تقديم

في تقديم كتابي هذا عن أبي بكر الصديق، أقولُ ما قلتُه في «عبقرية محمد» و«عبقرية عمر» وكلِّ كتاب من هذا القبيل، وفحواه أنني لا أكتبُ ترجمة للصديق رضي الله عنه، ولا أكتب تاريخًا لخلافته وحوادث عصره، ولا أعنَى بالوقائع من حيث هي وقائع، ولا بالأخبار من حيث هي أخبار، فهذه موضوعات لم أقصدها، ولم أذكر في عناوين الكتب ما يعد القارئ بها ويوجه استطلاعه إليها، ولكنما قصدت أن أرسم للصديق صورة نفسية، تعرفنا به وتجلو لنا خلائقه وبواعثَ أعمالهِ، كما تجلو الصورة ملامحَ مَن تراه بالعين. فلا تعنينا الوقائع والأخبار إلا بمقدار ما تؤدي أداءها في هذا المقصد الذي لا مقصد لنا غيره، وهي قد تكبر أو تصغر، فلا يهمنا منها الكبرُ أو الصغر إلا بذلك المقدار، ولعل حادثًا صغيرًا يستحق منا التقديم على أكبر الحوادث إذا كانت فيه دلالة نفسية أكبر من دلالته، ولمحة مصورة أظهر من لمحته. بل لعل كلمةً من الكلمات الموجزة التي تجيء عرضًا في بعض المناسبات تتقدم لهذا السبب على الحوادث كبيرها وصغيرها في مقياس التاريخ.

ومن همنا أن تكون الصورة صادقةً كلَّ الصدق في جملتها وتفصيلها … فليس من غرضنا التجميل الذي يخرج بالصورة عن حقيقتها، ولسنا نريد أن يطلع القارئ على تلك الصورة، فلا يعرفها ولا يعرف أبا بكر منها، ولكن تجميل الصورة شيء، وتوقير صاحبها شيء آخر، فإنك إذا صورت أبا بكر ورفعت صورته مكانًا عليًّا لم تكن قد أضفت إليه جمالًا إلي جماله أو غيَّرت ملامحه النفسية بحيثُ تخفى على من يعرفها، فهذا هو التوقيرُ الذي يُخلُّ بالصورة ولا يعاب على المصور، وليس هو بالتجميل المصطنع الذي يُضِلُّ الناظرَ عن الحقيقة.

فكل فضيلة أثبتناها لأبي بكر في هذه الصفحات فهي فضيلته التي لا نزاع فيها، وكل عمل استطاعه ووصفناه بقدرته فقد استطاعه بغير جدال، وما من عَمَل لم يعمله قلنا إنه قد عمله، ولا من قدرة لم تظهر منه جعلناها من صنوف قدرته، ثم يتوسمه القارئ بعد هذا فيرى صورة مميزة بين صور العظماء من أمثاله، فهو محمود موَقَّر، وعمر بن الخطاب في صورته محمود موقر، ولكنهما مع ذلك لا يتشابهان ولا يتراءى أحدهما في ملامح الآخر، وهذا قصاراك من صدق الصورة في تمييز الرجل بين نظرائه، وفي تمثيله بما فيه وما ليس فيه.

إنك حين تعدد ثروة رجل فتقول: إنه صاحبُ عشرة بيوت، لا يلزمك بعد ذلك أن تقول: ولكنه ليس بصاحب أرض زراعية ولا أوراق مالية ولا معامل صناعية ولا مرتبات حكومية، وإذا أنت سكتَّ عن هذا قاصدًا أو غير قاصد لم يجز لأحد أن يلومك أو يظنَّ بك تعمد الإخفاء والسكوت، فحسبُك أنك ذكرت ثروته الصحيحة ولم تُضِف إليه ما ليس من ماله لتكون قد أعلمت من يريد العلم بثروته غاية ما ينبغي أن يعلم.

وكذلك الشأن في ثروات النفوس حين يحصيها المقدِّرون: تصدق إن ذكرت له ما يملك، ولا يفوتك الصدق إن فاتك أن تحصِيَ كل ما ليس له بملك، فليس هذا بغرض من أغراض الإحصاء أو التعريف.

ومذهبنا الذي نتوخاه في الكتابة عن العظماء الذين حسنت نياتهم في خدمة الإنسان أن نوفيهم حقَّهم من التوقير، وأن نرفع صورهم إلى مكان التَّجلَّةِ، وإن لم يمنعنا هذا أن نصدُقَهم الوصف والتصوير.

عبرت عن هذا المذهب شعرًا قبل ثلاثين سنة فقلت من أبيات:

لا تَلحَ ذا بأس وذا همة
على ذنوب العُصبة الغلَّب
فليس مقياسُك مقياسَهم
ولا هُمُ مثلك في المأرب
انظر إلى ما خلفوا بعدهم
من المعالي ثم لُم واعتب
من رَكِبَ الهائلَ من أمره
فعذره في ذلك المركب

ونحسب هذا المذهب في زماننا هذا أوجب مما كان في الأزمان الغابرة؛ لأن الأسباب التي تغُصُّ من وقار العظمة لم تزل تتكاثر منذ القرن الثامن عشر إلى الآن، وهي مما يحدث عفوًا في بعض الأحيان، ومما يأتي قصدًا في أحيان أخرى، وقد تفيد الإشارة إليها في اتقائها إذا كان إلى اتقائها سبيل.

بدأت هذه الأسباب بفهم سيئ للمنازعات التي شجرت بين رجال العلم ورجال الدين منذ النهضة العلمية الحديثة. فوقر في بعض الأذهان أن العلم الحديث قد ألغى ما قبله من جهود المصلحين وطلاب المعرفة الإلهية والدنيوية وخلط أناس بين دعاة الأديان الذين أخلصوا العقيدة في الإصلاح، وبين رجال الأديان الذين استغلوا العقائد، وتعمدوا إنكار الحقائق، ووقفوا بعنادهم ولجاجتهم عقبة في طريق التقدم والتهذيب.

فالمصلحون من عظماء الأديان أهل لكل تعظيم واعتراف بالجميل، لا يعيبهم أنهم سبقوا عصر العلم الحديث، بل يُزكِّيهم ذلك، ويضاعف حقهم في الثناء وعرفان الجميل، ويدل على أن الحاجة إليهم كانت أمسَّ وألزم، وأنهم كانوا في خدمتهم الإنسانية أقدرَ وأعظمَ، مع ما هو مفهوم من الفارق بين حاجة الناس إلى الدين وحاجتهم إلى العلوم. فهذه حاجة ذهنية وتلك حاجة حيوية أو روحية لا تغني فيها علوم العلماء.

ثم جاءت الديمقراطية وأساء بعض الناس فهمها، كما أساءوا فهم النزاع بين العلم والدين، فظنوا أن حرية الصغير تجعله في صف الكبير، وأن المساواة القانونية تلغي الفوارق الطبيعية، وأن الثورة على الرؤساء المستبدين معناها الثورة على كل ذي مكانة من العظماء، وهو وَهْم ظاهر البطلان ولكنه قد سرى مسراه إلى الأذهان، فكثر التطاول على كل عظمة إنسانية، وفشت بدعة الاستخفاف والزراية حتى أوشك التوقير لمن يستحق التوقير أن يعاب.

ثم جاءت الشيوعية وهي قائمة على أن الأبطال صنائع المجتمع وليسوا بأصحاب الفضل عليه، وأن تعظيم الأبطال الغابرين يصرف الناس عن عيوب النظم الاجتماعية التي أنشأت أولئك الأبطال فخدموها قاصدين مدبرين أو على غير قصد منهم وتدبير، وأفرط الشيوعيون في تلويث كل عظمة يؤدي توقيرها إلى نقض مذهبهم ومخالفة دعوتهم، حتى بلغ من سخفهم في هذا أنهم غيَّروا أبطال الروايات في مسرحيات شكسبير وأمثاله فعرضوا «هملت» على المسرح لئيمًا ماكرًا سيِّئ النية على خلاف ما صوره الشاعر؛ لأن تصوير أمير من أمراء القرون الوسطى في صورة حسنة يُخِلُّ بما قرروه عن النظم الاجتماعية والسياسية في تلك القرون.

وتكاثرت على هذا النحو أسبابُ الغض من العظماء حتى صحَّ عندنا أن العظمة في حاجة إلى ما يسمى «برد الاعتبار» في لغة القانون، فإن الإنسانية لا تعرف حقًّا من الحقوق إن لم تعرف حقَّ عظمائها، وإن الإنسانية كلَّها ليست بشيء إن كانت العظمة الإنسانية في قديمها أو حديثها ليست بشيء.

ومن ثمَّ مذهبنا في توقير العظمة مع التفرقة بين التوقير المحمود والتجميل المصطنع الذي يعيب المصور ويُضل الناظر إلى الصورة. فليس لنا أن نُثبت جمالًا غير ثابت، ولكن لنا — بل علينا — متى أثبتنا الجمال في مكانه أن نرفع الصورة إلى مقام التوقير.

قال زميلنا الباحث الفاضل الأستاذ أحمد أمين من نقده لكتاب الدكتور هيكل (باشا) في الصِّدِّيق وكتابي في «عبقرية عمر»:

… بقيت مسألة هامة كثيرًا ما اختلفت وجهة نظر الكتاب فيها، وهي أن العظيم مهما عظم له خطآت، وإلا ما كان إنسانًا، والعصمة لله وحده. فهل واجب المترجم له أن يعرض لكل ذلك في تفصيل، فيذكر كل ما لَهُ ويشيد بذكره، ويذكر خطآته وينقدها، ويعلِّم بذلك درسًا في نواحي مجده، ودرسًا آخر في مواضع خطئه، أو واجبه فقط تجلية نواحي العظمة والتأويل والدفاع الدائم عن نواحي الخطأ؟ أنا أرى أن الرأي الأول أوجب، متأسيًا بأبي بكر وعمر نفسيهما، والمؤلفان الفاضلان إلى الرأي الثاني أميل.

والواقع أننا إلى الرأي الثاني أميل كما قال زميلنا الأستاذ، ولكنه الميل الذي نُحِدُّه بما قدمناه من حدود، ونحتج له بما بيناه من أسباب.
ويخيل إلينا أن الأستاذ نفسه يستطيب هذا الميل حين قال في صدر مقاله عن الكتابين:

… إن الأوروبيين قد وجدوا من علمائهم من يشيد بعظمائهم ويستقصي نواحي مجدهم، بل قد دعتهم العصبية أحيانًا أن يتزيَّدوا في نواحي هذه العظمة، ويُعملوا الخيال في تبرير العيب وتكميل النقص تحميسًا للنفس وإثارة لطلب الكمال. أما نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدودٌ وحواجزُ حالت بين شبابنا وجمهورنا والاستفادة منهم …

فهذه السدود كثيرة في الشرق، كثيرة في العصر الحاضر حيث كان، وهي التي تُجيز لنا — بل تفرض علينا — أن نوفي العظماء حقهم من التوقير، وأن نصورهم كما خلقهم الله، ثم علينا أن نرفع الصورة حيث شئنا بعد الصدق في التصوير.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤