الدَّقة الثالثة عشرة

إذا دقَّت ساعتك ثلاث عشرة دقة، كانت الدقة الثالثة عشرة خطأً في ذاتها أولًا، وداعيًا إلى الشك في صدق الدقات السوالف ثانيًا، ثم كانت ثالثًا بمثابة النذير الذي يُعلِن لك في صوت جهير أن الآلة كلها فاسدة لا مندوحة لها عن إصلاح وتغيير.

وقد دقَّت ساعتي ذات ليلة ثلاث عشرة دقة، إذ كنت بين يقظة ونعاس، ولبثت الدقة الثالثة عشرة حينًا في الهواء تجُر وراءها ذنَبًا من رنين يرتعش مائجًا فيهُز مِسمَعي بأصداء خافتة أخذ يتداخل بعضها في بعض، حتى صارت في الأذن طنينًا موصولًا ودارت في نفسي معانيها مُضطرِبة غامضة كما تدور في النفس أوائل الأحلام عند من ينسحب من يقظة النهار شيئًا فشيئًا ليأخذ في رقدة الليل؛ حتى إذا ما أخذ مني الكَرى بمَعاقِد الجفنَين، رأيتني في بهْو فسيح كُتِب على بابه «بهْو الفراعنة»، رُصَّت إزاء جدرانه ثلاثة عشر تابوتًا نُقشت على ظهورها رموز ورسوم مما تراه على توابيت الفراعنة الأجداد؛ لكنها كانت تدق كأنها الساعات، كل منها يدق ثلاث عشرة دقة، حتى إذا ما فرغت الواحدة من دقاتها بدأت الأخرى.

كان البهو فسيحًا مُعتِمًا لا تتبيَّن فيه حدود الأشياء واضحة إلا إن دنَوت منها ونظرت إليها عن كثَب، فُرشت أرضه بمنثور من الرمل يبعث صوتًا أجَش كلما داست على حصبائه قَدم؛ وكان يُضيء في وسطه قنديل ضئيل استقامت في ذُبالته شعلة النار، لا تموج يَمنةً ولا يَسرة، لسكون الهواء، أو قُل لانعدامه؛ فما يسع القادمَ إلى «بهو الفراعنة» إلا إحساسٌ عميق بأنه إنما أقبل من المكان على مَقبَرة كل ما فيها يُوحي بركود الموت وجموده؛ ولأول مرة أدركت في وضوح أن الضوء إذا خفَت كان في طبيعته أقرب إلى الظلام منه إلى الضياء؛ لأنه يزيد من الأشباح التي تتراءى لناظرَيك ولا يكاد يُعينك على الإبصار، فكأنما هو ظلام منظور، أو نار بغير نور.

وقفت ذاهلًا أُنصِت إلى الدقات التي كانت أدنى إلى حشرجة الموت منها إلى الرنين الصافي، وقد امتلأت أرجاء المكان بأصدائها حتى خُيِّل إليَّ أن موجات الصوت تتراكَم بعضها فوق بعض، وأنني مغموس منها في بِركة من صوت؛ ولأول مرة كذلك أدركت في وضوح أن الصوت إذا انبعث من وادي الموت، كان في طبيعته أقرب إلى الصمت منه إلى الصِّيات؛ فقد أحسَست حولي بصمت عميق رغم هذه الأصداء التي تملأ أرجاء المكان، وخشيت أن أُحرِّك قَدمًا فيُصيت الرمل تحت قدمي، ويُعلِن بصوته عن وجودي في مكان أُريدَ به في أغلب الظن أن يرمز للموت لا أن يكون مُضطرَبًا للحياة والأحياء؛ لكني لما سكتت ساعة عن دقها وبدأت ساعة، أحسَست بدافع يجذبني إلى الساعة الدقَّاقة ولم أملك الوقوف، فخطَوت نحوها خطوَ الخائف الوجِل، جَف في حلقه الريق وارتعدت منه الفرائص، ووَد لو استطاع أن يُحقِّق رجاء أبي العلاء، فنسير في الهواء رويدًا حتى لا يُحرِّك حصباء الأرض بقدميه.

دنَوت من الساعة الدقَّاقة فإذا بوجه التابوت فيها قد تبدَّل شيئًا عجيبًا تكاد تخِر لرؤيته صريعًا؛ انقلب وجه التابوت في ثلاثة أرباعه السفلى لوحًا من زجاج وفي رُبعه الأعلى مُربَّعًا من الخشب فيه ثقب مُستدير؛ وكان البندول إنسانًا مخنوقًا أخذ جثمانه يتأرجح خلف الغلاف الزجاجي يَمنةً ويَسرة، مشدود الذراعين مُوثَّق القدمين، وتدلَّى رأسه من الثقب في أعلى الإطار؛ يُغطِّيه طربوش قديم بالٍ مُجعَّد السقف والجوانب، طال «زره» وطال حتى لَف حول عنقه ثلاث عشرة حلقة، وجحظت عيناه وانفتح فمه وتدلَّى لسانه وأخذ يهتزُّ في اتجاه مُعاكِس لحركة جسده؛ فإن تأرجح الجسد يمينًا مال لسانه نحو اليسار، وإن تأرجح الجسد يسارًا مال لسانه نحو اليمين، أو خُيِّل إليَّ أنه يفعل.

لم يفُتْني بين هذه المفازع كلها أن أعجب للقدَر كيف كان في سخريته حكيمًا وفي حكمته ساخرًا؛ فقد مات الرجل مُختنِقًا بما اتَّخذه في حياته دليلًا على أنه حي بين الأحياء! مات مُختنِقًا بالذي اصطنعه رمزًا لعِزته! أكان السُم الزعاف إذن يكمن له في خيوط هذا الإرث المَجيد؟ وقع في وهمه أن تراث أجداده باعثه على الحياة والنشاط، فإذا تراث الأجداد ينحدر به إلى مَهوى الموت والهلاك! مات المسكين مُختنِقًا في أغلال وأصفاد من نسج الآباء والأجداد، ولو أخلص له النصيحةَ ناصحٌ قبل أن يختنق لأشار عليه أن ينسلخ من جلده انسلاخًا، لأن في جلده الضر والوباء؛ لو أخلص له النصيحةَ ناصحٌ قبل أن يختنق لأشار عليه أن يُلقي عن نفسه هذا الموت الرابض، وأن يُحطِّم هذه الأغلال وهذه الأصفاد ليكون بين سائر الناس خفيفًا نشيطًا؛ لكن علَّموه فتعلَّم أن أصفاده سلاسل من ذهب، وهل يطَّرح الذهبَ النضارَ إلا أحمقُ مجنون؟ علَّموه فتعلَّم أن في الدنيا شرقًا وغربًا، وأن للشرق هذا البريق الذي تلمع به تلك السلاسل الذهبية؛ ولو أخلص له النصيحةَ ناصحٌ قبل أن يختنق لأفهمه أن ليس في الدنيا شرق وغرب، لكن في الدنيا إنسانًا يحيا ويتقدَّم فيُقال له غرب، ويتدهور ويموت فيُقال له شرق، وله بعد ذلك أن يختار بين الحياة والموت. لكن مات المسكين — وا أسفا — مغلول اليدين مُوثَّق القدمين؛ غَلُّوه بسلسلة ذرعها خمسة آلاف عام تمتدُّ إلى حيث كان أجداده عن الحياة في شغل يبنون الأهرام الشوامخ استعدادًا للموت والفناء، ومن يدري؟ لعله مات بعد أن بذَر في أبنائه بذور الرجاء.

هنا دقَّت الساعة دقتها الثالثة عشرة، واتَّسعت من الرأس المُتدلِّي ثغرة فمه، فإذا هي باب والشفتان مِصراعاه، وانقلب اللسان حارسًا شد على وسطه حزامًا أحمر، وانحنى في احترام يدعوني للدخول.

دخلت لأجدني واقفًا أمام بناء فخم ضخم رفيع العماد، ودخلت الدار فكان الذي دخلته حجرة دراسية تحلَّق في صحنها ثلاثة عشر صبيًّا وقف في وسطهم مُعلِّمهم، على نحو ما تحلَّقت التوابيت في البهْو واستقامت في وسطها شعلة القنديل، ولسبب لا أدريه حدَّجت بصري في المُعلِّم حينًا لا أكاد أتحوَّل عنه، لم تُعجِبني هيئته، ولم أشهد على وجهه علامات الصَّقل والتهذيب التي يتركها العلم عادة على وجوه أصحابه؛ كان طربوشه أوسع من رأسه فهبط حتى ارتكز على أذنيه، وغطَّى جبهته إلا قليلًا وكاد يلمس حاجبيه، وكان على صدغيه خليط مُتنافِر من آثار الجدري ومن بُقَع جلدية مُختلِفة ألوانها، حلَق شاربَيه إلا جزءًا صغيرًا جدًّا تكوَّم تحت أنفه كالخنفساء. ثيابه كلها عجائب؛ فبدلتُه مصنوعة من قماش لم يُرِد ناسجه أن ينتهي إلى هذا الذي انتهى إليه، وسُترته طالت حتى بلغت ركبتيه، فهي سُترة ونصف سُترة أو هي ثلاثة أرباع الجُبة، فلا هي هذه ولا هي تلك، وقميصه لم تُنظِّمه مِكواة، وحذاؤه طويل شاحب، وقد علِق أحد سروالَيه بأعلى فرد من حذاءيه فانحسر عن شيء من ساقه، وكان الطباشير يُلوِّن يديه وكُمَّيه وصدر سُترته، وتناثَرت منه بُقعة أو بُقعتان فوق طربوشه؛ أخذ يُبدِّل الكتاب بين يديه، فيُمسِكه بيُمناه تارة وبيُسراه تارة، وكلما صنع ذلك جذب صدر سُترته بيده التي أطلق سراحها، ثم وضع يده في جيبه، ثم أخرجها، ثم سعَل سُعالًا خفيفًا، ثم استرَقَ إليَّ نظرَ المُتهيِّب المُرتاب كأنه طير وأنا صائده، ولم أعجب لهذا منه؛ إذ الناس في بلادنا رجلان: صائد ومَصيد، وقد يكون الرجل صائدًا في موضع، مَصيدًا في موضع آخر، وقد يكون مَصيد اليوم صائد الغد.

يا سبحان الله العلي العظيم! أمن هذا الرجل يستمدُّ هؤلاء الأطفال العلم، ويستقُون الأخلاق، ويستَوحُون أصول الذوق الجميل؟ أي عجَب بعد ذلك إن شبَّ هؤلاء الأطفال رجالًا وساروا في شارع البحر بثغر الإسكندرية الجميل فأكلوا الخسَّ وقذفوا بأوراقه في طول الشارع وعرضه، لا ترى أبصارهم قبح ما يصنعون؟ أي عجَب إن شبَّ هؤلاء الأطفال رجالًا فمصُّوا القصب في عربات الترام وألقوا بالثُّفل في أرض العربة، لا يُدرِكون في ذلك شيئًا يُذَم ويُعاب؟ أي عجَب إن شبَّ هؤلاء الأطفال رجالًا فلبسوا عمائم وطرابيش وطراطير وطاقيات ولاسات وبدلات وجُبَّات، كأنهم البهلوانات في سوق الأراجيح، ولا تقع أبصارهم من ذلك كله على شيء يخدش الذوق الجميل؟ إن هذا المُعلِّم بين هؤلاء الصبيان هو بعينه ذلك القنديل الضئيل في البهْو بين التوابيت، هو أقرب في طبيعته إلى الظلام منه إلى الضياء، هو إلى الجهل والتجهيل أدنى منه إلى العلم والتعليم.

ووقف سيل خواطري حين قال المُعلِّم بصوت خشن غليظ: «اقرأ يا شاطر.»

وقرأ الشاطر: جَلَسَ، وَقَفَ، أَكَلَ، ضَرَبَ؛ حتى أكمل على هذا النحو اثنتي عشرة كلمة، فقلت له في لهجة المُفتِّشين — وللمُفتِّشين نغمة خاصة: «تهجَّ الكلمة التالية يا شاطر.»

فنظر الشاطر إليَّ فإلى الكتاب فإليَّ مرة أخرى فإلى مُعلِّمه فإلى الكتاب، وقال: بَ فتحة بَ، تَ فتحة تَ، كَ فتحة كَ؛ زَرَعَ.

هي الدقة الثالثة عشرة التي هي خطأ في ذاتها أولًا، ومدعاة إلى الشك في صدق الدقات السوالف ثانيًا، وهي ثالثًا بمثابة النذير الذي يُعلِن لك في صوت جهير أن الآلة كلها فاسدة لا مندوحة لها عن إصلاح وتغيير؛ لم يتعلَّم هذا الصبي علمًا، ولم يتعلَّم خُلقًا، ولم يتعلَّم شيئًا من قواعد الذوق الجميل.

وغادرت حجرة الدراسة من فوري لألتقي مرة أخرى بالحارس الذي شدَّ على وسطه حزامًا أحمر، فأدخلني مصعدًا وضغط فيه على زر وتركني، فطلع بي المصعد ثلاثة عشر طابقًا حتى بلغ بي قمة البناء، وانفتح بابه على مقهًى صاخب بالأصوات المُتنافِرة: طق، طاق، سأ، صأ، سأ، دودو، كشش، طق، طاق، تصفيق وصياح وضرب بأحجار النرد وقهقهة من رجال جلسوا إلى مناضد رُصَّت في ثلاثة صفوف، في كلٍّ منها أربع، ثم انفردت المِنضدة الثالثة عشرة في رُكْن وحدها، وجلس إليها رجل في نحو الخامسة والثلاثين، فجلست إلى جانبه وحيَّيته فحيَّى: ما هذا المكان؟

– ندوة الجامعة.

– وأنت من أبنائها؟

– تعني من أبناء الجامعة؟ نعم، تخرَّجت فيها منذ ثلاثة عشر عامًا، تلاميذي هم اليوم طُلاب الجامعة.

– أيُّة مادة درست؟

– أنا دكتور في التاريخ كانت رسالتي «إسكندرية الإسكندر».

– موضوع لطيف.

– لمْ أختره للُطفه، إنما اخترته في إثر حادث وقع لي في الإسكندرية؛ كانت لي سيارة جميلة أسوقها، وحدث ذات يوم إذ كنت أصطاف، أن انثنَيت بسيارتي من شارع إلى شارع فصدمتني سيارة جاءت من الجهة المُقابِلة، صدمتني صدمة ينحطم لها الصُّلب الصليب، فما انخدشتْ من سيارتي قُلامة ظُفر، وعجِب الناس للمعجزة، ولو عرفوا سر المعجزة ما عجِبوا، فقد كان في سيارتي مصحف شريف؛ ويشاء الله أن يُجالِس والدي في هذه اللحظة عينها وهو في داره رجلٌ كشف الله عنه حجاب الغيب، فصاح: الله أكبر! وسأل والدي: ما الخبر؟ فقال الرجل: كان ابنك بين أنياب الموت فأنقذه من الموت سرٌّ من الله.

هنا دقَّت ساعة الندوة ثلاث عشرة دقة، واستيقظت عند الدقة الثالثة عشرة لأرى أن غرفتي لم تزَل في ظلمة من الليل البهيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤