منقبة الشيخ: وشي على سيرة إدمون عمران المليح

هناك ما يغري دائما في الكتابة، ويكون مبعث ريبة؛ لأنها لا تتحقق فعلًا إلا بدافع توريط، ولتتحول بعد انفضاض القراء عن نصها إلى ورطة. ورطة في عالم سحري ومركب في آن، اسمه الكتابة دائمًا.

لم يكن هذا النص ليوجد لولا ضيافة الجمعية المغربية للدراسات المغاربية والمقارنة، هي التي نصبت لي الورطة الأولى. فيما الثانية منحاها أطول، تركبت من حضوري منذ وقت وخيوطها أعقد، ما دامت قد ترتبت عن حضوري منذ وقت طويل في محراب المحبة والألفة، وبعدها الإفادة والمتعة من الأديب اللوذعي، الكاتب النحرير، والمغربي المخلص لتاريخ وكفاح ومبادئ أمته الشيخ إدمون عمران المليح، أطال الله في عمره، وأمدنا بمزيد من قبسات نوره وفيض خاطره، يتجددان في الحلقة الدراسية المنعقدة اليوم بالمعهد الجامعي للبحث العلمي؛ حيث سيتولى مريدو الشيخ ذكر مناقبه، والغوص في بحر سريرته والنهل من علمه وأدبه لاستخراج ما فيها من درر، والتيمن بهاتيك الغرر … فكان لنا في ذلك المجلس هذا الذكر، في يوم أمر الله فيه بالسقيا، هطل فيه المطر مدرارًا بعد صيف عطش طويل، والله يرزق من عباده من يشاء.

لا تعجبوا أن مطلع هذا النهار ماء.
لا تعجبوا.
إن روح هذا الرجل — شيخنا — رواء.
والرواء ساقية وسقيا،
والسقيا سبيل،
بل سلسبيل. تسلم اللسان إلى الشفاه،
الشفاه مشافهة هو يحبها،
يحب الكلم الطليق، سلسًا كالهواء.

أما الكتابة فهي، نوعا مًا، سجن الكلمات، لما تمور به الذات. لكن لا مناص؛ لذا سأتخفف من هذا القيد مداورة، مجيلًا كلامي في بستان الكلام، أدير الطرف في عيون الأنام، ومنهم إلى مدار الاستفهام، من يدري فلعله يسعف في هذا المقام:

كان ابن خلدون — بحكم معتقداته، مذهبيته، ومنحى زمانه — يبحث في الكتابة عن جلب المنفعة، درءًا للمفاسد. أما أنا فعلاقتي بزماني، والحق أقول، بكل الأزمنة، ما سبق، ما أنا فيه، وما لن أمتد إليه؛ فإني لا أبغي سوى شيء واحد، هو تبديد أي وهم بمنفعة الكتابة، وبالحاجة المطلوبة أو المبتغاة زعمًا من ورائها.

يعود ذلك إلى سبب بسيط، هو أنني لا أعرف بدقة لا ما هي الكتابة، ولا من هو الكاتب. ولا أكف أستغرب كيف لا يضجر عدد من الصحفيين المضجرين، ومن يواليهم من «الكتاب» المعقمين، من طرح أسئلة حول المفاهيم والمعاني المفترضة للكتابة ولدور الكاتب، وما إلى هذا من أسئلة ينشغل بها بعض وبعض لأسباب شتى، وأخرى لا طائل من ذكرها.

يا لضياع العمر كيف قضيت العمر أيها الشيخ المليح … كيف أمضيت عمري … فلا نلنا المنى ولا عرفنا أين تقع الذروات التي صنعنا وأسلسنا الجبال للغفلين كي تسنموها، ونحن ننظر إليها ونضحك، بل نقهقه، ذلك أننا كنا، ثم صرنا، منذ البدء منال المنى، ثم منذئذٍ نذخر الماء ونصنع الموج من أجل أن ينتشر البحر، وأن تفيض الكتابة، آه، عساها تشرح خاطر اليابسة: «ألم نشرح لك صدرك …»

وحدتي الآن هائلة.
هائلة هي وحدتي.
فهل تصلح لي حقًّا؟
وهل تصلح لي مكانًا للإقامة؟
أم هي لي وبعدي،
نذر ووعد بالقيامة؟
أمشي، وأمشي، الفراغ لي ظل وصراط.
لم أكن قد ضربت أي موعد معها،
— أعني وحدتي —
فهي دومًا بانتظاري حيث تراني.
أراه، ألتمس الطريق إلى ذراها.
شاسعة خطاه.
له البداية والولاية وشعاع المنتهى.
ستكلمه، ستدثره،
دائمًا هي وحدتي.
أراهما معًا يمضيان صوب المتاه.

•••

أريد.
أريد أن. لا كما يعبث النزقون بالكلمات،
هنا، هناك، تتدلى عنقود هراء.
لا أعرف بالضبط كيف أصنع قول إرادتي،
لا أعلم كيف له أن يتشكل.
هيهات لي. كيف أرسله.
ها أنا ذا أمامي قول.
شاخصًا يواجهني القول، يصافحني.
قول آخر ينبع مني، دومًا يتقدمني.
ومثل نبع فوار يتضاعف متكاثرًا بي.
أدعه يختلط بحركاتي وسكناتي. سيد في يقظتي وهو لا يكف يستدرجني إلى وسن حالم. غاوٍ وكذوب، فألمحه، القول، يتلألأ، ويتراقص، ولا أقبض إلا على نثار زبد Les embruns.

هو الذي لم يقبض في الحقيقة إلا على لسانه، ولا أحكم سنن الغواية له. يقولون خطلًا إنه بلغ مدرك الكتابة متأخرًا، وهو، طبعًا، كلام اعتباطي، محكوم بأعمار البشر العادية، لكن لا أحد راقب ولا ترصد للمسير السري في الليالي الخفية، ولا كابد ألق النجوم أو ماس في سمت الأطياف، تلك التي أحاطت الشيخ المليح بهالتها.

هو الذي اختار أن يترك جسده يمشي بين الناس في المدن المألوفة، والأحياء المغمورة، والمسالك المطروقة، حتى صدق الناس بالفطرة أنه أهل مثلهم، واحد منهم طرًّا، مطلقًا. أوَليس ينام، يستيقظ، يحادث الجيران والأصفياء، يهيئ طويجنات لا ألذ … يعلم التلاميذ، يحب الوطن، يناضل من أجل مثال … يتخلى عن بعضه ويفضل أن يتوارى، ويهاجر من أجل مثال، أيضًا.

لكن الجسد الآخر، ذا الشكل الهيولى، القادم من خارج، المتورم بنتوءات الخرائط المهشمة، المفخخ بألغام ذاكرة وثابة، المقرح بأشجان الوقت من داخل — والحزن أبدًا غدير في الروح يسري، آه! — كان قد اختار صاحبه كليمًا إلى نفسه، يلتقط منه ذبذبات الوجود المتصاعدة، واندثارات الفناء المتعاقبة، مؤلفًا بينها، بكلمات منكفئة، أي الجذور والأعماق سماؤها؛ مؤلفًا موسيقى لا يسمعها إلا من أدمن الصمت الهادر لعالم مضى، من حيث هو قادم.

لذلك لم أمل لقول العامة والعادة: إن الرجل جاء إلى الكتابة أو طرقت بابه متأخرًا. يقيني أن الرجل كتب بدأب، بصمت المتأمل لا بثرثرة متحذلقين لم يسعفهم «تقدمهم» في الكتابة دائمًا. أما هو فيظهر متخوفًا، القلق ديدنه، لا جبنًا أو عجزًا، متقدمًا كثيرًا عن من سبقوه، ولم يدركوا تخوم الكتابة مثله. ومن علٍ يطل على نفسه لا عليهم. تطل الرواية من عرين كمونها الطويل، على تاريخ جنس أدبي لتجنسه. كأنما تفصح عن أبجديتها الأولى، وعلى وجدان جماعي يتسلسل في عذوبة وشجن ومن سريرة. فما إن يحاول التماهي أو الإقامة حتى نراه قد تشظى في السيرورة الوجودية والتاريخية لشعب هو منه فما يلبث أن يغربه … لغة تجري في دمه ولا يقولها … ولمصير يتبدد أو تأرجح بين مصائر.

أما على صعيد كتابتك الخالصة فلا حرج أكبر من من الحديث عن تجربة المليح في الرواية والسيرة الذاتية، لو صح تسميتهما حسب المألوف، بتجزئتهما من كتاب إلى آخر، وبإخضاعهما لأي تصنيف حسب الطلب والسند. وهي على الأغلب سيرة كتابة متصلة، متواشجة، ومتصارعة، متشظية في آن. ولقد تبدى لي بعد طول تدبر ومكابدة، وبكامل تواضع المؤمن بما يفعل، حد الزهد عنه، أن أعظم كتاب ممكن إبداعه أو نسجه على الأصح متقدم على صاحبه في شكل سيرة الغياب، فتراه يلاحقه ويواجده فلا يطوله إلا في وهم كتابته المنفلتة منه، تروم كمالها في خوف صاحبها من فنائه وهوسه إلى استمرار اكتماله، ذاتًا ووجودًا وافتتانًا إلى ما لا نهاية، فأي عذاب هذا، وأي وهم جميل مهما يكن الأمر.

ولعمري، فانخراطك في هذا المعنى، إحساسك الدائم برهبة الكلام، بإعجاز القول حد ندرته المعجزة والرسولية، ليجعلني قريبًا منك أكاد أراني في بلور روحك، أسمعني في خرير ضحكتك، أكاد تنوب عن توأمة سرية وهبها المجاز نيابة بدوره عن الطبيعة.

وبعد، يا صديقي، وشقيق روحي، فقد علمتنا لغتنا وثقافتنا العربية أن البلاغة هي أن يطابق الكلام مقتضى الحال، وأن كلام العرب واسع، وأن لكل مقام مقالًا يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة … وها أنا ذا في حضرتك أيها الشيخ المهيب أحس برعشة في قلبي، بعد ارتعاش يدي، وبلساني ارتد إلى جوفي، ووالله ما هو عيٌّ ولا عياء، ولكن …

لكنها وحدتي الآن هائلة،
ربما لا يضاهيها سوى قامة إدمون الهائلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤