الفصل الرابع

الإسلام والمسلمون في القرن التاسع عشر

(١) الإسلام

انتهى الإسلام في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد إلى نهاية جزره من القوة النفسية والقوة المادية؛ لأنه تلقى عن القرون الأربعة السابقة أثقالًا من المتاعب والأدواء لم تمتحن أمة من قبله بمثلها؛ كان بعضها كافيًا للقضاء على دولة الرومان الشرقية ودولتهم الغربية، وبعضها كافيًا للقضاء على دول الفراعنة والأكاسرة في الزمن القديم، وإن في هذا الميدان من ميادين المقارنة التاريخية لفارقًا يبدو لنا في كثير من الصور بين عظمة الدين وعظمة السياسة، فإن دول السياسة تذهب ولا تعود ولا يوجد بعدها من يحاول إعادتها، ولكن دولة الدين — أو على الأصح قوة الدين — تبقى من وراء الأمم والحكومات كأنها القِوام الذي تتعاقب عليه بنية في أثر بنية، وهو باقٍ يتجدد ولا يستسلم للفناء.

ولا نعرف من المؤرخين من يستغرب مصاب الإسلام بعد ما تلقاه من الضربات منذ القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر للميلاد، وإنما الغريب عندهم هو تلك القوة المنيعة التي صابر بها الكوارث والشدائد زهاء تسعة قرون، ولم يزل بعدها «وحدة إنسانية» هائلة تتخذ مكانها بين هيئات الأمم، ولا تزال على أمل وثيق في المزيد.

ونستطيع أن نتخيل تلك القوة المنيعة بنظرة سريعة نعرض فيها طائفة من الكوارث والشدائد التي صابرتها وصبرت عليها، وهي محيطة بها من خارجها، وناجمة فيها من داخلها وبين ظهرانيها.

فقد مضت القرون الأربعة بين القرن الحادي عشر والقرن الخامس عشر في منازلة الجيوش الصليبية، ولم تكد هذه الحروب تنتهي حتى خلفتها حروب «المسألة الشرقية» وهي التي وقفت فيها الدولة العثمانية — وكانت يومئذ دولة الخلافة — تناهض غارة بعد غارة من غارات الدول الأوروبية التي تألبت عليها، وأطلقت عليها اسم «الرجل المريض»؛ لأنها كانت تتنازع ميراثه وهو بقيد الحياة.

ولم تكد حروب المسألة الشرقية تنتهي بتنافس «الورثة» على بقية الميراث حتى أعقبتها حملات الشركات وأصحاب الديون، ومعها حملات الاستعمار والتبشير.

وقبل الحروب الصليبية وبعدها كان العالم الإسلامي عرضة لأهول الغارات من قبل آسيا الوسطى التي كانت ترسل الفوج بعد الفوج من عشائر التتر والمغول بقيادة جنكيز خان وهولاكو وغازان وتيمورلنك وأتباعهم من القادة والأمراء، وهم لا يفهمون معنى الغلبة إلا أنها قدرة على الفتك والتدمير، وأن أعظم المنتصرين من يقاس انتصاره بعدد من قتل من المحاربين وغير المحاربين، وعدد ما ضرب من المدن والقرى في الطريق. ومنهم من كان يظهر الإسلام ويغير على ممالكه؛ لأنها على زعمه تساس على خلاف شريعة الإسلام!

وفي خلال ذلك جميعه كانت الدولة الإسلامية تتسع وتمتد حتى ينقطع ما بينها من الصلة، ويتعذر على القائمين بها أن يجمعوها إلى حكومة واحدة، وكان اتساع الآفاق يصحبه اختلاف المواقع واختلاف السكان واختلاف المصالح والأهواء، فلا تلبث أن تتمزق وتتفرق، ثم تتعادى وتتعاون على البغي والعدوان، ضربات لم تصمد لمثلها دولة من الدول الجامعة أو الدول التي سميت بالإمبراطوريات في الزمن القديم.

وقد رأينا كثيرًا من المؤرخين يوازنون بين أخطار هذه الضربات، ويجعلون الحروب الصليبية في مقدمتها، أو يجعلونها فاتحة الضربات يتلوها ما تعاقب بعدها من الأخطار والأخطاء.

وهذه الحروب — ولا نكران — كانت من أعظم الأخطار التي امتحنت بها الأمم الإسلامية، ولكننا نعتقد أن الخطر فيها إنما كان على نقيض المفهوم من هذا الخطر في عرف الجملة من مؤرخيها؛ لأنها في الواقع لم تنهك قوى الأمم الإسلامية، ولم تتركها موقنة بالهزيمة في نظر نفسها، بل تركتها وقد أورثتها إفراطًا في الثقة برجحانها وإفراطًا في سوء الظن بأعدائها، وقد كان هذا هو باب الخطر الجسيم إلى عدة قرون.

ومن آثار الحروب الصليبية التي لا تفوت أحدًا من المؤرخين: أنها وقفت عواملَ الشقاق بين الأمم الإسلامية ردحًا من الزمن، وأنها جاءت بالترك العثمانيين من أواسط آسيا إلى أرض الروم، ودفعتهم إلى مقابلة الغارة بمثلها في صميم الديار الأوروبية، وأنها أيقظت الشرق الإسلامي كله من تخوم الصين إلى جوف الصحراء الكبرى في القارة الأفريقية، وإن أحمق الحمقى من الصليبيين كان أنفعهم وأقدرهم على إذكاء الحمية في نفوس الأمراء والسلاطين، وإن منهم لمن شغله الملك فوق اشتغاله بالدين.

وقد كان يوسف صلاح الدين بطل الحروب الصليبية غير مدافع في نظر الأوروبيين ونظر الشرقيين، ولكن الصفة التي كانت غالبة عليه — ولا شك — هي صفة الحلم الراجح والأناة الهادئة وإيثار الكسب بالسلم والمطاولة على الكسب بالعنف والهجوم، إلا أن هذا الرجل الحليم الرصين ثارت ثائرته حتى الجنون حين سمع بعزم «أرنولد» صاحب الكرك على فتح الحجاز، وإعداده العدة في البر والبحر لاقتحام المدينة والمساس بالقبر الشريف، وسرى وعيد «أرنولد» في المشرق كله، فنسي الخصوم خصومتهم والطامعون مطامعهم، وأقسم صلاح الدين ليقتلن «أرنولد» بيده، فكانت وقعة «حطين» التي تعد من وقائع التاريخ الحاسمة، وظفر صلاح الدين بشرذمة من الملوك والأمراء عفا عنهم جميعًا إلا «أرنولد» هذا؛ فإنه لم يقبل فيه شفاعة من أحد، وتناول سيفه وضرب عنقه بيده، وهو يقول: «برئتُ من شفاعة محمد إن قبلتُ في هذا الأحمق شفاعة شفيع».

وقد استنكر الصليبيون أنفسهم حماقة «أرنولد» هذا؛ لأنهم أدركوا أنها استثارت في نفوس المسلمين كل قوة كامنة، وأكسبتهم وقعة «حطين» بعد هزيمتهم في الوقائع التي سبقتها، وهكذا كان الشأن في أحمق الحماقات التي اقترفها شذاذ الصليبيين فإنها أفادت من أرادوه بشرِّها، وارتدت على أصحابها، وعجلت بالتوفيق بين المتنازعين والمتنافسين، وقد بطلت فيهم حيلة الموفقين.

وليس هذا الذي نعنيه من آثار الحروب الصليبية في نفوس المسلمين، فإنها آثار ظاهرة لم يغفل عنها أحد من مؤرخي تلك الحروب.

ولكننا نعني الأثر الذي عاد بالضرر الوخيم بعد عصر الحروب الصليبية بقرنين أو ثلاثة قرون، وهذا الأثر الوخيم العقبى: هو إفراط المسلمين في الثقة بأنفسهم وإفراطهم في سوء الظن بالأمم الأوروبية وكل ما يأتي من نحوها، حتى أوشكوا أن يوقنوا أنها لا تأتيهم يومًا بشيء يحتاجون إليه، ولولا هذه الثقة لما خطر لرجل كسليمان القانوني في حصافته واقتداره أن يتبرع بالامتيازات الأجنبية لأبناء الأمم الأوروبية الوافدين على بلاده، ولم يكن في وسعها أن تقسره عليها لو لم يتبرع بها في غير اكتراث بعقباها.

إن الأمم الإسلامية قد أنكرت على الأوروبيين الذين قدموا في جيوش الصليبيين ضروبًا من الخشونة والجلافة حسبتها من البربرية التي تعافها وتشمئز منها، ورسخ في نفوسهم أن هؤلاء القوم ليسوا بالمسيحيين؛ لأنهم لم يعملوا بوصية واحدة من وصايا المسيح التي يحفظها المسلمون، وكان أنكر ما استنكروه: سماحهم بجلب النساء من بلادهم لمعاشرة الجند معاشرة الأزواج بغير زواج، وكان أشد من ذلك نكرًا لديهم: أنهم يعظمون الصور والتماثيل تعظيم عباد الأصنام للطواغيت والأوثان، فلم ينظروا إليهم نظرة الأعلين إلى الأدنين وحسب، بل وقرت في أخلادهم سخافة ما يدعون من حق المطالبة بشيء قط باسم المسيح عليه السلام، فهم في دعواهم مبطلون، وهم غير أهل لتلك المطالبة لو كانوا صادقين.

مثل هذا الشعور قد يحيك بصدور الأمم في أوقات كثيرة فلا يضيرها؛ بل يمدها في قوتها إذا خامرها في إبان النمو والصعود، ولكن الظروف التي تطورت إليها الحروب الصليبية لم تكن من هذه الأوقات، بل صادفت على النقيض فترة ذات وجهين من قبل الشرق ومن قبل الغرب، فكانت في الشرق فترة هبوط في النهضات العلمية، وكانت في الغرب فترى صعود في النهضة العلمية الحديثة، قامت بعدها أوروبا مقام القيادة على هذه النهضة، وتخلف الشرق زمنًا عن اللحاق بها، وليس أخطر على الأمم من الاكتفاء بالذات والاعتزاز بالرجحان في أمثال هذه الظروف.

هبطت النهضات العلمية في الشرق بعد القرن الثاني عشر على أثر الغارات التي تعاورته في كل مكان، وانصبت كوارث هذه الغارات خاصة على معاهد العلم والمكتبات، فعصفت بالعشرات منها ما بين بخارى وسمرقند ومرو وبغداد ودمشق وحمص، وسائر المدن التي اشتهرت بمعاهدها ومكتباتها في الزمن القديم، ويحصى عدد الكتب التي احترقت خلال غارات التتر والمغول وغارات الصليبيين بمئات الألوف، وعدد المعاهد والمكتبات بالعشرات والمئات، وانصرف الأمراء وطلاب العلم عن العناية بالمدارس والمصنفات إلى التأهب والاستعداد لدفع المغيرين ممن كانوا يتوقعون غاراتهم واحدة تلو أخرى بغير انقطاع، وكثرت مطالب الحكام من المحكومين اضطرارًا في أول الأمر، ثم اختيارًا واعتسافًا مع تمادي الزمن حتى ساءت الصلة بين الحاكم ومحكوميه، وتراخى الزمن على أثر الحروب الصليبية، واستقرت الأحوال بعض الاستقرار، فعاودت البلاد الإسلامية الوسطى شيئًا من رخائها على طريق التجارة الهندية، ثم انقطع هذا الطريق واتجه الرواد إلى غيره من الطرق حول القارة الأفريقية، فاجتمع سوء الحكم إلى سوء الحال، وشاعت الشبهة عن حق وعن باطل بين الرعاة والرعية، وهذه هي الفترة التي كان ينبغي فيها للشرق الإسلامي أن يطلب المعرفة، ويؤمن بضرورة العمل على التقدم، أو يؤمن بمزايا العلم الحديث، ولكنها كانت — بحكم هذه الظروف جميعًا — هي الفترة التي أعرض فيها الشرق عن كل حديث، وعما يأتي على الخصوص من قبل القارة الأوروبية، فتأخر عن ركب الحضارة العصرية زهاء قرن كامل، لو أنه استفاده ناهضًا ومجاريًا للنهضة في مضمارها لما قصر عن اللحاق بالسابقين.

وجاءت المدارس العصرية من جانبين كلاهما مظنة للتهمة، وكلاهما موضع للحذر والاتقاء.

جاءت المدارس العصرية على أيدي الحكومات التي بلغ التنافر بينها وبين المحكومين حد العداء والاتهام بغير بحث ولا روية، فكان الناس يحسبون التلميذ المطلوب للمدرسة كالعامل المطلوب للسخرة، أو كالجندي الذي يساق إلى المشقة والوبال في غير مصلحة أو كرامة.

وجاءت المدارس العصرية أيضًا على أيدي رسالات التبشير التي صارحت الناس في ظل الامتيازات الأجنبية بغرضها من فتح المدارس وقبول التلاميذ بغير أجر في كثير من البلدان؛ فأحجم المسلمون عن تعليم أبنائهم في مدارسها، وجاوزوا ذلك إلى سوء الظن بالعلم نفسه، وسوء الظن بنية المعلمين وإيمان المتعلمين.

وانقطع ما بين المسلمين وعلومهم الأولى، فندر فيهم من كان يتعلم النافع منها؛ كالفقه واللغة والأدب والرياضة، وانقطع ما بينهم وبين العلوم العصرية فنظر الكثيرون منهم إلى علوم الجغرافيا والطبيعة والكيمياء كأنها الكفر البواح أو السحر المزيف، واتصل ما بينهم وبين الخرافة والجهالة بهذا الانقطاع بينهم وبين العلم الصحيح قديمه وحديثه، فاصطبغ فهمهم للدين بصبغة الجهل والتخريف، وطلبوا الخلاص من غير بابه، وتوسلوا للعمل فيه بغير أسبابه، واتهموا الناصحين، وأسلموا مقادتهم للمدجلين والمحتالين.

في هذه الفترة كان الإسلام كما يفهم الجهلاء — والجهلاء هم الأكثرون في سائر الأمم — مزيجًا من الخرافة والشعوذة ومن الطلاسم والأوهام، ومن الوثنية وعبادة الموتى.

في هذه الفترة كان بعض المتعالمين من أدعياء المعرفة يحكم بكفر القائلين بدوران الكرة الأرضية، ولا يتردد في تكفير من يسميها بالكرة.

وفي هذه الفترة كان طلاب الفتوى من مشارق الأرض ومغاربها يسألون عن الكبريت، هل يجوز مسه؟ وهل يجوز قدح النار منه؟ وطبخ الطعام على تلك النار؟ أو يأثم من يمس «صنفرته» لأنها من مادة نجسة تنقض الطهارة؟!

وفي هذه الفترة كان السائلون يسألون عن صناديق التوفير والادخار، وعن معاملات التجارة من طريق المصارف والشركات، ويحسبون أن اللياذ بالأضرحة والتوابيت وترتيل الأوراد والعزائم يغنيهم عن السعي والتدبير وعن الجهاد والاجتهاد.

وفي هذه الفترة على الإجمال كان المسلم يعيش في العالم كمن يمشي في خرابة مظلمة، لا يدري من أين تسري إليه عقاربها وحيَّاتها، ومتى تخرج عليه أشباحها وشياطينها، وانقلب معنى الإسلام إلى معنى المخافة والاتهام؛ إذ كان أول معاني الإسلام أنه طمأنينة إلى الخالق وخلقه، وكان هذا الإسلام الذي صار إليه المسلمون مخافة لا سلم ولا سلامة، واتهامًا لا تسليم فيه ولا مسالمة.

قلنا: إن الإفراط في الثقة بالنفس والاكتفاء بها كان فيما بعد الحروب الصليبية مضارعًا للإفراط في سوء الظن بالأعداء، وتوهم الاستغناء عنهم، والريبة بكل ما يأتي من قبلهم، وقلنا: إنه اكتفاء بالذات وخيم المغبة في أمثال هذه الأحوال.

ونقول على الدوام: إنه ما من شر يخلو من بعض الخير، وما من ضرر مطلق إن كان معنى الضرر المطلق أنه لا يقبل الترياق أو لا يحتويه في كثير من الأحايين.

هذه الفترة من الثقة العمياء لم تخل من فائدتها في المقاومة والأمل، في التبديل وفي عدل الله بين عباده، ولم تكد تبلغ أقصى مداها من الأضرار حتى جاءت بعدها نكبة الاستعمار بنقيض العبرة من دروس الحروب الصليبية؛ لأنها شككت المسلمين في كفايتهم واستغنائهم، وشككتهم في رجحانهم وغلبتهم، وقام بين المسلمين من يقول لهم: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن الغربيين نجحوا وتقدموا؛ لأنهم أخذوا بالوصايا والأحكام التي كان المسلمون أولى بها لو عقلوا وصايا الدين وأحكامه.

وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: ٢١٦].

فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: ١٩].

نعم، وفي اصطدام الشرق الإسلامي مرتين بالقارة الأوروبية مصداق لهذه الآيات البينات.

إنه سلم من الحروب الصليبية فاكتفى وقنع وغفل عما يحتاج إليه، وانهزم في وجه الاستعمار فعرف حاجته وتيقظ لنقصه، واستقام على النهج الذي لا غنى له عن الاستقامة عليه، وعادت به البأساء إلى «العقيدة الشاملة» التي ميزته بين عقائد الأديان، فهو في مدِّه اليوم عند منتصف القرن العشرين فإن لم يبلغ من مدِّه اليوم ما يرجوه فقد ترك المرحلة التي انتهى فيها إلى جزره في أوائل القرن التاسع عشر، وما في ذلك من خلاف.

(٢) المسلمون

بدأ القرن التاسع عشر وفي العالم من المسلمين نحو ثلاثمائة مليون، وانتهى وعددهم حوالي أربعمائة مليون، موزعين بين آسيا وأفريقيا، وقليل منهم في أوروبا لا يزيدون على خمسة عشر مليونًا بين البلقان والقرم وألبانيا واليونان وقبرص ورودس وبلاد البشناق وبولونيا وشواطئ بحر البلطيق في لتوانيا وفنلندا وما جاورها.

ويؤخذ من الإحصائيات الأخيرة أن عدد المسلمين في دولتي الهند يقارب تسعين مليونًا، وأنهم يبلغون في جزر السوند الكبرى وجزر السوند الصغرى وجزر الملوك التي تدخل في دولة إندونيسيا نيفًا وسبعين مليونًا، ويختلف المقدرون لعددهم في الصين من خمسة ملايين إلى مائة مليون، فتقويم جوثا يقدرهم بثلاثين مليونًا، وجلال نوري بك صاحب كتاب (اتحاد المسلمين) يقدرهم في داخل الحدود الصينية وفي منشورية وأنام وسيام والهند الصينية وفي الجزر التابعة لإنجلترا من أرخبيل ملقا بنحو ستين مليونًا، أما إحصاءات بعثات التبشير فهي تقدرهم تارة بثلاثة ملايين وتارة أخرى بخمسة ملايين في داخل حدود الصين، ويرتفع الرحالة عبد الرشيد إبراهيم بعددهم إلى مائة مليون، ويقول هانوتو أحد وزراء الخارجية السابقين بفرنسا إنه: «قد انبعثت شعبة منه في الصين فانتشر فيها انتشارًا هائلًا حتى ذهب بعضهم إلى القول بأن العشرين مليونًا من المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون؛ فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء لساكياموني.»

ويعقب السيد توفيق البكري على هذا في رسالته عن مستقبل الإسلام فيقول: إن تاجرًا بلوجيًّا جاء القاهرة في هذه الأيام، وكان قد ذهب إلى الصين مرارًا «يؤكد القول بأن مسلمي الصين يبلغون ثمانين مليونًا، وأن علماءهم يهزءون بقول الأوروبيين إنهم أربعون مليونًا».

وقد تلقت الصحف الأوروبية برقية من الجماعة الإسلامية في الصين، أرسلتها أثناء حرب الصين واليابان، تقول فيها: إنها تتكلم بلسان خمسين مليونًا من المسلمين.

فلا مبالغة — مع ملاحظة هذه الإحصاءات جميعًا — في تقدير مسلمي الصين اليوم بنحو ستين مليونًا، يضاف إليهم ثلاثون مليونًا في التركستان وبخارى والقفجاق وغيرها من ولايات روسيا الآسيوية، ويضاف إليهم خمسة عشر مليونًا في إيران وبلاد الأفغان، وثلاثون مليونًا في بلاد العرب والعراق والشام وفلسطين وشرق الأردن وآسيا الصغرى، وبضعة ملايين في الجزر التابعة لإنجلترا والولايات المتحدة، فلا يقل عدد المسلمين الآسيويين عن ثلاثمائة مليون، وإن قل فهو بين مائتين وخمسين وثلاثمائة من الملايين.

أما في أفريقيا: فالتقدير المعتدل لهم يقارب مائة مليون، منهم خمسة وعشرون مليونًا في مصر والسودان، وعشرون مليونًا في ليبيا وتونس والجزائر ومراكش، وعشرون مليونًا في الصحراء الغربية والسودان الفرنسي وبحيرة تشاد والشواطئ الغربية، ونحو عشرة ملايين في زنجبار ومدغشقر والسواحل الشرقية والصومال، وسائرهم بين الحبشة وأوغندة وكينيا وأفريقيا الجنوبية.

فليس من المبالغة أن يقدر عدد المسلين في العالم بأربعمائة مليون؛ أكثرهم في آسيا وأفريقيا، وأقلهم في أوروبا، عدا ألوفًا معدودة في العالم الجديد.

فهم جميعًا بحكم موقعهم من أبناء العالم القديم، يقابلهم سكان أوروبا الغربيون الذين نشأت بينهم الحضارة العصرية، ويصدق عليهم وصف واحد في المقابلة بينهم وبين الأوروبيين المحدثين، فلا يقال عنهم: إنهم تقهقروا منتكسين إلى الزمن القديم، وإنما يقال عنهم: إنهم وقفوا حيث تقدم غيرهم مع العلم الحديث، ولا ينسى المنصف في هذه المقابلة أن الأوروبيين الذين تقدموا هم الأوروبيون الذين اتصلوا بالإسلام من قريب، وهم أبناء أوروبا الغربية، ثم أبناء أوروبا الذين احتكوا بالإسلام في الحروب الصليبية، ولا نعني أن أسباب التقدم تنحصر في هذه الصلة أو في هذا الاحتكاك، ولكننا نعني أن الإسلام لم يكن قط قوة مهملة في حركة من الحركات الإنسانية سواء نشأت بين ظهرانيه أو نشأت في مواطن أخرى، وإن المؤرخ المحقق لن يستقصي أسبابًا للنهضات الإنسانية على اختلافها دون أن يرجع بمرحلة منها إلى نهاية أو بداية في عالم الإسلام.

وفي هذا السياق ينبغي الالتفات إلى أمر واقع قلما يلتفت إليه المؤرخون من الغربيين أو الشرقيين، وهو أن محاربة الإسلام كانت على الدوام نكبة على محاربيه من المستعمرين، فإن السابقين إلى الشرق من المستعمرين الأوروبيين هم البرتغاليون والإسبان، ولكنهم لم يثبتوا في الشرق طويلًا؛ لأنهم ذهبوا إليه بسمعة العداء للإسلام، وكان الإسبان يسمون المسلمين في جزر الهند بالمور متابعة لما عهدوه من تسمية المسلمين بالمراكشيين، وكان البرتغاليون أول من نزل بجزائر السوند الكبرى وجزائر السوند الصغرى وما بينهما من الجزائر التي يكثر فيها المسلمون، فلما تنافس البرتغاليون والإسبان وغيرهم من أبناء أوروبا الغربية وأمريكا دارت الدائرة على الأولين؛ لأنهم وجدوا العداء من المسلمين حيث نزلوا بينهم، وهكذا كان نصيب روسيا في آسيا الشمالية حيث اشتهرت بعداوة الخلافة الإسلامية، فقد كان موقف المسلمين منها في التركستان ومنشورية والصين الشمالية الغربية عقبة من أقوى العقبات التي رصدت لها في ذلك الطريق.

هذه القوة التي لم تسقط يومًا من حساب السياسة العالمية لن تسقط اليوم من هذا الحساب، وقد توضع السياسات الظاهرة والخفية لحربها وإقصائها من الميدان، ولكنها تتغلب على هذه السياسات حين تنقلب الأمور على غير إرادة الساسة والمقدرين؛ لأن العقيدة الدينية أثبت من برامج السياسة وخططها الظاهرة والخفية، بل هي أثبت من الجغرافية وما يسمونه حديثًا بالسياسة الجغرافية؛ لأن العقيدة الدينية تحول السكان حيث تثبت معالم الأرض ورواسي الجبال.

ونحن نستطرد هذا الاستطراد في مقدمة الكلام على المسلمين في القرن التاسع عشر؛ لأنه يعيد إلى الأذهان أخطاء المقدرين وأصحاب السياسات قبل مئات السنين، ويجعل هذه الأذهان على استعداد لانتظار أخطاء أخرى من هذا القبيل قد ينكشف عنها الزمن بعد آن قريب.

•••

انقسم العالم في بداءة القرن التاسع عشر إلى حضارة حديثة في الغرب، وحضارات قديمة في الأقطار الآسيوية والأفريقية، وكان المسلمون — إلا القليل منهم — في هذه الأقطار تخلفوا عن ركب الحضارة في الصناعات والمخترعات والعلوم الحديثة، وأصابهم هذا التخلف في مرافقهم جميعًا، ومنها الزراعة والتجارة التي كان قوامها الأكبر على الملاحة الشراعية؛ فتراجعت شيئًا فشيئًا أمام ملاحة البخار، وتراجعت كذلك عن سيادة البحار.

ولما تقدمت مرافق الصناعة والتجارة في الغرب تقدمت معها وسائل التنظيم والإدارة، وبقي الشرقيون جميعًا، والمسلمون منهم، متخلفين في هذه الوسائل إلى ما قبل نهاية القرن التاسع عشر بقليل.

وأصبح العالم الإسلامي في مقدمة الأهداف التي تصوبت إليها حملات الغرب الثلاث، وهي حملات التبشير والاستغلال والاستعمار، ويتقدم التبشير هذه الحملات في ترتيب الزمن لا في الخطر والأثر؛ فإنه قد بدأ مع الحروب الصليبية حوالي القرن الثاني عشر، وكان في كثير من الأقطار رائدًا لحملة الاستغلال وحملة الاستعمار.

أما العالم الإسلامي من وجهة النظر إلى مركزه السياسي: فقد كان معظمه عند أوائل القرن التاسع عشر في حوزة الدول الأجنبية، ولم يبقَ فيه من الدول التي كانت على نصيب من الاستقلال في عرف السياسة غير دول ثلاث، وهي الدولة العثمانية التي سميت بدولة الخلافة من عهد السلطان سليم، والدولة الإيرانية، والدولة الشريفية بالمغرب الأقصى.

ولم تكن هذه الدول على شيء من الاستقلال في غير الظاهر؛ لأنها لم تكن تملك من حقوق التصرف في سياستها الداخلية أو الخارجية ما تملكه الدول المستقلة، وأكبرها وأقواها — وهي الدولة العثمانية — كانت عرضة للتدخل الدائم من قبل الدول الكبرى في كل شأن من شئونها؛ إذ كانت هي محور المسألة الشرقية التي تتلخص في عبارة واحدة وهي: تقسيم بلاد الشرق «أولًا» بين روسيا وفرنسا وإنجلترا، ثم تلحق بهذه الدول كل دولة أثبتت لها وجودًا في ميدان الاستعمار أو في ميدان السياسة العالمية على الإجمال كالنمسا وبروسيا وإيطاليا وإسبانيا.

الدولة العثمانية

وكانت المسألة الشرقية قائمة على محو الدولة العثمانية، ولكن الدول التي تعنيها هذه المسألة لم تكن على اتفاق في طريقة التنفيذ، ولم تكن على اتفاق كذلك في العجلة أو الأناة، ولم تكن على اتفاق بينها في نصيب كل منها من تركة «الرجل المريض» كما سميت الدولة العثمانية في ذلك الحين.

فروسيا كانت تتعجل التقسيم لتحتل القسطنطينية ومضايق البسفور والدردنيل، وفرنسا كانت تتوسط بين العجلة والأناة؛ لأنها كانت تكتفي بلبنان وسورية وبيت المقدس، ولا تحرص على تقويض الدولة العثمانية من رأسها، وإنجلترا كانت تطمح إلى طريق الهند، ولا تأبى عند الضرورة أن تساعد فرنسا؛ لتستعين بها على صد روسيا والحيلولة بينها وبين بلاد البحر الأبيض، وحاولت كل منها أن تتخذ لها صفة الرعاية لجميع المسيحيين بالديار الشرقية، وكانت روسيا وفرنسا قد حصلتا على اعتراف من السلطان العثماني بهذه الصفة؛ أولاهما: لرعاية الكنيسة الإغريقية، والأخرى: لرعاية الكنيسة اللاتينية، فحاولت إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر أن تضيف إلى ألقاب التاج لقب الحارس للديانة المسيحية، ولكن المسيحيين أنفسهم في الشرق الأدنى لم يعترفوا لها بهذه الصفة؛ لأن أتباع الكنيسة الإنجيلية كانوا يومئذ جدُّ قليل بين الشرقيين.

ولم تجد هذه الدول صعوبة في إقلاق الدولة العثمانية؛ لأنها كانت تستخدم سلاح الامتيازات الأجنبية حين تشاء وكيفما تشاء، وكان القرن التاسع عشر عصر الحركات الوطنية في بلاد المغرب والمشرق، فلم يكن من العسير على الدول أن تجد المطاوعين لها في ثورتها على الحكم التركي سواء من المسيحيين وغير المسيحيين، ومنهم مسلمون يطلبون الاستقلال أو ينقمون على الإدارة التركية، ولكن الأمر الجدير بالنظر أن السياسة الجهنمية لم تتورع عن خلق المذابح في المكان المطلوب وفي الآونة المطلوبة، فحدثت مذابح أرمينية ومذابح لبنان ومذابح الإسكندرية على هذا التقدير كلما كانت لازمة لتنفيذ إحدى الخطط التي ترسم قبل ذلك بسنوات أو شهور، وكانت هذه المذابح هي التي تدعو إلى التدخل من جانب الدول الكبرى، أما المذابح في روسيا أو في البلقان فلم يعرض لها أحد بمجرد الاحتجاج فضلًا عن التدخل أو التهديد بالاحتلال.

واصطلحت علل الضعف والجمود والخلل جميعًا على الدولة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فانهزمت جيوشها في ميادين لم تتعود فيها غير النصر العاجل قبل هذه الفترة، ولما أرادت أن تدرب جيوشها على النظام الحديث تمردت فرق «اليني شاري» التي كانت هي نفسها تجديدًا على النظم الحديثة في حينها كما يدل عليه اسمها، فقمعتها وكادت أن تستأصلها بالقليل الذي دربته على الأساليب العصرية، قبل أن يتم لديها من الجيوش العصرية ما يغنيها في حروبها المتتابعة، وكانت قد استكثرت من عقد القروض لسداد نفقات هذه الحروب، وإشباع نهمة السلاطين والأمراء الذين أفسدهم الضعف والاستبداد، فانغمسوا في الترف والبذخ، وكلفوا بلادهم ما لا تطيق من الضرائب والإتاوات، وأفضى سوء السياسة المالية إلى إعلان الإفلاس والعجز عن أداء فوائد الديون (في سنة ١٨٧٤) في مواعيدها، واعتمد ساسة الباب العالي في مقاومة الدول صواحب الديون وصواحب الامتيازات على المضاربة بينها ومنح الامتيازات الاقتصادية تارة لهذه وتارة لغيرها، وقد كانت الدولة البروسية تبرز شيئًا فشيئًا إلى ميدان السياسة العالمية، ولا سيما بعد حرب السبعين التي انتصرت فيها على فرنسا، فاتخذ منها ساسة الباب العالي ذريعة للتخويف والتهديد، ورحبوا بالاتفاق معها على إصلاح المواصلات الداخلية فمنحوها (في سنة ١٨٨٨) امتيازًا بمد الخط الحديدي إلى أنقرة بعد امتداده في المجر إلى القسطنطينية، وأتبعوا هذا الامتياز بامتياز آخر لمد الخط إلى قونية على أن تخترق السكة آسيا الصغرى إلى الشام وبغداد، ولم تقف الدولة الإنجليزية مكتوفة اليدين أمام هذا الخطر الذي يقترب من الهند، ولكنها اضطرت إلى التراجع والسكوت حين لمحت من بروسيا بوادر الاتفاق عليها مع فرنسا على هذا الجانب من جوانب المسألة الشرقية، وعلى التدخل في القضية المصرية؛ لمطالبتها بالجلاء عن مصر تحقيقًا لوعدها.

ومن خطوط المواصلات الهامة التي تمت في بلاد الدولة بين منتصف القرن التاسع عشر ونهايته؛ قناة السويس (سنة ١٨٦٩) وسكة حديد الحجاز (من سنة ١٩٠٠ إلى ١٩٠٨) وهي السكة التي تجاوبت بأخبارها دوائر الاستعمار على أنها تعبئة من تعبئات الجامعة الإسلامية.

وإلى هذه الآونة كانت كل دولة ذات أثر في المسألة الشرقية قد انتزعت لها قطعة من بلاد تركيا في أوروبا أو آسيا أو أفريقيا، ما عدا بروسيا التي سيطرت في هذه الآونة على الأقاليم الألمانية بأجمعها، فاغتنم عاهلها «ولهلم الثاني» هذه الفرصة للتقرب من تركيا ومن العالم الإسلامي بأسره، وزار الآستانة وبيت المقدس، ونادى في بعض خطبه بصداقة دولته للثلاثمائة مليون مسلم المنتشرين بين بقاع المشرق، ونظر ساسة الترك إلى دولة أوروبيا يعتمدون عليها في تنظيم جيشهم، فلم يطمئنوا بطبيعة الحال إلى روسيا، ولم يجدوا عندها الكفاية الفنية لهذه المهمة، ولم يطمئنوا إلى إنجلترا؛ لأن وزيرها جلادستون أعلن غير مرة وجوب «طرد الترك» بقضهم وقضيضهم من كل بقعة في أوروبا، فرحبوا بالمساعدة الألمانية على تنظيم الجيش وتدعيم الأسطول على حذر، ولم يكن عبد الحميد داهية بني عثمان لينسى مؤتمر برلين ومرامي الألمان في الوقت المعلوم نحو المشرق، ولم تغب عنه الدعوة العسكرية والثقافية التي نجحت بين الألمان المعاصرين، واتخذت صيحتها (إلى الشرق) شعارًا تردده، وتعلق عليه الآمال في توسيع ملك الجرمان، واستيلائهم على طريقهم من برلين إلى آسيا الصغرى إلى أواسط آسيا، ولم يخف عليه ما وراء حملة العاهل الجرماني على الآسيويين، وتحذير الغرب من يقظتهم، وتأليبه الأوروبيين على الشرق كله باسم الحذر من الخطر الأصفر، فتوخى في سياسته على الدوام أن يجنح إلى كل دولة من دول الاستعمار بمقدار، وترك بعده ساسة تربوا في مدرسته (حتى من أقطاب تركيا الفتاة) ينهجون نهجه في مسلكهم بين تلك الدول، فكان الكثيرون منهم يميلون إلى الحيدة عند اشتباك الحرب العالمية الأولى، وليس بالصحيح أن ساسة الترك كانوا مجمعين يومئذ على دخول الحرب إلى جانب دولتي المحور، ولكن الصحيح أن دول أوروبا الغربية استثارت الترك إلى محاربتها؛ لتضمن بذلك معاونة الروس إلى النهاية طمعًا في القسطنطينية، وتضمن معونة المتربصين بالرجل المريض من دول البحر الأبيض المتوسط وسائر الدول الطامحة إلى الشرق الأدنى، وقد يفيد في بيان الأعاجيب من خفايا سياسة الاستعمار أن نومئ هنا — على غير تأييد ولا تفنيد — إلى ما قيل عن دسائس المستعمرين التي أحكموا تدبيرها للتعجيل بالثورة الروسية بعد سقوط آل رومانوف، فلعلهم لم يجدوا لهم مخلصًا أوفق من هذا للتحلل من الاتفاق مع آل رومانوف على دخول القسطنطينية.

إيران

كان على عرش إيران في مفتتح القرن التاسع عشر شاه من أسرة قاجار — اسمه فتح علي شاه — تولى الملك بعد عمه أغا محمد الذي اشتهر بصرامته وقسوته على إخضاع ثوار الكرج وخراسان، وقد سمي فتح علي باسم رأس الأسرة، ولكنه لم يكن على نصيب من خلائق المؤسسين والفاتحين غير الطمع وحب الفخفخة، فاغتر بمظاهر التعظيم التي أحاطه بها رسل الدول الأجنبية، وراقه أن يرى بلاطه قبلة للسفراء والوفود من ملوك الغرب، فاستسلم لهذا الغرور، وتحالف مع بريطانيا العظمى على الأفغان؛ لاسترجاع أقاليم فارس الشرقية، وأملى له في مجاراة السياسة البريطانية أن روسيا انتزعت من فارس بلاد الكرج تلبية لطلب أميرها جورج الثاني عشر، فاستقبل الشاه مندوب شركة الهند الشرقية سيرجون ملكولم، وعقد معه محالفة سياسية تجارية تتعهد فيها الشركة بإمداد فارس بالسلاح والمال في حالة الاعتداء عليه من جانب الأفغان أو فرنسا، ويتعهد فيها الشاه بألا يعقد صلحًا مع الأفغان ما لم تنزل هذه عن مطالبها في الهند، وقد تمكن الشاه من صد الغارة الروسية على «أروان» في سنة ١٨٠٤ بمعاونة الضباط الإنجليز وضغط السياسة الإنجليزية، ثم أبرم في أواخر سنة ١٨١٤ — بعد نكبة نابليون — محالفة عامة تتعهد فيها فارس بإلغاء جميع الاتفاقات مع الدول المعادية لإنجلترا، وتتعهد فيها إنجلترا بنقدها مائة وخمسين ألف جنيه وتبادل المعونة في حالة الدفاع.

ولم تمض على هذه المعاهدة بضع سنوات حتى التحمت فارس وتركيا في الحرب التي انتهت بصلح أرضروم، ثم حاربت روسيا على أثر احتلال هذه لبعض الأقاليم المتنازع عليها، فانهزمت وتخلت عن أروان وتبريز (١٨٢٧) وخذلتها إنجلترا في هذه الحرب، فاستدارت بسياستها إلى مجاراة روسيا. وأخرجت البعثة العسكرية الإنجليزية التي قدمت إليها لتدريب جيشها على النظم الحديثة، وهاجمت «هرات» ثم تفاهمت مع حكام الهند على فك الحصار عنها، وفي سنة ١٨٥٦ شهرت إنجلترا الحرب على فارس — إذ عادت إلى مهاجمة هرات واستولت عليها — فاحتل الإنجليز بوشير والمحمرة، وتراجع الجيش الإيراني عن أرض الأفغان، ثم تم الاتفاق على الحدود الأفغانية الإيرانية.

وفي سنة ١٨٦٤ أنشئ أول خط تلغرافي بين بغداد وطهران وبوشير على اعتباره «توصيلة» للخطوط الهندية، وافتتح خط أوديسة وتفليس وطهران بعد ذلك ببضع سنوات.

واستمر السباق بين إنجلترا وروسيا على كسب الامتيازات والرخص من الحكومة الإيرانية، فلما حصل البارون دي روتر على امتياز باستغلال بعض الموارد الإيرانية وارتهان المكوس الجمركية، أسرع الروس إلى إحباط هذا الامتياز، وحصلوا على الإذن بإنشاء فرقة القواذق وإلحاقها بجيش إيران. ثم احتلوا مدينة «مرو» واستولوا على بلاد التركمان (سنة ١٨٨٤)، وتجددت مساعي الماليين الإنجليز فمنحوا امتيازًا بافتتاح نهر قارون للملاحة، ومنح البارون دي روتر هذه المرة امتيازًا بإنشاء المصرف الإمبراطوري مع الترخيص له باستغلال المناجم في إيران ما عدا مناجم الذهب والفضة (سنة ١٨٨٩).

وبعد هذا الامتياز بسنة واحدة حصلت إحدى الشركات على امتياز الدخان المشهور الذي تصدى جمال الدين الأفغاني لإحباطه، ثم تمادى الشاه (ناصر الدين) في الاقتراض وبذل الرخص ورهن الموارد، ومنها قرض إنجليزي في مقابلة رهن المكوس الجمركية بالخليج الفارسي، فتمكن جمال الدين من إثارة القوم عليه، وإغرائهم بعصيانه واغتياله على البعد والقرب، فقتل في سنة ١٨٩٦، وقيل: إن قاتله صاح به وهو يضربه: (خذها من جمال الدين).

وجلس ابنه مظفر الدين على العرش؛ فأصبحت إيران في عهده نهبًا مقسمًا بين النفوذين ومساعي المستغلين من الجانبين، فتقدم بنك الخصم الفارسي — وهو فرع من وزارة المالية الروسية — بإقراض الحكومة نيفًا وعشرين مليون روبية في مقابلة مكوس الجمارك بجميع أنحاء البلاد ما عدا خليج فارس، واشترط على الحكومة أن تصفي القرض الإنجليزي، ولا تتقبل قروضًا أخرى مدى عشر سنوات (في سنة ١٩٠٠).

واحتاج الشاه إلى قرض آخر بعد سنتين فأمدته به الحكومة الروسية في مقابلة الترخيص لها بمد السكة الحديد من جلفة إلى تبريز فطهران، وأوشك الاتفاق أن يتم على مد الخط إلى شواطئ الخليج لولا المقاومة الشديدة من جانب الإنجليز، تعززها مساعي الماليين على يد «دارسي» من زيلاندة الجديدة لإغناء خزانة إيران على معونة الروس، فانعقد الاتفاق بين دارسي D’ arcy وحكومة إيران على الترخيص له باستخراج النفط من منابعه التي كشفت بعد ذلك بمسجد سليمان، وحصة الحكومة من الأرباح ست عشرة في المائة عدا رسوم الامتياز وحصة بقيمتها من أسهم الشركة.

ولما كثرت المطالب والرهون على مكوس الجمارك وضعت الإدارة كلها في عهدة نوس البلجيكي، وكادت الدولة أن تشهر إفلاسها، وتفاقم سخط الشعب؛ فثار على الشاه وعلى وزيره عين الدولة المسئول عن سياسة القروض والرخص والرهون، ولاذ الثوار بمبنى السفارة البريطانية (يوليو سنة ١٩٠٦) فأسرع الشاه إلى عزل عين الدولة والمناداة بالدستور، وكظمه الغيظ فمات بعد افتتاح مجلس النواب بأسابيع (ديسمبر سنة ١٩٠٦).

أما الدولتان المتنافستان على أسلاب فارس؛ فإنهما قابلتا إعلان الدستور بالاتفاق الودي المشهور باتفاق سنة ١٩٠٧، فاعترفت روسيا بمصالح إنجلترا في الخليج الفارسي، واعتبرت الجزء الجنوبي الشرقي في المملكة «دائرة نفوذ بريطانية» وسلمت إنجلترا باعتبار الجزء الشمالي منها دائرة نفوذ روسية، وتركت بين الدائرتين بقعة مفتوحة لكلتا الدولتين، وختمتا الاتفاق بتوكيد الحرص على استقلال البلاد وسيادتها!

ولم تمضِ على هذا الاتفاق سنة واحدة حتى كان الشاه الجديد «محمد علي» ألعوبة في أيدي الروس؛ لأنه آثر الخضوع للدولة الأجنبية على الخضوع لأحكام الدستور.

فأغلق المجلس، واعتقل أعضاءه وأنصاره، وأعلن الحكم العرفي، وأمعن في المتظاهرين تقتيلًا وتشريدًا، واستعان بالجيش الروسي على قمع الثوار في تبريز، وكانت قوتهم فيها غالبة على قوة الشاه.

ثم اغتنمت إنجلترا الفرصة فعملت على إنشاء الشركة الإنجليزية الفارسية لاستغلال امتياز دارسي باستخراج النفط في جزيرة عبدان، واشتد غليان الشعور الوطني فهجم الزعيم البختياري علي قولي خان على طهران وخلع الشاه، ثم ظهرت السياسة الأمريكية في الميدان فقدم إلى طهران مستر مورجان شستر Shuster بطلب من المجلس؛ لتنظيم الإدارة المالية، وافتتح عمله بإنشاء فرقة عسكرية في خدمة الخزانة، وتطمين إنجلترا بدعوة ضابط بريطاني لقيادة تلك الفرقة، فأطلقت روسيا الشاه من مأواه وأرسلته إلى «إستر أباد» وأغارت على الشمال منذرة المجلس بالتقدم إلى الجنوب إن لم يبادر إلى طرد شستر ومرءوسيه؛ فرفض المجلس إنذارها، وأصر على استبقائه، وظهرت فجأة في طهران جماعة من الرؤساء ذوي النفوذ بين القبائل؛ فأغلقوا المجلس، وقبضوا على أزمة الحكومة ومن ورائهم قوة الدولة الروسية، وظلت فارس في قبضة الروس إلى ما بعد إعلان الحرب العالمية الأولى.

مراكش

كانت مراكش في بداءة عصر الاستعمار أول هدف للمستعمرين؛ لأنها كانت على أقرب نظرة من دول الاستعمار في أوروبا الغربية، وكانت في الزاوية المقابلة لأوروبا الغربية تشرف على البحر الأبيض وعلى المحيط الأطلسي؛ فكانت في هذا الموقع مطمح الأنظار أمام فرنسا وإسبانيا وإنجلترا، ولكن فرنسا لم تتقدم إليها؛ لأنها كانت مشغولة بحروبها في القارة، وكانت تعلم أن إنجلترا لا تطيق دولة كبيرة على العُدْوَة المقابلة لجبل طارق، وإسبانيا وصلت إلى أوائل القرن التاسع عشر وهي تلهث من الإعياء وتكاد بعد تنازع طلاب الملك فيها أن تصبح في عداد المستعمرات الخاضعة لغيرها. أما إنجلترا فكان جبل طارق يغنيها في ذلك الموقع عن العدوة الأفريقية، وكان همها أن تبقي مراكش في يد أبنائها وفي حوزة حكومة لا تقوى على منازعتها، وكانت وجهتها الأولى أن تحتل البحر الأبيض من شرقه عند مجاز التجارة الهندية، فلم تشأ أن تحسب عليها مراكش بدلًا كبيرًا في سوق المساومات الاستعمارية، واتفق بعد ظهور ألمانيا في ميدان الاستعمار وانتصارها على فرنسا أن المسألة بحذافيرها طرحت على مائدة المؤتمرات الدولية، فتفاهمت فرنسا وإنجلترا على التعاون المشترك في قضيتي مراكش ومصر، واستقر الرأي على تقسيم مراكش بين فرنسا وإسبانيا والمنطقة الدولية.

وقد بدأ القرن التاسع عشر ومراكش على شيء من القوة بالقياس إلى بلاد إفريقية الشمالية، فتصدى زعماؤها لمقاومة الفرنسيين بالجزائر بعد أن سلمت الدولة العثمانية بمركز الفرنسيين فيها، وزحف الجيش المراكشي إلى تلمسان مستثيرًا قبائل العرب والبربر في طريقه، واستطاع «أبو معزى» المراكشي أن يقتحم الجزائر بعد احتلالها بخمس سنوات، ولم يتمكن القائد الفرنسي من مقاومته إلا بنجدة قوية جاءته من فرنسا، ولكن سلطان مراكش لم ينقطع عن مناوشة فرنسا بعد هزيمة أبي معزى وأسْرِه، إلى أن تلاقى الجيش المحتل وجيش السلطان في سنة ١٨٤٤؛ فمنيت جيوش السلطان بهزيمة منكرة اضطربت لها جوانب المغرب، ونبهتها من غفلتها؛ فنهضت لإصلاح الجيش، وتثمير المرافق الوطنية، ووافق ذلك قيام السلطان «مولاي الحسن» بالملك — وهو من أقدر سلاطين المغرب — فأحسن التصرف في مواجهة الدول المستعمرة والاستفادة من تنافسها وتنازعها، وأدخل الأساليب العصرية على دواوين الحكومة ومعامل الصناعة ومدارس التعليم، وأكثر من إيفاد البعثات إلى جامعات الغرب؛ لتخريج الخبراء في الشئون الفنية والعسكرية، ومن فضائح الاستعمار: أن الدول الموقعة على معاهدة مدريد احتجت عليه حين اتصل بالآستانة لمثل هذا الغرض، واعتبرت ذلك منه اشتراكًا في حركة دينية معادية لا تنظر إليها بعين الارتياح والاطمئنان، واستنكرت تجديد العلاقة بين حكومة الآستانة وحكومة طنجة، والتمهيد لتبادل السفارات بينهما؛ لأنه يغير الوضع السياسي الذي اتفقت تلك الدول على أن تلاحظ فيه بقاء الحالة الراهنة.

ولم ينتهِ القرن التاسع عشر حتى كانت دول الاستعمار في موقف يسمح لها بالتفاهم على هذه القضية العسيرة. فبريطانيا تحسب حساب اليقظة الوطنية في مصر فتجنح إلى مسالمة فرنسا، وفرنسا تسترضي إيطاليا وتعدها بالإغضاء عن مطامعها في ليبيا، والنمسا تطمع في بلاد البشناق من تراث الدولة العثمانية، وألمانيا تعلم أن الحرب العالمية دون وصولها إلى مقام في المغرب الأقصى؛ لمعارضة إنجلترا وفرنسا، وترضى بنصيبها في الكونغو وبلاد التوجو من القارة الأفريقية.

وفي هذه الأثناء توفي السلطان الحسن وخلفه السلطان عبد العزيز، والمغرب الأقصى في أشد مآزقه وأحوجها إلى الحزم والحنكة، فعبث في مقام الجد وسوَّأ سمعته في العالم الإسلامي فضلًا عن العالم الأوروبي بما كان يشتغل به — أو يتلهى به على الأصح — من سفساف الأمور، وأرسل إلى مصر وغيرها في طلب المغنيين والراقصات، وأطمع الدول في العدوان على بلاده بهزله وغرارته، فانعقد مؤتمر الجزيرة (سنة ١٩٠٦) في أسوأ الظروف بالنسبة إلى المغرب، وشهده مندوبون من قبل السلطان وافقوا على ما تقرر فيه باتفاق الدول التي اشتركت فيه، وعدتها بضع عشرة دولة، وكانت قرارات المؤتمر في ظاهرها مؤيدة لاستقلال مراكش وسيادتها، ولكنها ناطت بفرنسا مهمة الحراسة وتنظيم إدارة الشرطة، فكان هذا الاعتراف بالاستقلال والسيادة من قبيل اعتراف إنجلترا وروسيا باستقلال إيران ذودًا للدول الأخرى عنها وانفرادًا بالنفوذ فيها، ومعنى الحراسة الفرنسية مع هذا الاستقلال: هو إطلاق يد فرنسا شيئًا فشيئًا في البلاد، وتحريم التعرض لها على غيرها.

وشبت الثورة الوطنية على أثر مؤتمر الجزيرة؛ لعجز السلطان، واسترساله في لهوه، وإسراعه إلى إقرار الوضع الجديد في بلاده، فبويع السلطان عبد الحفيظ بعده، وتعهد قبل مبايعته بمقاومة السيطرة الأجنبية، وإعلان الاحتجاج على قرارات مؤتمر الجزيرة. فتعلل الفرنسيون بهذه المقاومة للعهود الدولية، وأغاروا على العاصمة وأعلنوا الحماية، فكان إعلانها في تلك الآونة (١٩١٢) أول خطوة من الخطوات الحثيثة التي دفعت بالعالم إلى الحرب العالمية الأولى، ثم انطلقت يد فرنسا بعدها في شمال أفريقيا بغير معارضة من الدول المنهزمة التي كانت تحول بينها وبين التبسط في مطامع الاستعمار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤