الفصل الثاني عشر

صُورة مُجمَلَة

قالت السيدة عائشة في وصف أبيها وقد تناوله بعضهم بما أغضبها: «… سبق إذْ ونيتم سَبْقَ الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئًا، وكهفها كهلًا، يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلم شعثها، حتى حلته قلوبها، ثم استشرى في دين الله، فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل …»

وكان نفر من المهاجرين والأنصار يتذاكرون فضائل أهل الفضل عند باب النبي عليه السلام، فخرج عليهم النبي فسألهم: فيم أنتم؟

قالوا: تتذاكر الفضائل.

فقال: «لا تقدموا على أبي بكر أحدًا؛ فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة.»

ومن قوله فيه عليه السلام: «أبو بكر خير الناس إلا أن يكون نبي.»

وقال علي رضي الله عنه في تأبينه:

… كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف: كنت كما قال رسول الله ضعيفًا في بدنك قويًّا في أمر الله، متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله، جليلًا في الأرض كبيرًا عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك …

وفي هذا الثناء كفاية إذا عمدنا إلى الثناء الذي قاله فيه عارفوه.

ولكننا في أمر أبي بكر وأمثاله نستطيع أن نتجاوز الثناء إلى مقالة الأعداء الألداء، ونحن آمنون أن نسمع فيه ما يغض من فضله وينقص شيئًا من حقه. إذ ليس على عظيم من العظماء غضاضة أن يختلف فيه مختلفون، وأن يتأول أعماله متأولون، فكل عظيم من عظماء الدنيا قيل له وقيل عليه، وحسنت نيات قوم نحوه وساءت نيات آخرين، فليس هذا بضائره، وليس هذا بعجيب، وإنما الميزان العادل في الحكم له أن عليه دليل القائل وليس مقال القائل، فلمن شاء أن يزعم ما يشاء فيمن يشاء، ولكنه لا يوضع في الميزان إلا بدليل تؤيده الوقائع والأعمال، فهذا الذي يحسب من مقال القائلين ومن خلاف المختلفين.

فليست فضيلة أبي بكر أنه ظفر من الناس جميعًا بالثناء الذي لا معقب عليه، إذ ليس هذا بممكن وليس هذا بمعقول ولا بمطلوب.

وإنما فضيلته أنه قد ظفر بالثناء ممن في ثنائه صدق، ولثنائه قيمة، وأن خلاف المخالفين لم يقم قط على دليل، ولم يأت قط من أناس يحسنون ما يقولون.

وكل حكم على أبي بكر مؤيد بدليل معتمد على واقع، فهو مصور له في صورة عامة واحدة لا شك فيها، وهي صورة أمين، وأكثر من أمين؛ لأنه لم يتهم قط بخيانة في الجاهلية أو الإسلام.

وأكثر من الأمين؛ لأن الأمين هو الذي يعطي حق غيره، فأما الذي يعطي الأمانة يزيد عليها، أو يعطي حق غيره، ويعطي من حقه الذي لا يطلب منه، فذلك هو المفضل الذي جاوز قدر الأمانة، فهو أكثر من أمين.

وكان أبو بكر يؤدي الأمانات في الجاهلية ويزيد عليها من عنده فضل المفضل، وإحسان المحسن، وإغاثة المغيث.

ثم تسلم الأمانة الكبرى بعد الخلافة، فترك الدنيا وقد أداها كما هي وزاد عليها.

ولسنا غالين في المجاز حين نقول: إنه صنع مثل ذلك في أمانة الخلق أو أمانة الحياة، فمات خيرًا مما ولد، ونشأ ضعيفًا في بدنه كما قال رسول الله ، فإذا هو يستمد من قوة باطنه لقوة ظاهره ويلقي من مروءته على مَرآه، حتى أنشأ من نفسه ما لم ينشأ من بدنه، وبلغ من المهابة بالقوة التي زادها على تكوينه الظاهر فوق ما يؤتاه أمثاله في أمثال هذا التكوين.

للناس أن يعطوه وهم على ثقة أن يستردوا ما أعطوه وزيادة، وللحياة أن تعطيه وهي على ثقة ألا ينقص عطاؤها، وألا يزال معه في ازدياد، وعلى كل أمانة عنده كائنًا ما كان معطيها حق مصون، ومزيد مضمون.

صورته المجملة أنه الأمين وأكثر من الأمين.

الأمين في الصداقة، والأمين في الحكومة، والأمين في السيرة، والأمين في المال، والأمين في الإيمان، ثم هو في كل أولئك أكثر من الأمين.

عصمته العواصم من فتنة الغواية فولد كريمًا تعنيه العزة بين الأقوياء، ولا يعنيه الطغيان على الضعفاء.

وكبر وليس له مأرب في سيادة باغية، ولا في صولة دائمة على من لا يريدها ولا يطمئن إليها.

وكبر في تكوينه حدة الشعور وحماسة اليقين، وسليقة الإعجاب، وعصمة المروءة والوقار.

وكبر وكل فضيلة فيه تكبر إلى آمادها، فلما مات كان أكبر ما كان، وأكبر ما يتأتى أن يكون.

مات وهو صاحب الدعوة الثانية في الإسلام، فكان الثاني حقًّا بعد النبي عليه السلام في كل شيء من قبول الإسلام إلى ولاية أمر الإسلام إلى تجديد دعوة الإسلام، بعد أن نقضت الردة دعوته الأولى وأوشكت أن ترجع بها إلى الجاهلية الجهلاء.

ثاني اثنين، وأول مقتدٍ، وأول مجيب.

ذلك موضعه في تلك الدعوة الإنسانية التي نشأت في أمة واحدة ثم غيرت ما بعدها في جميع الأمم، سواء منها من علم بها ومن لم يعلم، وهي دعوة صديقه وصفيِّه ونبيه محمد صلوات الله عليه.

•••

قيل: إنه مات بالسم في أكلة أكلها قبل عام من وفاته، وليس لهذا القول مرجع يميل الباحث إلى تصديقه.

وقيل: إنه مات بالحمى؛ لأنه استحم في يوم بارد، وقد مات في شهر قائظ، كما يظهر من مضاهاة الشهور العربية على الشهور الشمسية، فليس لهذا القول سند صحيح.

وأغلب الظن أنها حمى المستنقعات (الملاريا) التي أصيب بها بعد الهجرة إلى المدينة، ثم عاودته في أوانها مرة أخرى وهو شيخ ضعيف، فجددت الإصابة الثانية عقابيل الإصابة الأولى، وانتهت حياة بلغت نهايتها في حيز الجسد، وفي حيز المجد، وفي حيز التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤