البرتقالة الرخيصة

لم أكَد أفرغ من طعام الغداء حتى جاءني الخادم بطبق فيه برتقالة وسكين، فرفعت السكين وهممت أن أحُز البرتقالة؛ ولكني أعدتها وأخذت أُدير البرتقالة في قبضتي وأنظر إليها نظرة الإعجاب؛ فقد راعني إذ ذاك لونها البديع وجمالها الخلاب، وشممت لها أريجًا طيبًا هادئًا، ولمحت في استدارتها ومسامِّها نضارة عجيبة؛ فأشفقت عليها من التقطيع والتشريح، ثم نظرت إلى خادمي وقلت مُبتسِمًا: لعل برتقالة اليوم يا سليمان لا يكون بها من العطب ما كان بتفاحة الأمس؟ فقال: كلا يا سيدي فلن يكون ذلك قط؛ فإن من خلال البرتقال التي يتميز بها عن سائر ألوان الفاكهة أن العطب يبدأ من خارجه لا من داخله؛ فإن وجدت قشور البرتقالة سليمة فكُن على يقين جازم بأن لبابها سليم كذلك، فالبرتقالة بذلك أمينة صريحة صادقة، لا تُخفي بسلامة ظاهرها خبث باطنها؛ ولا كذلك التفاحة، التي قد تُبدي لك ظاهرًا نضرًا لامعًا، فإذا ما شققت جوفه ألفيته أحيانًا مَباءة يضطرب فيها أخبث الدود! فقلت: تلك والله يا سليمان خلة للبرتقال لم أكُن أعلمها من قبل؛ ولكني أتبيَّن الآن أنها حق لا ريب فيه، وإنه بهذه الخلة وحدها لجدير من بائع الفاكهة أن يرُصه في صناديقه الزجاجية، وأن يلُفه بغلاف من ورق شفاف حرصًا على هذه النفس الكريمة أن تُستذَل وتُهان في المقاطف والأقفاص، فهو لعمري بهذه العناية أجدر من التفاح الخادع؛ وماذا تعلم يا سليمان غير ذلك من صفات البرتقال؟ فقال: إنها لتُشبِع الحواس جميعًا؛ فهي بهجة للعين بلونها، وهي متعة للأنف بأريجها، ولذة للذوق بطعمها، ثم هي بعد ذلك راحة للأيدي حين تُديرها وتُدحرِجها كما تفعل يا سيدي الآن؛ وقد لبست البرتقالة معطفًا من جلد جميل، فإذا ما انتهت إلى آكلها نضَت عن نفسها ذلك العطاف الذي لامسته الأيدي؛ لتبدو لصاحبها بكرًا لم تُفسِدها جراثيم السوء والمرض، وهي فوق ذلك كله لم تنسَ أن تحنو بفضلها على الفلاح المسكين؛ لأنها قرَّرت منذ زمن بعيد أن تمنحه جلدها ليُملِّحه فيأكله طعامًا شهيًّا، وليس بالقليل أن يظفر زارع البرتقال بقشوره ما دام السادة قد نعموا باللباب، فهو اعتراف بالجميل محمود على كل حال!

قلت: أفبعد هذا كله يستخف بقدرها الفاكهاني، فيقذف بها قذفًا مُهمَلًا في الأوعية والسلال؟! أفبعد هذا كله تُقوَّم البرتقالة في سوق الفاكهة بمِليمين، وتُقدَّر التفاحة بالقروش؟! تالله لو كنت مُوزِّع الأرزاق على هذه الفاكهة لغيَّرت معايير التقسيم وقلبتها رأسًا على عقب، فأبيع هذا البرتقال الجيد بالوزن والثمن الكثير، والتفاح بالعدد والثمن البخس الرخيص؛ فلست أدري لماذا لا يكون أساس التقويم ما تُبديه الفاكهة من جودة وإخلاص؟!

قلت ذلك وكانت رنة الأسى في قولي تزداد شيئًا فشيئًا حتى خشيت أن تنقلب إلى ثورة، فلا يجد الثائر ما يُحطِّمه غير أثاثه، فأكلت البرتقالة وحمدت الله على نعمته.

وهنا نقر البابَ طارقٌ نقرة خفيفة، ثم دفعه في أناة وأقبل، وأخذ يدنو بخُطًى ثقيلة حتى اقترب من المائدة، فألقى عليها غلافًا مليئًا بأوراق، ثم جلس ونظر إليَّ نظرة يشيع منها اليأس، وابتسم ابتسامة خفيفة ينبعث منها القنوط وخيبة الرجاء، فسألته: ماذا دهاك؟ فأجاب: انظر! وأشار بإصبعه إلى الحزمة المُلقاة قائلًا: لقد رفض الناشر أن يتعهد طبع الكتاب، وهكذا ضاع مجهود أعوام ثلاثة أدراج الرياح! فسألته: وماذا قال الناشر؟ فأجاب: زعم لي أن الكتاب جيد لا بأس بمادته، ولكنه لا يتوقع له سوقًا نافقة؛ لأن العِبرة عند القارئين بالكاتب لا بالكتاب، ألست ترى في ذلك يا أخي عبثًا أي عبث؟

قلت: هوِّن على نفسك الأمر ولا تحزن، فكتابك هذا برتقالة رخيصة، وكم في الأشياء ما هو جيد ورخيص! وإن ذلك ليُذكِّرني بيوم أشقيت فيه نفسي بتحرير مقالة جيدة ممتازة، وحملتها فخورًا إلى صاحب الصحيفة الأسبوعية، وجلست أمامه أرقُب كلمة التقدير تنحدر بين شفتيه، فما راعني إلا أن أراه ينفذ مسرعًا إلى آخر المقالة يقرأ الإمضاء، فالمقالات عند سادتنا أولئك تُقرأ من أذيالها لا من رءوسها! ثم مطَّ شفتيه مطًّا فهمت معناه، ودفعها بين أوراقه حيث استقرت إلى الأبد، وها أنا ذا أتبين اليوم أن مقالتي — ككتابك — برتقالة رخيصة؛ فخير لنا وأقوَم أن نكون تفاحًا معطوبًا من أن نكون برتقالًا جيدًا لذيذًا.

ألا ما أكثر بين الناس هذا البرتقال الرخيص! فإن شئت حدثتك عن رجل يكيل له أولو الأمر المدح والثناء؛ ولكن كما يمدح الآكلون البرتقال؛ يستمرئونه ولا يدفعون له إلا ثمنًا قليلًا، وإن شئت حدثتك عن رجل أراد الزواج، فوجدت فيه المخطوبة ما تشتهي من خُلق قوي ورأي مُستقيم، ولكنها نظرت فإذا هو في سوق السلع بضاعة بخسة مُزجاة، فهزَّت كتفيها ومطَّت شفتيها، وقالت مُغضَبة: رُدوه! إنه برتقالة رخيصة تُمتدَح ولا تُشترى، وإن شئت حدثتك وحدثتك.

فمتى؟ متى يا رباه يعرف الفاكهاني لهذه البرتقالة المسكينة قدرها؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤