الفصل الثاني

الصدِّيق الأوَّل والخليفةُ الأوَّل

في رواية من أشهر الروايات عن مرض النبي أن مُؤَذِّنه بلالا جاءه يومًا، وقد اشتد به المرض فقال عليه السلام: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس.

قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسِيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس. فلو أمرت عمر؟

فقال عليه السلام مرة أخرى: مروا أبا بكر فليصل بالناس.

فعادت عائشة تقول لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس. فلو أمرت عمر؟

فأعادت حفصة ما قالته لها عائشة.

وضجر عليه السلام من هذه المراجعة؛ فقال: إنَّكُنَّ أنتنَّ صواحب يوسف. ثم قال لثالث مرة: مروا أبا بكر فليصل بالناس.

وروى عبد الله بن زمعة أنه خرج من عند النبي، فإذا عمر في المسجد وأبو بكر غائب. فقال: يا عمر. قم فصل بالناس. فتقدَّم فكَبَّر، وكان رجلًا مجهرًا، فلما سمع رسول الله صوته سأل: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون.

ولام عمر عبد الله بن زمعة قائلًا: ويحك! ما صنعتَ بي يا ابن زمعة؟ والله ما ظننتُ حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرك بذلك. ولولا ذلك ما صلَّيت بالناس.

قال ابن زمعة: والله ما أمرني رسول الله بشيء، ولكني حين لم أرَ أبا بكر رأيتُك أحقَّ مَن حضر بالصلاة بالناس.

وموضع العجب في هذه الرواية تردد السيدة عائشة رضي الله عنها في تبليغ أمر النبي بإقامة أبيها مقامه في الصلاة، وقد تكرر الأمر أكثر من مرة.

فهذا التردد عجيب من وجوه: عجيب أن تتردد في تبليغ أمر محمد عليه السلام، وهو الزوج المحبوب والنبي المطاع.

وعجيب أن تتردد في تبليغه، وهو تشريف لأبيها بمقام كريم تتطاول إليه الرقاب.

ويزيده عجبًا أن يحدث في شدة المرض والنبي مُجهد يطلب الراحة، وهي أشد نسائه سهرًا عليه في مرضه، وأرعاهم له بما يريحه، ويخفف الجهد عنه.

نعم، إن عائشة رضي الله عنها كانت أكثر الناس دالَّة على النبي وأجرأهم على مراجعته، والتلطف في إبلاغه ما يتَهَيَّب القوم أن يبلغوه. فلئن كانت هي أولى الناس أن تطيعه وتبلغ أمره، لقد كانت كذلك تعلم من مكانتها عنده ما يُبيح لها أن تراجعه وتأمن غضبه، لدالَّتها عليه وثقته من مضمر حبها له وامتثالها لأمره.

إلا أنها قد بلغت مكان الدالة عند رسول الله بما لها من صفات كثيرة غير الصَّباحة والجمال، وأول تلك الصفات فرط الذكاء ولطافة الحس وحسن التقدير.

وخليق بمن كانت في مثل ذكائها ولطافة حسها وحسن تقديرها أن تفطن إلى الجد في ذلك الموقف العصيب، وفي ذلك البلاغ الخطير.

وهيهات أن تتردد يومئذ عن دلال في غير موضعه، ولأسباب غير السبب الذي يمكن أن يوحي إليها ذلك التردد، ولا بدَّ له من سبب عظيم.

ولقد كان له سبب عظيم.

بل هو أعظم الأسباب التي يمكن أن توحي إليها ذلك التردد، ولولاه لما أقدمت عليه.

وما نحسب أن شيئًا حفظته الروايات التاريخية لنا عن ذكاء السيدة عائشة يدل على قوة ذلك الذكاء، كما دل عليه ترددها في ذلك الموقف العصيب.

يكفي أن نستحضر اليوم ما قيل عن الخلافة بعد النبي عليه السلام لنعلم مبلغ ذلك الذكاء العجيب في مقتبل الشباب، ونُكبر ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب، ونلتمس لها العذر الذي يجملُ بامرأة أحبها محمد ذلك الحب، وأعزها ذلك الإعزاز.

فقد قيل في الخلافة بعد النبي كثير: قيل فيها ما يخطر على بال الأكثرين، وما يخطر على بال الأقلين، وما ليس يخطر على بال أحد إلا أن يَجمَحَ به التعنت والاعتساف أغرب جماح.

قيل: إن وصول الخلافة إلى أبي بكر إنما كان مؤامرة بين عائشة وأبيها!

وقيل: إنه كان مؤامرة بين رجال ثلاثة أعانتهم عائشة على ما تآمروا فيه، بما كان لها من الحظوة عند رسول الله، وكان هؤلاء الرجال على زعم أولئك القائلين أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح، وهم الذين أسرعوا — من المهاجرين — إلى سقيفة بني ساعدة ليدركوا الأنصار قبل أن يتفقوا على اختيار أمير أو خليفة لرسول الله.

وقيل: إن هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على تعاقب الحكم واحدًا بعد واحد: أبو بكر فعمر فأبو عبيدة؛ ولهذا قال عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حيًّا لعهدت إليه؛ لأنه أمين الأمة، كما قال فيه رسول الله، وهذا زعم روَّجه بعض المستشرقين ولى بين القراء الأوروبيين كثيرًا من القبول؛ لأنه شبيه بما عهدوه في أمثال هذه المواقف من أحاديث التدبير والتمهيد وروايات التواطؤ والائتمار.

فالسيدة عائشة مسعودة الحظ لا مِرَاء؛ لأنها لم تخالف محمدًا قط في أمر خطير، وحين خالفته أو ترددت في تبليغ كلامه في أمر من أخطر الأمور، كان هذا التردد أَدَلَّ على مكانتها وفضلها وعلى استحقاقها لمنزلة الإيثار في ذلك القلب العظيم.

فهي قد ترددت لتُبرئ نفسها من القالة، وتُبرئ ذلك الموقف الخطير من المَظِنَّة، وتبرئ الخلافة من أسباب الادعاء، وقد يكون فيها إضعاف وإيذاء.

وأشهدت على نفسها أولى الناس بالشهادة في ذلك الموقف الخطير حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.

فإذا علمت حفصة أن عائشة راجعت رسول الله مرتين في تبليغ الأمر إلى أبيها أن يصلي بالناس، فقد علمت ذلك مَن هي أحق بعلمه من سائر أمهات المسلمين، إذ كان عمر رضي الله عنه أحد اثنين في حق الخلافة لا يُذكر أحدهُما إلا ذُكر الآخر، كما ظهر ذلك من واقع الأمور، أو كما ظهر من قول عبد الله بن زمعة لعمر: «حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.»

فتردد عائشة في ذلك الموقف الخطير لم يضر بل نفع، وكان أنفع من إسراعها بالتبليغ، وأول ما نفع به أنه أظهر رغبة النبي إظهارًا لا مجال للظنة فيه، فكان ذلك من أدعى دواعي الاتفاق على الاختيار وقطع السبيل على الفتنة والشقاق.

نعم إن رواية من الروايات تزعم لنا أن السيدة عائشة رضي الله عنها ترددت في التبليغ؛ لأنها أشفقت أن يتشاءم الناس برؤية أبيها في مقام يُذكرهم بالخطر على أحب الناس إليهم في ذلك المقام، وتلك سانحة يجوز أن تسنح لها وهي أشد الناس إحساسًا بذلك التشاؤم ووقعه في نفوس المسلمين. ولكننا إذا سلَّمنا أنها رضي الله عنها قد تعمدت الإبطاء في التبليغ، فالسبب الذي أومأنا إليه آنفًا أولى وأليق بالمعهود من ذكائها وخلقها الكريم؛ لأنها لا تجهد النبي في مرضه ولا تفوِّت على أبيها شرف الخلافة حذرًا من التشاؤم وحده، ثم هي لا تدعو حفصة إلى تعريض عمر لموقف تصون عنه أباها. فإن كان تعمُّدٌ للإبطاء في التبليغ فذلك السبب الذي أومأنا إليه آنفًا أحق الأسباب أن يَرجحَ على غيره لتفسير ذلك الإبطاء، فهو أدعى أن يَبطُل به العجب ولا يمتنع مع هذا أن يقترن بغيره من الأسباب.

•••

ويقل العجب من تردد السيدة عائشة كلما زاد العجب من تلك الفروض والأقاويل التي خاض فيها من خاض عن «مؤامرة» الخلافة المزعومة، وليس لها سند من التاريخ، ولا من التفكير القويم، ولا من المعهود في أخلاق الرجال والنساء الذين عُزيت إليهم تلك المؤامرة بغير بَيِّنة قاطعة ولا ظن راجح.

فليس في شيء مما رواه الرواة عن الخلافة بعد النبي عليه السلام كلمة واحدة تُرجِّح تلك الفروض والأقاويل، سواء كان قائلها ممن أسرعوا إلى بيعة الصدِّيق أو تباطئوا في بيعته، أو قضَوا حياتهم ولم يبايعوه.

وليس في شيء من خلائق أبي بكر وعمر وأبي عبيدة التي عهدها الناس منهم في حياة النبي أو بعد وفاته ما يأذن لمتوهِّم أن يتوهم فيهم التآمر على خلافته وهو بقيد الحياة، دون أن يطلعوه على جليلة أو دقيقة مما يفكرون فيه.

وليس في سيرة أبي بكر وعمر بعد أن وليا الخلافة ما ينم على طمع في السطوة، وحرص على زهو الملك يغريهما باستباحة ثقة النبي في حياته بما لا يليق. وهو عندهما بمكان من التَّجِلَّة والحب لا تتطرق إليه الشكوك ولا ترتفع إليه الشبهات.

وعلى نقيض ذلك تَدُل الحوادث والروايات التاريخية على أن الأمر قد وقع منهم جميعًا موقع المفاجأة التي لم يتدبروا فيها إلا بعد وقوعها، ولم يبرموا فيها الرأي على نحو من الأنحاء قبل اجتماع الأنصار بسقيفة بني ساعدة.

فالأقوال — أو تكاد تتفق — على أن أبا بكر لم يكن قريبًا من النبي عليه السلام يوم أمر النبي بلالًا أن يدعوه إلى الصلاة بالناس، ولو كان بينه وبين السيدة عائشة اتفاق في هذا الصدد لكان اقترابه من المسجد أو بيت النبي في تلك اللحظة لازمًا كل اللزوم لإنجاز ذلك الاتفاق، وإلا توجهت الدعوة إلى غيره وخرج الأمر من أيدي المتفقين.

وقد توفي النبي عليه السلام وليس في أصحابه الأقربين من كان يتوقع وفاته، فتركه أبو بكر بعد الصلاة وهو يقول: يا نبي الله! إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نُحب واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟

فأذن له النبي في الانصراف: وخرج أبو بكر إلى «السُّنح» حيث كان يقيم.

أما عمر فقد دهش لِنَعي النبي تلك الدهشة التي لم يكن لها على أهْبة، ولو كان على أهبة لها لقد كان الأحرى أن يؤكد الوفاة ولا يستغربها، تمهيدًا لذلك الاتفاق المزعوم الذي سيتلوها.

وبلغ أبا بكر وعمر أن الأنصار مجتمعون في سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة منهم، فخرجا إلى السقيفة على غير اتفاق بينهما أيهما الذي يخاطب القوم. فكان عمر يخشى حِدَّة أبي بكر فيهيئ في نفسه كلامًا يقوله، وكان أبو بكر يخشى حدة عمر فيستمهله ويخاطب القوم قبله، وليس في ذلك دليلُ اتفاق قديم.

وكان لقاؤهما أبا عبيدة يومئذ لقاء مصادفة في الطريق.

وجاء في رواية مشهورة أن عمر فاتح أبا عبيدة قبل ذلك فقال له: «ابسط يدك فلأبايعك. فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله.»

فقال له أبو عبيدة: ما رأيت لك فهَّةً قبلها منذ أسلمت. أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين! …

فإذا صحَّت هذه الرواية فهي تنفي ما قيل عن تفاهم هؤلاء الرجال الثلاثة على مبايعة أبي بكر وتعاقب الخلافة بعده، وقد يكون عمر فاتح أبا عبيدة عازمًا على مبايعته، أو فاتحه لاستطلاع ما عنده من الرأي والرغبة، فعلى كلتا الحالتين لا تفاهم مِن قبل على ذلك الرأي ولا اتفاق.

هكذا تلقى الصحاب الأجلاء نعي النبي، وهكذا كانوا في أثناء شدة المرض عليه، فمتى كان التفاهم المزعوم؟ أقبل أن يمرض رسول الله يعقل عاقل أن يجتمع صفوة أصحابه والمؤمنين برسالته للتآمر على وراثته واغتنام موته؟ إن جاز في عقل عاقل هذا، فمن أدراهم إذن أن القرآن الكريم لا يوحي برأي في الخلافة غير الذي رأوه؟ ومن أدراهم إذن — سلفًا — أن النبي عليه السلام يفارق هذه الدنيا، ولا يُوصِي في أمر الخلافة بوَصاة يشهدها الناس عامة وتخالف ما اتفقوا عليه؟

إن الأمر لم يكن قابلًا لأن يحصل فيه غير ما حصل، بعد حسبان كل حساب، واستقصاء كل فرض، وتمحيص كل رواية.

ولم يكن فيه اتفاق مدَبَّر على صورة من الصور، وإنما هو كما قال عمر رضي الله عنه: «إن بيعة أبي بكر كانت فَلْتة … ألا وإن الله وقى شرها.»

وما حاجة الأمر إلى تمهيد وقد كان في غنى عن التمهيد؟

لقد كان اختيار أبي بكر للخلافة «خيرة الواقع» الذي لا يحتاج إلى تدبير، بل يقاوم كل تدبير.

فمَنْ غير أبي بكر كانت تجتمع له شرائط كما اجتمعت له، وتتلاقى عنده الوجهات كما تلاقت عنده؟

كانت تجتمع له شرائط السن، والسبق إلى الإسلام، وصحبة النبي في الغار، والمودَّة المرعية بين أجِلَّاء الصحابة، ومعظمهم ممن دخلوا في الدين على يديه.

وكانت أمَارات استخلافه ظاهرة من طلائعها الأولى قبل مرض النبي عليه السلام بسنوات. فكان أول أمير للحج بعث به النبي عليه السلام وهو بالمدينة.

وكان ذلك سنة تسع من الهجرة، واتفق في طريقه أنه دعا إلى صلاة الصبح فسمع رغوة ناقة وراء ظهره، فوقف عن التكبير وقال: هذه رغوة ناقة النبي الجَدْعَاء فلعله أن يكون رسول الله فنصلي معه. فإذا علي بن أبي طالب على الناقة. فسأله أبو بكر: أمير أم رسول؟ قال: لا، بل رسول، أرسلني رسول الله ببَراءة أقرؤها على الناس.

فلما قدموا مكة قام أبو بكر فخطب الناس محدِّثًا عن المناسك، وقرأ عليٌّ سورة براءة حتى ختمها، ثم كان يوم عرفة فخطب أبو بكر وقرأ عليٌّ السورة، وهكذا حتى انتهت المناسك.

وكان قتال بين جماعة من الأوس، فذهب النبي عليه السلام يُصلح بينهم وقال لبلال: إن حضرت الصلاة ولم آت؛ فمر أبا بكر فَليُصَلِّ بالناس.

وأثبت البخاري عن جُبير بن مطعم أن امرأة أتت النبي فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئتُ فلم أجدك … كأنها تريد الموت.

قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر …

وهذه أمارات مشهودة متفق عليها، وغيرها أمارات شتى بعضها أصرح وبعضها أحوج إلى التأويل، لا ضرورة لاستقصائها؛ لأنها لا تبلغ في الجزم والتوكيد مبلغ ما قدمناه.

•••

واقترنت بتلك الأمارات جميعًا أمارات أخرى لا تقل عنها صراحة وتواترًا تدل على رغبة قوية في اجتناب كل ما يُثير العصبية، ويلبس الأمر على الجهلاء والمغرضين بين دعوة النبوة وطلب السلطان والاستعلاء.

فلا نحسب أن محمدًا عليه السلام دل بعمله وقوله ومضامين رأيه على شيء واضح مطرد كما دل على هذه الرغبة القوية، ولا ظهر منه الحرص على شيء كما ظهر حرصه على تنزيه النبوة من مطامع السيادة الدنيوية ومفاخر العصبيات.

فأبغض شيء كان إلى نفسه الكريمة قولُ من كانوا يقولون: إن النبوة تمهيد لدولة هاشمية أو وراثة دُنيوية.

ولهذا أثر عنه أنه لم يُوَلِّ أحدًا من قرابته ولاية أو عمالة في مكة والمدينة أو في غيرهما.

بل لهذا أصهر إلى أبي سفيان، واتخذ معاوية كاتبًا للوحي، وأمر يوم فتح مكة مناديًا ينادي في الناس: «… من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ليمحو من نفوس بني أمية حزازة العصبية بينهم وبين بني هاشم، ولا يدع في سرائرهم مجالًا للظن بأنها غَلَبة أسرة على أسرة، أو بطن من قريش على سائر بطونها.

وقال عليه السلام: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» ولم يقل «في بني هاشم» أو في بني عبد المطلب، ولو شاء لقال.

ولا ريب أنه عليه السلام لم يُؤثر قريشًا بالأمر يومئذ؛ لأنه يؤثر العصبية لبني قبيلته وقومه، ولكنه آثرهم للحكمة السياسية البَيِّنة التي لا يسهو عنها الهداة المسئولون عن مصائر الأمم في عصر من العصور. فقريش هم أصحاب السيادة في مكة وهي كعبة الإسلام وعاصمة الدول الإسلامية في ذلك الحين. ولن تفلح دولة يكون أهل العاصمة فيها أولَ الثائرين عليها والمنكرين لذويها.

ويغلب على اعتقادنا أنه عليه السلام ترك أمر الخلافة بغير وصية ظاهرة؛ لأنه علم أن الخلافة مُنتهية إلى مثل ما انتهت إليه، ولا سيَّما بعد تقديمه أبا بكر للصلاة بالناس.

ونص على «قريش» ولم يتجاوز ذلك؛ لأنه علم أن قريشًا تتفق على مثل ما اتفقت عليه، وأن الخلاف إنما يجيء — إن جاء — من جانب الأنصار أهل المدينة. فالحاجة ماسَّة إلى هذا التخصيص لدفع الخلاف المنظور، ومع هذا التخصيص اللازم وصية مكررة بإكرام الأنصار أوصى بها المسلمين بعده، وهي وصية معناها الواضح في هذا المقام أنه عليه السلام كان يترقب أن تَئُول الخلافة إلى المهاجرين فهم الذين تتجه إليهم الوصية بإكرام مثوى إخوانهم الأنصار، ولولا ذلك لما اتجهت الوصية لفريق منهما دون فريق.

ونقول: إن النبي علم بمصير الخلافة على الوجه الذي صارت إليه، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنه عليه السلام ترك هذه المسألة وهو يتوقع فيها الفشل والفتنة، ولم يُبرم فيها حكمًا يدفعهما به ما استطاع.

فإذا انحصرت الخلافة يومئذ في قريش؛ فهي صائرة إلى أبي بكر دون غيره ولا حاجة إلى تدبير لن يغيِّر مصير الأمور.

وإلا فكيف كانت الخلافة صائرة إلى غير ما صارت إليه وهي محصورة يومئذ في قريش؟

وإلى من كانت تصير؟

إن الذين تولوْها بعد أبي بكر من صحابة النبي هم عمر وعثمان وعلي ومعاوية. فأي هؤلاء كان أظهر حقًّا، وأقرب طريقًا، وأدنى من الصديق إلى اتفاق المسلمين عليه؟

أهو عمر؟ لقد كان أصغر من أبي بكر بنحو عشر سنين، ولم تكن له سابقة في الإسلام وفي صحبة النبي، ولم تكن ألفةُ الناس له كألفتهم لأبي بكر، وليس هو بأقوى عصبة منه بين بطون قريش، وليس هو بالذي يَشغَب على أبي بكر ويعصيه لطمع في الخلافة إذا تقدم إليها بل كان هو أول من بايعه وحثَّ الناس على بيعته. وقال له: أنت أفضل مني.

فقال أبو بكر: وأنت أقوى مني.

فعاد عمر يقول: وإن قوتي لك مع فضلك.

وكان هذا فصل الخطاب ومرجع الاختيار الذي لا تفويتَ فيه لفضل ولا قوة، ولا تضييع فيه لفرصة أبي بكر التي لا فرصة بعدها. أما عمر فله بعد ذلك فرصته حين يأتي أوانها.

أفكانت تصير إذن إلى عثمان بن عفان؟

إن عثمان رضي الله عنه أسلم على يدي أبي بكر، وقد كانت معه عصبية بني أمية وهي عصبية قوية، ولكن زعامة تلك العصبية كانت في يد أبي سفيان يومَذاك، ولا طريق له إلى الخلافة وإن طمع فيها، وتنزه عثمان مع هذا أن يركن إلى تلك العصبية ليزاحم أبا بكر في حق لا ينكره ولا يَنفسه عليه.

أفكانت تصير إذن إلى علي بن أبي طالب؟!

إنما كانت تصير إليه بحجة بني هاشم وهي الحجة التي اتقاها النبي جهده كما قدمنا، وكان بنو هاشم مع هذا لا يتفقون على اختيار واحد من رؤسائهم الثلاثة: العباس وعليٍّ وأخيه عقيل، ولم يكن عليٌّ بعد هذا وذاك قد جاوز الثلاثين إلا بسنوات قلائل، وهي عقبة من العقبات التي لا يسهل تذليلها في أمة ترعى حق السن ومكانة الشيوخ إلا بوصية ظاهرة من النبي عليه السلام. ولم تكن هناك وصية من هذا القبيل كما اتفق عليه كل سنَد وثيق.

أفكانت تصير إذن إلى معاوية بن أبي سفيان؟

ما نحسب أن معاوية نفسه قام بخلده أن يرشح نفسه لخلافة النبي في تلك الآونة. ولو توافرت له السن وتوافرت له الذرائع التي تقربه من ذلك الأمل لآثرت قريش بالمبايعة كل بطن من بطونها غير بطن بني أمية؛ لأن الخلافة في بني أمية معناها دولة بني أمية، لاستطاعتهم بالخلافة وقوة العصبية أن يفرضوا دولتهم على سائر البطون وسائر القبائل … أما الخلافة في بني تيم، رهط أبي بكر، فهي خلافة قريش كلها ومعهم جميع المسلمين، لتعذر قيام الدولة ببطن واحد من البطون الصغيرة واحتياج الحاكم إلى اتفاق هذه البطون من حوله. ويقال مثل ذلك في بني عَدِيٍّ رهط عمر، وفي سائر البطون القرشية ما عدا هاشمًا وأمية.

فإذا كان انتخاب أبي بكر للخلافة هو رأي قريش الذي محيد عنه، وهو نِيَّة النبي التي ظهرت من أعماله وإشاراته، فما الحاجة إلى التدبير بين السيدة عائشة وأبيها، أو بين الرجال الثلاثة أبي بكر وعمر وأبي عبيدة؟ ومن أين يأتي تخيل التدبير ولا موجب له من الفروض ولا من الإسناد؟

ربما كان الدليل الذي هو أقطع من كل دليل على نفي التدبير المزعوم أن تُقَدِّر أن التدبير لم يحصل قط فماذا كان يحصل بعد امتناعه، أكان يقع في مسألة الخلافة شيء غير الذي وقع؟ وما هو؟ وما حيلة التدبير في منعه؟

فإن كان الجواب أن التدبير وترك التدبير يستويان. وأن الحاجة إليه لا تخطر على بال عاقل، ففي ذلك غنى عن الأدلة الأخرى التي تنقضه وتُلقي به في مراجم الظنون والأوهام.

نظر النبي إلى ذلك كله بالبصيرة الثاقبة التي تكشف له ما لا ينكشف لغيره، فسكت بالقدر اللازم، وأشار بالقدر اللازم، وعلم أنه قد أشار بما فيه الكفاية، وأن ما زاد على ذلك فهو زيادة على الكفاية.

وما نشك لحظة في أنه عليه السلام قد أحاط بكل ما يحاط به هذه المسالة خلال مرضه وقبل مرضه، وقد اطمأن إلى كل ما يوجب الاطمئنان في تقديره، وأنه لو رأى حاجة إلى المزيد من التصريح بالقول القاطع لصرح وقطع بالقول، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنه عليه السلام يترك الإسلام والمسلمين عرضة للفشل والفتنة، ثم لا يدفع ذلك بما في وسعه. فاكتفاؤه بما صنع هو الدليل على علمه بما سيحدث واستغنائه عن المزيد من التدبير.

وقد نظر عليه السلام — ولا ريب — إلى كل ما يستحق النظر في مسألة الخلافة وهو يرشح لها أبا بكر ذلك الترشيح الأبوي الذي يؤنس بالرأي ولا يُقحمه على القلوب.

نظر إلى حق أبي بكر كما نظر إلى مصلحة المسلمين.

فحق أبي بكر في قيامه مقام النبي ظاهر، ما فيه خلاف، ولا موجب لتخطيه إلى غيره على وجه من الوجوه.

ومصلحة المسلمين في ولايته راجحة في كل حساب؛ لأن المسلمين كانوا يومئذ أحوج إلى عهد يكون امتدادًا لعهد النبي حتى يحين وقت التوسيع والتصرف، وأحوج إلى ألفة غير مخشية ولا منفوسة تعوضهم من طاعتهم للنبي بتعاونهم بينهم على النصيحة والمودة. وكل أولئك ميسور لأبي بكر قبل تيسره لغيره من جلَّة الصحابة الأقربين. فهو في حرص شديد على الاقتداء بالنبي، حرفًا حرفًا، وخطوة خطوة، لن يكون عهده إلا امتدادًا للعهد النبوي حتى تتغير الأحوال فتأذن بالتغيير، وهو في ألفته واجتماع القلوب إليه خير من يخلف الطاعة بالمودة ويعالج الفرقة والانقسام بالرفق والتؤدة، فإن جد ما يدعو إلى التصرف أو يدعو إلى الشدة؛ فهناك الأعوان المخلصون له وللدين، وهناك المشيرون الذين يُقَلِّبون الرأي على جميع الوجوه: فضله مع قُوَّتهم وقوَّته مع فضلهم، نعم العون ونعم الكفيل باجتماع أسباب الحول والحيلة، كما ألمع إلى ذلك عمر بن الخطاب.

ثم حانت الساعة التي تهيأت لها مشيئة القدر وتهيأت لها مشيئة الناس على ذلك النحو المستقيم.

فتم في يوم واحد كل ما ينبغي أن يتم في يوم.

ولاح للوهلة الأولى أن الخطر عظيم، وأنه موشك أن يعصف بكل شيء، وأن يخرج على كل سواء.

إذ اجتمع الأنصار يتحدثون بحقهم في الخلافة دون المهاجرين، وهمَّت الفتنة أن تنطلق بغير عنان في طريق لا تُعرف عقباه، ولكنها فتنة مكبوحة قُدِّر لها ألا تقوى على الانطلاق من باب السقيفة التي نَجمَت فيها.

فكان سعد بن عبادة زعيم القوم مريضًا لا تؤاتيه في ذلك اليوم حركة النفس التي لا غنى عنها في ذلك المقام؛ لأنها تعدي بالهيبة والثقة من يستمعون إليه. فحملوه من بيته إلى السقيفة وهو لا يملك زمام عزمه ولا يقدر على الكلام، فجعل يخاطبهم بلسان القريبين منه، وجعلوا يصغون إليه إصغاءهم إلى مريض يشعرون بضعفه، لا إلى زعيم يشعرون بقوته وبأسه.

وكان القوم فريقين متنافسين منذ زمن قديم، وهم الخزرج والأوس وبينهما ملاحاة دائمة تَهُون معها كل ملاحاة بين الأنصار والمهاجرين.

وكانت يقظة عمر وأصحابه أسرع من فتنة القوم. فبلغوا السقيفة في إبَّانها وعالجوا الأمر حق علاجه، وقال كل منهم كلمة كانت أنفذ من سهم وأقهر من جيش. قال أبو بكر: «إن هذا الأمر إن تولته الأوس نَفسَتْه عليهم الخزرج، وإن تولته الخزرج نفسته عليهم الأوس، ولا تدين العرب لغير هذا الحي من قريش … نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تفتاتون بمشورة، ولا تُقضَى دونكم الأمور.»

وقال عمر: «إن العرب لا تمنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم.»

وقال أبو عبيدة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر؛ فلا تكونوا أول من بدَّل وغيَّر.»

ونادى أبو بكر القوم: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوه.

فقال عمر وقال أبو عبيدة مثل مقالته: «لا والله! لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا الذي ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك.

ابسط يدك نبايعك.»

فبايعه زعيم من الأوس، بشير بن سعد، وهو يقول: «كرهت أن أنازع قومًا حقًّا جعله الله لهم.»

وقال النقيب أسَيْدُ بن حُضير: «والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم نصيبًا أبدًا فقوموا بايعوا …»

وبايع عمر وأبو عبيدة فكأنما بايع المهاجرون معهما، ولم يبق للخزرج الحاضرين عزمُ خلاف، فتزاحموا على البيعة حتى أوشكوا أن يطئوا زعيمهم المريض، وماتت الفتنة في مهدها؛ لأنها ولدت بِعلة الموت.

ولدت بعلة الموت فماتت وما اصطدمت بأكثر من ثلاثة رجال، لم يستعدوا لها بأكثر من استعداد الساعة. بل لعلهم أفلحوا في القضاء عليها؛ لأنهم كانوا أولئك الثلاثة بعينهم ولم يكونوا جمعًا حاشدًا من المهاجرين المناظرين فلاحوا للقوم هداة ينصحون ولم يلوحوا غزاة يقتحمون، وكان ذلك أدعى أن يستمعوا إليهم كما يستمعون إلى الضيف الناصح دون أن تثار فيهم نخوة الغاضب لذماره، المطروق عليه في عُقْر داره.

ولو أن سعد بن عبادة كان صحيحًا غير مريض، وكان الأنصار حزبًا واحدًا غير منقسم، وكان المهاجرون الثلاثة متخلفين عن الموعد الحاسم، أو كانوا غير أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، أو كانوا جمعًا كثيرًا يَحفزُ العداء والمقاومة، لجاز أن يتغير مجرى الأمور وأن يكون للتاريخ الإسلامي شأن غير شأنه الذي عرفناه.

ولكننا نخطئ كثيرًا إذا نسينا فضل الأنصار أنفسهم فيما صارت إليه الأمور، فقد كانت لهم فيه مشيئة مستورة إن لم نقل مشيئة ظاهرة.

كانوا على الأرجح يقضون حق المجاملة لسعد بن عبادة، ولا ينوون الزيادة أو يجدون في الكفاح لانتزاع الخلافة: كانوا مسلمين قبل كل شيء ولم يكونوا طلاب مُلك قبل كل شيء، وكانوا يحسون ما أحسه المسلمون جميعًا؛ إذ قالوا: إن النبي قد ائتمن أبا بكر على الدين بتقديمه للصلاة فكيف لا يؤتمن على الدنيا؟

وكانوا يعلمون أن المهاجرين مقدَّمون في القرآن على الأنصار: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ [التوبة: ١٠٠]. فلم يكن إيمانهم بحقهم في الخلافة إيمان مَن يغضب لفواتها ويستميت في طلبها، ولم يكن حرصهم على السلطان أشد من حرصهم على الدين ومصلحة المسلمين، ولم يكن أملهم فيها إذا نازعتهم قريش عليها بالأمل الذي يطغى على كل تفكير، فما هو إلا أن أشار بعضهم إلى منازعة المهاجرين حتى قالوا: «منا أمير ومنهم أمير» قبل أن تستفيض بينهم حجج المهاجرين. ثم تمت البيعة فلم يعودوا إلى تَمَحل الأسباب للخروج على صاحب الأمر كما يفعل كل حريص على السلطان لَجُوج فيه.

فهم ولا ريب أصحاب مشيئة فيما صارت إليه الأمور، على هذا النحو من المشيئة التي قد يجهلها صاحبها وهي حاضرة.

وهم ولا ريب إخوان يطلبون حقًّا في الإرث المشروع إن ثبت لهم حق فيه، وليسوا بأعداء ينظرون إلى أسلاب العدو ويستحقونها بالغلبة عليها، كائنة ما كانت ذريعتهم إليها من حق أو باطل.

على أنهم لو كانوا غير ذلك وكان نزاعهم إلى السلطان نزاعًا طاغيًا لا يبالون فيه بالحقوق والحرمات لبطل في هذا النزاع كل تدبير سابق لأبي بكر وصاحبيه، ولكان مآل الفتنة إلى حكم الواقع الذي لا تغني فيه الخطط السابقة ولا العظات البالغة؛ إذ قصارى التدبير من أبي بكر وصاحبيه أن يجمعوا حولهم كلمة قريش ورؤسائها وبطونها، فأما أن يخضعوا بالتدبير من لا يخضع لغير السيف، وأن يدفعوا بالاتفاق بينهم ما ليس له دافع، فذلك هو المحال بعينه، أو ذلك هو الاتفاق على أناس خارجين من نطاق الاتفاق.

وصفوة القول أن خلافة أبي بكر كانت نتيجة لكل مقدمة سبقتها من فعل الحوادث، أو من فعل أحد عامد أو غير عامد.

وغير هذه الخلافة ما كان ليكون، إلا الفتنة التي لا يجدي فيها اختيار هذا ولا اختيار ذاك. ولا يُغني فيها تدبير ولا تقدير.

ولسنا نُحب أن يُفهم من هذا أن أحدًا من كبار الصحابة كان يعاف الخلافة ولا يسره أن يختار لهذا المقام العظيم، وأن يراه الناس أهلًا للاضطلاع بعبئه الجسيم. فخلافة النبي شرف لا يأباه أحد يحبه ويعظمه ويتتبع خطاه، وأقل من هذا المقام الأسنى كان حقيقًا عند الصحابة أن يستشرفوا له، ولا يكتموا طموحهم إليه.

جاء أهل نجران إلى النبي عليه السلام فقالوا: «ابعث لنا رجلًا أمينًا.»

فقال: «لأبعثن إليكم أمينًا حق أمين» فاستشرف لها الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح.

وروى أبو بكر هذه القصة حيث قال: «قدم إلينا وفد نجران فقالوا: يا محمد ابعث لنا من يأخذ لك الحق ويُعطيناه.»

فقال: «والذي بعثني بالحق لأرسلن معكم القوي الأمين» فما تعرضت للإمارة غيرها. فرفعت رأسي لأريه نفسي، فقال: قم يا أبا عبيدة.

ولقد ساء أبا بكر بعد مبايعته الأولى أن ينقبض أناس عنه فظهر منه الاستياء حيث قال: «أيها الناس! ألست أحق الناس بها؟ ألست أول من أسلم؟»

وغير ذلك — أيضًا — لم يكن ليعقله العقل ولا بالذي يجمل بالكريم، فكل رجل كريم يسوءه أن ينقبض أناس عنه وهو جدير منهم بغير الانقباض.

ولكن الغبطة بالخلافة شيء والاحتيال لها بالحيلة والدسيسة شيء آخر، فهذا الذي نُنكره؛ لأننا لم نجد دليلًا واحدًا عليه، ووجدنا أدلة كثيرة على نقيضه.

كذلك دبر أبو بكر وأصحابه كل ما يُحمد تدبيره بعد قيامه بالخلافة لتوطيد أركانها وحماية الإسلام غوائل عصيانها والتمرد عليها، وجهدوا أن يفرقوا كل اجتماع يخشون مَغَبَّته على وحدة المسلمين؛ فاقترحوا على العباس بن عبد المطلب أن يجعلوا له نصيبًا يكون له ولعَقبه من بعده ليمنعوا الاتفاق بينه وبين علي ابن أخيه، إن سعى إليهما من يسعى إلى التأليب والتخريب، كما هَمَّ أبو سفيان أن يفعل باسم البطون القوية في قريش: بني هاشم وبني أمية، وصنع أبو بكر وأصحابه نظائر ذلك في سبيل الوحدة العربية والجماعة الإسلامية، ولكن الذي صنعوه هو التدبير الواجب الذي لا يضير، وقد يكون في تركه ضير كبير.

لقد كان أبو بكر الخليفة الأول لأنه كان الصديق الأول، ولأن شروط الخلافة التي اجتمعت له لم تجتمع لأحد غيره، وليس له من منازع فيها بين أهل عصره؛ ولأن المزايا التي قد يَرجَحه بها أنداده وقرناؤه لا تضيع على الإسلام بولايته عليهم ومعونتهم إياه.

فكان اختياره أصح اختيار عُرف في تاريخ الولاية، وكانت التوفيقات فيها غنية عن التدبير والتمهيد.

فإن لجَّ بعض المكابرين مع هذا في دعوى التدبير فأَنْعِم به تدبيرًا ينقطع به الخلاف، ويتم به أصح استخلاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤