الفصل السابع

من سنار إلى الأبيض

(١) يوم الاثنين ٤ فبراير زيارة كوستى وتندلتي وأم روابة

يلحظ زائر مدن السودان أنها نظيفة منظمة، وأن سكانها متحلون بأدب وذكاء، عارفون للنظام، على بساطة حياتهم وقلة كسب سوادهم، وهذا دليل على أن الإنسان يستطيع أن يكون مهذبًا نظيفًا، ولو كان فقيرًا مدقعًا وجاهلًا. وفي الواقع لقد أدهشنا المواطنون السودانيون بهذه الأخلاق الفاضلة، والاحتفاظ بالسجايا العربية، وبالأخذ بشيء من المدنية التي لم تطغَ على تقاليدهم الكريمة، وكثيرًا ما يحزن القلب أن تكون مدننا الصغيرة غير نظيفة، وأن جانبًا كبيرًا من سكان القرى وبعض المراكز قذر الثياب، أو أنه ينقصهم شيء من الكياسة، مثال ذلك ما رأيته — ورآه غيري — من قذف غلمان القرى والأزقة السيارات بالحجارة وتشييعها بصيحة الاستهزاء، وتدافع الجمهور أحيانًا عند استقبال الكبراء بما يحدث مضايقةً وتبرمًا. أما غلمان السودان وأطفاله فلا يعبثون ولا يفحشون.

(١-١) موظفو الحكومة

وموظفو الحكومة السودانية متحلون أيضًا بخلق رضي، وهم قادرون الواجب نحو الجمهور، هم مدركون أنهم خدام الجمهور لا سادته، ولم يحتج البوليس إلى استعمال الهراوات للمحافظة على النظام عند اجتماع الألوف، على تباين قبائلهم وتنابذ عشائرهم.

(١-٢) المستشفيات

العناية بالمستشفيات ظاهرة في السودان، والمستشفيات وافية نسبيًّا، ومقابلة المرضى الفقراء حسنة جدًّا، ونذكرها مع الاغتباط لمواطنينا السودانيين، ومع الأسف لما هو سائد في مستشفيات الحكومة بمصر — أو أكثرها — من سوء معاملة الفقراء، أحيانًا بضربهم، فضلًا عن إهمال علاجهم.

(١-٣) في كوستى

وصلنا إلى مركز كوستى الساعة الرابعة صباحًا، ووقف القطار في محطتها، وكان أكثر الأعضاء لا يزالون نائمين في القطار الخاص الذي استمر في سيره منذ سافر الساعة العاشرة من مساء أمس من محطة سنار — وكان الجو باردًا.

وعند الساعة السادسة صباحًا رأينا كبار الموظفين والأعيان يجتمعون قريبًا من المحطة، وموائد الشاي والحلوى والمرطبات قد أُعدت لإفطارنا.

وفي الساعة السابعة نزل أعضاء البعثة من القطار، وكان في استقبالهم وفد التجار؛ وهم حضرات المشايخ: حميدة جامع سر تجار البندر، وفضل الله بركة حمزة، وعبد الرحمن جميل، ومبروك الطيب وكيل شركة شل، وسليمان أبو مرين، وعبد القادر الشيخ، وطه قاسم، وأحمد كوكو، والخواجة هادي جورج إستامبولي، والخواجة ساراتدة أنطوناكيس، وعبد الكريم أحمد، والخواجه ميشيل بربرى، والخواجه يوسف معري، والشيخ عثمان موسى، والخواجه باغوص دورينيان، والشيخ دفع الله بابكري، ومن الموظفين حضرات مستر كرول معتمد المركز، ومستر هاريسون المفتش، والشيخ مدثر القاضي الشرعي، والشيخ أحمد الطاي مساعد القاضي الشرعي، واليوزباشي عبد الرازق أفندي مأمور المركز، والعوض صالح الملك أفندي نائب المأمور، وبابكر الرياح أفندي رئيس الحسابات، والشيخ رضوان عبد الرحمن كاتب المحكمة الشرعية، وحسين الحكيم أفندي المفتش التجاري، والدكتور خليل عبد الرحمن طبيب المركز، وإلياس إبراهيم أفندي ناظر المحطة، والصاغ المتقاعد موسى أبصام، والملازم أول المتقاعد سلام مرسال أفندي، والملازم أول المتقاعد الدود محمد سليمان، والملازم أول المتقاعد فرج الله بشارة أفندي، والملازم الثاني المتقاعد نورين بحر أفندي، والحارث محمد إبراهيم أفندي مترجم المركز، وإبراهيم حسن أفندي صراف المركز، وعبد المجيد سليمان أفندي كاتب حسابات، وعبد اللطيف بابكر كاتب بالمحكمة الشرعية، ومحمد حسن عمران مخزنجي، ومحمد عثمان حسن رئيس مكتب تلغراف المحطة، والشيخ حسن عبد النور ناظر المدرسة الأولية، ومن الأعيان: محمد التوم عمدة كوستى، والشيخ محمد الطيب إمام مسجدها، والشيخ يعقوب سلام. ومن تجار ناحية الدويم: عبد القادر كريم الدين، ومحمد حمودي، وعثمان شبيكة، وسليمان السباعي، والخليفة الحسن، والخواجة عبود جرجفليا التاجر بالقويقة.

واصطف جميع أهالى البندر وصبيته صفوفًا منتظمة فرحة مرحة، ووقفت فرقة موسيقي نادي الموظفين بكوستى تحيينا وتطربنا منذ نزولنا من القطار حتى عودتنا، وهي فرقة مؤلفة من ٢٤ جنديًّا من جنود الرديف السودانيين الذين كانوا بالجيش المصري ويعزفون أدواره، فهتفت بنا ذكريات، وهي موسيقى ذات آلات نحاسية وملحق بها قربتان، وأنفارها يلبسون زيًّا يشبه زي الكشافة، برباط أصفر فاقع، وهم مديدو القامة، عليهم سيماء الشجاعة، ولهم سيمة الفروسية، وأنفار الموسيقى هؤلاء يشتغلون الآن كفلاحين، ونادي الموظفين هو الذي اشترى لهم الأزياء وآلات الموسيقى وقرر لهم إعانة، وفي المناسبات يعزفون ويُعطى كل منهم خمسة قروش عندئذ، ولا شك أن من سلامة ذوق سكان كوستى وكياسة موظفيها إحياء هذه الموسيقى، وحبذا لو كانت مراكزنا وقرانا المتقدمة تنتفع بأبنائها من رديفها في إنشاء فرقة للموسيقى وغيرها، فإننا نرى الكثير من مدننا الريفية خلوًا من المسليات ومن بروز شخصية كل مدينة.

وبعد تناول الشاي والتحدث إلى هؤلاء الفضلاء والموظفين الأعزاء، شاهدنا حاصلات البلاد على مائدة، ثم زرنا أسواق البندر: سوق الحوانيت، حيث ترى الدكاكين تنتظمها شوارع مربعة، ولا تعلوها دور، وبها بضائع يابانية ومقاهٍ ومحال أشبهت كثيرًا دكاكين المناخلية والتربيعة بالقاهرة، ويغلب في التجار وأصحاب الحوانيت أن يتجروا في أصناف كثيرة — هذا ما خبرته في بنادر السودان — كما لحظت أن لكبار التجار دائمًا فروعًا ووكالات في جميع البنادر.

ثم زرنا سوق الحاصلات، وبها بورصة للمبيعات وتحديد الأسعار. وتعقد يوميًّا صفقات بمزادات، والعادة أن أصحاب المحاصيل يسكنون البوادي والجبال، ويرعون الماشية ويزرعون الأرض الزراعية ويحضرون الحاصلات إلى أسواق البنادر القريبة.

وكان موعد فتح بورصة الحاصلات الساعة العاشرة، وكانت زيارتنا لها الساعة الثامنة صباحًا، وهناك مكتب للبورصة له ملاحظ اسمه محمد توفيق فتح الله أفندي، وهو شاب مهذب. وتجري الأعمال في البورصة كما يلي:

يُحضِر الباعة الحاصلات إلى السوق — والسوق يقوم على فضاء واسع، بعض أنحائه مسور أو مخطط — وتُقيد أسماؤهم وأسماء المشتركين في البورصة في سجل، ويُعطَى لكل بائع ورقة ونمرة نحاسية، ويوضع محصوله في مكان معين، وينادي الملاحظ على الثمن الأساسي، في حضور التجار طلاب الشراء وهم مصطفُّون فتحصل المزايدة، فإذا استقر الثمن عند حد، عرضه الملاحظ على البائع، فإن قبل تمت الصفقة وإلا لم تتم، وقد يستعيد بضاعته من السوق لو شاء، وإذا تمت الصفقة أعطى الملاحظ البائع ورقة رسمية بها اسمه ونوع بضاعته والقيمة وتاريخ البيع، وبمقتضاها يتسلم الثمن. وقال لي الملاحظ إن قيمة الورقة كقيمة الشيك.

ثم زرنا سوق البقر، وشهدنا طريقة حقنه بالمصل الواقي من الطاعون، وتعلَّم أبقار كل تاجر بعلامة خاصة، تسمى «دمغة»، وذلك بحديدة تنتهى بنمرة — كنمرة «٤٤» — فتُحمى في النار وتُكوى بها عجل البقر، وبعد الحقن بالمصل والدمغة، يجوز شحنه بالسكة الحديد وقبل ذلك لا يمكن الشحن.

والبقر في كوستى ألوان: الأسود والرمادي والأبيض والمختلط بين لونين، وأكثره ذو قرون طويلة مقوسة.

ثم زرنا المستشفى الأميري مع طبيبه الدكتور خليل عبد الرحمن، وكان معنا الدكتور محجوب ثابت الذي كان يسأل كل مريض ويشخصه ويسأل عن نسب القبائل، وهو ما يحفل به الدكتور محجوب دائمًا؛ حيث يسأل المواطن السوداني: «جعفرى، والا مولد، والا فلاتة؟» ويأنس السامعون لحديث الدكتور.

هذا وتتصل بورصة كوستى مع البلاد الأخرى بالتلغراف لمعرفة الأسعار وتدوينها، وقد قرأنا في سبورة كتب عليها بالطباشير الأسعار كما يأتي:

كوستى ٣ فبراير سنة ١٩٣٥

  • ٤٤ الصمغ.

  • ١١٤ السمسم.

  • ٤٣ الفول.

  • ٧٧ الماريق.

  • ٧٦ الصفراء.

  • ٥٦ الفترينة.

  • ٥٦ الهجرج.

والأصناف الأربعة الأخيرة هي أصناف الذرة التي تجود بها منطقة كوستى، ويقابل ما تقدم على السبورة ما يلى:

أم درمان ٢ فبراير سنة ١٩٣٥

  • ٤٨ صمغ.

  • ١٣٥ سمسم.

  • ٥٤ فول.

  • ١٠٠ ماريق.

  • ٩٠ صفراء.

  • ٨٠ الدخن.

  • ٧٣ القصابي.

  • ٦٨ الفتريتة.

هذا و«كوستى» مدينة أُنشئت سنة ١٩٠٤ عُرفت باسم تاجر يوناني نزل في منطقتها ويُدعى «كوستى»، وقد ودعتنا موسيقى الدراويش وهى مؤلفة من نفرين، كما ودعتنا موسيقى النادي.

(١-٤) في تندلتي

عند الساعة العاشرة صباح الأربعاء تحرك القطار بين الهتاف والتصفيق، وعند الساعة الثانية عشرة والدقيقة ٢٠ وقف القطار ونزلنا في محطة تندلتي، وهي ليست مركزًا ولكنها بندر تجاري، وقد استقبلنا من التجار حضرات السيد يونس عبد المنعم محمد، وهو عضو غرفة الخرطوم التجارية وشريك رفيق البعثة حضرة مصطفى أبو العلا أفندي، والسيد الفقيه عمدة قبيلة الجِمَع (بكسر الجيم وفتح الميم)، والسيد أحمد طه الشامي، والمشايخ محجوب نعمان ومجدوب فضل الله بركة ومحمد عبد اللطيف صادق الأمين وعلي عبد اللطيف مبارك ومحمد أحمد عثمان إدريس وعبد الله موسى ودفع الله الضو وإبراهيم مالك وعثمان إبراهيم السيد وعثمان إبراهيم وبشير إبراهيم ومصطفى كوكو ومحمد البشير وسليمان فرج وناظر تندلتي الشيخ المكي أحمد عساكر والشيخ حمد علي عمدة تندلتي وعبد الماجد غرجاج وحمزة علي وإخوانه، والخواجات رياض سكلة وإسكندر جرجس وشفيق إبراهمشة وفؤاد عبد المجيد شكري … إلخ.

ثم توجهنا إلى سوق الدكاكين، وتُباع فيها الأقمشة اليابانية والإنجليزية والمصرية «من نقادة» بالصعيد، حيث تصنع الغزالى يدويًّا وتُصدر للسودان. وزرنا محل تجارة الشيخ يونس عبد المنعم محمد وشريكه السيد مصطفى أبو العلا وآخرين، حيث نُظمت موائد الشاي والقهوة والمرطبات والشكولاتة والحلوى، وألقى حضرات فؤاد أباظة بك والسيد عبد المجيد الرمالي والأستاذ علي شكرى خميس كلمات شكر قوبلت بالتصفيق.

وعُرضت حاصلات «تندلتي» على مائدة؛ وهي الذرة الصفراء والفاتاريتا وزناري مريح ولب البطيخ والسمسم والدخن والشطة والفول، وشهدنا عصارة زيت السمسم الآلية حيث يُنقى السمسم ويُضغط بين ألواح وينزل منه الزيت يُجمع في أوانٍ تحت سطح الأرض. وشهدنا العصارة الخشبية يديرها جمل.

وفي تندلتي صمغ هشاب وحب بطيخ وتجارة بقر، ويسكنها عرب الجعليين والبقارة والجوامعة.

خطبة السيد عبد المجيد الرمالي

إخواني التجار:

شكرًا لكم على حفاوتكم العظيمة بإخوانكم المصريين. لقد كنا مشتاقين إليكم شوقًا كثيرًا فلم نشعر بأي مشقة في رحلتنا الطويلة من مصر. لقد أنسانا أشقاؤنا السودانيون أهلنا وأصدقاءنا المصريين. نحن نشعر بينكم أننا في بلدنا، بين أهلنا وأحبائنا، وإني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جميع إخوانكم المصريين عمومًا، وعن التجار المصريين بصفة خاصة، وعن الغرفة المصرية التجارية بالقاهرة بصفة أخصّ، أتشرف بأن أبلغ إليكم سلام مصر وأهلها التى حمَّلتنا إياه أمانة لإخواننا السودانيين.

نحن نحب أن نراكم في مصر، كما أننا سوف لا نسلو أبدًا السودان، بل ننتهز كل فرصة لزيارته.

سنصف للمصريين عند عودتنا جمال السودان وكرم أهله وخصوبة أرضه وكثرة موارده، ونرجو أن تكون هذه البعثة فاتحة عظيمة لتوثيق عرى التبادل التجاري بين القُطرين بما يعود على البلدين بالخير والرفاهية. «تصفيق». ا.ﻫ.

ثم عدنا إلى القطار حيث قام الساعة الأولى والربع، وقد ألقى الحاج عبد اللطيف في تندلتي ما يلي:

يا ركب هب لي بيانا
أقضي به واجباتي
ويا كرام اسمحوا لي
بهذه الكلمات
لعل ساعات عمري
كهذه العجالات
تمر مرًّا سريعًا
إلى مقر الحياة
وعلَّ تخليد ذكرى
فى هذه اللحظات
وعلَّ يومًا كهذا
أبز فيه لداتي
حسبته يوم أنسٍ
لكل غادٍ وآت
إذا به مهرجان
للبر والحسنات
شهدت فيه نفوسًا
بهذه البسمات
بدت خلال وجوه
تخشع بالطيبات
أحيت موات رجائي
بهذه المبتسمات

(١-٥) في أم روابة

وفي الساعة الرابعة وقف القطار عند محطة أم روابة.

واستقبلنا الأعيان والتجار يتقدمهم حضرات الشيخ علي جاد الله عمدة البندر، والمشايخ عبد الرحمن علوان وإبراهيم الكوباني وعبد الحفيظ عبد الله ومحمد علي السيد وحسين السيد ومنصور سوار الذهب والحاج عثمان محمد صالح وإبراهيم البلك والدكتور محمد النيل طبيب المستشفى والزبير محمد التوم أفندي مأمور المركز وصديق عبد الوهاب أفندي نائب المأمور والمستر لونج مفتش البندر وعبد العظيم حسن.

وسكانها من الجعليين والبقارة وبرنو والفلاتة والهوسة.

وركبنا الخيل والحمير التي أعدها لنا المستقبلون من المحطة حتى البندر، وشهدنا سوق الصمغ والسمسم والبورصة، وقد أخروا موعد افتتاحها — وهو الصباح — خصيصًا لكي نشهد أعمالها، وهي تماثل بورصات البنادر المتقدم ذكرها.

وإردب السمسم في سوق أم روابة ١٥ كيلة، وكان الإردب منه في سعر بورصة اليوم ١٢٠ قرشًا، ويبلغ ما بيع فيها من أول نوفمبر حتى الآن حوالي ٨٢ ألف إردب، وكان بالسوق اليوم ٦ آلاف إردب. وثمن قنطار صمغ هشاب ٤٢ قرشًا، وقد ربحت الحكومة أكثر من ٨٠٠ جنيه من النولون.

وكانت النساء يزغردن عند وصولنا وعودتنا.

وتأخذ الحكومة عوائد دخولية على قنطار الصمغ ٨ مليمات، وقنطار السمسم ٦ مليمات، وقنطار الفول ٧ مليمات، وقنطار الذرة ٤ مليمات.

ثم سافرنا إلى الأبيض فوصلنا إليها الساعة العاشرة إلا ربع واستقبلنا التجار والحكام بحفاوة.
figure
الحفاوة بالبعثة وحماس جماهير السودانيين.

(٢) زيارة الأبيض وبورصتها الكبيرة (في ٥ فبراير سنة ١٩٣٥)

حوالي الساعة العاشرة إلا ربعًا من مساء أمس الاثنين ٤ فبراير سنة ١٩٣٥ وصل القطار الخاص المقل للبعثة المصرية في السودان إلى محطة الأبيض، حيث كان في استقبالها حضرات مأمور مركز الأبيض وتجارها وأعيانها، وبعد تحية أعضاء البعثة والتعرف بهم، بقي بعض المستقبلين في القطار مع الأعضاء إلى وقت متأخر من الليل، بينما زار بعضنا مدينة الأبيض فوجدوا حوانيتها مغلقة وأكثر سكانها نيامًا.

واستيقظنا اليوم مبكرين، لعلمنا أن البريد المسافر إلى مصر ينقل بقطار الساعة الثامنة صباحًا، فبادر كل منا إلى إعداد رسائله والرد على الخطابات الواردة إليه، ولم يكن الدكتور محجوب ثابت — وهو من جيراني، في المركبة — يعلم بموعد البريد، ولم يكن قد تلقى خطابًا أو كتب لأحد كتابًا، لأن الدكتور تشغله الرحلات والأسفار — وخصوصًا رحلة السودان — عن الكتابة، فقد وجد أهلًا بأهل وإخوانًا بإخوان، وهو دائمًا واجدهم في كل مكان؛ وخاصة في السودان!

ولكن يظهر أن الدكتور قد أخذته الغيرة من رفقته، إذ ألفاهم جميعًا منهمكين في الكتابة، فطلب من السيد سماحة ورقة ليكتب فيها فأعطاه «كارت بوستال».

وكان قد حان موعد قيام القطار، وكان الدكتور من جهة أخرى في صالونه خالع العذار استعدادًا للاستحمام، فنبهت سائق القطار وعامل البريد لانتظار بريد الدكتور. ولما تسلم العامل «رقعة البريد» التى كتبها الدكتور، سافر القطار في الحال إلى الخرطوم.

وكان بين مودعي المسافرين فتاة بكت متأثرةً من فراق جدتها قائلةً: «مع السلامة يا حبوبة.» والحبوبة معناها الجدة، فقال لها الدكتور: «وليش تبكى يا بنية …؟»

(٢-١) في سوق الصمغ

ثم وصلت وفود المدينة عند الساعة التاسعة صباحًا، وقد أعد الملاك سياراتهم الخصوصية لأعضاء البعثة، فركبوها في منتصف الساعة العاشرة صباحًا مع المستقبلين إلى المدينة … إلى سوق الصمغ، وهو أكبر سوق له بالسودان، وهو منظم تنظيمًا بارعًا، بحيث لا يغبن منتج، ولا يضل تاجر، ولا يوجد للغبن محل.

يقع السوق في فضاء واسع، وقد وُضع الصمغ في أكياس من الجلد — وصمغ الأبيض من صنف «هشاب» — وبه مكتب يديره ملاحظ سوداني اسمه «عباس علي رحمة أفندى»، وهناك رفوف وضعت عليها قطع من ألواح صغيرة من أخشاب الغابات السودانية القريبة من الأبيض، وأهمها خشب الموجني، وزجاجات صغيرة بها أنواع الصمغ وبذوره، ورسوم ظهرت فيها أشجار الصمغ على اختلاف أنواعها.

وإلى جانب هذا سبورة سوداء كُتب في رأسها ما يلي:
سوق صمغ الأبيض
يوم ٥ شهر ٢ سنة ١٩٣٥
حمير — ثيران — جمال — رسالة

ولا تعني أسماء الماشية المذكورة أنها للبيع، فإن السوق للصمغ لا للماشية، وإنما يعني ذكرها حمولة حمار أو ثور أو جمل.

ويوضع للرسالة رقم، وتتضمن محصول الصمغ لكل بائع. والباعة من أعراب السودان في البيداء. هذا وتنبت أشجار الصمغ من غير غراس وبدون ري، وكل ما يفعله الأعرابي أنه يجمع الصمغ من أشجار الغابات والأحراش ويضعه في أكياس ويبيعه في أسواق المدن والرسائل تكون على الترتيب: ١ و٢ و٣ و٤، وأمام رقم الرسالة — على السبورة — الحمولة من الحمير أو الثيران أو الإبل.

وقبل موعد افتتاح السوق والجلوس في البورصة، يدون الملاحظ في دفتر خاص بيانات الرسائل وأرقامها، وأسماء أصحابها وتاريخ السوق، ويعطي لكل من أصحابها وصلًا، ثم يحضر المشترون، وهم تجار في المدينة أو وكلاء لكبار التجار في الخرطوم وأم درمان وبور سودان ومصر. ولكل من التجار أو وكلائهم في الأبيض دفتر صغير يدونون فيه بيانات الرسائل كالوارد في دفتر الملاحظ.

وبورصة السودان بناء فسيح به مقاعد أمامها مناضد تشبه ما يوجد في حجر التدريس بالمدارس، ولكل مقعد رقم نحاسي معلق في عمود يجلس أمامه كل تاجر أو وكيله من المشترين. ولا يسمح بالاشتراك في مضاربات البورصة ومزادها إلا للتجار أو وكلائهم المسجلة أسماؤهم في سجل السوق. والتسجيل يكون بناء على طلب يُقدم للملاحظ، وكل من حصل على قيد اسمه يجب عليه أن ينفذ جميع الشروط، وفي مقدمتها عدم الغش، ودفع الثمن الذي رسا مزاده على المشتري في اليوم نفسه للبائع، وإلا استبعد اسمه نهائيًّا من السوق وحُرم من التعامل فيه. ويسمون صاحب البضاعة بائع الصمغ، وغيره «خبير».

وفي السوق سبورة مكتوب فيها ما يلي:

المشتريات الشهرية
يونس ٩٦ ١٥٧٦
العشار ٨٠ ١٥٥٩
البر ٢١ ١١٣٥
الفرنساوي ٥١ ١٠٧٢
البتو ١٢ ٩٩٥
محمد طه ١١ ٨٤٩
اكسبورت ٣٨ ٧٣٥
لانسج ٢٣ ٦٩٦
متري ٦١٧
عدلان ٧٤ ٤٧٠
هنري ٦٧ ٣٦٥
شون ٩ ٢٥٧
رامجي ٣ ٣١
الوارد الشهري ١٠٣٦١٨٧
الثمن ٣٢٥٦٩٧٥
المتوسط الشهري ٣٨٢

وقد فُتح السوق اليوم الساعة العاشرة والدقيقة ١٠ صباحًا، وانتهى الساعة العاشرة والدقيقة ٣٥، وكان وارد اليوم إلى السوق ٦٠٠ قنطار من صمغ هشاب. والسوق مفتوحة يوميًّا.

وبعد أن راجع الدلَّال والتجار البيانات المُشار إليها ظهر اختلاف مرة واحدة فقط، فرفع التاجر أصبعه، فقال الدلال: «فيه ملاحظات.» وصحح الخطأ. ثم بدأت العملية، وعند بدئها يفتح صاحب رقم ١ المزاد، ويقف الدلال على منبر ومعه جرس وأمامه الكشف وفي يده قلم، ويشير إلى أصحاب رقم ٢ و٣ وهكذا لكي يزايدوا، حتى إذا انتهت المزايدة سأل الدلال «الخبير» — أي البائع: «بتبيعوا؟» فيقول: «نبيع.»

وعند انتهاء المزاد يعطي الملاحظ لكل بائع ورقة يتسلم بها الثمن من المشتري في الحال، ويوزن الصمغ ويُقيد وزنه في الورقة. وقد بيع قنطار الصمغ بمبلغ يتراوح بين ٤٠ و٥٠ قرشًا، والصمغ القديم بين ٣٥ و٤٠ قرشًا.

وقد أعدت لنا في بورصة الصمغ كراسي جلسنا عليها بجوار مقاعد التجار، وشهدنا العملية تجري في نظام وسكون. وقد عزم تجار البعثة على اقتباس هذه الطريقة وتعميمها في البلاد المصرية؛ لأنها تعود بالخير والراحة والنظام على التاجر والبائع.

وانصرفنا إلى مخازن تنظيف الصمغ، وهى مخازن أعدت للتجار المشترين، ويشتغل فيها فتيات ونسوة من كل سن، وتأخذ كل منهن ٢٥ مليمًا أجرًا على تنظيف الصمغ الذي يملأ كيسًا «زكيبة». وكان الفتيات في أزياء جديدة ملونة وبضفائر مجدلة لمناسبة زيارتنا، وقد زغردن وطفقن ينشدن ويبدعن ويرقصن في أثناء زيارتنا، كأنهن في عرس وزفاف.

وقد أطلق الدكتور محجوب نفسه على كامل سجيتها وحريتها مع الفتيات العاملات في تنظيف الصمغ، وكان يعاونهن في أناشيدهن ويصفق معهن، وقد أُخذت له صور عديدة وهو في وسطهن، وقد أُخذت للأعضاء معهن صور عديدة. وكانت ساعة سعيدة تلك التي قضاها الدكتور والأعضاء في مخازن تنظيف الصمغ! وكنا نشعر أننا في ليلة زفاف أُعدت لزيجات متعددة في ساعة واحدة. واختار الدكتور محجوب أربع فتيات أُعجب بهن، وقد ودَّ لو تكون إحداهن زوجًا صالحةً له.

وقد بلغ من فرط ابتهاج الدكتور والأعضاء بهذه الزيارة أنهم تأخروا عن موعد زيارة سوق الحاصلات وسوق الماشية.

وبهذه المناسبة نذكر أن حضرة فؤاد أباظة بك قد أعدَّ شريطًا سينمائيًّا بمناظر الرحلة كلها — وسيرى مواطنونا مشاهد زيارة اليوم بين مناظر الرحلة وسيشاركوننا الابتهاج والأفراح والليالى الملاح!

زرنا بعد ذلك سوق الحاصلات من سمسم ونحوه، وقد قال لنا حضرة نائب المأمور إن تجربة بورصة الصمغ في سوق الحاصلات لم تفلح؛ ولذا فالبيع في سوقها بالممارسة لا بالمزاد.

ثم زرنا سوق الماشية وبه خراف وأبقار، وثمن الأقة من اللحم الضأن المذبوح قرشان ونصف، ولحم البقر قرش ونصف القرش.

ثم انتشرنا في شوارع المدينة حيث زرنا متاجرها وحوانيتها، ورأينا تجارًا من مصر وسوريا ولبنان، وتجارًا من الهنود واليونانيين والأرمن، فضلًا عن تجار المدينة. وقد احتفوا جميعًا بنا واستقبلونا وتنافسوا في إكرامنا.

وزار بعض الأعضاء مطار الأبيض، ومسجدَي المدينة: مسجد الأبيض الذي بُني سنة ١٩١٢ في عهد الجيش المصري ومسجد الإسماعيلية. والمسجد الأول واسع وأنيق، به مئذنتان وبه مكان خاص يصلي فيه السيدات صلاة الجمعة، وبه حلقتان للدروس الدينية عقب صلاة العشاء. وقد صلى الشيخ المحترم السيد أحمد أبو الفضل صلاة العشاء بمسجد الأبيض. وهنا حضر معنا الدكتور محجوب وعرَّف المصلين بأن السيد أبو الفضل نجل المرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى شيخ المالكية والأزهر سابقًا.

وزاروا أيضًا الاسبتالية الأميرية، وبها ١٢٠ سريرًا وثلاثة أطباء، كبيرهم إنجليزي. وبالمدينة كنيسة إنجليزية وكنيسة للروم الكاثوليك وكنيسة للأقباط الأرثوذكس.

وكان ماء الشرب في المدينة من الآبار، وكان ثمن الصفيحة يصل إلى ثمانية قروش؛ خصوصًا في الصيف، وكان من يملك بئرًا يملك ثروة بسببها. وقد أنشأت الحكومة آلة لرفع الماء من بئر ارتوازي، وأقامت مستودعًا عاليًا، ومواسير بحنفيات في المنازل بأجرة معتدلة معينة، ولكن الفقراء ما زالوا يشربون من ماء الآبار.

وقد خُصص للماشية مكان للشرب يؤخذ ماؤه من الآبار.

وهناك أسواق منظمة: سوق للخضر، وسوق للحم — واللحم يُذبح في مجزر تحت إشراف طبيب بيطري ويُختم — وسوق للفاكهة، وسوق للنسوة، ويتولى البيع فيه سيدات يبعن خبزًا وخرزًا وحبوبًا … إلخ.

(٢-٢) الفلاتة والحلبة

وفي خارج المدينة منازل من الأخصاص وغيرها لفئة تُعرف باسم «الفلّاتة» بتشديد اللام، وهم مهاجرو السودان الفرنسي ونيجيريا وجنوبي السودان ونحو ذلك، يحضرون مع عائلاتهم إلى السودان للحج مشيًا على الأقدام لفقرهم المدقع، فإذا عادوا من الحج فضل الكثير منهم العمل في السودان كزرَّاع وخدم وفعلة وحمالين؛ لأنهم لا يأنفون من العمل، فوق حاجتهم إلى القوت الضروري، ولأنه ليس لهم في بلادهم الأصلية ما يغريهم بالعودة إليها؛ خصوصًا وأن صغارهم وزوجاتهم معهم في حجهم.

ولكن سكان المدن يعدونهم غرباء، ويأنفون من الزواج منهم، فاحتفظ الفلاتة بعاداتهم ولهجتهم. ونساؤهم سافرات الوجوه، وأكثرهن يعملن في تنظيف الصمغ. وهم من قبائل منوعة، ويوجدون دائمًا حوالي المدن.

أما «الحلبة» أو «الحلب» بفتح الحاء واللام، فهم فئة الغجر، وهم يشتغلون بالحدادة، ويعيشون في بيوت من الشعر ونحوها خارج المدينة وبعيدًا عن سكانها وعن أعراب الصحراء وعن الفلاتة.

وفي الأبيض مدرسة أولية للبنين ومدرسة للبنات ومدرسة يونانية، وحي للموظفين الإنجليز، وملاعب للتنس، وترام تمتد خطوطه من المحطة إلى مخازن التجار، ويمر ببعض الشوارع ويجره ثوران، وتحمل مركباته البضائع، وفي النادر يركبه الناس. ويوجد فرع لشركة سنجر يديره مواطننا زكي بطرس أفندي، ويبيع الفرع ١٥٠ ماكينة في السنة، ويعهد إلى بعض خريجات مدرسة الخياطة للبنات بتعليم مشتريات الماكينة الخياطة. والمنازل مبنية من الطوب الأخضر والمحروق المسمى «قلوص».

وتوجد في الأبيض فرقة من الهجانة والحملة الميكانيكية، وهى مؤلفة من خمسة بلوكات وسيارات مسلحة، ويوجد فرع للبنك الأهلي، ويوجد جبن بقري وعسل نحل. والبضائع اليابانية تغمر السوق، وأرض السوق حكر للحكومة، ويؤجرها الأهالي لمدة طويلة ويبنون عليها الحوانيت لمدة ٤٠ سنة عادة، وعند انتهائها تُسلَّم للحكومة من غير بناء. وإذا أعدت الحكومة أرضًا للتأجير أقامت مزادًا، وتتراوح أجرة المتر في السنة بين ١٥ مليمًا و٢٠ قرشًا. وجو الأبيض معتدل في أكثر فصول السنة، وأرضها رملية، ولشوارع المدينة يفط، وهى لوحات من الخشب مكتوب على كل منها بحروف صغيرة اسم الشارع بالعربية والإنجليزية. واللغة الإنجليزية تسود أكثر مكاتبات الحكومة.

(٢-٣) مأدبة غداء وحفلة شاي

وقد أقام أعيان المدينة وموظفوها مأدبة غداء، وفي المساء حفلة شاي في ساحة مولد النبي في سرادق كبير، حضرها مستر بريدن نائب المدير؛ لأن المدير مستر نيوبولد كان متغيبًا، ومستر كوليات مفتش المديرية، ومستر آجلن مفتش المركز، وحضرات التجار والأعيان الأفندية والمشايخ: محمد أحمد الإمام سر تجار الأبيض، وعمر التني نائب ناظر البندر، ونايل عثمان وبناجة حسن، وعبد الرحمن محمد صالح ناظر المدرسة الأولية، وفضيلة القاضي الشرعي الشيخ عبد الله أمين، ومجدوب علي حسيب نائب القاضي الشرعي، وعبد الله أحمد محمد خير، ومجدوب البر، ومحمد باي عوض خليل، وعبد الله الفقيه، وبشير الفقيه، وعبد الرحيم مبارك، والدليل المحسي وحسن أبوه، ومكي إلياس، وعوض الكريم العشر، وكلنج همشتد، وجورج بريمو، وشماع بريمو، ودلماك كوركوجيان، وجندي نخلة، وأنطون الحياح وكيل الشركة الغربية للصمغ، وميشيل ميخاليديس صاحب محل أبو نجمة، ورئيس الجالية السورية حضرة قناوي أفندي وإخوته، وكوتكوجيان، وفارس عجم، وجورج فتال، وسيد أحمد نور، وميخائيل مصرية، وديمتري ميخائيل قسيس الكنيسة القبطية، ولطيف نخلة أفندي باشكاتب المديرية. ومن الضباط المتقاعدين اليوزباشي صادق الجزولي، والحاج عبد الرحمن محمد، وعبد الله عدلان، والملازمون الأول عبد المنعم عبد الله وحسن عبد التام، ومحمد مصطفى.

وقد بذل حضرة الشاب المهذب الفاتح محمد البدوي أفندي نائب مأمور مركز الأبيض مجهودًا كبيرًا في تنظيم حفلات الاستقبال والغداء والشاي والتوديع.

وألقى حضرات فؤاد أباظة بك كلمة شكر، ثم ترك الكلمة لمندوبي التجارة فخطب السيد محمد عبد الرحيم سماحة والوجيه علي شكري خميس والسيد عبد المجيد الرمالي فأجادوا.

خطبة الوجيه محمد عبد الرحيم سماحة بالأبيض

أيها السادة:

لم يكن لي أن أقول شيئًا بعد الذي سمعتموه، ولكن دفعني للقول لكم عوامل كثيرة أثارتها في نفسي هذه المظاهر الفخمة التى قابلتمونا بها. ففي مساء الأمس جئتم إلينا بالقطار بعدما أسدل الليل ستاره وكنتم في حاجة إلي راحتكم، ولكن أبت عليكم مروءتكم إلا أن تطوقونا بجميلكم، واليوم هو يوم مشهود تجلت فيه كل المعاني التي تخالج نفوسنا ونفوسكم: وجوه مستبشرة وثغور ضاحكة ونفوس مشوقة إلى اللقاء بعد طول الغياب، فالحمد لله والثناء له جلت قدرته، فقد جمع بين الشقيقين بعد أن ظنَّا ألا تلاقيًا.

إخواني، كنا نحسب للسفر ومتاعبه حسابًا، ولكن حسابنا لم يكن صحيحًا؛ فعندما نزلنا إلى بور سودان وجدناها زاخرة بالمستقبلين من الأجانب والوطنيين، وبالغوا في الحفاوة بنا، وذهبنا إلى سواكن الخالدة فرأينا عظمتها التاريخية، وبيوت الكرام فيها لا زالت قائمة، وعدنا إلى بور سودان ومنها إلى كسلا والقضارف وسنار وسنجة وكوستى وتندلتي وأم روابة، فزرنا المدن وقطعنا السهول والغابات وكنا في كل بقعة من بقاع السودان المترامية نقابَل فيها بكل مظاهر الحفاوة. وجئناكم فوجدناكم قد جمعتم كل الحفاوات في حفلاتكم، وقد يملك السرور على إنسان كل مشاعره حتى يفقده قوة التعبير عما يخالج نفسه، فإن عجزتُ فإني لا أعجز عن أتلمس من كل هذه المظاهر معنى ساميًا فوق كل المعاني، ذلك هو قوة الله تعالى. فالله أكبر الله أكبر الله أكبر.

كيف لا وقد خلق الله مصر والسودان أرضًا واحدة تُسقى بماء واحد!

إخواني، هل تعلمون ما هي أغراض البعثة المصرية للسودان؟ إن أغراضها اقتصادية زراعية تجارية، فمنَّا أعضاء الجمعية الزراعية والنقابة الزراعية وجمعية خريجي مدرسة الزراعة وتجار مصر والإسكندرية وذوو فضل من المصريين، كل أولئك جاءوا في البعثة المصرية ليدرسوا أحوال السودان عن رؤية وروية، ولكي يعملوا كل مجهود في سبيل زيادة الروابط بين البلدين.

إخواني، سهلت لنا رحلتنا حكومتكم السنية ورجال غرفتكم التجارية، وعلى رأسها جناب مسيو كونتو ميخالوس وإخوانه الأماجد؛ خصوصًا الذين رافقونا من بور سودان، وبدأنا مباحثاتنا على ضوء الحقيقة ورأي العين، وإني وإن كنت لا أنكر عليكم أن الإحصاءات الرسمية دلت على أن مصر هي أول سوق لحاصلاتكم، وأنتم لا شك واثقون أننا سنعمل متفقين مع غرفتكم بالخرطوم على زيادة النمو التجاري.

وحتى تتحقق أمانينا وأمانيكم أرجو منكم أن تتصلوا بغرفة الخرطوم بكل ما يعنُّ لكم من اقتراحات أو طلب تسهيلات في سبيل تجارتكم مع مصر. ونحن من جانبنا سنعمل كل مجهود في سبيل ذلك.

وإذا كانت الأبيض من أقدم مدن السودان في التجارة فإنا نراها لا تزال في مقدمة مدن السودان التجارية. ويسرني جدًّا أن أعلن فيكم أن تجار مصر يفضلون دائمًا حاصلات مديرية كردفان؛ خصوصًا الأذرة الزناري التي صدرتم منها وحدكم في العام الماضي ما يزيد على عشرة آلاف طن. كذا الفول، كذا حب البطيخ وارد الأضية والنهود والأبيض. وقد صدرتم منه في العام الماضي سبعة آلاف طن لمصر، وهو ما يوازي تسعين في المائة من محصولات السودان جميعه. وطبعًا لا تجهلون أن محصول حب البطيخ ليس له تصريف عندكم إلا لأسواق مصر. أليس كذلك؟

إخواني، هل لي بعد أن أطلت عليكم الكلام أن أرجو منكم التفاتًا إلى محصولات وصناعات مصر لتزيدوا صادراتنا إليكم فتكونوا بذلك قد حققتم بعض ما ننشده جميعًا من زيادة الروابط بين البلدين؟

إخواني، أرجو أن تتقبلوا منا خالص الشكر، وأخص بالشكر جناب نائب المدير وحضرة نائب مأموركم الهمام وحضرات أعضاء لجنة الاستقبال، وكذا حضرة الشيخ خليل عكاشة الذي هيأ لنا كل مظاهر السرور والتفريح ونحن في زيارة محل تنظيف الصمغ التابع للسادات أبو العلا ويونس بإدارة حضرته.

ولتعلموا أن محبتكم في نفوسنا خالدة إلى يوم الدين، وإننا نودعكم ولكن إلى اللقاء القريب، وأنتم في خير ونعيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

خطبة السيد عبد المجيد الرمالي

جناب نائب المدير، حضرات التجار والأعيان المحترمين:

في اليوم الذي تطأ فيه أقدامنا أرض الأبيض، وتصافح فيه أكفُّنا أيدي مواطنينا وإخواننا الكرام أبناء السودان السعيد ونزلائه الأفاضل، تهتز كل مشاعرنا طربًا بترحيبكم، وتخفق قلوبنا بالتفاؤل البالغ حده بأن الله سيكتب لأبناء النيل صفحة جديدة في تاريخ الصداقة والتعاون بين القطرين اللذين ظلا ألوف السنين مرتبطين بأقوي روابط الدم والجنس والدين والجوار وكل ما يمكن أن يوجد بين أمتين شقيقتين. لقد كنا مشتاقين إليكم شوقًا كثيرًا، كذلك جئنا إليكم فرحين مسرورين بلقائكم، تتحرك في نفوسنا عوامل كثيرة تملك علينا مشاعرنا وتهتز لها حواسنا، فإن تاريخ مصر والسودان قد ارتبطا بصلة طبيعية منذ ربط النيل بينهما لا تفصمها الأجيال.

لقد جئنا وشاهدنا بأعيننا مبلغ التقدم الذي وصلت إليه بلادكم بفضل جهادكم ومثابرتكم، وإن المصريين جميعًا يرجون لكم كل رواج في التجارة وتقدم في الزراعة وارتقاء في العمران.

إني أحمل إليكم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن الغرفة المصرية التجارية بالقاهرة آلافًا، بل ملايين من التحيات الطيبات الصادرة من قلوب عامرة بحب السودان وأهل السودان، وها هي بعثتنا قد جاءت إليكم لتوطيد العلاقات الاقتصادية بين القطرين التوأمين، فنرجو من الله أن يحقق آمالها.

وإني أنتهز هذه الفرصة السعيدة لأعبر عن شكري الخالص لحضرة فؤاد أباظة مدير الجمعية الزراعية الملكية، وجناب المستر كونتو ميخالوس وزملائه الأفاضل أعضاء غرفة الخرطوم الذين هيأوا لنا هذه الرحلة المباركة التى تركت أثرًا طيبًا في نفوسنا، والتي نرجو أن يعم خيرها على القطرين الشقيقين إن شاء الله.

(٢-٤) في القضاء الشرعي

الشيخ عبد الله الأمين هو القاضي الشرعي لمديرية كردفان، وقد حادثتُهُ في شئون القضاء الشرعي، وبهذه المناسبة أذكر أن عدد قضايا الأبيض الشرعية ٤٣٠ قضية في سنة ١٩٣٤، وجلسات القضايا في أيام السبت والاثنين والأربعاء لنظر النفقات، وتعقد جلسة في كل من يومي الأحد والثلاثاء لنظر قضايا التركات، ويتخرج القضاة الشرعيون من قسم القضاء الشرعي بكلية غوردون، ويعين المتخرج أولًا في وظيفة عامل قضائي بمرتب ثمانية جنيهات، ويتعلم الآن الإنجليزية في الكلية، وكان مرتبه قبل إدخال اللغة الإنجليزية خمسة جنيهات، وتكون درجته السابعة، فإذا عُين قاضيًا مُنح الدرجة السادسة.

ومما يُذكر في القضايا الشرعية أنه قد عُرضت على فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي زميلنا رئيس تحرير جريدة حضارة السودان في أثناء توليته القضاء الشرعي في الأبيض، قضية زوجة من «الفلاتة» تزوجت أربعة رجال. ونشأت هذه الحادثة من حياة أفراد الفلاتة نفسها، فهم عرضة للتنقلات؛ فتزوجت هذه المرأة من رجل، ثم انتقلت إلى بلد آخر — لأن رجال الفلاتة يعملون منفردين عن نسائهم اللواتي يشتغلن أيضًا ويكسبن القوت من عملهن كما سبق ذكره — فتزوجت المرأة المذكورة بآخر من غير أن يعلم بأنها متزوجة، ثم تزوجت بثالث ورابع، وكل زوج لا يعلم بالأزواج السالفين، فجاء الزوج الأول فطلبها للطاعة، وفي أثناء القضية ظهر الزوج الثالث. وباستقراء حوادث القضية ظهر الزوج الثاني فأعلنته المحكمة بالحضور، وثبت للمحكمة أن المرأة زوجة لأربعة رجال، فقضت ببطلان الزيجات الثلاث الأخيرة، وبأنها زوجة للأول فقط.

(٢-٥) أخبار منوعة

كانت المسافة من أم درمان إلى الأبيض ١٨ يومًا على الجمال، فأصبحت منذ إنشاء السكة الحديدية سنة ١٩١٤، ٢٤ ساعة.

وقد زرنا بالأبيض دار خليفة المهدي، وهي أنقاض تخلفت من دار المديرية في عهد حكم الحكومة المصرية، حيث كان المرحوم محمد سعيد باشا مديرًا لمديرية كردفان، فلما هزمه المهدي حوصر في هذه الدار وأطلق الرصاص عليها، وخلفت قنابل المدافع المهدية أثرًا في جدرانها. واحتلها المهدي، ومنها كان ينظر إلى الجيوش، ثم سكنها، ولم يبقَ منها اليوم غير الباب والغرفة التي فوقه.

وهناك لوحة لإعلانات الحكومة عن العطاءات والتنبيهات … إلخ في وسط المدينة، وبها مدرسة ابتدائية تلاميذها ١٥٠، وبها ١٢٥ قبطيًّا و١٤ أرمنيًّا و٢٣٦ سوريًّا و٥٥ يونانيًّا، وسكانها حوالي ٤٠ ألفًا.

والقبائل: جعليون وكبابيش وحَمَر — بفتح الحاء والميم — وشنابلة وجوامعة … إلخ.

ويشتد الحر في شهور أبريل ومايو ويونية، وهو معتدل في الشهور الأخرى، بارد أحيانًا.

وفي حفلات الأفراح يستعير صاحب الحفلة الكراسي والأثاث من أصدقائه. وكذلك في المأتم، حيث تُفرش الأرض بالسجاجيد ويجلس المعزون عليها، وتُوزع أجزاء القرآن الكريم على الفقهاء فيقرأها كل منهم بصوت منخفض. وللمدينة ضوارٍ. والضواري هي الضواحي أو الحلل.

ويوجد بها المخبز الأهلي لصاحبه جندي نخلة أفندي، ويدعون الزوج «أخو البنات».

وقد توجهنا مع الدكتور محجوب والسيد أحمد أبو الفضل إلى قهوة بلدي حيث سمعنا الغناء التالي:

سيدة وجمالها فريد
خلقوها كما تريد
في خدودها وضعوا الريد

وقد دعا نائب المدير حضرات رشوان محفوظ باشا وفؤاد أباظة بك ومسيو كونتو ميخالوس لتناول الطعام على مائدته نيابة عن الأعضاء الذين كانوا في حفلة التجار، ثم سافرنا مساءً من الأبيض.

(٢-٦) حفلة المسيو كونتو ميخالوس

احتفلنا مساء اليوم بالقطار بذكرى ميلاد مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم، إذ بلغ الثانية والخمسين، فأديرت المشروبات وألقى فؤاد أباظة بك كلمة، والدكتور محجوب ثابت ونحاس بك خطابًا، ذكر فيه فضل المحتفل به، وعلاقة مصر باليونان، واتصال المدنيتين. فصفق الحاضرون للدكتور.

ويرجع تاريخ كونتو ميخالوس إلى سنة ١٩٠٣، إذ حضر إلى الخرطوم للعمل مع خاله في دكان بقالة، ثم أنشأ بجده محلًّا مستقلًّا، نمت فروعه في مدن السودان، ثم اشتغل بجميع صنوف التجارة؛ شراء حاصلات السودان وبيعها وتصديرها والشحن والتأمين والملح وإنشاء المحالج، وفي سنة ١٩٢٩ سافر إلى لندن حيث أسس مع الممولين البريطانيين شركة رأس مالها ٧٥٠ ألف جنيه، له فيها ١٥٠ ألف جنيه بأسهم، وأسميت الشركة باسم شركة كونتو ميخالوس ودارك، وهو شديد الرفق كثير المعاونة للتجار الوطنيين، فهو يذكر فضل السودان في تكوينه وثروته، وعلاوة على ذلك لحضرته أملاك. وهو مثل يُضرب على الصبر والجلد، ومجد يذكر للشعب اليوناني الكريم.

(٢-٧) قبائل تتحضر ومذهب العري

figure
الحسيب النسيب السير السيد عبد الرحمن المهدي.
أحسب القارئ المتابع للمقالات السابقة قد أدرك أن السودان لا يزال يعيش على نظام القبائل، وأن هذه القبائل تسكن الجبال وتنتشر في البوادي، وأحيانًا تجاوز الغابات والوحوش الضارية، بل إن هناك في مديرية كردفان التي زرنا عاصمتها الأبيض أمس، توجد قبيلة تدعى: النوبة، تسكن جبال النوبة العليا، وتعيش في حالة من البداوة على مذهب العري، ذلك أنهم — رجالًا ونساء — يعيشون عارين، حتى من غير خرقة تستر موضع العفة من أبدانهم. ويتوجه بعض سكان المدن والسائحين بالسيارات لزيارتهم وأخذ صور لهم. هم ما زالوا على الفطرة، ولكن هذه الفطرة لم تدنس عرضهم، وهم يسكنون المغاور والكهوف، ويصيدون الحيوانات ولا يعتدون على أحد، ويرقصون ويدندنون، وأحيانًا يرعون الماشية.

لكن هذا استثناء، فإن أكثر قبائل السودان عربية الأصل محافظة على الصفات العربية الأصيلة كالكرم والشجاعة والأخذ بالثأر والأنفة، ولكن بقيام الحكم المصري في السودان ثم على عهد محمد علي، أخذ السودان يتحضر، فظهرت مدن جديدة أُدخلت فيها الحضارة الحديثة من حيث إنشاء المباني والطرق، ومن الخطوط الحديدية والمدارس. ومدن السودان هي فقط نقطة ارتكاز للقبائل الضاربة في الصحاري والجبال، فتخرج إليها في مواسم الزراعة أو بيع محاصيل الأشجار؛ ولهذا نجد في كل مدينة خليطًا من القبائل المختلفة في السودان ومن نيجيريا والصومال والأريترية والحبشة والكونغو واليمن والحجاز والهند ومصر، وأكثرها محتفظ بأنسابه وأصوله متعلق بقبائله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤