في سوق البغال

قد كنت أعلم حقًّا وصدقًا ويقينًا أن الليالي من الزمان حُبالى يلِدن كل عجيبة؛ لكنني لم أكُن أعلم أن عجائب الزمان قد تهزأ بالخيال، ما شطح منه وما جمح، حتى سمعت أن بغلًا يحتج ويُحاجُّ كما يفعل عباد الله من بني الإنسان.

فلقد حدَّثني صديق إنجليزي، كان ضابطًا في البحرية إبَّان الحرب، عن زميل له طوَّحت به خطوب البحر إلى جزيرة نائية في عُرض المُحيط الهادي، لم يزِد سكانها فيما رأى عن بضع مئات اختلفت طبائعهم عن طبائعه، ولسانهم عن لسانه؛ لكنه كان في خبرته بالحياة فسيح الأفق بحيث لم يُدهَش لاختلاف الشعوب في طرائق العيش وأساليب التفكير والتعبير، فالناس في رأيه ناس إن ابيضَّت جلودهم أو اقتتَمت، والناس ناس إن دارت ألسنتهم في الأشداق من اليسار إلى اليمين أو دارت من اليمين إلى اليسار؛ لكن الذي أدهشه حقًّا من أهل الجزيرة سذاجةٌ بلغت بهم في سرعة التصديق حدًّا لم يألَفه فيما شهد من شعوب الأرض طرًّا، فهم يتناقلون رواية خلفًا عن سلف يُؤمِنون بصدقها لإيمانهم بصدق رُواتها، مع أنها تُنافي أوضاع الطبيعة كلها، أو قُل إنها تُنافي ما ألِف ذلك الزميل من هذه الأوضاع.

فقد روى له هنالك راوٍ أنه منذ مائة عام عُرضت في ساحة السوق من الجزيرة جماعة من البغال للبيع والشراء، جيء بها من أرض في شمالي أفريقيا لعلها بقعة من صحرائها لم يعرف أهل الجزيرة كيف يُسمُّونها؛ فأخذ الأمر يجري مَجراه المألوف عند القوم هناك كلما تم بينهم بيع أو شراء؛ عُرضت البغال وجاء الشارون، فلم يكُن بد من أن تُنزَع عن ظهورها السُّرج، ومن أفواهها اللُّجم، لتبدو عارية من كل زينة؛ وأخذ الخبراء يَجُسون عضلاتها هنا، ويختبرون مَفاصِلها هناك، ويفتحون أفواهها لينظروا إلى أعمارها في أسنانها، ثم يركبونها ويدورون بها في ساحة السوق دورة أو دورتين، ليرَوا أهي في جريها من العاديات أم الزاحفات، خفاف الحركة هي أم ثقالها؛ ويختبرون قدرتها على الحَمل والجر بشتَّى الوسائل، ليَثق الشارون أنهم لن يُنفِقوا مالهم عبثًا إن أنفقوه ثمنًا لهذه البغال.

لكن البغال فيما يظهر لم تُعجِبها هذه الطريقة في التقويم والتسويم؛ لأنها تختلف عما ألِفته في بلادها؛ وهنا كانت المعجزة التي أدهشت صديقي وأدهشتني وستُدهِش كل قارئ وسامع؛ وهي أن ثارت البغال على سيِّدها وشقَّت عصا الطاعة على نحو يُشبِه جدًّا ما يصنعه البشر إذا غضبت منهم طائفة لأمر أو أعلنت عصيانها، فلم تكُن ثورة البغال جموحًا أو شموسًا، كلا، ولا رفسًا وركلًا، بل كانت احتجاجًا يقوم على علل وأسباب، أشبهوا فيه الآدميِّين لولا خَلل في المَنطِق قَل أن يزِل فيه الآدميون؛ أقول لولا هذا الخَلل في طريقة التفكير لخِلتها في ثورتها جماعة من البشر سحَرها ساحر ممن جاءتنا أنباؤهم في كُتب الأقدمين، فاستحالت بغالًا وما هي بالبغال، أو تقمَّصت أرواحها أجساد البغال فبقِي لها من صفاتها الأولى شيء وزال عنها شيء.

أوشكت عملية الجَس والفحص أن تنتهي بتاجر البغال أن يضع في أسفل سُلم التقدير بغلًا هزيلًا ضئيلًا رخْو العود تلين عضلاته لكل غامر، فإن جرى تعثَّر، وإن حُمِّل على ظهره هوى؛ لكن سرعان ما أشار هذا البغل الهزيل إلى سائر البغال فانتبذت ركنًا من ساحة السوق، تتبادَل الرأي والشورى؛ فإن لم تُدهَش لبغال تُجادِل وتُقاوِل، فادهَش لأن تكون الزعامة لبغل لم يكُن أضخمها حجمًا ولا أروَعها شكلًا أو أسرعها حركة؛ وأغلب الظن أن قد كانت له صفات رآها البغال ولم تُدرِكها أعيُن البشر!

قال البغل الزعيم لزملائه: ليس الرأي عندي أن نترك القوم يتحكَّمون في أقدارنا كما شاءت لهم أهواؤهم، وإنهم لعلى ضلال، فقد أراد الله لنا أن نكون بغالًا، ولله حكمته فيما أراد، ثم شاء لنا أن نكون مَركَبًا للإنسان وأداة لحَمل أثقاله، ولسنا على هذا القضاء المحتوم بثائرين، فالدنيا تبادُل وتعاوُن، نحن نحمله وأثقالَه، وهو يُعِد لنا المَأوى ويُنبِت الغذاء؛ لكن الذي لا ينبغي أن نلين له هو هذا الظلم والحَيف والإجحاف؛ فما هكذا يكون تقويم البغال، ولو تركناهم في ذلك وشأنهم اضطربت أوضاعنا، فعَلا أسفلنا وسفُل أعلانا، وقد خلقنا الله درجات بعضها فوق بعض، ومن الجحود بل من الكفر بنعمة الله أن نُسوِّي بين هذه المَنازِل المُختلِفات، أو نُغيِّر فيها ونُبدِّل؛ فهل أنوب عنكم لدى صاحب الأمر فأحتج لكم، فإما أقام للعدل ميزانه، وإما ثورة منا وعصيان؟

فاجتمع رأي البغال على أن يُبايِعوا ذلك البغل الزعيم.

تقدَّم كبير البغال وفي أثره الزملاء، والناس إزاء ذلك كله مفغورة أفواههم من عجَب، مفتوحة أعينهم من رعب وخوف؛ فهم يُؤمِنون بالمعجزات الخوارق التي لا تجري على سنن الطبيعة، على شريطة أن تكون تلك المعجزات رواية تُروى، لا حدثًا يقع منهم على مرأًى ومَسمَع.

قال البغل الزعيم لصاحب الأمر: لك أن تصنع بنا ما شئت في حدود العدل، وليس عدلًا أن يكون هذا أساس التقويم، لقد نزعتم عنا اللُّجم والسروج، فماذا أبقَيتم لنا مما تتِم به المفاضلة بين الجيد والرديء؟ فما بغل بغير سرجه ولجامه؟ وفيمَ هذا الجَس في عضلاتنا، وهذا الإرهاق كله في فحص أجسادنا؟ إن ذلك بِدع لم نعتده في بلادنا.

ارتعش صاحب الأمر من فرَق، وأجاب وقلبه في حلقه فزعًا: لست أدري في ذلك بدعًا فتلك سبيلنا في التقدير، الشيء عندنا قيمته فيما يصنعه؛ فالطبيب طبيب بمقدار ما يَطب للمرضى، لا بسمَّاعته التي يلُفها حول عنقه، والحذاء حذاء بما يُجيد من صناعة الأحذية لا بالغطاء الجلدي على ركبتيه، والكلب السلوقي مُمتاز لما يصنع في حلبة الصيد لا بطَوقه البرَّاق، والسيف بتَّار بحده لا بغِمده، فأي عجَب في أن يكون البغل بغلًا بقوته وسرعته لا بسرجه ولجامه؟

فأجاب كبير البغال: إنكم في هذا البلد تنخدعون بحقائق الأشياء، وإنكم في هذا لعلى ضلال مُبين، الشمس في حقيقتها كتلة ضخمة مُهلهَلة من غاز مُشتعِل؛ لكنها عند من يعقل قرص صغير مُستدير، لأنها تبدو لعينه قرصًا صغيرًا مُستديرًا، والقمر في حقيقته جسم مُعتِم؛ لكنه عند من يفهم سراج مُنير، لأنه يبدو لعينه سراجًا مُنيرًا؛ الطبيعة كلها بإنسانها وحيوانها ظواهر ومظاهر، فلماذا تَشذ عندكم البغال في تسويمها.

فسأل التاجر: كيف إذن يُسوَّم البغال في بلادكم؟

فقال البغل الزعيم: في بلادنا لا الزبَد يذهب جُفاءً ولا ما ينفع الناس يمكث في الأرض، فليست تخدعنا الحقائق عن إدراك الظواهر، ولا يُزيغ اللباب أبصارنا عن رؤية القشور؛ فلَنا في تسويم البغال وسائل شتَّى، أكثرها شيوعًا أن تتناسب قيمة البغل مع قيمة راكبه صعودًا وهبوطًا، فليس البغل يمتطيه الغني في حريره ونضاره، كالبغل يركبه الفقير في هلاهله وأسماله، وليس البغل يختال على صهوته صاحب الحوْل والطَّول، كالبغل يعلوه من ليست له سطوة وسلطان؛ وقد تعلو قيمة البغل لأن أباه كان مشدودًا إلى عربة أمير أو وزير، فتكتسب العربة هيبة من هيبة الراكب، ويستمِد البغل الوالد قيمة من قيمة العربة، ثم يأتي البغل الولد فيزداد قدْرًا لازدياد قدْر أبيه.

ليس هذا المِعيار في المفاضلة والتقويم بهيِّن ولا ميسور؛ ففيه من الدقة ما يخفى على غير الخبير؛ إذ قد تغمض الفوارق بين الراكبِين أحيانًا، حتى ليتعذَّر على مثلك ومثلي أن يعلم في يقين أي الراكبِين أرجح مِثقالًا، ليكون بغله أعلى منزلة ومِقدارًا؛ وكم من بغل أخطأ في ذلك الحساب فهوى نجمه وكان يحسبه إلى صعود؛ لهذا نشأت بيننا طائفة من الخبراء مَهمَّتها أن تُوازِن بين أقدار الراكبِين ليعتدل بذلك ميزان التسعير بين البغال، وإنك لتُدهَش أن ترى حساب الخبراء قد يدِق ويدِق حتى يُصبِح معادلة جبرية يحتاج فكُّ رموزها إلى مِران طويل؛ خذ لذلك مثالًا:

أي الراكبِين أعز سلطانًا؛ راكب ٌسطوته في قومه وسط بين الضعف والقوة لكنها سطوة تدوم وتتَّصل، أم راكب جبَّار مُكتسِح غير أن قوته تظهر آنًا وتختفي آنًا؛ فلقد رأيت في ذلك بغلَين اقتتلا أيهما أقوى سندًا وأعز ظهيرًا؛ أحدهما يقع راكبه في الناس بين بين ولكن قوته موصولة الحلقات لا تزول، والثاني راكبه يسطع ضوءه ويُخبِر كمصباح النار في الليلة الظلماء، فإن سطع خطف بريقه الأبصار، ولم يكُن هذا الراكب في مَجده حين اعترك البغلان؛ قال البغل الأول لزميله: أنا أفحل منك راكبًا وأقوى مُؤيِّدًا، لأن نفوذًا وسطًا خير من لا نفوذ؛ فأجاب البغل الثاني قائلًا: إن الفردوس المفقود يُرجى له يومًا أن يعود، ولا يخدعنَّك الركود القائم؛ فكَم من نهوض يأتي بعد ركود؛ ولَلجبروت الفعَّال لما يُريد — يظهر ويختفي — خير ألف مرة من نفوذ يدوم هيِّنًا ليِّنًا. ومضى البغلان في الجدل، لم يَدريا كيف ينحسم الخلاف بينهما بغير خبير، وقصدا إلى الخبير فأفتاهما بأن الحكم في مثل ذلك الأمر وسيلته العَد والحساب، فعلينا أن نعُد من زادت قيمته في الأسواق من بغال الصنف الأول، ومن زادت قيمته من بغال الصنف الثاني، والرجحان لما تكون في جانبه الكثرة العددية؛ فإن دلَّت الأرقام على أن البغال التي ارتفع سعرها بسند من الظُّهراء الأوساط الدائمين أكثر عددًا من التي ارتفع سعرها بسند من الظُّهراء الأقوياء المُتقطِّعين، كان الحكم للأول، وإن كان العكس فالحكم للثاني؛ وإن لم تخُني الذاكرة كان الرجحان في هذه المشكلة للبغل الثاني؛ إذ أثبت الإحصاء أن التيَّار القوي المُتقطِّع يدفع الطافي دفعات أقوى وأبعد من التيار الليِّن وإن اتَّصل، ودَع عنك بغلًا ليس لظهره راكب، فذلك بين القوم سخرية الساخرين.

ووسيلة أخرى لتسعير البغال عندنا: أن يُنظَر إلى نوع المَذاوِد ومكانها، بغض النظر عما تحويه تلك المَذاوِد من غذاء، أحِنطة هو أم شعير؛ فبغل غلا سعرًا وعلا قدرًا لأنه أكل من مِذوَد في بلد بعيد، فالمِذوَد في هذه الحالة يكتسب قيمة من قيمة المكان الذي وُضع فيه، ثم يكتسب البغل قيمة من قيمة مِذوَده الذي رُبط إليه حينًا؛ وإني لأذكر في ذلك أيضًا أن بغلَين اختلفا ذات يوم في قدرَيهما أيهما أقوَم؟ أما أحدهما فاغتذى من مِذوَد في بلاده؛ وأما الثاني فأرسلوه إلى بلد بعيد ليعلفوه، ولو عاد مليء الجوف لما كان بينهما خلاف؛ لكنه فيما رُوي عنه وما ثبت بالفحص الدقيق، لم يأكل هنالك شيئًا إما لخلاء مِذوَده وإما لمرض في جوفه، وارتدَّ إلينا خالي الأمعاء خاوي الأحشاء؛ ومهما يكُن من أمر فقد اختلف البغلان واستفسرا خبيرًا، لكن الأمر هذه المرة لم يحتَج إلى عَد وتقدير، فواضح لكل ذي بصر أنه بالمِذوَد لا بالغذاء يكون التسويم والتسعير؛ فإن أردت أن تُسوِّم بغلًا فلا تسَل ماذا أكل بل قُل أين أكل؛ فإذا علمت أنه أكل من مِذوَد في واق الواق بينك وبينه المَحطات والبحار والفيافي والقفار، فذاك بغل مَتين مَكين، أما إن علمت أنه أكل في حقل أبيه، لم يُشرِّق ولم يُغرِّب عن أرضه وذويه، فأهوِن به بغلًا عند بائعه وشاريه، ثمنه بخْس دراهم معدودة.

وطريقة ثالثة في تقويم البغال: قُدرتها على الرفس، فأقواها رفسًا أرقاها مَقامًا لأنه أصلحُها في تنازُع البقاء، وأحسبك لو سئلت في هذا لأجبت بهُرائك الذي فُهت به منذ حين، زاعمًا أن البغال لم تُستخدَم لترفس إنما استخدمت لتحمل الأثقال، فأعرضها ظهرًا وأقواها عضلًا هو أجدرها بالصعود في أسواق الشراء؛ لكن ذلك تفكير مُلتوٍ لا نُسيغه في بلادنا، فقد خلق الله البغال بالظهور والحوافر، وليس سوى التجربة وحدها أن يقول هل يكون البغل بغلًا بظهره أو بحوافره؛ فإن كانت الحوافر أنجح وسيلة وأقصر طريقًا، كانت ميزانًا عادلًا للمفاضلة بين البغال.

على أننا نستخدم كذلك وسيلتكم في جَس العضلات واختبار المَفاصِل؛ لكننا نقصرها على الطبقة الدنيا من البغال، فالدنيء منا لا السَّني هو الذي يُمتحَن امتحانًا قاسيًا قبل أن يُدفَع من ثمنه قرش واحد؛ فالفرق بيننا وبينكم هو أننا نُفرِّق بين البغال في طريقة التسعير وأنتم لا تُفرِّقون.

قال الرجل: إن كان هذا تسويمكم للبغال، فكيف تقويمكم للرجال؟

فقال البغل: ليس في بلادنا كبير فرق بين الرجال والبغال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤