الفصل الثامن

الصِّدِّيق والحكومة العَصْريَّة

قلنا في الفصل السابق عن الصديق والدولة الإسلامية: إنَّ الحاجة لم تَدْع في عهده إلى نظام غير النظام الذي سنه النبي عليه السلام لسياسة الجزيرة العربية، وإنه رضي الله عنه قد توفي ولما تستقر الأمور في البلاد المفتوحة على حال تدعو إلى اتباع نظام شامل لكل قطر من أقطار الدولة الإسلامية.

إلا أن الصديق كان أول خليفة قام بالحكم الإسلامي بعد عهد النبوة فمن الطبيعي أن نسأل عن نوع الحُكْم الذي توصف به حكومته وحكومة الخلفاء من بعده، وأن نعرف وجه المشابهة بين تلك الحكومة وحكومات العصر التي قامت على المبادئ الدستورية الحديثة.

فأي حكومة هي حكومة الصديق أو حكومة الإسلام في عهده؟ وأي العناوين هو أقرب إليها من عناوين الحكم في هذا العصر الحديث؟

الديمقراطية — ولا ريب — هي أقرب النظم إلى نظام الحكم في عهد الصديق.

ولكن الديمقراطية أشكال تختلف في العصر الواحد بين أمة وأمة، ولها قواعد دستورية ومقدمات تاريخية من العسير أن نوحِّد بينها وبين قواعد الخلافة ومقدماتها، ومن السهل جدًّا مع هذا أن نصدُف عن هذا التوحيد دون أن نُغِض من نوع الحكومة في صدر الإسلام.

فليس من المحقق أن حكومة الإسلام يومئذ توصف بالديمقراطية على المعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة في هذه الأيام.

ولكن من المحقق أن الحكومة الإسلامية على النحو الذي جاء به القرآن الكريم واتفق عليه المسلمون كانت بعيدة كل البعد من جميع أنواع الحكومة المعيبة أو جميع المبادئ التي تستند في تقرير حكم الشعوب على أساس معيب.

فإذا كانت حكومة الخلافة لم تقرر الديمقراطية على أساسها العصري المعروف بيننا فهي — بلا ريب — قد أبعدت مبادئ الأوتوقراطية، ومبادئ الثيوقراطية، ومبادئ الأليجاركية، ومبادئ حكومة الغوغاء، وسائر المبادئ التي لا تستقيم مع حرية الفرد ومع الفطرة السليمة.

فالأوتوقراطية، وهي حكومة الفرد المستبد ممنوعة في الإسلام؛ لأن القرآن الكريم يأمر النبي أن يشاورهم في الأمر وينص على أن: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ [الشورى: ٣٨].

وإذا كان النبي الذي يتلقى الوحي الإلهي لا يَجِلُّ عن مشاورة أتباعه والرجوع إلى رأيهم في سياسته، فغيره من ولاة الأمر أولى أن يتقيد بالشورى ويتجنب حكومة الطغيان.

والثيوقراطية، وهي الحكومة التي يدعي فيها الحاكمون صفة إلهية ممنوعة كذلك في الإسلام؛ لأن القرآن الكريم يعلِّم المسلمين أن النبي بشر مثلهم ويُبطل الكهانة والوساطة بين الإنسان وربه، وقد نهى النبي ولاته وأمراء جيشه أن يبرموا العهود باسم الله أو باسم رسوله، فكان يقول لمن ولاه: «… لا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفِروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله.»

ولما قيل للصديق: يا خليفة الله، أنكر ذلك وقال: إنما أنا خليفة رسول الله، وسأل الناس أن يُقَوِّموه ويرشدوه.

والأليجاركية، وهي حكومة الفئة القليلة من الأعيان والسروات ممنوعة كذلك من المسلمين؛ لأن بيعة الخاصة في الإسلام لا تُغني عن بيعة العامة وليس في الإسلام سيادة نسب كما جاء في الحديث الشريف:

اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.

وحكومة الأهواء سواء كانت أهواء الوجوه أو أهواء السواد ممنوعة كما منعت الحكومات التي أسلفناها.

فليست أهواء المحكومين مُغنية عن أصول الحق والعدل ودستور الشريعة والنظام، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: ٤٨].

وإذا امتنعت كل هذه المبادئ المعيبة في حكم الناس فقد صلحت الحكومة بما شئت من الصفات والعناوين: إذ الحكومة على تعدد أنواعها إنما تنحصر في نوعين اثنين هما النوعان اللذان فرق بينهما أرسطو في أصول السياسة: أو هما الحكومة الصالحة لمصلحة المحكومين، والحكومة الفاسدة لمصلحة الحاكمين. وكل ما عدا ذلك من الصفات والعناوين فهو داخل في أحد هذين النوعين.

فإذا لم تكن حكومة الصديق ديمقراطية حديثة فالديمقراطية لا تتوخى من الحكم غاية أفضل من الغاية التي تتوخاها حكومة الخلافة، ولا تُبْعِد من المبادئ شيئًا غير المبادئ التي أبعدتها الحكومة الإسلامية بما نص عليه القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو اتفاق المسلمين.

•••

أما الحكومة من حيث علاقتها بشخص الخليفة وخلائقه النفسية فخلائق أبي بكر التي عرفناها دليل عليها: عفه وصدق ودعة وحزم وأناة وكَيس، وكل ما يعهد من هذه الخلائق فهو معهود من الخليفة الأول في جميع ما حكم به وتولاه.

ولي الخلافة فأصبح ذات يوم وعلى ساعده أبْراد يذهب بها إلى السوق، فلقيه عمر فسأله: أين تريد؟

قال: إلى السوق.

قال: تصنع ماذا وقد وُليت أمر المسلمين؟

قال: فمن أين أطعم عيالي؟

فأشار عليه أن يذهبا إلى أبي عبيدة أمين بيت المال ليفرض له قوته وقوت عياله. ففرضت له ستة آلاف درهم في السنة.

وكان يقيم بالسنح على مقربة من المدينة فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرمًا منه ورفقًا بهم. فسمع جارية تقول بعد مبايعته بالخلافة: اليوم لا تحلب لنا مفاتح دار.

فسمعها فقال: بلى لعَمري لأحلبنها لكم.

فكان يحلبها وربما سأل صاحبتها: يا جارية! أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح. فأي ذلك قالته فعل.

ثم تكاثرت أعمال الحكومة فانتقل إلى المدينة ورأى أن يعين نفسه على النفقة بالتجارة حيثما استطاعها. فلما حضرته الوفاة أمر أن يُحصَى ما أخذه من بيت المال فَيُرَد من ماله وأرضه، وقال لعائشة رضي الله عنها: فإذا أنا مت فردي إليهم صحفتهم وعبدهم ولقحتهم ورحالهم، ودثارة ما فوقي اتقيت بها البرد، ودثارة ما تحتي اتقيت بها نزَّ الأرض، كان حشوها قطع السعف.

ومما روي عن عفَّته وزهده أن امرأته اشتهت حلوًا واستفضلت من نفقتها في عدة أيام ما تشتريه به، فلما علم ذلك رد الدريهمات إلى بيت المال وأسقط من نفقته كل يوم ما فضل منها لثمن الحلوى.

وما كان صديق النبي وصفيه ليبيح لنفسه ما لم يبحه النبي، وإن استطاع من خاصة ماله، فضلًا عن بيت مال المسلمين.

وكان حكمه إلى الرفق والأناة والكياسة، غير غافل عن اليقظة والحزم حيثما وجبت يقظة وحزم.

فكان يتقصى أخبار الولاة ويسأل الرعية: هل من أحد يتشكى ظُلامة؟ فإن وجد ظلامة أنصف المظلوم على سنته التي استنها، وهي أن الكبير صغير حتى يأخذ الحق منه.

وكان يوصي قائده: «ألَّا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تتجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتف بعلانيتهم.»

أو يقول: اقبَل علانيتهم وكِلهم إلى سرائرهم، ويأمره مع ذلك ألا يغفل عن استطلاع أمرهم لإصلاح ما فسد منه.

وإلى كياسته يرجع الفضل في تغليب مبدأ مِنْ أَسْلَمِ مبادئ القضاء قديمها وحديثها، أخذ به رجال المسلمين في قضائهم واتبعته الحكومات العصرية جميعًا في قضائها، ونعني به المبدأ الذي يحرِّم على القاضي أن يحكم بعلمه في إقامة الحدود، وقد آثره الصديق رضي الله عنه فقال: «لو رأيت رجلًا على حَدٍّ من حدود الله لم آخذه حتى يكون معي شاهد غيري».

•••

وما حفظت له وصية قط إلا ظهر فيها خُلقاه الغالبان: الكياسة والصدق، فإذا حذر الولاة أن يكشفوا عن أسرار الناس لم ينس قط تحذيرهم من إخلاف الوعد والوعيد، وجماع ذلك قوله لعكرمة: «مهما قلت إني فاعل فافعله، ولا تجعل قولك لغوًا في عقوبة ولا عفو، ولا ترج إذا أمِّنت ولا تخافنَّ إذا خُوِّفت، ولكن انظر ماذا تقول وما تقول، ولا تعدن معصية بأكثر من عقوبتها، فإن فعلت أثمت وإن تركت كذبت.»

وجرى حكمه كله على هذه السنة من الرفق والصدق ومن اليقظة والحزم، ومن الكيس والفطنة، لم تؤخذ عليه إلا بادرة واحدة هي إحراقه الفجاءة في ساعة من ساعات الحدة التي كان يغالبها جهده، حتى غلبته مرة في عقاب هذا اللص الخاتل السفاح.

وكان الفُجاءة هذا — أو إياس بن عبد ياليل — قد جاء الصديق فاستعانه بالسلاح لقتال المرتدين، فلما أعطاه السلاح أخذه ليقطع الطريق ويعيث في الأرض ويثخن فيمن صادفه قتلًا ونهبًا من المسلمين كان أو المرتدين، وتفاقم شره وعظم بغيه حتى وقع في الأسر وجيء به إلى الخليفة وهو يرى أنه قد استحق جزاء أكبر من جزاء القتل؛ لأن جرمه أكبر من جرم قاتل. وقد استثاره هذا الرجل بكل ما يثيره ويذهب بحلمه ورفقه: استثاره بكذبه عليه وهو يمقت الكذب، واستثاره بخداعه إياه وهو يكره أن يعبث به أحد، واستثاره بتسخيره في قتل المسلمين بما أعطاه من سلاح وعدة، فأكبر جرمه بمقدار ما يكبر عنده الصدق والكرامة والغيرة على دماء المسلمين، وأمر به أن يلقى في نار توقد له في مصلى البقيع.

خطأ ولا ريب …

ولكنه خطأ له عذره، وخطأ في رأي أبي بكر نفسه قد ندم عليه بعد فورة الغضب التي ذهبت بحلمه ورفقه، وقد ظل يذكر هذا الخطأ ويأسف له إلى أن قال وهو يجود بنفسه: «وددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السُّلمى وأني كنت قتلته سريحًا أو خليته نجيحًا …»

ومهما يكن من رأي الأقدمين أو المحدثين في هذا الحادث فالخطأ الذي لا جدال فيه أن نُدين به الإسلام كله أو ندين به أبا بكر كله في جميع حالاته. ففي كل عصر تقع الحوادث من أشباه هذا الحادث المفرد، ولا تحسب على دين أو دولة سواء في العصر القديم أو العصر الحديث …

إنما يحسب على الإسلام ما هو قاعدة من قواعده، ويحسب على أبي بكر ما هو سنة مطردة في حكومته، وما عدا ذلك فهو نَبْوَة عارضة عذره فيها فداحة الجرم وشفيعه فيها طول الندم، فمن غلا في المؤاخذة حتى فتح من هذا الحادث المفرد بابًا للمقارنة بين عصر وعصر، وبين حاكم وحاكم فقد أضاف إلى سوء النية جهله بالعصر الحديث.

وعلى هذا يثبت من شاء هذا الحادث لحكومة أبي بكر ويحذفه من شاء منها، فلا تزال على الحالين قدوة لأصلح الحكومات العصرية في مزيتين جامعتين: إحداهما إبطال المبادئ الضارة التي تفسد الحكومة على اختلاف صفاتها وعناوينها ودعاواها، والثانية تقرير الغاية التي تفضلها غاية لحكومة إنسانية: وهي حرية الفرد ومصلحة المحكومين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤