتوديعنا: عاطفة شاملة من الحب، وفيض عميم من الود.

عشرات من الدعوات لتناول الطعام والشاي والزيارة تلقيناها، وكنا نألم ونأسف لعجزنا عن إجابتها جميعًا.

وكنا نتبين في وجوه الداعين أثر الخيبة في عدم إجابة دعواتهم، فيقول لسان حالنا: لا حول ولا قوة إلا بالله!

وفي الساعة السادسة من مساء أمس — الأربعاء ٣٠ يناير — سار القطار بنا إلى كسلا.

وتناولنا طعام العشاء الساعة الثامنة مساءً بالقطار، وتفرقنا جماعات إلى الطاولة والبريدج والشطرنج.

في سوق درديب

وقد سار بنا القطار حتي محطة درديب وشهدنا بها سوقًا لبيع الدوم، ومحصوله ٨ آلاف طن قيمتها عشرون ألف جنيه تشحن من درديب، ونهايته إلى اليابان وإيطاليا لعمل الزراير، ويُباع بالمزاد العلني. وقد تقدم للمزاد رجل يدعى الشيخ بكاش محمد من تجار السودان ووكيل مسيو كونتو ميخالوس. وفي أثناء المزايدة تقدم الدكتور محجوب ثابت عندما كان المزاد بسعر ١٦ قرشًا ونصف للقنطار، وأعلن الدكتور أنه يزايد بمبلغ ١٧ قرشًا. فقال المنادي: «يستاهل.» ومعنى ذلك أن المزاد قد رسا على الدكتور، وطلب إليه المنادي أن يشتري كل الكمية على هذا السعر؛ لأن المزايدة كانت على الكمية كلها لا على إردب وحده.

فتحرج مركز الدكتور، إذ كان قد قدم مبلغ ١٧ قرشًا للمنادي، وحينئذ تقدم «بكاش» المشار إليه وأعلن أنه يقبل الكمية بهذا السعر، وثمن الكمية التي كانت بالسوق ٦٠ جنيهًا، فأنقذ الدكتور من الورطة …!

ثم عدنا إلى القطار وتناولنا طعام الغذاء، وفي الساعة الأولى وعشر دقائق وصلنا إلى بلدة «أرومة» حيث استقبلنا لفيف من مفتشي الزراعة الإنجليز، وركبنا معهم السيارات حتى مزارع القطن في دلتا نهر الجاش، وهو نهر يروي أراضي مديرية كسلا، ومساحة المنطقة ١٥٠ ألف فدان، يزرع منها ٣٢ ألف فدان، منها ٢٨ ألفًا يزرع من السكلاريدس.

والأطيان المزروعة — بل جميع أراضي مديرية كسلا — ملك لحكومة السودان، وهي تؤجرها للأهالي، وهم من قبائل مختلفة، يحضر أكثرهم من جهات بعيدة، وتشرف مصلحة الزراعة على إعداد الأرض للزراعة والري، وتسلم الأرض للزراع. وهناك ترع رئيسية ومساقٍ لتوزيع ماء نهر الجاش، وتتولى الشركة الزراعية الإنجليزية بيع قطن الجاش في إنجلترا مباشرة، وتعطى نصف الأرباح إلى الزراع والنصف الثاني تستولي عليه الحكومة.

والزراعة بالمنطقة بالدورة الثلاثية؛ فيزرع القطن عامًا، وتظل الأرض خالية من زراعة القطن أو أية زراعة أخرى في العامين التاليين.

وقد قرأنا في أول المنطقة لوحة مكتوبًا فيها ما يلي:

تاريخ الزراعة ١٩٣٤/٩/١٤، التربة أرض كثيرة تغطى بالطمي، الري: ١٧يومًا.

حالة الزراعة معتادة، والحش ثلاث مرات.

وشهدنا حقلًا تجريبيًّا جُربت فيه زراعة القطن الأمريكي من الصنف المسمى «ويبار»، وقد بدأ موسم الجني في ١٥ ديسمبر، ويستمر إلى آخر مايو القادم. وتنزل الأمطار من يونية حتى ١٥ سبتمبر. وقد رأينا امرأة شابة تجني القطن من الحقل وهي حاملة طفلها الرضيع مربوطًا على ظهرها في وهج الشمس، وهي صابرة تبتسم لنا.

وفي وسط الحقل أعدت «منظرة» ذات أعمدة خشبية ومغطاة بالقش، جلسنا فيها واسترحنا قليلًا، ثم عدنا إلى القطار وواصل سيره.

في محطة كسلا

سافر القطار الخاص من محطة «أرومة» الساعة الرابعة والنصف، وقد ازدحمت المحطة بالمودعين من إنجليز ومواطنين، ثم سار القطار حتى وصل إلى محطة كسلا الساعة السادسة مساء. وكان في استقبال البعثة حضرة المأمور وجميع الموظفين والأهالي، وركب الأعضاء السيارات فزاروا نادي مستخدمي كسلا حتى الساعة الثامنة مساء. وقد تناول العشاء على مائدة مدير مديرية كسلا الإنجليزي حضرات رشوان محفوظ باشا وفؤاد أباظة بك ويوسف نحاس بك والأستاذين على شكري خميس وعبد المجيد محمد الرمالي، مندوبي البعثة.

وقد تقرر سفر فؤاد أباظة بك وبعض زملائه صباح الجمعة أول فبراير إلى مديرية تسانايا في إريتريا لمشاهدة زراعة القطن بها. ويستقبل المدير حضرات الأعضاء الساعة الحادية عشرة صباحًا.

والطريق بين المحطة ونادي الموظفين وعرة وخطرة، وقد رأينا في الطريق منازل حقيرة يسكنها زراع رحَّل يسيرون على الأقدام إلى الحجاز للحج، ويُسمون «فلاتة».

ودار النادي من مخلفات الجيش المصري بكسلا، وتحيط به حديقة.

(٣-١١) زيارة كسلا وبيانات عنها

بتنا الليلة بالقطار الخاص أيضًا، حيث كان واقفًا أمام محطة كسلا وتناول الأعضاء الطعام صباح اليوم — الجمعة أول فبراير — وتوجهنا بالسيارات الساعة التاسعة صباحًا إلى داخل مدينة كسلا، وهي تبعد عن محطتها كيلو مترات وطريقها وعر، وتبلغ المسافة من بور سودان التي قام منها القطار إلى محطة كسلا، ٥٥٠ كيلو مترًا. ورأينا في الطريق بين محطة كسلا وكسلا نفسها منازل «الفلاتة» بتشديد اللام، ويُسمون أيضًا «الهوسة» و«التكارنة»، وأصلهم من مهاجري السودان الفرنسي والحبشة، وهم أهل جد وعمل، يشتغلون بالزراعة في موسمها، وفي الأوقات الأخرى يقومون بحمل الذين يعبرون حوض نهر الجاش بين المدينة ومحطتها، وذلك عند فيضانه صيفًا بين يونية وأكتوبر، حيث يغمر ماؤه مجراه الذي عرضه كيلو متر واحد، ويبلغ عمقه عندئذ مترين أحيانًا، وهو عرضة للارتفاع والهبوط في اليوم الواحد، تبعًا لحالة المطر، وامتصاص الأرض للماء وانتشارها في أنحاء المجرى، وبعد الفيضان يظل المجرى في أشهر السنة الأخرى جافًّا.

ويبلغ عدد السكان الفلاتة عشرة آلاف نسمة، ولهم جَلَد غريب على العمل، إذ يؤدون فريضة الحج سيرًا على الأقدام، ونساؤهم سافرات في الغالب، ما عدا «العرائس» وهن في دور الشباب، ويشاركن الرجال في جميع الأعمال من زراعة وتجارة، ويتزوج رجالهن أكثر من امرأة واحدة، والكثير منهم متزوج بأربع نساء، وللرجل في المتوسط زوجتان.

ويبلغ سكان مدينة كسلا حوالي ثلاثين ألفًا، بينهم العشرة آلاف المشار إليها من الفلاتة.

وعلى جانبي الطريق أشجار «العشر» بضم العين وفتح الشين. وهو شجر قصير الساق ينتج طبيعيًّا من غير غراس، بداخل أوراقه وفروعه مادة لزجة بيضاء، تجهض المرأة، وتعمي البصر، وتمتص الشوكة التي تدخل في جلد الإنسان. ويُستخرج من زهره سكر قليل يشبه السكر «السنترفيش»، وثمرته كبيرة بداخلها وبر حريري يصلح لعمل الورق والأقمشة الحريرية، ويُستخرج من عيدانه مادة السبرتو.

البعثة في تسانايا وكسلا (وحفلة شاي بنادي موظفي كسلا في يوم الجمعة أول فبراير)

ازدحمت المعلومات والأخبار لدي في أثناء الرحلة، وتزاحمت الخواطر عندي، حتى لأجدني حائرًا في صياغة ما اجتمع لدي، ولكل شيء عندي أهميته وفائدته. ومن الأسف الشديد أننا نكتب عن بلد كان يجب أن تكون تفاصيل تاريخه وحوادثه معروفة للعامة؛ لأن السودان ارتبط بمصر قديمًا، وفيه دماء مواطنينا وأموالنا، ونحن بناة خطوطه الحديدية وطرقه، ومؤسسو حضارته، وكان معسكرًا لجيوشنا، ومستزادًا لضباطنا، وللمصري في كل ناحية أثر: في العادات واللغة والدين، وفي بناء المساكن، في تأثيث الدور، وبناء المساجد.

ونحن — الكتَّاب والسياسيين، صحفيين وغير صحفيين — طالما دبجنا المقالات من السودان ونبهنا الأذهان إلى علاقته بمصر، ولكنني — وقد زرت بعض مدنه — أقول إن ما كنا نتصوره عن السودان على ضوء الكتب التي طالعناها والروايات التي سمعناها، لا يصور الواقع كله، وسنعود إلى مصر وفي أذهاننا صورة أخرى صادقة.

إن بين مواطنينا الألوف ممن عاشوا في السودان — كرجال الجيش المصريين الحاليين والمتقاعدين، وكالموظفين المصريين السابقين في حكومة السودان أو في وزارتي الحربية والأشغال المصريين والتجار — ولكن من منهم عُني بوضع كتب أو إلقاء محاضرات عن السودان أو بعض مناطقه أو حوادثه أو حاصلاته؟! وإذا وُجد شيء من ذلك فهو النذر الذي لا يحتسب، والقليل الذي لا يشفي بعض الغلة.

وأعتقد أن البعثة المصرية للسودان ستعرف مواطنينا بالسودان، وأنها قد آصرت بين المصريين والسودانيين بما لم يقم به الألوف الذين عرفوا السودان وعاشوا فيه.

وقد دار حديث بيننا وبين أحد أعيان السودان، تناول هذه المسألة فقال: «لقد كانت غاية علمكم بالسودان ما سمعتموه من بعض الموظفين المصريين الذين يرون في السودان منفى، ولا يقنعون بشيء إلا أن يسكنوا القاهرة دائمًا فهم لا يرضيهم أن ينقلوا إلى أسيوط أو حتى إلى بنها!»

بعثتنا تزور السودان بروح أخرى غير روح الموظف الحانق على بعده عن القاهرة، ذلك الموظف الذي يأنس إلى حياة المقاهي والبارات والملاهي والرخاوة، أو يقبع في بيته، ويريد الحياة آمنة، ليس فيها شوك قتاد، أو بعد مزار.

إنني أدعو مواطني — وخاصة شباننا بالجامعة وغيرها — إلى زيارة السودان، وأدعو وزارة المعارف أن تحفل بدروس الجغرافيا والتاريخ عن السودان، فالكتب الحالية هي أسوأ سبيل للوقوف على حالة السودان.

لو كتبنا ألوف المقالات عن السودان وقدمنا البراهين والأسانيد على علاقته بمصر، لما أفادنا هذا شيئًا، إذا لم نواصل زيارة السودان، وإذا لم تغير وزارة المعارف منهج دروس الجغرافيا والتاريخ عن السودان.

زيارة تسانايا بإريتريا

في الساعة الثامنة من صباح اليوم زار حضرة فؤاد بك أباظة ومعه عشرة من زملائه مزارع تسانايا على الحدود السودانية الإريترية، وقد زارها حضرته في العام الماضي وفي سنة ١٩١١، بدعوة حضرة الدكتور جسباريني عضو مجلس الشيوخ الإيطالي لإريتريا والصومال سابقًا الذي استقال من هذا المنصب، وألَّف شركة لزرع القطن في تسانايا، في مساحة تبلغ ثلاثين ألف فدان قابلة للزراعة، وقد تم حتى الآن زراعة ٦٥٠٠ فدان من القطن السكلاريدي والأشموني، ولم تفلح تجربة زراعة القطن الأمريكي؛ فإن بذوره لم تثمر شيئًا، فعدل عن زراعته. ويجود الفدان بقنطارين أو أربعة، ولتسهيل الري أُنشئ على مجرى الجاش سدٌّ، وأُقيمت قناطر على الترعة المتفرعة منه، وينتفع بالسد في ري كسلا وبالقناطر في ري تسانايا بمقتضى اتفاق بين حكومتي إريتريا والسودان، وتدفع حكومة السودان ثمنًا للماء لحكومة إريتريا، التي تقرض زرَّاعها ٤٠ ليرة على كل فدان، وتقرضهم البذرة وتخصم القرضين من ثمن المحصول.

والجاش يجيء من الحبشة ويروي كلًّا من إريتريا وكسلا، وتربة الأرض تكاد تكون واحدة، وتزيد الشركة الإيطالية مساحة زراعة القطن في تسانايا سنة بعد أخرى؛ فقد زادت هذا العام ألفي فدان. أما ماء الري فهو كافٍ، ولكن العقبة هي في إعداد الري وفي إنشاء ترع جديدة؛ لأن الأرض ليست مسطحة، فهى في ارتفاع وانخفاض، والأيدي العاملة قليلة.

والوقت في إريتريا متقدم ساعة عن الوقت في السودان، فإذا كان الوقت به الساعة السابعة صباحًا كان في إريتريا الساعة الثامنة صباحًا. ومباني تسانايا منتظمة ومقبولة، وبها أحجار الجرانيت ومعدن الذهب، وبها محلج ومعصرة للزيت ومصنع للصابون. وقد عُين نجار مصري من المنصورة لصنع دواليب المحلج، بمرتب شهري قدره ٢٥ جنيهًا، وله إجازة ستة أشهر في السنة.

وموعد جني القطن في تسانايا يقع في موسم زراعة القطن عندنا، فهم الآن يجنون قطن تسانايا ويستمر الجني حتى مايو القادم، ونحن في مصر نبدأ بزرع القطن الآن. وأنفقت إيطاليا نحو نصف مليون جنيه لتنظيم الري.

وبين كسلا وحدود إريتريا ٢١ ميلًا، وبين الحدود وتسانايا ٢٢ ميلًا عند سد الجاش المشار إليه، وفي تسانايا دوم له مصنع بها لصنع ألواح الزراير وتُصدَّر للهند، حيث تستكمل صناعتها وتُباع فيها. وسكان إريتريا جميعًا مسلمون، ويتألف منهم جيش وطني حسن الزي العسكري «يماثل جنود قوة الدفاع عن السودان»، ويلبس جنوده طرابيش ذات أزرار حمراء وبأحزمة صفراء.

وطريق السيارات بين تسانايا وكسلا سهل.

وقد تناول الأعضاء طعام الغذاء على مائدة وكيل جسباريني وعادوا إلى كسلا الساعة الثانية والنصف بعد الظهر.

حفلة موظفي كسلا

أقام حضرات موظفي بندر كسلا حفلة شاي تكريمًا للبعثة الساعة الخامسة من مساء اليوم — الجمعة أول فبراير — حضرها الأعيان والتجار، وألقيت فيها الخطب. وقد تجلت روح الأخوة والإخلاص في هذه الحفلة، وشعرنا جميعًا أننا أبناء أسرة واحدة.

ولحضرات الموظفين نادٍ رئيسه عمر الأمين العمرابي أفندي، وأمين صندوقه إبراهيم البلولة أفندي، وسكرتيره أحمد فرج الله أفندي، والأفندية: حسن عبد الغني مدير أعمال، وتوفيق صالح جبريل أمين مكتبة، وحسن قورين سكرتير ألعاب، والأفندية: محمد عثمان العوض المرضي، والشيخ إبراهيم مالك، وشفيق رمزي، وإبراهيم الجندي، والدكتور علي أحمد باخريبة، والدكتور عباس حمد نصر، وحمد النيل، وإبراهيم حاج أحمد، أعضاء.

وأعجبني حسن إلقاء الخطباء مع أنهم من التجار ومن غير محترفي الأدب؛ ولذا أسجل فيما يلي شيئًا من هذه الخطب:

خطاب الحسن العوضي

ألقى حضرة الشيخ الحسن العوضي بالمعهد العلمي بأم درمان سابقًا خطابًا قال فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد .

وبعدُ، فإني أتشرف بالمثول أمامكم لأتلو كلمات، فإن أحسنت فذلك الغرض والحمد لله. أيها السادة، إن الحياة تستلزم العمل، وهو ذو طرق شتى، ومظاهر جمة تختلف باختلاف النفسيات. وقديمًا قالوا إن طرق الكسب الناجعة أربعة: الإمارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة، وهذه كلها أسها المتين الذي ترتكز عليه، وقوامها الحق الذي تنمو به شيئان: الإخلاص والصدق.

أيها السادة، إنا نحتفل بأمة هي ذات القدر العظيم — أستغفر الله — بل أمم في هذه الشخصيات التي بين ظهرانيكم، أمم لها النصيب الأوفر والقدح المعلى في جميع ضروب الحياة. أمم التفكير، أمم الرقي، أمم التمدن، أمم الإحسان.

وواصل خطابه على هذا النحو، وقوبل بالتصفيق الحاد.

خطاب أحمد البشير حسن

السلام عليكم ورحمة الله. بالأصالة عن نفسي ونيابة عن إخواني التجار الأجانب والوطنيين، أقف لأحييكم تحية حارة، وأهنئكم بسلامة الوصول لبلدتنا «كسلا» التي أشرقت عليها شمس مصر المضيئة، وإننا سنسجل لكم هذه الزيارة في سويداء القلوب لكي تظل خالدة كلما مر هذا اليوم.

سادتي، إن هذا الحفل الصغير في مبناه، الكبير في معناه، هو أقل ما يُعمل لهذه الزيارة الميمونة.

وقد قوبل خطابه بالتصفيق والإعجاب، وقد ألقى كل من حضرات فؤاد أباظة بك، والأستاذين عبد المجيد الرمالي وعلي شكري خميس، كلمة شكر وإخلاص وود. وقد ودعنا الأهالي حتى المحطة خير وداع، تشيعنا قلوبهم قبل أبصارهم. وركبنا القطار الخاص مساء إلى القضارف.

وقبل سفرنا زرنا المدينة وشهدنا حوانيتها ومساكنها. والمدينة مخططة، وطرقاتها صغيرة منتظمة، ومنازلها ذات دور واحد، وبها تجار يونانيون مع عائلاتهم. وزرنا الشركة التجارية الحبشية التي يملكها أربعة يونانيين، ولها وابور النور الذي يضيء المدينة بالكهرباء، وسعر اللمبة الواحدة ١٥ قرشًا في الشهر بالنسبة للأهالي، وخمسة قروش لكل ٤ كيلوات لمكاتب الحكومة. وللشركة مطحنة تجارية ومصنع للثلج والكازوزة ومخازن لمبيع الأقمشة والخردوات.

على أن أكثر السكان يستضيئون بالكلوبات والغاز العادي، وكل من يسير خارج المدينة يجب عليه حمل مصباح وإلا قبض عليه.

وزرنا دكان مسيو كوستي لبيع جلد النمر. وللمدينة أسواق منظمة تباع فيها المأكولات والذرة وأفمام السجاير.

وأكثر مساكنها وعقاراتها للحكومة التي تعطي الأرض للأهالي حكرًا.

وبالمدينة لوريات لحمل البضائع والركاب، وعربات نقل تجرها الحمير.

ويؤخذ ماء الشرب من آبارٍ ماؤها عذب هي قريبة جدًّا من سطح الأرض، وكلما وجدت أشجار العشر كانت دليلًا على قرب الماء. وتبنى المنازل من الطوب الأخضر والبوص والجريد. ودور الحكومة والحوانيت الكبيرة من الطوب الأحمر.

وزرنا المجزرة حيث تباع اللحوم، وسوق بيع الخضر، «وسوق النسوان»؛ وهي سوق تتولي البيع فيها النساء والعجائز.

ثم زرنا عند الجبل «الخاتمية»، وهي موطن السادة أصحاب الطريقة الميرغنية التي لها أشياع في أكثر أنحاء السودان؛ ولا سيما مديريتي كسلا ودنقلة. وقد زرنا منزل فضيلة الحسيب النسيب السيد محمد حسن الميرغني، واستقبلنا فضيلتة بالإكرام. وهو شاب في العقد الثالث من عمره، مديد القامة، نحيف الجسم. ثم زرنا ضريح زعماء السادة الميرغنية، ثم صعدنا إلى جبل «الختمية» وشهدنا «السرف» بفتح السين والراء، وهو نبع ماء معدني عذب في أسفل الجبل، به ماء جارٍ بين أحجاره — وهي من الجرانيت — ورأينا حوله بعض النساء والأولاد يملآن بأيديهم الجرار من ماء النبع بسهولة. وشربنا جرعة فوجدناه ماء صافيًا. ويستعمل الأهالي هذا النبع أيضًا في غسيل الملابس حوله ولشرب الماشية.

ثم زرنا دار فضيلة الحسيب النسيب السيد محمد عثمان الميرغني، وهو الشقيق الأكبر للسيد محمد الحسن الميرغني، واستقبلنا بحفاوة وإكرام.

والطريقة الميرغنية يتزعمها الآن حضرة الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني بالخرطوم. وقد تعلق الأهالي بزعمائها، حيث يلثم عامتهم الأعتاب عند زيارتهم. وللسادة الميرغنية نفوذ عظيم جدًّا. ويزور الأهالي ضريح الخاتمية يوم الجمعة من كل أسبوع.

وزرنا المكتبة الميرغنية لصاحبها السيد «الطيب الدويح»، وهي تتولى بيع الجرائد والمجلات المصرية والخردوات وغيرها.

وفي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحًا زرنا مستر «ريدفورد» مدير كسلا في ديوان المديرية، حيث استقبلنا بحفاوة، وألقى محاضرة على ضوء خريطة مديرية كسلا. ونظرًا للحر كانت هناك مروحة من القماش تبلغ مساحتها ١٢ مترًا مربعًا معلقة في سقف الغرفة ومرتبطة بحبل يخرج من ثقب في جدرانها إلى جوار بابها، وهناك عامل يمسك بالحبل ويحركه فتتحرك المروحة وترطب جو الغرفة.

وقابلنا حضرة مأمور مركز كسلا عمر أمين أفندي وحضرة إبراهيم الجندي أفندي الموظف بهندسة السكة الحديدية السودانية.

وننشر فيما يلي خلاصة محاضرة المدير.

محاضرة مدير كسلا

بلغ محصول الذرة المصرية ٢٢٤٩١١ إردبًّا، والسمسم ٣٥٥٨٨ إردبًّا، والدخن ٥٤٠٠ إردب. ٥٩٨٤٠ قنطارًا من القطن، و١٤٢٥٣٠ إردبًّا من الذرة.

ونُقل بالسكة الحديد ٩٩٧١ طنًّا من الذرة، ومن السمسم ٦٨٥٥ طنًّا، ومن الصمغ ١٥٧٨ طنًّا، ومن حب الدوم ٢٦٣١ طنًّا.

وتتولى الشركة الزراعية الإنجليزية بيع قطن «نهر الجاش» بكسلا في إنجلترا، وتعطي الأهالي ٥٠٪ من الأرباح. وقد بلغ نصيبهم في العام الماضي ٩٥ ألف جنيه. وتأخذ الحكومة ٢٥ في المائة من أرباح بيع قطن طوكر، الذي يتولى بيعه الأهالي أنفسهم. وقد بلغ نصيب الحكومة في العام الماضي ١٥٨٦٢ جنيهًا، ونصيب الأهالي ٤٧٥٨٦ جنيهًا.

وبلغ ما أنتجته مديرية كسلا من الذرة ٣٦٧٤٤١ إردبًّا في العام الماضي.

وتشتهر مديرية كسلا بتجارة الجمال، وتتولى هذه التجارة «قبيلة الرشايدة»، وهي من عرب جزيرة العرب، أقامت بالسودان منذ ٨٠ سنة، وتصدِّر الجمال إلى مصر فتُباع بأسواق فرشوط وإمبابة، ويقول بعض الأهالي إن الجمال تسير من كسلا إلى فرشوط في مدة ١٤ يومًا، وهي تسير ليل نهار ومعها حراسها الأكفاء الساهرون. ويتراوح ثمن الجمل بين ثلاثة جنيهات وأربعة وستة وثمانية وعشرة، ومتوسط الثمن ستة جنيهات. وقد بلغ ثمن الجمال المبيعة، وعددها ١٤١٠٥، سنة ١٩٣٤، ٨٤ ألف جنيه.

وتتألف مديرية كسلا من مديريتي كسلا والبحر الأحمر؛ فقد ضُمَّتا أخيرًا وأصبحتا مديرية واحدة طولها ٧٤٠ ميلًا، وعرضها ٢٥٠ ميلًا، ومساحتها ١٣٥٦٠٠ ميل؛ أي مثل مساحة فرنسا وسويسرا معًا. وهي ثالث مديريات السودان اتّساعًا، فتأتي بعد كردفان ودارفور. وللمديرية مدير ونائب مدير ومفتش مديرية، وفيها عشرة مفتشين لمراكز كسلا. ومن مراكزها: سواكن وكسلا والقضارف وسنكات وطوكر. لها مأمورون.

وعدد سكان مديرية كسلا ٣٧٨١٠٩ نسمة، وهم من قبائل الهدندوة والبجة وبني عامر والبشاريين والحلانقة والرفاعية والشكرية والبطاحين، ومن مهاجري مكة والحجاز واليمن وحضرموت والحبشة وإريتريا والسودان الفرنسي وبربر.

ولكسلا شاطيء على البحر الأحمر، به سلسلة جبال تبتدئ من جبل المقطم، وهناك شركتان لاستخراج الذهب من بعض مواقع هذه الجبال بكسلا، وفيما بين يونية وأغسطس تنزل الأمطار بكثرة، وأشد برودة في الشتاء في نوفمبر وديسمبر، وفي القضارف يخزن الماء في آبار تحفر، وتدفع حكومة السودان إلى حكومة إريتريا خمسين ألف جنيه ثمنًا لماء نهر الجاش الذي ينبع من جبالها.

•••

ثم زرنا بستان البكباشي عثمان علي كيلة، وهو ضابط مصري من أصل سوداني، له بستان مؤلف من واحد وعشرين فدانًا يرويه وابور، وينتج من الفاكهة: العنب والموز والجوافة والتين والرمان والباباز. واستقبلنا استقبالًا كريمًا، ثم تناول الأعضاء طعام الغداء، وقد أقام تجار المدينة وموظفوها حفلة شاي تكريمًا لأعضاء البعثة.

وقد توجه صباح اليوم الساعة الثامنة فؤاد أباظة بك ومعه تسعة من أعضاء البعثة إلى تسانايا داخل حدود مستعمرة إريتريا، وحصلوا على ترخيص باجتياز الحدود لمشاهدة زراعة قطن الجاش في إريتريا، وعادوا إلى محطة كسلا الساعة الثامنة والنصف بعد الظهر.
figure
موسيقى فرقة العرب الشرقية بالقضارف تحيي البعثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤