الفصل الرابع

مفتاح شخصيته

كان أبو بكر كما رأينا رجلًا عصبي المزاج دقيق البنية، خفيف اللحم صغير التركيب.

تكوين يغلب على أصحابه أحد أمرين: إن كانوا من كرام النحيزة فهم مطبوعون على الإعجاب بالبطولة، والإيمان بالأبطال.

وإن كانوا من لئام النحيزة فهم مطبوعون على الحسد والكيد، وهما ضرب من الإعجاب المعكوس يؤدي إليه انعكاس الطبيعة، والإحساس بالعظمة في غير معاطفة بينهم وبينها ولا ارتياح إليها.

فالحسد هو إعجاب اللئيم عند شعوره بالعظمة، أو هو التحية التي يؤديها اللئيم إلى العظمة حسبما عنده من التواء وارتكاس.

ولهذا يصح أن يقال: إن أصحاب البنية الدقيقة والمزاج العصبي مطبوعون على الشعور بالعظمة على حال من الأحوال، فإن كانوا كرامًا شعروا بها مغتبطين مؤيدين، وإن كانوا لئامًا شعروا بها محنَقين مُثَبِّطين، ويندر فيهم جدًّا من يشذ عن هذه أو تلك من الخصال.

ولقد كان أبو بكر رجلًا كريمًا أليفًا من أهل الخير والمودة، فلا جرم كان الإعجاب بالبطولة طبعًا متأصلًا فيه، مقرونًا بكل ما في الإعجاب من حب وثقة وإيمان، ولا جرم كان هذا الإعجاب «مفتاحًا لشخصيته» مفسرًا لكل ما يلتبس من أعماله، مميزًا لكل ما يتشابه بينه وبين غيره من الصفات.

قلنا في كتابنا عن «عبقرية عمر»:

إنَّ مفتاح الشخصية هو الأداة الصغيرة التي تفتح لنا أبوابها، وتنفذ بنا وراء أسوارها وجدرانها، وهو كمفتاح البيت في كثير من المشابه والأغراض. فيكون البيت كالحصن المغلق ما لم تكن معك هذه الأداة الصغيرة التي قد تحملها في أصغر جيب، فإذا عالجته بها فلا حصن ولا إغلاق.

وقلنا:

وليس مفتاح البيت وصفًا ولا تمثيلًا لشكله واتساعه، وكذلك مفتاح الشخصية ليس بوصف لها ولا بتمثيل لخصائصها ومزاياها، ولكنه أداة تنفذ بك إلى داخائلها، ولا تزيد.

فشخصية الصديق لها مفتاح قريب المتناول وهو هذا المفتاح، مفتاح الإعجاب بالبطولة.

وهذا الإعجاب بالبطولة هو الوَسْم الذي يتسم به كل عمل من أعماله وكل نية من نياته، وهو السر الذي نراه كامنًا في كل رأي يرتئيه وكل قرار حاسم يستقر عليه.

والإعجاب بالبطولة في التاريخ الإنساني شيء عظيم؛ ليس بعد البطولة منزلة يشرف بها الإنسان أشرف من منزلة الإعجاب بها والركون إليها؛ لأن الفضيلتين معًا لازمتان جنبًا إلى جنب في كل أمر جليل تم في تاريخ الإنسان، وكل طور من أطوار التقدم ارتقى إليه.

وليقل أصحاب التحليل العلمي ما يشاءون.

وليقل أصحاب القياس المنطقي ما يحبون.

فشاءوا أو لم يشاءوا، وأحبوا أو لم يحبوا، لقد تم بغير التحليل العلمي وبغير القياس المنطقي كثير من العظائم في تاريخ الإنسان، ولم يتم قط — ولن يتم فيما نرى — أمر عظيم واحد بغير البطولة وبغير الإعجاب بالأبطال.

لها برهانها من الواقع كبرهان الأقيسة المنطقية والتجارب العلمية. فالرجل الذي ينهض له البرهان النفساني على الثقة ببطل من الأبطال فيثق به ويعينه على عمله ليس بالرجل الذاهب على غير هدى أو الآخذ بغير دليل. كلا، فعمله ونتيجة عمله كلاهما برهان يغنيه عن مصنع التحليل، وعن قضايا المنطق، ويغني العالم كذلك عنهما إذا نظرنا إلى العمل ثم نظرنا إلى النتيجة، ونظرنا قبل هذا وبعد هذا إلى طبائع الإنسان.

خذ لذلك مثلًا حديث الأعاجيب التي سمعها أبو بكر في أيام الدعوة المحمدية فصدقها لأنه يصدق صاحبها ويركن إليه.

هبه قد ثاب إلى معمل التحليل فقال له المعمل إنه لم يسمع بأمثال هذه الأعاجيب، وليس لديه مسبار لها يصلح للتأييد أو التفنيد.

وهبه قد ثاب إلى قضايا المنطق فقالت له: إنها لا تعرف هذه الأقيسة ولا هذه المقدمات ولا هذه البراهين.

وهبه قعد في مكانه بعد هذا وذاك؛ لأن معمل التحليل لا ينشط به إلى الحركة في هذا الطريق، ولأن قضايا المنطق لا تزجيه إلى الجهاد في هذا الميدان — أفكاسب هو إذن؟ أفعاقل هو إذن؟ أفحق ما انتهى إليه وما انتهت إليه الجزيرة العربية من جراء سكونه وإحجامه؟

إن الجزيرة العربية لا تربح شيئًا بذلك التمحيص المزعوم، وإن العالم الإنساني لا يزيد عقلًا ولا علمًا ولا تحليلًا ولا قضايا منطق بذلك الإحجام الذي استقر عليه، وإن أبا بكر لن يكون خيرًا من أبي بكر، والدنيا لن تكون خيرًا من الدنيا، والتفكير لن يكون خيرًا من التفكير، بل كلٌّ من أولئك فاقد وخاسر ومنقوص.

وقصارى ما في الأمر أن رجلًا شك فلم يعمل شيئًا، ولم يدر أحد بأنه شك ولا بأنه لم يعمل، ولم ينتفع عقل الإنسان بما كان.

أفيفهم فاهم من هذا أننا نقول: إن العمل على خطأ خير من الشك على صواب؟

كلا! … ليس هذا ما نقوله، وليس هذا ما نحن مضطرون إلى قوله بضرورة من الضرورات.

وإنما نقول: إن الشك إذن هو الخطأ، وإن برهان خطئه نفساني يقام له وزنه كما يقام الوزن للتحليل العلمي والقضايا المنطقية، وإنما الخطأ أن تحوج البطولة إلى الدخول في المعمل لتثبت لك قدرها، وتثبت لك حقها في الإعجاب، وحقها في العمل، وحقها في تحويل تاريخ الإنسان، ثم تثبت لك قدرتها عليه!

ليس المعمل محل هذا.

محل هذا نفس الإنسان.

وساءت الدنيا إن كانت نفس الإنسان لا تغنيه في تقويم النفوس، ولا سيما أعظم النفوس.

أفلا يروعني البطل إلا خلال الأنابيق والأنابيب؟

أفلا تملكني نخوة الإعجاب إلا بوثيقة من إيساغوجي؟

أفيروقني الطائر المنطلق فأعلم لِمَ يروقني، ويتراءى لي الروح العظيم فأقول: مكانك حتى أرجع على مائدة التشريح أو إلى قارورة الكيمياء؟!

ما قال ذلك قائل قط أمام روح عظيم.

والسبب واضح مستقيم.

السبب أن الروح العظيم كان قبل أن تكون مائدة تشريح وقارورة كيمياء، وأن الإنسانية ألهمت خيرًا ألا تؤجل الإعجاب بكل روح عظيم إلى أن يظهر المشرحون والمحللون.

ليظهروا «على مهلهم» ولتأخذ العظمة الروحية حقها من الإعجاب قبل إذنهم، فلا مناقضة للعلم ولا للمنطق في ذلك.

إنما المناقضة أن نعلق دوافع النفوس وبواعث الفطرة على شيء لا تتعلق به ولا تتوقف عليه، وأن نخطئ الواقع ثم نخطئ الواقع الصالح ولا سند لنا أوثق من الواقع على كل حال. ولا شفاعة عندنا أكرم من شفاعة الواقع الصالح في كل مآل.

أفيقولون: إن البديهة قد تخطئ في الإعجاب؟

قد تخطئ ولا جدال.

ولكن كذلك يخطئ العقل، وكذلك تخطئ التجربة، وكذلك تخطئ العلوم وتمضي في خطئها مئات السنين. ولم يقل أحد إن قبولها للخطأ ينفي قبولها للصواب، ولا نسي أحد أنها إذا أخطأت مرة فلها امتحان من العواقب يأبى على الخطأ أن يدوم.

على أن تمحيص القضايا المنطقية أو العلمية شيء وتمحيص الشمائل النفسية شيء آخر، وربما كانت وسائل الصديق أقل من وسائل المحللين والمشرحين في العصر الحاضر في باب القضايا المنطقية أو العلمية، أما في باب الشمائل النفسية فوسائله ليست بأقل من وسائلهم بحال، وقدرته على أن يُحس من حوله عظمة النفس الإنسانية ليست بأقل من قدرة أحد من المحللين والمشرحين.

وهو قد قال: هذه نفس عظيمة لا شك في عظمتها، فالخير في متابعتها، إن لم يكن بد من افتراق الطريق بينها وبين أعدائها.

وهو فيما قال قد أصاب.

أصاب منطقًا وأصاب علمًا وأصاب حسًّا وأصاب بكل مقياس من مقاييس الصواب.

هو فيما قال أصوب ممن يخالفه رأيًا، ولو استند إلى كل حجة من حجج التحليل والتشريح.

وهاديه فيما اهتدى إليه هو إعجابه بالبطولة.

وهو إعجابه بالبطولة التي تستحق الإعجاب؛ لأن الإعجاب طبقات تتفاوت، كما أن البطولة نفسها طبقات تتفاوت. وقد كان هو من طبقات هذا الإعجاب في أرفع مكان؛ لأنه لم يعجب ببطل تروعه منه سطوة العُتاة المتجبرين، ولم يعجب ببطل تروعه منه مظاهر الزخرف والخيلاء، ولم يعجب ببطل تروعه منه جلبة الصيت الفارغ والمواكب الجوفاء، ولم يعجب ببطل يزدهي بالوفر والثروة أو بالعُصْبة أولي القوة.

لا. لم يكن شيء من هذا هو الذي راعه من بطولة محمد عليه السلام؛ لأن محمدًا عليه السلام لم يكن ذا سطوة، بل كان عرضة للأذى من المسلطين عليه، ولم يكن من أصحاب الزخرف والخيلاء؛ بل كان أعداؤه هم أصحاب الزخرف والخيلاء. ولم يكن وراءه أحد يتبعه ولا معه مال يصل به من يصل إليه، بل كان وحيدًا يطرده الأكثرون، فقيرًا يعينه الموسرون، وأولهم أول صدِّيقيه والمقبلين عليه.

إنما البطولة التي أعجب بها أبو بكر هي البطولة التي ليس أشرف منها؛ بطولة تعرفها النفس الإنسانية، هي بطولة الحق، وبطولة الخير، بطولة الاستقامة، وهي بعد هذا، وفوق هذا، بطولة الفداء يقبل عليها من أقبل وهو عالم بما سيلقاه من عنت الأقوياء والجهلاء.

تلك هي بطولة محمد.

وذلك هو إعجاب الصديق. خير لبني آدم أن يبقى لهم هذا الإعجاب من أن يزول ويبقى بعده كل شيء، وأي شيء!

•••

ولقد أجدى ذلك الخلق الكريم أكبر جدواه؛ لأنه تهيأ له بسليقته ونشأته وتَوَشُّجِ تركيبه عليه.

فظهر منه إيمان القلب، ورويَّة الفكر، وفي سياسته العامة، وفي سياسته الخاصة، وما تشتمل عليه من أدب سلوك وعلاقة بالناس.

أحاط به أناس من المشركين يتهكمون به ساخرين عابثين: هل لك إلى صاحبك؟ إنه يزعم أنه أُسرِيَ به الليلة إلى بيت المقدس!

وكان أناس قد ارتدوا بعد إسلام لما سمعوا بحديث الإسراء ولم يتبينوه. فأما أبو بكر فما زاد على أن قال: أوَقد قال ذلك؟ لئن قال ذلك لقد صدق!

فغاظهم منه أنهم لم يبلغوا منه موقع التشكيك فيما أربى عندهم على حدود التصديق، وعادوا يسألونه: أتصدق أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن يُصبح؟

قال: نعم! إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء في غدوة أو روحة. ثم ذهب إلى النبي عليه السلام فطفق يسمع منه ويصدقه ويقول: أشهد أنك لرسول الله.

وهذا هو البرهان النفساني كما دعوناه، وهو برهان لا خلل فيه من وجهته التي يستقيم عليها، وإن لم يكن هو البرهان الذي تعوده المناطقة والعلماء.

وهنا موضع صالح للتفرقة بين هذه البراهين في ظواهرها، وللتوفيق بينها فيما تنتهي إليه من نشدان الحقيقة الكبرى: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء.

وفحوى ذلك: إني لأصدقه لأنه أهل للتصديق.

هذا هو أساس الإقناع في منطق الإعجاب والإيمان، فإن كان للمنطق أو للتجربة العلمية أساس آخر، فليس معنى ذلك أن الأساسين متناقضان متدابران، وإنما معناه أنهما نحوان مختلفان.

ولكننا إن فرضنا مع هذا أنهما قد تناقضا وتدابرا فليس الخطأ إذن في جانب الصديق، ولكنه على التحقيق في جانب العالم أو المنطيق.

إن قال العالم أو المنطيق: إنني لا أصدق حديث الإسراء ولهذا أبطل الدعوة الإسلامية وأبطل قبلها العظمة المحمدية، فهو المخطئ في برهانه، وهو الذي تعدى به حدود قياسه؛ لأنه نظر إلى المسألة في غير جانبها الذي يُنظر إليه، من حيث كان أبو بكر على صواب كل الصواب في نظرته إليها من جانبها الأوفى، أو جانبها الذي هو مناط التأييد والإنكار.

أبو بكر يأخذ النفس العظيمة مأخذًا واحدًا ويصدق الخبر فيها جملة واحدة ولا يجزئها قطعة قطعة وخبرًا خبرًا، فيبطلها كلها بخبر من أخبارها وجزء من أجزائها.

وأبو بكر ينظر إلى المسألة في أساسها فيطمئن إليها عند ذلك الأساس ويبني عليه كل ما فوقه من الإضافات والمزيدات، والمسألة في أساسها هنا هي مسألة الصلاح والفساد، ومسألة التوحيد وعبادة الأصنام.

ومسألة المقابلة بين الأخلاق الجاهلية والأخلاق التي تأمر بها الدعوة المحمدية، ومسألة الثقة بالمقاصد العظيمة والمساعي الكريمة، أو الثقة بالجهل الشائع والعادات الذميمة.

فإذا كان أبو بكر قد نظر إلى هذا الأساس فهو المصيب.

وإذا كان العالم هو والمنطيق لم ينظرا إليه فهما المخطئان، وهما المقيمان للقياس على غير أساس قويم؛ إذ كان خليقًا بهما أن ينظرا إليه ولا يغفلا عنه، وهو أولى بالتقديم والاعتبار، سواء أخذناه بالإحساس والإيمان، أو بالتجربة وبالتفكير.

تُرى لو مَثُل العالم والمنطيق والصديق أمام عرش «الحق» السرمد بعد ذلك اليوم بعشر سنين فسألهم فأجابوه كل على ما أجملنا آنفًا، فأيهم كان يسخطه وأيهم كان يرضيه؟

يمثل العالم أو المنطيق بين يدي الحق فيسأله: ماذا سمعت قبل عشر سنين؟

فيقول: سمعت من رأى أنه أُسري به من مكة إلى بيت المقدس فلم أظفر منه ببرهان.

فيسأله: فماذا صنعت بعد ذلك؟

فيقول: كذَّبته وصدقت المشركين، ثم نقضت الدعوة الإسلامية، وبقيت حتى اليوم على سنة الجاهلية.

فما يختلف اثنان إذن في الجواب الذي يلقاه ذلك العالم، أو ذلك المنطيق، ليقولن الحق له إذن: إنك أخطأت وخالفت العلم والمنطق فيما صنعت؛ لأن تلك المقدمة لا تنتهي بك إلى تلك النتيجة، وحديث الإسراء على أيِّ معنى فهمته لن يجعل النفس العظيمة لغوًا، ولن يجعل عملها العظيم مستحقًّا للإبطال.

ويمثل الصدِّيق بين يَدَى الحق فيسأله: ماذا صنعت قبل عشر سنين؟ فيقول: سمعت من رأى أنه أُسري به من مكة إلى بيت المقدس فلم أشك فيما رآه.

فيسأله: ولِم لم يخامرك الشك فيه؟

فيقول: لأنني صدقته في أمر السماء فما يكون لي أن أكذبه فيما دون ذلك.

فيسأله: فلم صدقته في أمر السماء؟

فيقول: لأنني أعتقد فيه الخير ولا أعتقد فيه السوء، ولأنني أعتقد السوء في منكريه ولا أعتقد فيهم الخير.

ليقولن الحق له إذن: إنك أصبت وتأدَّيت إلى التصديق من طريق صالح للتصديق، ووافقت المنطق والعلم أخيرًا، وإن لم تأت معهما في الطريق، وإن هذه السنين العشر لتشهد لك بصدق الوعي ولا تشهد به لمن خالفوك: أخذت في المنطق والعلم بالنتيجة ولم تبال بالمقدمة، وأخذ المخالفون إياك بالمقدمة ولم يبالوا بالنتيجة، فأنت في سبيلك أهدى وأنت إلى المنطق والعلم أقرب وأدنى.

أفيفهم فاهم من هذا أننا نَدِين بقول القائلين: «إن النجاح هو برهان الصلاح؟»

كلا! ليس هذا ما ندين به، وليس هذا بالذي يقتضيه ما قدمناه، وكل ما هنالك أننا نقرر حقيقة لا شك فيها حين نقول: إن أبا بكر كان أفهم للعظمة المحمدية ممن أنكروها؛ لأنهم شكوا في حديث الإسراء، وإن المنطق والعلم لا يقضيان بمحاربة الدعوة المحمدية كائنًا ما كان فهم الفاهمين لحديث الإسراء. فإن قال قائل: إن المنطق والعلم يقضيان بذلك فهو يظلم المنطق والعلم فيما ادعاه عليهما بغير برهان؛ وهو الذي يخالف البرهان النفساني في آن.

ولا حاجة بنا هنا إلى إلغاء البراهين العلمية أو البراهين المنطقية، وإنما حاجتنا كلها ألا تلغى البراهين النفسانية؛ لأنها قد تتناول العظائم الإنسانية في عمومها فينطوي فيها العلم والمنطق معًا، وتأتي الأيام بعد ذلك بتفصيل هذا الإجمال وتوضيح هذا الإبهام.

يقول قائل: وما مرجعنا في البراهين النفسانية؟ أنصدق كل من يدعيها؟ أنأخذ بها حيثما رأيناها؟ أندين بالإعجاب حيثما هتف هاتف بإعجاب؟ فأقرب ما عندنا من جواب أن عظمة النفوس مستحقة للإعجاب كما يستحقه جمال الوجوه.

فماذا عسانا قائلين لمن يسألنا: وما مرجعنا في جمال الوجوه؟ … ولا حاجة هنا إلى مرجع، ولا فائدة في المرجع إن وجدناه.

فجمال الوجوه لا يتوقف على مرجعه الذي نسهب أو نوجز في توضيحه … وعظمة النفوس من باب أولى قائمة في الدنيا بغير مرجعها الذي نسوقها إليه، ولا خوف عليها من قلة المراجع عندنا، فهي تأتي حين تأتي بآياتها وبراهينها، وحيثما ظهرت عظمة مُعجبة ظهر لها صديقون معجبون، وأقبل عليها مقبلون، وأعرض عنها معرضون، ولن ينفعها المرجع شيئًا إن لم يكن فيها ما يغنيها عنه.

وقد كان في وسعنا أن نجتزئ بهذا ولا نزيد عليه. ولكننا نود أن نستريح بالعقل إلى سند ما أمكننا أن نريحه. فغاية ما نستريح بالعقل إليه في هذا الصدد مأخوذ من كلام الصديق نفسه رضي الله عنه. وذلك إذ يقول: «إن خير الخصلتين لك أبغضهما إليك.» … فالدعوة التي تزين لنا ما نستنيم إليه ليست بدعوة عظيم، والدعوة التي ترفعنا فوق أنفسنا وتنهض بنا إلى ما يشق علينا هي الدعوة العظيمة في أصدق مقاييسها، وهي التي تفرحنا بالواجب ولا تفرحنا بالهوى، وحسبها ذلك «برهانًا نفسانيًّا» لا نهتدي إلى خير منه، فكل ما عظم بنا فقد كلفنا ما يشق علينا وانتقل بنا إلى طور فوق طورنا، فإن كنا على استعداد لهذا الانتقال مالت إليه نفوسنا كما يميل الجسم إلى النمو وإن كان نموه ليكلفه عنتًا عند الولادة، وعنتًا عند التسنين، وعنتًا عند المراهقة، وعنتًا عند بلوغه سن الرشد والاستقلال … وإن لم نكن على استعداد كرهناه وحسبنا الراحة في كراهته، وهي في الحقيقة داء يمنع النماء.

مرجع «البرهان النفساني» الصادق في تقدير العظمة أنه سبيل الفداء في طريق النماء، وكل ما تركنا كما نحن أو تحدَّر بنا دون ما نحن فيه فبينه وبين العظمة حجاب، وليس له من ضمائر النفس برهان.

بهذا البرهان النفساني واجه أبو بكر مسألة الدعوة المحمدية من حيث تنبغي مواجهتها، ونظر إليها من جانبها الأصيل الذي تنحصر فيه النظرة الأولى؛ أمحمد إمام خليق بالاتباع؟ أهو بطل جدير بالإعجاب؟ إن كان كذلك فهو مُعجب به مُتَّبع إياه، وإن لم يكنه فلا إعجاب ولا اتباع … وكل ما وراء ذلك فضول وانحراف عن الجانب الأصيل.

ومحمد بطل جدير بإعجابه، إمام خليق باتباعه، فامتلأ به إعجابًا ولازمه اتباعًا، وعرف طريق الخير من بداءة الأمر أنه أشق الطريقين، وعوده كرم النَّحيزة من قبلُ أن المجد تكليف وجهد، وأن الحق صبر وجهاد، فكانت سُنَّتُه فيهما أن يحمل المغارم وأن يأخذ بيد المهيض، وأن يجور على نفسه وفاء بحق غيره، فلم تطرقه الدعوة الإسلامية من باب غريب، ولم يصادفه الجهاد للدين على غير تأهيب وتدريب، بل زاده يقينًا من طبعه واستواء على نهجه، وجعله في صدر هذه الدعوة مثل الإعجاب والإيمان، وأبرزه للأجيال عنوانًا «للشخصية» التي يبلغ بها الولاء للبطولة ذروة مجدها وغاية تمامها، ويستخرج منها كوامن قواها وأحاسن مزاياها، ويستقيم بها على سوائها، ويرتقي بها إلى سمائها، فهو هو أبو بكر في تصديقه وولائه على أحسن ما يكون.

وهو هو الصدِّيق.

برهانه في تصديق الغيب كبرهانه في تصديق الشهادة؛ لأن المرجع فيه إلى شخص القائل لا إلى الشيء الذي يقال.

فلما ارتد بعض المسلمين من حديث الإسراء بالنبي إلى بيت المقدس قال أبو بكر قولته تلك: إني آمنت به في أمر السماء فلِمَ لا أومن به فيما دون ذلك؟

ولما تشاور المسلمون في صلح الحديبية رضي مَن رَضِيَ وأبى من أبى، وظهر هنا منطقان متقابلان: منطق عمر بن الخطاب يقول: إننا على الحق فلمَ نعطي الدَّنِيَّة؟ ومنطق أبي بكر يقول: إني أشهد أنه رسول الله فلم لا أتبعه فيما ارتضاه؟

ولما اختلف المختلفون في بعثة أسامة كان أمام أبي بكر خطط متعددات يختار منها ما يشاء: منها أن يحتفظ بالجيش لحراسة المدينة، وأن يحتفظ به لحرب أهل الردة، وأن يبعث به إلى العراق ترصُّدًا للفرس المنذرين بالإغارة، وأن يبعث به حيث أراد رسول الله، وإن قال بعض القائلين: إن الحال قد تبدَّل، وإن المقام يُؤذِن بالمراجعة فيما أراد — فشاء أبو بكر الخطة التي شاءها محمد عليه السلام، وأبى أن يأذن فيها بمراجعة أو تبديل.

ولما جاءوا بالأعطية يقسمونها كانت التفرقة بين الأقدار أدنى إلى التصرف، وكانت التسوية بين الأقدار أدنى إلى الاتِّباع. وكان عمر يقول: أنعطي من حارب الرسول كما نعطي من حارب مع الرسول؟ وكان أبو بكر يقول: أنأجرهم على إيمانهم فنعطيهم بمقدار ذلك الإيمان؟ فكان عمر عنوان التصرف وكان أبو بكر عنوان الاقتداء.

ومن أصالة الإعجاب بالبطولة فيه أنه كان مثلًا في أدب الملازمة وقدوة في أصول المصاحبة، وكان بفطرته خبيرًا بالمراسم التي نسميها اليوم «بالبروتوكول»؛ لأن أدبه في توقير العظمة أدب الطبع الذي يهتدي من نفسه بدليل.

انظر إليه وهو يستأذن أسامة في استبقاء عمر بن الخطاب!

انظر إليه وهو يأبى إلا أن يركب أسامة وهو يشيعه سائرًا على قدميه!

انظر إليه وهو ينادي بنته عائشة: يا أم المؤمنين!

هو في كل أولئك المعجَب المؤدَّب بأدب المصاحبة الخبير بمراسم المعاملة، الذي يدري بوحي نفسه كيف يكون التعظيم؟ وكيف يكون السلوك؟ وكيف تصان حقوق المراتب والدرجات؟

قيل: إنه كان إذا قدم على الرسول وفود القبائل علَّمهم كيف يُسَلمون وكيف يتكلمون بين يديه عليه السلام.

وكان عليه السلام يومًا في المسجد قد أطاف به أصحابه إذ أقبل عليُّ بن أبي طالب فوقف فسلم ثم نظر مجلسًا. والتفت عليه السلام يرى أيهم يوسع له، وكان أبو بكر على يمينه فأسرع فتزحزح عن مجلسه وهو يقول: ها هنا يا أبا الحسن! فبدا السرور في وجه النبي، وقال: «يا أبا بكر. إنما يَعرف الفضلَ لأهل الفضل ذوو الفضل.»

وكأنما خلق أمينًا لسر، فما تعوزه صفة واحدة من صفات الأمناء للعظماء الذين يعجبون بهم ويغارون عليهم. ومنها هذا الأدب، ومنها قلة الكلام، ومنها الكتمان عنهم في خاصة شئونهم، وكان أبو بكر في كتمانه عن النبي يتصدى للملام ولا يبوح بكلام.

تأيمت حفصة بنت عمر فعرضها على عثمان، ثم على أبي بكر، ثم خطبها النبي عليه السلام.

قال عمر: «فقال عثمان: سأنظر في أمري، فلبث ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا. ولم يرجع إليَّ أبو بكر شيئًا، فكنت أوْجَد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه … فلقيني أبو بكر فقال: لقد وجدْت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ قلت: نعم! لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أنني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ولو تركها رسول الله قَبِلْتُهَا.»

فهو في هذا الكتمان قد جرى على خير سنة يجري عليها أمناء الأسرار! أشفق أن يذيع سر الرسول عليه السلام فيبدو له في العدول، فتكون في ذلك ملامة، فآثر هو أن يُلام على أن يُعرض صاحبه لملام.

ومع هذا الكتمان وهذا الكلام النزر كانت له خبرة بكياسة القول هي القدوة العليا لمن جبلوا على مخاطبة العظماء.

فسأل رجلًا يحمل ثوبًا: أتبيعه؟

فأجابه: لا عافك الله …

قال: هلا قلت: وعافك الله!

تلك نفس ملكتها شمائل الوقار والتوقير، وامتزجت بها سليقة الإعجاب والتعظيم، حتى فاضت على جوارحها، وسرت مرتجلة إلى جميع حالاتها، فهي هنالك تستشفها في بواطن الضمير وتلمسها فيما ظهر من الأعمال والمعاملات، وتتلقاها من خلجات الذهن وبوادر اللسان، وهي هنالك مفتاح الشخصية كلها تنفذ بنا إلى خفاياها، وتفتح لنا ما استغلق من أسرارها، وتميز لنا بين خصائصها وخصائص الأنفس التي تناظرها في المقام، وتخالفها في المزاج والتركيب.

لقد كان عمر بن الخطاب معجبًا بمحمد غاية إعجابه محبًّا له غاية محبته ولكن «الإعجاب بالبطولة» كان صفة من صفاته ولم يكن صفته الأولى التي تغلب على جميع الصفات، وخليقته الشاملة التي تنطوي فيها جميع الخلائق. فإذا قضى حق الإعجاب بقيت له بقية للمناقشة والمراجعة، واستطاع أن يجمع بين التوقير والاستفسار والتفسير، فكانت له طريق إلى الإيمان تصاحب طريق الإعجاب وتنتهي معها إلى مثل نهايتها آخر المطاف.

أما أبو بكر فقد كان الإعجاب أقرب طرقه إلى الإيمان، وأكبرها على السواء. وهما بعد هذا وذاك ملتقيان.

فإذا كان عمر ثاني المتصرفين بعد نبيِّه وأستاذه وهاديه، فأبو بكر أول المقتدين بغير سابق، وبغير نظير.

وهما بعدُ قرينان يتقابلان في كل حركة من حركات التاريخ، وكل ظاهرة من ظواهر الأمم، ولا سيما في إبَّان الدعوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤