لا تبحثي عن الحقيقة

(الزوجة تدخل على الزوج، وهو في حجرة مكتبه.)

الزوجة : هذه الخطابات لك؛ لأنها بخطِّ يدك، وقد وجدتُها في جيوبك.
الزوج : هل تفتِّشين في جيوبي؟!
الزوجة : طبيعي؛ لأني لا أستطيع أن أرسل ملابسك إلى الكوَّاء قبل أن أستخرج ما في جيوبها!
الزوج : معقول!
الزوجة : في إمكانك أن تطمئن إلى أني لم أقرأ هذه الخطابات، وإن كانت الأمانة تدعوني إلى الاعتراف بأن بصري وقَع عفوًا على كلمة «عزيزتي»!
الزوج : وأنتِ في إمكانك أن تَطمئنِّي إلى أن هذه الخطابات بريئة كلَّ البراءة!
الزوجة : ومَن الذي يتَّهمك؟
الزوج : حسبت أنه قد خالَجكِ بعض الشك … ولكني أقسم لكِ …
الزوجة : لا تُقسِم! … لا تُقسِم!
الزوج : لماذا؟! … أرى في صوتكِ كأنكِ ترتابين!
الزوجة : على النقيض … إني هادئة كلَّ الهدوء.
الزوج : هذا لا يدل على شيء … ربما كان هو الهدوء الذي يسبق العاصفة!
الزوجة : أتتوقَّع عاصفةً تهبُّ على حياتنا الزوجية؟
الزوج : لستُ أجزم بذلك … ولكن …
الزوجة : إنكَ تتَّهم نفسك.
الزوج : أنا … لم أرتكب شيئًا يضعني مَوضعَ الاتهام.
الزوجة : وأنا ليس لديَّ ما أوجِّهه إليك، أو آخُذه عليك.
الزوج : اتَّفقنا إذن.
الزوجة : وهل كنَّا مختلفين من قبل؟
الزوج : خشيتُ أن هذه الخطابات …
الزوجة : إنك تؤكِّد لي أنه ليس فيها ما يريب.
الزوج : قطعًا.
الزوجة : انسَ أمرَها إذن! … أو احتفِظ بها في مكان أمين!
الزوج : وما الداعي إلى حفظها؟ … لقد كانت متروكةً في جيبي! … وكان الواجب أن أمزِّقها!
الزوجة : ولماذا تمزِّقها؟ كان الواجب أن ترسِلها إلى مَن كتبتَها لها!
الزوج : وقد أرسلت … أعني … هذه في الحقيقة مُسودات!
الزوجة : حسنًا فعلت … أن تكون معها حريصًا على كل هذه العناية! … فأنت قَلَّما تلجأ إلى التسويد في كتاباتك!
الزوج : المسألة لها أصل!
الزوجة : هذا أيضًا أمرٌ محمود منك … أن يكون لها أصل، تحتفظ به دائمًا ذِكرى جميلة باقية … وترسِل إليها هي صورة مُبيَّضة مُنمَّقة!
الزوج : هذا حدَث بالفعل … ولكن …
الزوجة : التسويد والتبييض في هذه الخطابات فكرةٌ طارئة عليك؛ لأنك لم ترسِل إليَّ أيامَ خِطبتنا غير التسويد، فيما أعتقد! … فكانت الأسطُر مليئةً بالشطب، والخطُّ مبعثَرًا مهمَلًا؛ كنَبْش الفراخ في التراب، والأفكار تُعاد وتُكرَّر كأنها صادرة عن أسطوانة «فونوغراف» خَرِب! … والعواطف تُردَّد بألفاظها ونَصِّها كأنها أنشودة في مِنقار ببغاء!
الزوج : عجبًا! … ألستِ أنتِ القائلة إن عواطفي كانت صادقة، وإنكِ ستعيشين العُمر تردِّدين عِبارتي المأثورة، التي قلتها فيكِ … «عزيزتي … لقد جدَل القدَرُ من أشعة الخُلْد ذلك الحبلَ الذي سيربطني بكِ طول الأبد!»
الزوجة : يا لكَ من زوجٍ ضعيفِ الذاكرة!
الزوج : أنا؟ … وكيف ألقيتُ عليكِ هذه العبارةَ الآن من ذاكرتي؟!
الزوجة : ليس من ذاكرتك البعيدة، ولكن من هذه المُسودات القريبة العهد!
الزوج : كيف تقولين إذن إنكِ لم تَقرئي هذه الخطابات؟
الزوجة : أرأيت؟ … لقد قلتَ لامرأة أخرى ما سبَق أن قلتَه لي! … وردَّدتَ العبارةَ بألفاظها ونَصِّها، وأسمعتَها لغيري ولم يمضِ على «طول الأبد» الذي وصفتَه أكثرُ من عامَين!
الزوج : يا لي من زوجٍ أحمق! … كان يجب أن أفهم أنَّ ذلك مستحيل!
الزوجة : ما هو ذلك المستحيل؟
الزوج : أن تَعثرَ زوجة على خطابات في جيوب زوجها ولا تقرأَها!
الزوجة : خصوصًا إذا كانت متوَّجة بكلمة «عزيزتي»!
الزوج : ولماذا كذبتِ عليَّ وزعمتِ أنكِ لم تقرئيها؟
الزوجة : لأهوِّن عليكَ موقف الحرَج! … وأجنِّبك وقْعَ الخجَل! … وأجعلك تعيش لحظةً في تأنيب ضميرك، وهي أقسى من أن تعيش لحظاتٍ في تأنيب لساني!
الزوج : إني لم أفعل شيئًا أستحقُّ عليه تأنيبَ ضميري أو لسانك!
الزوجة : لكَ أن تُصرَّ على ذلك … فأنا لستُ لك قاضية، إنما أنا لك زوجة … وإذا وقف زوجٌ في ساحات المحاكم يَرزح تحت أثقال الأدلة وهو يصيح: «إني بريء!» فعلى الزوجة أن تصيح معه في وجه القرائن والبراهين: «هو بريء!» … ذلك واجبها!
الزوج : إنكِ تزيدين في همِّي بهذا الكلام.
الزوجة : وأنت تخفِّف من مهمتي بهذا الاعتراف … أفرِغْ همومَك بين يدي، وأنا أعرف كيف أعالجك … هذا أيضًا واجبي!
الزوج : ماذا أقول؟
الزوجة : قُل الحقيقة!
الزوج : أتظنين من السهل قول الحقيقة في كل الأحيان؟
الزوجة : ليس لكل إنسان … هذا صحيح … ولكن ثِق أني من ذلك النوع من الإنسان الذي تستطيع أن تقول له الحقيقةَ دُونَ أن تخشى شيئًا … فإنك لن تواجهني بجديد، ولم تصدمني بما لم أتوقَّع … وكل ذنوبك عندي يمكِن أن تُغتفر! … وكل ما تحدِثه في قلبي من جِراح يمكِن أن يُضمد، فلا تكتم عني الحقيقة خوفًا من أن تؤلمني! … ثِق أن هذا يضاعِف ألمي … إن الراحة الكبرى عندي في صفاء الحقيقة! … والعذاب الأكبر في ضباب الإخفاء والكتمان!
الزوج : إذن أقول لكِ الحقيقةَ لأريحك!
الزوجة : قُل!
الزوج : لي صديقٌ قديم لا تعرفينه، من رجال الأعمال، فيه كل المزايا التي تحبِّبه إلى المرأة إلا مَزِيَّة واحدة؛ هي أنه لا يعرف كيف يخاطب امرأة، ولا كيف يكتب إليها … إنه لم يقرأ في حياته كتابًا … ولم يمسِك بالقلم إلا ليَخطَّ أرقامًا أو يوقِّع عقودًا … خطب أخيرًا فتاة مثقَّفة من الإسكندرية … حالَت أعماله في القاهرة دونَ رؤيتها في كل حين … فاضطرَّ المسكين إلى مُكاتَبتها … وهو على ما وصفتُ لكِ من الجهل بالكتابة إلى النساء! … وكانت لسُوء حظِّه ممَّن لا يقنعْنَ بالأسلوب المبتذَل … لقد كانت تريد منه تعبيرًا جميلًا عن عواطفه نحوها … وهذا كما تعلمين حقُّ كلِّ فتاة في عهد الخِطبة، التي تَعدُّها أروعَ عهودها، وأهنأ أيامها! … فلجأ إليَّ هذا الصديقُ يخبرني بمِحنته، ويسألني كيف أُخرِجه من ورطته … ثم انتهى الأمر بأنْ رجا مني أن أكتب له هذه الخطابات، وأن أُمْليها عليه، ليُبيِّضها بخطِّه ويرسِلها إليها … وأوصاني أن أُؤَجِّج له خطاباته بالعاطفة الصادقة، وأن أُلهِبها بالشعور الحي … فلم أرَ خيرًا من أن أقتبِس له ممَّا كنتُ أكتبه إليكِ أيامَ خِطبتنا … فما زال — ولله الحمد — في رأسي الكثير من عباراتها الجميلة. تلك هي الحقيقة مجرَّدة، كما وُلِدت … أعرضها بين يدَيك!
الزوجة : الحقيقة؟!
الزوج : نعم … وأقسِم لك.
الزوجة : لا تُقسِم! … لا تُقسِم!
الزوج : إنكِ ترتابين!
الزوجة : إنكَ لم تفهمني! … لو علمت كيف تقسو عليَّ بهذه الخطة التي تنتهجها؟! … إن الطفل وحْدَه هو الذي تريحه الحكايات المخترَعة، فينام عليها … أمَّا أنا فقد أكَّدتُ لكَ أن راحتي الكبرى هي في صفاء الحقيقة!
الزوج : هذا ما كنت أتوقَّعه!
الزوجة : بماذا تهمس؟ … يا زوجي العزيز! … لا تكتم عني شيئًا! … أتوسَّل إليك! … لا تذلَّ كبريائي! … لا تشكَّ في قوَّة صمودي واحتمالي! … إن إخفاءك الحقيقة عني يعذِّبني … إنك تعذِّبني!
الزوج : لا حول ولا قوة إلا بالله!
الزوجة : تكلَّم! … لا تصمت هكذا!
الزوج : ماذا أقول يا ربي؟! … قلت لكِ الحقيقةَ فلم تصدِّقيها!
الزوجة : إني أعرف خيالك! … هذا الخيال القدير على الاختراع … ولكني أريد منك الحقيقة … الحقيقة كما وقعت!
الزوج : كما وقعت في وَهْمك أنتِ … تلك هي الحقيقة التي تريدينها … الحقيقة التي أنبتَتها الغيرة في ذهنك! … صحَّ ما توقَّعت: «ليس من السهل قولُ الحقيقة في كل الأحيان!» … لأنها ستُقابَل كما يُقابَل المسيح الدجَّال!
الزوجة : بل لقد استقرَّ في وهمكم، أنتم أيها الرجال، أن الحقيقة يجب أن تُخفى عن النساء … وأنه لا حياةَ زوجية بغير الكذب … وأن الأحمق فيكم هو مَن يعجز عن تلفيق أكذوبة على زوجته! … ولكني لستُ كبقية الزوجات! … إني أحب الصدق … ولا يريح نفسي غير الصدق … أتوسَّل إليك بكل عزيز عليك أن تَصدُقني الحقيقة.
الزوج : تريدين الحقيقة؟ … ولا تغضبين؟
الزوجة : أبدًا!
الزوج : إذن فاسمعي! … إنها امرأة استظرفتها منذ شهور … ولكن ما بيننا لم يكُن خطيرًا … وقد انتهى … وأظنُّكِ تلاحظين ذلك! … ولو كنتُ مشغولَ النفس بغيركِ الآن لحدَّثَتكِ به غريزتُك!
الزوجة : مَن هذه المرأة؟
الزوج : راقصة!
الزوجة : راقصة؟! … وكيف هي؟
الزوج : تافهة!
الزوجة : جميلة؟
الزوج : لا أظن … إنما هي نَزوة من نَزواتنا مَعشر الرجال، كلما ارتفعنا في أذواقنا، وسَمَوْنا في عواطفنا؛ اشتقنا في لحظاتٍ قِصار إلى الهبوط كالذباب على المَزابل والأقذار!
الزوجة : أحببتَها؟!
الزوج : أهذا معقول؟
الزوجة : وهذه الخطابات كانت لها؟
الزوج : أف! … ما آخِرة هذا التحقيق؟ … قلتِ لي إنكِ لستِ قاضية! … فإذا بكِ الآن نائبةٌ عمومية!
الزوجة : لن أسألك بعد الآن شيئًا!
الزوج : استرحتِ الآن؟
الزوجة : استرحتُ!
الزوج : ألن نفتح هذا الموضوعَ بعد اليوم؟
الزوجة : لا.
الزوج : ابتسِمي إذن.
الزوجة : ها أنا ذي أبتسم!
الزوج : ابتسامة حقيقية من فضلك … لا ملفَّقة ولا متكلَّفة!
الزوجة : أتعتقد أني أستطيع التلفيق في الابتسام؟
الزوج : لستُ أدري … قَلَّما يمكِنني التمييز بين الصدق والكذب في ابتسامتك!
الزوجة : وأنا كذلك.
الزوج : يا لَلعجب! في أيِّ جوٍّ نعيش نحن معًا في هذا البيت؟!
الزوجة : ثِق أني لا أشكو من شيء … ولكني أعيش لحظات وأنت تتكلم أُسائِل نفسي: هل أصدق أو لا أصدق؟
الزوج : وأنا أعيش لحظاتٍ أراقب فيها نظراتك وبسماتك وأتساءل: «هل صدقَت أو لم تصدق؟»
الزوجة : إني مستعدَّة أن أعاونك على إيجادِ حلٍّ لما نحن فيه!
الزوج : لا حلَّ هنا لك! … لأن هذا موجود في كل أسرة! … إنه عنصر من عناصر الجوِّ الذي يخيِّم على كل بيت … كعنصر «الهيدروجين» في جوِّ الأرض! … منذ أن شيَّد «آدم» و«حواء» بيتهما الأول، و«حواء» تعتقد أن «آدم» يُخفي عنها شيئًا … كلُّ زوجة تعتقد أو اعتقدَت في وقتٍ من الأوقات أن زوجها يُخفي عنها رسالة أو صورة أو عاطفة أو مالًا أو خبرًا! … ولن ينفع في كل الأحيان كشفُ الحقيقة العارية؛ لأنها تنقلب في نظر الزوجة كذبًا … يحتاج في علاجه إلى كذبٍ في ثوبِ حقيقة!
الزوجة : هل تظن ذلك؟
الزوج : بل أُومِن! … ماذا تصدِّقين وتفضِّلين؟! … ثعلبًا مسلوخًا، أو فروًا منسوبًا إلى ثعلب؟!
الزوجة : الفرو بالطبع!
الزوج : اتفقنا … دَعكِ إذن من الحقيقة، فهي هُراء! … وَلْنقصر اهتمامَنا على «الواقع» … أتَذكُرين البارحة عندما ذهبنا معًا إلى «السينما» … وشاهَدْنا تلك الرواية المؤثِّرة التي أسالت من عينَيكِ الدموع؟ … ماذا قلتُ لك؟
الزوجة : قلتَ لي: «يا لكِ من عبيطة! … تبكين؟ … أَوَتحسبين ما حدث في الرواية حقيقة؟!»
الزوج : وماذا كان جوابُك؟
الزوجة : أجبتُك: «ليس يهمُّني أن يكون ما حدَث في الرواية حقيقة أو خيالًا … إنما الذي يهمُّني هو ما وقَع لي بالفعل من التأثُّر والانفعال»!
الزوج : نعم … هذا هو المهمُّ حقًّا … أثَرُ الأشياء في أنفُسنا نحن … نبضات قلوبنا هي وحدها المقياس! … ما شعوركِ نحوي الآن؟
الزوجة : هو عين شعوري نحو رواية البارحة … لم يَعُد يهمُّني حقيقتك أو خيالك … ولكني برغم ذلك …
الزوج : تدمعين وتصفِّقين! … تلك هي الرواية الناجحة!
الزوجة : يُخيَّل إليَّ أني اهتديت إلى الحل الذي كنَّا نبحث عنه الساعة … إن الحياة الزوجية الناجحة …
الزوج : أصبتِ يا عزيزتي! … يجب أن تُبنى على أساس الرواية السينمائية الناجحة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤