الفصل الرابع

عبَرَت إلايزا حُدود المزرَعة والأَيْك والغابة، وسارت على طُول الطريق حاملةً طفلها بين ذراعَيها. كانت كثيرًا ما تُرافِق سيدتها لزيارة أقاربَ لها في إحدى القُرى الصغيرة التي لم تكُن تَبعُد كثيرًا عن نهر أوهايو، وكانت تعرف الطريق جيدًا. ووفقًا لخُطة هروبها العاجلة الأُولى، فكَّرَت إلايزا في أنها إن استطاعت عبُور النهر فستَتمكَّن من الذهاب إلى كندا حيث تعرف أنها ستكون بأمانٍ مع طفلها. كانت تجري طَوالَ الليل وكأنها أحد الأشباح، وقلَّما كانت تشعر بثقل ابنها الصغير على ذراعَيها؛ لكن حين طلَع النهار عرَفَت أنها ينبغي عليها أن تكون حَذِرةً أكثرَ وألا تُثير حولها الشكوك بفِعل تعجُّلها. فعَدلَت من قلَنسُوتِها وشَالِها، وأنزلَت هاري عن ذراعَيها ليمشي بجانبها؛ وحين كانت قدماه الصغيرتان تتعبان، كانت تُدحْرِج أمامه ثمار التفاح وتُشجِّعه على أن يجري خلفها. قطعَت مع طفلها أميالًا كثيرة بهذه الاستراتيجية، ثُم حين وصلا إلى المسارات المليئة بالأشجار، رفعَته إلى كتفِها وهُرِعَت به باتجاه النهر.

وقبل ساعةٍ من مغيب الشمس كانا قد وصلا إلى المدينة على مشارف نهر أوهايو. كانت إلايزا وابنها من ذَوي البشرة البيضاء حتى إن أحدًا لم يكن ليشكَّ أنهما عبدان هاربان، وكانت هذه الحقيقة تُشعِر الأم بالجُرأة، ثم استدارت الأم نحو نُزُلٍ صغير على حافة النهر. كانت المُضِيفة في هذا النُّزُل مشغولة بإعداد طعام العَشاء حين نادَتها إلايزا بصوتها العذب والمليء بالألم.

سألَت المضيفة بينما تقدمَت نحوها: «ما الخطب؟»

figure
تتعثر وتقفز وتنزلق.

سألَتها إلايزا: «هل هناك قاربٌ أو عبَّارة تُقِل الناس إلى الجانب الآخر؟»

«لا، انظري إلى النهر! لقد توقَّفَت جميع القوارب عن العمل.»

نظَرت إلايزا باتجاه النهر. كان الوقت حينها في فترةٍ مبكرة من فصل الربيع وكانت المياه هائجةً ومضطربة. كانت قطعٌ كبيرة وضخمة من الثلوج تتأرجح جيئةً وذهابًا في المياه، وبفعل البِنْية الخاصة لشاطئ كنتاكي حيث تصل الأرض إلى مسافةٍ أبعدَ في المياه على شكلِ مُنحنًى، كان الثلج مُحتجَزًا ومُستقرًّا بكمياتٍ كبيرة، وفي القناة الضيقة الصغيرة القريبة التي كانت تَلتفُّ حول المُنحنَى، كانت قطع الثلج تتجمَّع بعضها فوق بعض مما أسهم في تكوين حاجزٍ مؤقَّت أمام الثلج المتساقط الذي تَشكَّل على هيئة طَوفٍ كبير، فكسا الثلجُ النهرَ كله بالكامل تقريبًا حتى شاطئ كنتاكي.

رأت المرأة نظرة الإحباط في عَينَي إلايزا فقالت:

«هل تعرفين شخصًا مريضًا هناك؟ تبدو عليكِ علاماتُ القلَق البالغ.»

قالت إلايزا وهي تَتنهَّد: «لديَّ طفل واقع في خطرٍ بالغ، لم أعرف قَطُّ بذلك حتى الليلة الماضية، وقد سِرْتُ كثيرًا اليوم حتى أصل إلى العبَّارة.»

قالت المُضِيفة برُوحٍ عطوفة: «حَسنًا، هذا من سُوء حظِّكِ. أنا حقًّا آسفة بشأنكِ. يا سليمان!» وهكذا نادت، فأجابها رجلٌ يرتدي مئزرًا جلديًّا ويداه قَذِرتان فسألَته: «هل سيأخذ ذلك الرجل هذه البراميل إلى الجهة الأخرى من النهر الليلة؟»

فأجابها الرجل: «قال بأنه سيُحاول إذا كان هذا ضروريًّا.» فشَرحَت لها المرأة قائلة: «هناك رجلٌ يعيش غَيرَ ببعيدٍ عن هنا وسيَعبُر النهر بشُحنةٍ ما هذا المساء، إذا ما وجَد في نفسه جَسارةً لذلك. سيصل إلى هنا الليلة ليتناول العَشاء؛ لذا فمن الأفضل أن تجلسي وتَنتظِريه.» ثم أضافت: «ذلك صبيٌّ لطيف.» بينما قدَّمَت له قطعة كعك؛ لكن الطفل بدأ يبكي.

قالت إلايزا: «إنه مُتعَبٌ للغاية.»

قالت المُضِيفة: «حَسنًا، ادخلا إلى هنا واستريحا قليلًا.»

وضَعَت إلايزا صغيرها على السرير وجلَسَت بجانبه، وأَمسَكَت بيده حتى غَطَّ في النوم. وبعد ساعة، نظَرت من النافذة في الوقت الذي وصَل فيه هالي والزنجيان وهما يمتطيان الجياد إلى باحة النُّزُل. انخلَع قلبها من مكانه، ثم حملَت طفلَها وخَرجَت من الباب الجانبي في غُرفتها وذَهبَت باتجاه النهر. لمحَها التاجر بينما كانت تختفي في ضفَّة النهر، فهُرِع بحِصانهِ نحوها ونادى على آندي وسام، وانطَلَق خلفها وكأنه كلبُ صيد يُطارد أَيْلًا. في تلك اللحظة أخذَت تُسرع الخطى بأقصى ما تستطيع، وفي لمح البصر كانت عند حافة الماء. أتى خلفَها مُطارِدوها، وشعرت هي بقوة كالتي يُعطيها الرب لليائسين وبصيحةٍ عالية منها وقَفزةٍ طويلة في التيار الكدِر عند شاطئ النهر، لتحُطَّ بقدمَيها على طَوفٍ ثلجي. كانت قفزتها يائسة — وكانت مستحيلةً عدا في وجه شخصٍ يائس مجنون — وصاح كلٌّ من هالي وآندي وسام، ورفَعوا أيديهم بينما كانت هي تُنفِّذ قفزتها.

حين حطت إلايزا على قطعة الثلج الخضراء الكبيرة بثقلِها تشقَّقَت، لكنها لم تمكث عليها سوى لحظةٍ واحدة؛ ذلك أنها وبصيحةٍ حادَّة منها وبطاقة شَخصٍ يائس قفَزَت على قطعةِ ثلجٍ أخرى وقفَزت مرة ثالثة؛ فكانت تَتعثَّر وتَقفِز وتَنزلِق وتثِب للأمام مرةً أخرى! سقَط عنها أحد زوجَي حِذائها وتَقطَّع جَوربها، وتَركَت دماؤها آثارًا على مكانِ كلِّ قفزةٍ قَفزَتها، لكنها لم تكن تَرَى أيَّ شيء ولم تَشعُر بأيِّ شيء، حتى رأت بشكلٍ خافت وكأنها في حُلمٍ ضفةَ أوهايو وعلى قمة الضفَّة رجلٌ يُحاول مُساعدَتها.

قال الرجل: «أيًّا كنتِ، فأنتِ فتاةٌ شجاعة!»

أدركَت إلايزا وجه الرجل وصَوتَه وعرَفَت أنه مالكُ مَزرعةٍ ليست بعيدة عن منزلها القديم.

قالت إلايزا: «أوه، أيها السيد سايمز، أنقذني. أنقذني من فضلك. خبِّئني!»

قال الرجل: «لماذا؟ ما الأمر؟ ألست أنتِ فتاة السيد شيلبي!»

قالت وهي تُشير إلى ضفَّة كنتاكي: «طفلي! هذا الصبي — لقد باعه! وهذا هو سَيِّده. أوه، سيد سايمز، أنتَ لديكَ طفلٌ صغير.»

أجابها الرجل بينما كان يَسحَبُها بقُوَّة نحو قمَّة ضفة النهر: «أجل، بالإضافة إلى أنكِ فتاةٌ شجاعة، وأنا أُحب الشجاعة أينما وجَدتُها. اذهبي إلى ذلكَ المنزلِ هناكَ.» ثم أكمل بينما أشار إلى بنايةٍ بيضاءَ كبيرة: «ليس هناكَ مكانٌ يُمكِن أن آخُذَكِ إليه، لكنَّ مَن هناكَ سيعتنونَ بكِ. لا أعلم ما سيقولُه لي جاري القديم شيلبي؛ لكنكِ رَبحتِ حُريتكِ، وسأُدافع عنها بكلِّ ما أُوتيتُ.»

لم تَستطِع إلايزا أن تتحدَّث، لكنَّها نظَرَت إليه نظرةً عبَّرت فيها عن شُكرها وامتنانها؛ واحتَضنَت صبيَّها وسارت مُسرعةً في اتجاه المنزل، وخرج من النهر ضبابٌ رَمَادي أخفاها عن عيون التاجر الذي كان يَستَشيط غضبًا عند الجهة الأخرى من النهر.

كانت الساعة قد دقَّت الحادية عشرة حين وصَل سام وآندي إلى المنزل بعد هُروب إلايزا وسارا يتصارعان نحو نهاية الشُّرفة، أما السيدة شيلبي فجاءت مُسرعةً نحو السور.

«أهذا أنت يا سام؟ أين هم؟»

«السيد هالي يستريح عند النُّزُل، إنه في غاية التعَب والإنهاكِ يا سيدتي.»

«وماذا عن إلايزا يا سام؟»

«في الواقع، إنها في الجهة الأخرى من العالم. إنها في أرضِ كَنعانَ كما يقولون.»

«ماذا؟ ماذا تقصد يا سام؟»

«الرب يحفظ أولياءه يا سيدتي. لقد عَبَرَت ليزي النهر نحو ضفة أوهايو وكأن الرب أرسل إليها عربةً يجُرُّها حِصانان.»

figure
«تعالَ إلى هنا يا سام!»

قال السيد شيلبي الذي تَبِعَهما نحو الشرفة: «تعالَ إلى هنا يا سام، وأخبِر سيدتكَ بما تُريد. تعالَي يا إميلي» بينما لفَّ ذراعه حَوْلها وأكمل: «أنتِ تشعرين بالبرد وترتجفين؛ إنكِ تُرهقين نفسَكِ كثيرًا.»

«أُرهِق نفسي كثيرًا! ألستُ بامرأة — ألستُ أمًّا؟ ألسنا مسئولين أمام الربِّ عن هذه الفتاة المسكينة؟»

صاح سام تحتَ الشرفة قائلًا: «هاكَ يا آندي، أيها الزنجي، استيقِظ. خذ تلك الجياد إلى الحظيرة. ألا تسمع نِداءَ السيد؟» وسرعانَ ما ظهر سام عند مدخل الصالة وفي يده سَعْفَة نَخْلة.

قال السيد شيلبي: «والآن يا سام، أخبرنا بالتفصيل كيف كان الأَمْر. أين إلايزا إذا كُنتَ تعلم؟»

«في الواقع يا سيدي، لقد رأيتُها بأُم عَيني وهي تَعْبُر على الجليد الطافي على الماء. حدَث الأمر على هذا النحو: وصلتُ أنا والسيد هالي وآندي إلى تلك الحانة الصغيرة، وكنتُ أسبقهما لأنني كنت أَكثَرَهم رغبة في الإمساك بليزي، وحين وصلتُ إلى النُّزُل، كنتُ على يقينٍ بما يكفي بأنها هي مَن تَسير هناك، وكان السيد هالي وآندي قادمَين خلفي. خلَعتُ قُبَّعَتي وغنَّيتُ بعلو صوتي حتى كِدتُ أُحْيِي الموتى، وبالطبع سَمِعَت ليزي صوتي، وانطلَقَت عائدةً أَدراجَها حين عَبَر السيد هالي الباب، ثم اختَفَت ليزي فجأة في بابٍ جانبي، ونزلَت إلى ضفَّة النهر، ورآها السيد هالي، وصاح فيها، ووقَفنا نُشاهدها أنا وآندي والسيد هالي. نَزلَت ليزي إلى النهر وكان التيار يَجري باتساع عشْرِ أقدام، وكانت كُتَل الجليد تَنتشِر في الأرجاء وتَتحرَّك هنا وهناك، وكأنها جزُرٌ عملاقة وَسَط الماء. أصبَحنا خلفها تمامًا وظننتُ أننا سنُمسِك بها، كنتُ واثقًا من ذلك، ثم سَمِعتُ صَرخَة ذُعر لم أسمَعْ لها مثيلًا من قبلُ، وأصبَحَت ليزي فجأةً على قِطعةٍ من الجليد الطافي على الماء، ثم استَمرَّت في صُراخها وقفَزاتها، حتى تشقَّق الجليد تحت قدمَيها وراح يتشقَّق بينما تَتقافَز هي عليه وكأنها غَزالة!»

جلَسَت السيدة شيلبي في صمتٍ تام وقد شحب وجهُها بفعل شُعورها بالإثارة، بينما كان سام يقُصُّ القصة.

ثم قالت: «الشكر للرب أنها لم تَلقَ حتفها!»

قال سام: «لولاي اليوم لكان السيد قد أمسَكَ بها بالفعل، أليس كذلك؟ لقد تسبَّبتُ في هروب الجياد هذا الصباح وظلَلتُ أُطاردها حتى قُرب موعد العَشاء، وقد قُدتُ السيد هالي بعيدًا عن الطريق مسافةَ خمسة أميال هذا المساء، وإلا كان سيُمسك بليزي بسهولةٍ كما يُمسِك الكلب بحيوان الراكون. هذا من حُسن تدبيري.»

قال السيد شيلبي بشيءٍ من الصرامة بقَدْرِ ما مكَّنه الوضع الحالي: «هذه التدابير هي من النوع الذي سيتَحتَّم عليك أن تتخلى عنه يا سام؛ فأنا لا أسمَح بمثل هذه الممارسات مع النبلاء في منزلي.» لكنه أخَذ نفسًا عميقًا وابتسم، بينما خرج الزنجيَّان لِتلقِّي مكافأتهما على يد العمة كِلوي في المطبخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤