الفصل الخامس

من القضارف إلى سنار

في يوم السبت ٢ فبراير

بارح القطار الخاص محطة كسلا الساعة الثامنة من مساء أمس إلى «القضارف»، فوصلنا إليها الساعة الرابعة والنصف من صباح اليوم، وعند الساعة السابعة والنصف استقبلنا جمع غفير من الموظفين والتجار والأعيان يتقدمهم حضرات الشيخ حمد أبو سن ناظر خط القضارف ورئيس فرع قبيلة الشكرية، والشيخ عبد الكريم زايد ناظر عربان الضباينة، والسيد مدني، والحاج علي الكردي، وأحمد الحاج عبد الله، والحاج علي الحسين، والحاج محمد يوسف علقم، وعبد القادر الخانكي، وعباس تولة، وجعفر النصيري، وكرار كشة، ومحمد سيد ميزو، وعوض السيد جابر، والخواجات كيكوس جوانيدس، وجورج مكريدس، وروفائيل جريس، وكرياكو بابا جورجي، ويعقوب أجيب بشيان، وباغوص كالباكيان صاحب معصرة الزيت بالقضارف.

وشارة مديرية كسلا التي يضعها الجنود على ملابسهم «الشوتال»، والشوتال هو سكين ملتوية يحمله أفراد قبيلة الهدندوة. ولكل مديرية في السودان شعار مأخوذ من عادات سكانها أو شهرة حيواناتها.

وتوجهنا بالسيارة إلى «نادي الوطنيين»، وهو نادٍ للأعيان والتجار، وقد رُفعت أمامه الأعلام وأُعدت موائد لتناول طعام الإفطار، ووُضعت في وسطها منضدة عليها أوعية تحمل كل منها صنفًا من حاصلات القضارف.

وقد حيَّت البعثة موسيقى فرقة العرب الشرقية، وهي الفرقة المخصصة لحماية الحدود. وعندما وصل الميرالاي «كير» بك صدحت الموسيقى بسلام السردار، وهو السلام المعتاد في الحفلات العسكرية والرسمية. وفي الحفلات الرسمية الأخرى تؤدي الموسيقى سلام ملك إنجلترا. وبين القضارف وحدود الحبشة مسافة تقطعها السيارات في ٦ ساعات. وهناك فرقة العرب الشرقية مؤلفة من البيادة والسيارات والجمال.

وأصل كلمة «القضارف» «الغضارف».

وسكان المدينة من الشكرية والجعليين والمغاربة والمهاجرين إليها من المديريات الأخرى؛ إذ قد مُنع دخول المهاجرين الأحباش نظرًا لما لوحظ فيهم من الميل للإجرام والاتجار بالأعراض، وحمل الأمراض.

وتتصل القضارف بمدينة «القلابات» على حدود الحبشة، ونصف سكانها من الأحباش، وبها مصنوعات الحبشة والبن والعسل والدوم والفول والعدس والكسبرة والكمون والبقر.

وبعد تناول طعام الإفطار ألقى حضرة الشيخ محمد سيد ميزو — من تجار القضارف — الخطاب المنشور بعد.

وزار الأعضاء غربال مسيو كونتو ميخالوس، وهو غربال آلي لتنقية الذرة من الطين، وثمن التنقية مع الحزم والشحن ٢٥ قرشًا للطن.

ثم شهدنا سوق السمسم — وبه بورصة للمضاربة — فيقيد البائعون أسماءهم في دفاتر، وكذلك طلاب الشراء الذين يقفون صفًّا وبيد كل منهم نمرة، فيمر المنادي بكل منهم ويذكر له الثمن الأساسي. فإذا زاد عليه أحد المشترين، عرضه المنادي على المشتري التالي، فإذا لم تحصل زيادة عرض المنادي الثمن الذي رست عليه المزايدة على البائع، وسأله هل يقبل البيع بهذا الثمن، فيقول نعم أو لا كما يشاء، فإذا قال نعم تم البيع. وكان ثمن إردب السمسم ١٥٦ و١٥١ قرشًا اليوم. والإردب ١٦ كيلة، والأسعار أغلى من أسعار بور سودان. ويجود الفدان بأربعة أو خمسة أرادب.

وكذلك للصمغ سوق وبورصة على الطريقة السالفة، وكان ثمن قنطار صمغ الهشاب متراوحًا بين ٥٥ و٦٠ قرشًا، وثمن صمغ الطلح ٢٢ قرشًا؛ لأن العادة أن تكون أسعار الأسواق الصغيرة أعلى؛ نظرًا لكثرة من يستطيعون شراء الكميات الصغيرة. أما في الأسواق الكبيرة فإن الكميات كبيرة والمشترون قليلون والمضاربة ضعيفة.

وفي القضارف مدرسة ابتدائية أميرية بها ١٩١ تلميذًا في أربع فرق وثلاثة مدرسين، وناظرها الشيخ إبراهيم عامر. وكذلك توجد جمعية رياضية باسم «جمعية التعاون الرياضية».

خطاب الشيخ محمد سيد ميزو

سادتي الأجلاء:

أحييكم تحية المودة والإخلاص، وأحيي في أشخاصكم الكريمة الهمم العالية والعقول النيرة، ولي الشرف أن أقف بين أيديكم معبرًا عن سرور تجار القضارف.

ثم قال:

وبما أن مهمة هذه البعثة الاستطلاع على حالة البلاد التجارية والزراعية وتحسين العلاقات الاقتصادية، وبما أن القضارف هي بلدة زراعية، فإني أود أن أشرح لسعادتكم حالتها بإيجاز فأقول:

هذه البلدة ذات أراضٍ واسعة جدًّا وخصبة، ويتوقف ريُّها على الأمطار التي تهطل بكميات وافرة من أوائل يونية إلى أوائل أكتوبر، حيث تزرع فيها المحصولات المتنوعة من الذرة بأنواعها والسمسم والفول السوداني والقطن، هذا بخلاف ما تنتجه غاباتها الكثيفة من الصمغ بنوعيه؛ هشاب وطلح، وأيضًا القرض.

الحاصلات:

  • السمسم: كان محصوله في العام الماضي سبعة آلاف طن تقريبًا، وهو — بلا شك — أجود أنواع السمسم السوداني، ونوعاه: طبيعي «ناتورال»، ومغربل بغربال مسيو كونتو ميخالوس. ويصدر معظمه للقطر المصري.
  • الذرة: وأهم أنواعها «الفتريتة»، ومتوسط محصولها حوالي أربعين ألف طن تقريبًا، يُستهلك معظمها محليًّا في السودان.

    الذرة المقد والقصابي والحميري صُدِّر منها في العام الماضي أربعة آلاف طن تقريبًا للقطر المصري. وأنواعها: الشامي، وتزرع على شاطيء الرهد بعد الخريف، وصدِّر منها في العام الماضي حوالي ٣٠٠ طن.

    ويمكن إنتاج القطن الأمريكي هنا، وقد أُهملت زراعته لتدهور أسعاره.

  • الصمغ الهشاب: كان محصوله في العام الماضي ١٣٠ طنًّا، وكان سنة ١٩٣٢ أربعة آلاف طن صُدِّرت للخارج. الصمغ الطلح: وقد كان محصوله في العام الماضي ٧٠ طن صُدِّرت للخارج. القرض: ويصدر إلى مصر.

وأهم ما نستورده من مصر: السكر والصابون، والسجاير، والحلوى وبعض الأقمشة نسيج نقادة وأخميم، والأحذية، وغيرها. ا.ﻫ.

كلمة فؤاد أباظة

وألقى حضرة فؤاد أباظة بك كلمةً شكر فيها الداعين وقوبلت بالتصفيق.

زيارة الشيخ حمد أبو سن

وقد زار الأعضاء دار الشيخ حمد أبو سن ناظر خط القضارف وعين أعيانها، وهو الشيخ حمد بن محمد بن عوض الكريم بن أحمد باشا أبو سن ناظر خط أبي سن بالقضارف، وهو شيخ في منتصف الحلقة السابعة من عمره، مديد القامة، وافر الصحة، وضاح الجبين، واسع الكرم، يرأس محكمة القضارف الأهلية. وللمحاكم الأهلية في السودان نظام خاص يشبه نظام محاكم الأخطاط في مصر أو المحلفين في أوروبا. يتناول مرتبًا كبيرًا، وله أملاك ومزارع وماشية، وله ولدان يعاونانه في أعماله الزراعية، وكلاهما رئيس محكمة في منطقة؛ اسم كبيرهما محمد، والصغير أحمد.

وقد قدم أبو سن للأعضاء نوعين محليين من الشراب البارد؛ أحدهما اسمه «الآيري»، وهو خبز رقيق جاف كالورق يُنقع في الماء ويشرب منقوعه مسكَّرًا أو غير مسكر «بفتح الكاف المشددة»، وله حموضة مقبولة تقرب من مذاق شراب التمر هندي.

ويُصنع هذا الخبز من عجينة الذرة الناعمة جدًّا المخمرة، كطريقة صنع الرقاق في مصر.

والثاني «غباشة»، وهو شراب يُتخذ من اللبن الرائب، سواء أنزع منه الدهن الذي يسمى «الروب» أم لم ينزع، ويضاف إليه شيء من الماء، ويمكن تحليته بالسكر. وهو شراب مُغذٍّ مرطب للجسم، ملين لذيذ الطعم، ناقع للغلة. وسأثابر على تعاطيه عند عودتي.

وقد زرنا المدينة وشهدنا بها حيًّا بريطانيًّا يسكنه الموظفون الإنجليز، ودكاكين المدينة ومنازلها. وطرقها مخططة خطوطًا مربعة، وقد جُعلت الحوانيت في منطقة، ولم تبنَ المساكن فوق الحوانيت، بل جُعلت إلى جوارها. وكلها دور واحد، وجديدة البناء. وبالمدينة مستشفى يسع ٦٠ مريضًا، وبه طبيب إنجليزي وآخر مواطن سوداني، ومستشفى عسكري يسع ٢٥ سريرًا، ومستشفى للجذام يسع ثلاثين مريضًا، ومحكمة أهلية، ومدرسة بنين أولية، ويلبس تلاميذها الجلاليب البيضاء، ويجلسون القرفصاء في الفصول — كما في جميع المدارس الأولية بالسودان — ومسجد، ومصنع للكازوزة والثلج. وليس بها كهرباء، وجوها معتدل صحي إلا في الخريف، وسكانها أهل جد وسماحة، وفيهم يونانيون وأرمن كثيرون يتجرون في كل شيء. وفي الغالب يشتمل الحانوت الواحد على العطارة والخردوات وأدوات المنازل والأحذية والسجاير. والأرض ملك للحكومة، وتعطى حكرًا للأهالي لمدة ثمانين سنة لهم حق الانتفاع، وتؤجر الحوانيت بين جنيه وخمسة جنيهات. ورخصة الحانوت جنيه في السنة، وتؤجَّر الحوانيت بالمزاد، وبناؤها ملك للأهالي وفقط الأرض للحكومة، وتنتشر البضائع اليابانية في المدينة وفي السودان كله. ولمسيو فيليب كالفاكيان فابريقة للزيت والثلج، وهو صياد ماهر، وللشركة التجارية الحبشية بكسلا فرع بالقضارف. وللخواجة روفائيل جريس «مصري» متجر كبير.

وجامع القضارف بُني سنة ١٩١٢ في عهد صالح عبد الرحمن أفندي المأمور سابقًا.

وقد ودعنا الأهالي في المحطة حيث سافر القطار في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر.

ويبلغ عدد سكان القضارف ٥ آلاف داخل البندر، و٥٠ ألفًا بضواحيها. وواصل القطار سيره من القضارف حتى سنار، وكان الجو حارًّا، وكان السكان على طول الطريق في كل محطة يخرجون لاستقبال البعثة، وتلقي الخطب.

عبد الرحمن مصطفى بقلع النخل

وقد ألقى حضرة الشيخ عبد الرحمن مصطفى بقلع النخل كلمةً قال فيها:

أراني سعيدًا جدًّا بتقديمي هذه العجالة للترحيب بكم أصالةً عن نفسي ونيابةً عن إخواني التجار بقلع النخل، وإن لم أكن أهلًا للوقوف أمام سدتكم، ولكن داعي الغبطة والسرور دفعني دفعًا لهذه الجرأة.

سادتي، لا أكون مبالغًا إذا تجرأت وقلت إن التجار السودانيين على أتم الاستعداد الكامل لأن يبرهنوا على أن السودان تجارًا وشعبًا يرحبون بهذه الزيارة التي هي بمثابة الحلقة المفقودة.

فقوبل خطابه بالتصفيق ورد عليه فؤاد أباظة بك بكلمة شكر.

وقد مررنا بمحطات ود الحوري هلت، ومتنا، وقلع النخل، وجبل قرين، وحواتة هلت، والحصيرة، وخور العطشان، والدندرد.

ثم السوكى حيث استُقبلنا استقبالًا رائعًا لوقوف القطار ٢٥ دقيقة، وقد أدهشنا هؤلاء القرويون بمعرفتهم لأسماء الأعضاء وسؤالهم عن الأعضاء المتخلفين في القاهرة؛ كسعادة جعفر والي باشا وحضرة حمدي سيف النصر بك، وسؤالهم عن الدكتور محجوب ثابت ومعرفته بمجرد رؤيته، وسؤالهم عن الدكتور يوسف نحاس بك وطلبهم مشاهدته، وكسؤالهم عني. فلما سألتهم كيف يعرفونني، قالوا لي: إننا نقرأ مقالاتك، ونعرف أن لك مجلة تسمى الجريدة القضائية، وأنك محامٍ. فكنت دهشًا لهذه المعلومات التي يوجد كثيرون في مصر لا يعرفونها. وسألوا عن الأستاذ فكري أباظة، وذكروا لنا — في ذكاء عجيب — أخبارًا كثيرة عن مصر.

ثم مررنا بمحطات حمدنا الله وكساب الدوليب، وشهدنا خزان سنار الذي كان معروفًا فيما مضى باسم خزان مكوار — ومكوار قرية. وقد رؤي أن ينسب الخزان إلى سنار أولى من مكوار — ووصلنا محطته الساعة الحادية عشرة مساءً، وبتنا في القطار.

أحراش وأشجار

وقد رأينا أحراشًا على طريق السكة الحديدية بين كسلا والقضارف شاملة أشجارًا متوسطة الطول حمراء السيقان، أكثرها الطلح الذي يؤخذ منه صمغ معروف باسم «صمغ الطلح» بواسطة فتح لحايته فتتجمع المادة الصمغية اللزجة في الفتحة وتتجمد، وعند ذلك تُجنى. وتشبه هذه العملية تجمع الدم وتجمده إذا ما جُرح الجسم.
figure
سوق سودانية.

وبين شجر الطلح ظهر شجر آخر أبيض الشكل يسمى «اللعود»، له صمغ خاص أقل قيمة من صمغ الطلح وأشجار «السدر»، وله ثمر يعرف بالنبق أقل حلاوة من التمر، وهو مكور صغير الحجم يشبه العنب، تؤكل جلدته امتصاصًا وتُرمى نواته، وقد يُجفَّف ويُدقُّ ويُعمل من دقيقه أقراص تؤكل كأقراص التمر هندي الذي يسمى في السودان «عرديب»، ويوجد أيضًا أشجار السلم والشمر والسيال المعروف «بالغضا»، وهو خشب صلب الجمر في النار.

وقد ورد «الغضا» في قول مالك بن الريب:

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه
وليت الغضا ماشى الركاب لياليا

ويغمر هذه المنطقة أيضًا حشائش تستوي على سوق دقيقة وترتفع نحو المتر والنصف، وساقه ذات عقل وهو هش الجوف، ولهذه الحشائش أسماء؛ منها: النال، ويُستعمل في صنع الأخواص للمساكن، ولا ينفذ من قبابها ماء المطر. والنال عطري الرائحة. ويتخلل حشائش النال قصب العدار، حبه يشبه حب الدخن لونًا وحجمًا، ويمكن أن يصنع منه خبز خشن يأكله الفقراء أو يؤكل في المجاعات، وهو أيضًا مرعى خصيب للأبل.

وخشب شجر السرح يُستعمل في الوقود.

وعلى الطريق مزارع الذرة التي بعد أخذ حبها ورعي المواشي أوراقها الخضراء تُحرق بالنار لإعداد الأرض للزراعة الجديدة. والرماد المتخلف يكون سمادًا صالحًا للتربة، وتُعرف حبوب الذرة على اختلاف أنواعها باسم «العيش».

وأرض المنطقة خصبة جدًّا، وتنقصها اليد العاملة.
figure
في القضارف (يرى من اليسار: عبد الله حسين. عبد الحميد أباظة بك. الشيخ حمد أبو سن. فؤاد أباظة بك. عبد المجيد الرمالي. خميس. عبد المجيد السيد).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤