حكمة البوم

تتَّخذ البومة شعارًا للحكمة وبُعد النظر؛ تراها مرسومة على الكتب أحيانًا ليدُل الناشر على ما تحويه كتبه في بطونها من حكمة خالدة؛ وتراها مُصوَّرة في إعلان تُذيعه الحكومة الإنجليزية في بلادها هذه الأيام، لتُحفِّز شعبها على الادخار، تمثلًا — فيما ينطوي عليه الادخار من حكمة — بالبومة التي شهد لها الناس منذ الأزل بصدق النظر.

وحدث أني كنت أقرأ كتابًا منذ أمَد قريب، وكانت البومة على غلافه شعارًا للناشر، فسألت نفسي: ليت شعري لماذا اتُّخذ هذا الطائر المشئوم رمزًا للحكمة؟ أيكون ذلك لهاتين العينين المفتوحتين اللتين لا ينسدل عليهما الجفنان في ظلمة المساء، كما تنسدل الأجفان عند عباد الله من إنس وجانٍّ؟ أتكون هاتان العينان المفتوحتان قد أغْرَتا الرامزين أن يتَّخذوا من دوام الإبصار دليلًا على سداد البصيرة وبُعد النظر؟

أم يكون ذلك لما تُعانيه البومة في الليل من سهر ورعاية للنجوم بما فيهما من همٍّ وتسهيد، حين يكون الخلِيُّون في مَخادِعهم نُوَّمًا غافلين عن الطبيعة بكل ما فيها أثناء الليل من جلال وجمال؟

أم تكون هذه الجِلسة الساكنة الهادئة الرزينة الرصينة، التي لا تكاد تعرف الحركة، هي التي أغْرَت الرامزين أن يُشيروا بها إلى التأمُّل العميق والتفكير الدقيق، فاتَّخذوا البومة شعارًا لهذا كله؟

ذلك ما حدَّثت به نفسي حين نظرت إلى صورة مرسومة على غلاف الكتاب؛ لكن فكرة جديدة أُوحي بها إليَّ فأشرقت عليَّ بالأمس القريب، إذ كنت أسير في الطريق مُفكِّرًا فيما أنا فيه مما تضطرب له النفس عند أشد الناس ضبطًا لنفسه وإمساكًا بزمام أعصابه؛ فقد تعذَّرت عليَّ متابعة فكري لكثرة ما في الطريق من أصوات؛ وعندئذٍ حلا لي — وقد تعطَّل الفكر — أن أعُد هذه الأصوات، وآخذ في تبويبها وترتيبها، فإذا بي أبلغ في عَدها المئات!

وبغتةً قفزتُ قفزة خفيفة لو رآها الناس لقالوا مسَّه الجنون، وصِحت لنفسي — كما فعل أرشميدس في زمانه — صِحت قائلًا: وجدتها وجدتها! وجدت العلة في اتخاذ البومة شعارًا للحكمة ورمزًا لبُعد النظر؛ العلة هي الصمت؛ بل وجدت العلة، لماذا أقْفرَت بلادنا وأصابها العقم آلاف السنين، لا تُنجِب المصلحين العاملين؛ العلة هي هذا العجيج والضجيج، هي هذه الجلبة وهذا الصياح!

إي والله، لقد صدق من قال إنه إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب؛ وأنا أُريد هنا بالكلام والسكوت أوسع ما يُفهَم من هاتين اللفظتين من معنى؛ فإذا فهمت من اللفظتين معناهما الواسع، أدركت ما أُريد أن أسوقه إليك حين أُنبِّئك أن الصمت هو السر في حكمة البوم، وأن الجلَبة هي التي أعقمت بلادنا عن إنجاب المُصلِحين العاملين.

فمن باب الصمت أن تختار لجلوسك مكانًا مستورًا تخلو فيه إلى نفسك، أو إلى من تتحدَّث إليه من الأصدقاء فيكون لك بهذا التخفِّي وجود واضح بارز؛ ومن باب الجلَبة والصياح أن تجلس مكشوفًا على طوار الشارع في المقهى، حيث تُصبِح جزءًا من بضائع الدكاكين وحركة المرور!

ومن الصمت أن تختار لملابسك وأثاث منزلك ألوانًا خافتة هادئة يرتاح إليها البصر، كما أن من الجلَبة والصياح أن تختار هذه الأشياء من ذوات الألوان الصارخة الزاعقة التي تَلفت الأنظار رغم الأنوف.

ومن الصمت أن تُعلِن عن عيادتك إن كنت طبيبًا، أو مكتبك إن كنت محاميًا، أو دكانك إن كنت تاجرًا؛ بلافتة صغيرة مُتواضِعة، كما أن من الجلَبة والصياح أن تُعلِن عن نفسك بلافتة طويلة عريضة تَسد على الناس مَسالِك الطريق، واذكُر دائمًا أن ارتفاع الصوت قد يدل على تفاهة الصائت؛ فالكلب الذي ينبح لا يَعض — كما يقول الإنجليز — وكلما ازدادت الشاة صياحًا، قَل على ظهرها الصوف — كما يقول الإنجليز كذلك — والضفدعة الهزيلة الضئيلة تملأ الآفاق ضجة ونقيقًا.

يستحيل أن تكون من الصاخبين ومن العاملين في وقت واحد؛ ويستحيل أن تكون من الصائحين ومن المُفكِّرين في وقت واحد؛ فقد يتعذَّر أن يجتمع الكلام والعمل، لأن الفكرة إذا طافَت برأسك فصِحْت بها كلامًا، انتهى بذلك أمرها؛ أما إذا حبستها في نفسك، وأغلقت دونها صدرك بمَغالِيق الصمت، فقد تتفجَّر في صورة عمل عاجلًا أو آجلًا.

كذلك مُحال أن تضج وتُفكِّر في آن معًا؛ هلَّا سألت نفسك يومًا: لماذا اختار اليونان لآلهتهم جبل الأولمب، ولم يُسكِنوهم دارًا في ساحة السوق؟ وهل جاءك في الأساطير أن «جوبتر» كان يخلق الكائنات بإيماءة خفيفة دون أن ينطق إلا قليلًا، أو يتحرَّك إلا يسيرًا؟

هل سألت نفسك يومًا: لماذا يصوم غاندي عن الكلام يومًا في كل أسبوع؟ وهل وقفت دقيقة أو دقيقتين كلما قصُّوا عليك سيرة النبي، فتسأل: لماذا اختار الله لنبيه الصحراء الصامتة مَنبِتًا، ولماذا اختار له مَغارة معزولة في سكون الجبل مَهبِطًا لوَحيه؟

أين يسكن الفيلسوف فيما تظن؟ أيَسكن برجًا — سواء كان البرج من عاجٍ أو خشب — أم يسكن غرفة تُطِل بشُرفتها ونوافذها على العتبة الخضراء؟

ألست تُؤثِر للعالم الباحث أن يعتزل في مكان هادئ بين كتبه وأنابيبه، ثم ألست تُؤثِر للشاعر أن «يجوب وحيدًا كالسحابة» — كما يقول «وِردِزْوِرْث» شاعر الإنجليز؟

أيهما أقرب إلى الشعور الديني الصحيح فيما تظن: رجل فتح المِذياع على آخره ساعة تلاوة القرآن، فجعل من القراءة ضجة ترُج الهواء رجًّا؛ أم رجل جعل التلاوة همسًا في أذنه لا يكاد يسمعه من يجلس إلى جواره؟ أتحسب أنه من قبيل المُصادَفة العمياء أن تواضَع الناس في كل زمان وفي كل مكان وفي جميع الأديان أن تكون بيوت الله — مساجد كانت أو كنائس أو معابد أو ما شئت لها أن تكون — خافتة الضوء خافضة الصوت، إذا أُضيئت فبالقنديل الضئيل، أو ما يُشبِهه، وإذا تكلَّم فيها مُتكلِّم فهمسًا، أو مشى على أرضها ماشٍ فعلى أطراف أصابعه؟ ثم هل يخلو من المعنى أن يُوعَد المؤمنون جَنة لا يسمعون فيها لغوًا؟

أنت أقرب إلى الله في صمتك منك في صخبك وضجتك، ولهذا اختار المُتعبِّدون صوامع في الجبل، ولم يختاروا الميادين الفخمة في كبريات المدن!

خُذها عني نصيحة ناصح: ضَع ثقتك فيمن يتلعثم إذا تكلَّم، أضعاف أضعاف ما تضعها فيمن يُكثِر من الجدل والنقاش؛ فالأرجح أن يُنتِج الأول عملًا ينفعك وينفعه، والأرجح ألا يُنتِج الثاني شيئًا ذا غَناء؛ ولعل «فورد» — صاحب الثراء الضخم وصاحب السيارة المعروفة — لعله لم يكُن مُحسِنًا فقط حين جعل من مبادئه أن يبدأ في مصانعه باستخدام الأبكم، بل لعله كان في ذلك رجلًا من رجال الأعمال الذين حالَفهم صواب الرأي؛ فمع البكَم إنتاج وعمل، ومع الثرثرة مَضيعة للوقت والمجهود؛ ورحم الله مالكًا حين قال: «لا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل.» ورحم الله ابن حنبل حين قال: «لا يُفلِح صاحب كلام أبدًا.»

هل تدري ما معنى «تفكير»؟ معناه الدقيق: مُناقَشة الإنسان لنفسه، يُلقِي على نفسه سؤالًا ويُحاوِل عنه الجواب؛ فإذا قلت «إني أُفكِّر» كان معنى ذلك على وجه الدقة أني سألت نفسي سؤالًا أو أسئلة أُحاوِل عنها الجواب؛ ولا يكون ذلك إلا إذا خلَوت لنفسك وساد حولك الصمت.

وإنه لمن أعجب العجَب أن يشاء الله لأعظم موسيقيٍّ أنجبته الدنيا — أعني بيتهوفن — أن يُصاب بالصمَم، فلا يسمع حتى موسيقاه! تُرى هل ساعَده العالم الصامت الذي عاش فيه على خلق تغريده وألحانه؟

دارت في رأسي هذه الخواطر، ثم أراد الله أن يزيدني يأسًا على يأس، فذكَّرني بالمكتب والبيت والشارع.

دخلت مكتبًا في ديوان حكومي لأقضي بعض شأني، فوجدته يموج بالزائرين الصائحين الصاخبين، فقلت: يستحيل أن يُنتِج هذا المكان شيئًا.

ودخلت داري فوجدتها مُفتَّحة النوافذ ساطعة الضوء كثيرة الصياح، فقلت: يستحيل أن تكون هذه الدار بيئة صالحة لتكوين رجل صامت عامل.

ومشَيت في الشارع فسمِعت عجيجًا وضجيجًا وجلَبة وصياحًا، فقلت: يستحيل أن يكون هذا مكانًا من بلد يعرف أهله العمل والإنتاج.

اللهم رحماك! والله لو انفتحت لي أبواب السماء «ليلة القدر»، ما تمنَّيت لأمتي إلا شيئًا واحدًا: أن يهَبها الله شيئًا من حكمة البوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤