الفصل السادس

أُمَم أُخرى

تلك في العالم الإسلامي أكبر الجماعات التي بقيت إلى ختام القرن التاسع عشر في حكم غيرها، وهي جماعات كبيرة حتى بالقياس إلى أكبر الجماعات من حولها؛ إذ ليست الصين مثلًا على عقيدة واحدة بملايينها الأربعمائة، ففيها الطاويون والبوذيون وأتباع كنفشيوس، وطوائف شتى لا تقيم شعائرها في بيعة واحدة، وقد تواترت الأدلة على الرغبة في الإقلال من عدد المسلمين بين هؤلاء في جميع الإحصاءات الحكومية وغير الحكومية، ولم تتبدل هذه الرغبة بعد إعلان الجمهورية، فقال دكتور ليمان هوفر معتمدًا على مراجع الحكومة العامة: إن عددهم يتراوح بين سبعة ملايين وعشرة، وكشف الأستاذ أحمد علي الباكستاني عن خطأ هذا الإحصاء معتمدًا على عدة مراجع، منها دليل الصين الرسمي في سنة ١٩٤٣، فإن تعداد سنكيانج وحدها في ذلك الدليل ٤٣٦٠٠٢٠ وتعداد قانصوه ٦٢٥٥٤٦٧ وتعداد شنسي ٩٧٩٩٦١٧ وكلها بلاد إسلامية أكثر من فيها مسلمون، وهذا عدا مسلمي يونان وشنغهاي ونتغسية وهم هناك قلة كبيرة، وعدا المسلمين بوادي اليانجستي، وقد ذكر ولز وليامس إحصاءهم في كتابه الذي ظهر قبل خمسين سنة (١٨٨٣) فقدرهم بناء على ذلك الإحصاء بعشرة ملايين، ولا حاجة إلى شواهد أخرى أو إلى استقصاء سائر الأقاليم لإثبات تلك الرغبة في الإقلال من عدد المسلمين الصينيين، فقد يرى بعضهم أن الجماعة الإسلامية التي كان ولاة الأمر الصينيون يودون الإكبار من شأنها لم تذكر كل الحقيقة حين كتبت — بإذن ولاة الأمور — أنها تمثل خمسين مليونًا من الصينيين.

ووفرة العدد هنا لها شأنها الخطير في قارة كالقارة الآسيوية يتقدم اعتبار العدد فيها اليوم على كل اعتبار.

وهناك شأن آخر لا بد من الالتفات إليه في كل كلام يتعلق بالجغرافية الإسلامية، فلا يخفى أن البلاد الإسلامية تبتعد عن شواطئ البحار بتدبير أو بغير تدبير، وذلك مصدر ضعف لها في بعض المواقع ومصدر قوة لها في المواقع الأخرى، فالمسلمون في وسط آسيا قوة؛ لأنهم هناك ميزان القارة الداخلية لا يتم أمر من الأمور في سياسة العالم التي ترتبط بتلك المواقع إن لم يحسب فيه حسابهم قبل كل حساب، ولكنهم في الجزر الهندية الشرقية يملكون الشواطئ فلا يهمل شأنهم في كل سياسة عالمية لها علاقة بحرية، وهم في الباكستان شرقًا وغربًا يتوسطون البر والبحر، فلا تنفصل سياسة القارة الآسيوية بعد النظر إلى هذه الاعتبارات كافة عن سياسة الإسلام.

وتعاصر هذه الجماعات الإسلامية الآسيوية أمم شتى لا تساويها في العدد، ولكنها ملحوظة المكانة والمكان لغير ذلك من الاعتبارات، وفي طليعتها وادي النيل والبلاد العربية.

وادي النيل

فوادي النيل قضى القرن التاسع عشر كله — اسمًا ورسمًا — في حوزة الدولة العثمانية، ولكنه كان قبل قيام الدولة العثمانية وبعد انحسار ملكها محور العالم الإسلامي، لجملة أسباب تدور على الدين تارة وعلى السياسة أو الثقافة تارة أخرى.

فقد كانت القاهرة تحسب عاصمة الإسلام، وكان ملوك الإفرنج يخاطبون سلطانها باسم أمير الإسلام إذا انتحل أحدهم لنفسه لقب الإمارة على المسيحيين، وكانت مصر طليعة الجيوش الإسلامية في مقاومة الصليبيين، وبيت المقدس تابع لها في أيام تلك الحروب، ومضى زمن على العالم الإسلامي في القرون الوسطى وهو لا يعرف قبلة لعلوم الدين أولى بالرحلة إليها من الجامع الأزهر، وعظمت مكانتها أمام الغرب بعد الحروب الصليبية في عهد الاستعمار، وفي عهد المسألة الشرقية، فكان الفيلسوف الألماني «ليبنتز» يغري لويس الرابع عشر بفتح مصر للقضاء على المستعمرات الهولندية، ويقول له: إن هولندا لا تجسر حينئذ على معاداته؛ لأنها تجر عليها غضب العالم المسيحي إذا حاربته وهو مشغول بفتح معقل الإسلام، ولما فكرت الدول في أمر قناة السويس كان المركيز دار جنسون Dargenson يروج للمشروع من الناحية الدينية فيقول: إنه فتح صليبي لجميع المسيحيين.

وشاءت الحوادث، كما شاء حكم الموقع، أن تسبق مصر بلاد العالم الإسلامي إلى الحضارة الحديثة؛ لأنها تنبهت إلى مزايا هذه النهضة عند وصول الحملة الفرنسية إليها بقيادة نابليون بونابرت قبيل ابتداء القرن التاسع عشر، وكانت في حقيقتها حملتين: حملة عسكرية، وحملة علمية يشترك فيها جلة العلماء من المختصين الثقات في كل علم حديث.

ويعتبر القرن التاسع عشر في مصر بمثابة الأزمة النفسية التي تصاحب سن الرشد في بواكير الشباب، فاعتلجت فيها النفس المصرية بتجارب النكسة والتقدم وعوامل الأسر والحرية، واستهلت أمة مصر سنواته الأولى بحركة من حركات الاستقلال تمثلت في إجماع القادة على عزل الوالي العثماني، وترشيح والٍ يختارونه ليخلفه على شرطهم من الاستقامة في الحكم والتعفف عن الحرمات والأموال، فتولى الأمر «محمد علي» ولجأ إلى النظم الحديثة في إدارة الدولة، وتثمير الأرض، والانتفاع بماء النيل، ولولا إسرافه في العدة لتوسيع ملكه لأدركت البلاد أضعاف ما أدركته من المنعة والتقدم بعد القضاء على عصابة المماليك.

وقد استفادت مصر في هذا القرن من الحضارة الأوروبية، وأوشكت أن تخلص لها فوائدها لولا بقايا الامتيازات الأجنبية، وأثقال الديون، وشطط الولاة وعجزهم من أيام عباس الأول إلى أيام توفيق بن إسماعيل، وفي عهد هذا تفاقمت بواعث السخط والنقمة، فثارت الأمة تطلب الإصلاح، وتعالج أن تفك قيودها بتقييد سلطان الولاة، فتذرعت بريطانيا (العظمى) باختلال الأمن في مصر لضرب الإسكندرية واحتلال القطر كله، ولم تنس أن تثير العصبية والطمع في الغرب بدعوى حماية المسيحيين وحراسة حقوق أصحاب الديون، ولم يحدث قط أن مسألة الديون سوغت احتلال شبر من الأرض في أوروبا أو أن اضطهاد المخالفين في الدين ضيع استقلال أمة من غير الشرقيين.

وكان القرن التاسع عشر — كما أسلفنا — بمثابة الأزمة النفسية التي تصاحب سن الرشد في بواكير الشباب، فحدثت فيه نكبة الاحتلال الأجنبي، وحدثت فيه قبل الاحتلال وبعده نهضة الحرية في وجه الدولة صاحبة السيادة وهي الدولة العثمانية، وفي وجه حكام مصر وهم سلالة محمد علي، وفي وجه السيطرة الفعلية وهي سيطرة المستعمرين، ويحسن بالمؤرخ الذي يعنيه الاستقصاء في النهضات الفكرية على الخصوص أن يقرر في ثقة ويقين أن العصبية العمياء لم تكن قط عاملًا فعالًا في حوادث مصر الهامة. فقد كان شعور مصر إسلاميًّا كلما أحس العصبية من الغرب في عدائه للأمم الإسلامية، ولكن الهتاف بالسخط على «العثمانلي» كان على لسان الخاصة والعامة، يدل عليه أن جماهير العامة كانت تنادي في أواخر أيام المماليك مستنجدة بالمتولي لهلاك العثمانلي، وكان هتافها الذي لا يعقل أن يصدر من غير العامة «يا متولي يا متولى. تخرب بيت العثمانلي»، وبعضهم يتعلم ويتخرج فيستبدل المتجلي بالمتولى، وهو وما جرى مجراه مسطور في تواريخ مصر بأقلام المصريين والأجانب، وأقلام المسلمين وغير المسلمين.

أما الخاصة: فمنهم الحزب السياسي الذي نادى «بمصر للمصريين» قبل نهاية القرن التاسع عشر بعشرين سنة، وعلى رأسهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أستاذ رجال الدين من المصلحين، وأحد أصدقائه وتلاميذه سعد زغلول قائد الثورة بعد الحرب العالمية الأولى، وكان وكيلًا للهيئة النيابية التي تألفت في أوائل القرن العشرين باسم «الجمعية التشريعية» وأثبتت أن الجماعات النيابية تنال منزلتها ومقدرتها على قيادة الأمم بفضل من فيها من الأعضاء لا بمقدار ما لها من الحقوق في النصوص والأحكام.

البلاد العربيَّة

ومن تاريخ الإصلاح الإسلامي في جزيرة العرب يبدو أن الإصلاح في العالم الإسلامي يخلق حيث توافرت دواعيه على حسب البيئة. فهو سابق في المجتمعات التي تدور فيها المعيشة على بساطة البداوة وما شابهها، وهو كذلك سابق في المجتمعات الحضرية التي تشعبت جوانبها، وتركبت عناصرها، فلا يصلح لها ما يصلح للبداوة، وكل ما هنالك أن الإصلاح فيها يتأخر به الزمن؛ لأنه يستلزم من الدواعي العلمية والاجتماعية ما لم يكن لزامًا في البيئات البدوية.

فالنهضة في مصر بدأت عند أوائل القرن التاسع عشر، ولكنها بدأت في الجزيرة العربية قبل ذلك بنحو ستين سنة بالدعوة الوهابية التي تنسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبدأت نحو هذا الوقت في اليمن بدعوة الإمام الشوكاني صاحب كتاب «نيل الأوطار»، وكلاهما ينادي بالإصلاح على نهج واحد: وهو العود إلى السنن القديم ورفض البدع والمستحدثات في غير هوادة، وإنما تسامع الناس بحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وظلت الدعوة الشوكانية مقصورة على قراءة كتب الفقه والحديث؛ لأن الوهابيين هدموا القباب والأضرحة في الحجاز، واصطدموا بجنود الدولة العثمانية في إبان حربها مع الدول الأوروبية التي اتفقت على تقسيمها، ومثل هذا الاصطدام قد أودى بدولة علي بك الكبير في مصر، فانتقض عليه أعوانه، وتمكن منه حساده بعد محالفته لروسيا في حرب الخلافة الإسلامية.

ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثًا في الجزيرة العربية، ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، فقد تبعه كثير من الحجاج وزوار الحجار، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأعجب المسلمين أن سمعوا أن علة الهزائم التي تعاقبت عليهم إنما هي في ترك الدين لا في الدين نفسه، وأنهم خلقاء أن يستجدوا ما فاتهم من القوة والمنعة باجتناب البدع، والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه.

أما سياسة الاستعمار: فلم يفتها في هذه المرحلة أن تستغل التمرد على الدولة العثمانية كما تستغل التنازع بين أمراء الجزيرة في داخلها وعلى شواطئها، فسارعت بريطانيا العظمى إلى التعاقد مع أمراء الشواطئ على نوع من الحماية الخفية، وأحكمت عقودها هذه بعد فتح قناة السويس، ومد السكك الحديدية إلى العراق، فلم ينقض القرن التاسع عشر حتى كانت قد أحاطت الجزيرة العربية بحلقات من هذه الإمارات التي تخضع لها، وتعمل لها في السر ما لا تستطيعه في العلانية.

الهِلال الخصيب

والهلال الخصيب وسط بين مصر والجزيرة العربية في نهضة الإصلاح الديني ومجاراة الحضارة الحديثة، فالمسلمون في بلاد الهلال الخصيب يشعرون بالحاجة إلى التغيير، ولكنهم لا يلتمسونه في بساطة القديم، ولا تتوافر لهم الوسائل لالتماسه في العلوم الحديثة، وتقيدت أحوالهم بأحوال الدولة التركية، فتعلم منهم من تعلم في المدارس التركية، وقدم بعضهم إلى الجامع الأزهر بمصر أو تلقى العلم على منهاجه من علماء بلده.

ولما تسابقت الدول الغربية إلى فتح المدارس في لبنان وسورية لم يقبل عليها المسلمون؛ لاعتقادهم أن التعليم فيها وسيلة للتبشير، وهو أمر لا يخفيه رؤساء تلك المدارس بعد انقضاء جيلين على افتتاحها، ومنهم رئيس جامعة كبيرة يقول: إن التعليم خير الوسائل في التبشير والتنصير.

ومن خدام الاستعمار: طائفة تمهد له بخدمة اللغة العربية تشجيعًا لثورة العرب على دولة الخلافة، واحتيالًا على نفث بعض المغامز في طيات الكتب التي تنشرها، وإن خدام اللغة هؤلاء لشاهد من شواهد شتى على أن العلم لا يخلو من الخير وإن ساءت النية عند ناشريه.

وجملة الحال في بلاد الهلال الخصيب عند أواخر القرن التاسع عشر أنها تتقدم في نهضة إسلامية تتوسط بين منهج محمد بن عبد الوهاب ومنهج محمد عبده، وأن هذه النهضة يمتزج فيها طلب الحرية وطلب التجديد كأنها جيش ذو جناحين يذهب الجناح السياسي منهما بعيدًا، ويصطنع الجناح الديني شيئًا من الأناة والمحافظة.

وفي داخل هذا الهلال الخصيب فرق من المسلمين كالمناولة والدروز يحسبون من غلاة الشيعة، ويذهبون إلى أقوال في مسألة الحلول ومسألة الإمامة يخالفهم فيها السنيون والشيعة المعتدلون، وتكاد كل فرقة منهما أن تنطوي على عزلتها، إلا أفرادًا منهم يقصدون إلى معاهد العلم الحديث في لبنان ومصر والديار الأوروبية.

إفريقية الشمالية

أما في إفريقية الشمالية، فقد احتلت فرنسا الجزائر في سنة ١٨٣٠، واحتلت تونس في سنة ١٨٨١، وسلكت في كل منهما السياسة التي تبصر من لا يبصر بأساليب الاستعمار سواء منه ما ينتحل المبادئ الديمقراطية أو ينتحل الدعوة الدينية.

فنابليون الثالث قد منح المسلمين في الجزائر حقوقًا كحقوق المواطنة، وهو عاهل مطلق اليدين، ثم جاء غمبتا داعية الحرية فحرم المسلمين هذه الحقوق، وضاعفها لليهود.

وحكومة فرنسا وهي تنادي باعتزالها للدين تضع في «الميزانية» التي عجزت مواردها عن مصروفاتها بابًا واسعًا لمعونة المبشرين في إفريقية الشمالية، ويعلن وزيرها في البرلمان أن «السياسية اللادينية» تقف عند حدود فرنسا ولا تتخطاها إلى المستعمرات.

وقد ابتدأ القرن العشرون في الجزائر وتونس بنهضة من نهضات التقدم يستعجلها المجددون، ويستمهلها المحافظون، ولم يبق من المحافظين في نهاية القرن التاسع عشر من يحرم الدستور؛ لأنه بدعة مستمدة من الشرائع الغربية، ولكن أنصار القديم من هذا يتحرجون مما يتوسع فيه أنصار التجديد.

وتم احتلال المستعمرين لإفريقية الشمالية باحتلال طرابلس في سنة ١٩١١، فكانت الغنيمة هذه المرة من نصيب الإيطاليين، وسمعت في إيطاليا قبيل الزحف على طرابلس أناشيد «الصليبية» في نغم جديد، ولكنها سمعت أيضًا بعد ذلك بزهاء ثلاثين سنة تمجيدًا لغزوة الحبشة، وابتهاجًا بتخليص أثيوبية القديمة من «الهمج» الذين دنسوا دين المسيح!

مسلمو الحبشة

ومن أكبر المجاميع الإسلامية في القارة الأفريقية مسلمو الحبشة، وعدتهم مع المسلمين في الصومال وإريترية لا تقل عن ستة ملايين.

وتجمع التواريخ التي كتبها الشرقيون والغربيون عن الحبشة في القرن التاسع عشر على سوء حالهم واضطهادهم، وقد أمر أحد ملوكهم يوحنا بتنصير سكان الحبشة جميعًا ومنهم المسلمون، وجاء في إحدى الرسائل التي كتبها جوردون إلى أخته «أن يوحنا — ويا للعجب — يشبهني تعصبًا للدين وله رسالة سينجزها، وهي تنصير جميع المسلمين.»١
وقد أشار ترمنغهام في كتابه عن «الإسلام في الحبشة» إلى أعمال يوحنا هذا فقال في صفحة ١٢٢: «إن بعض المسلمين تحولوا إلى بلاد الغالا أو المنخفضات الإسلامية أو البلاد الوثنية حيث ينشرون دينهم، وبعضهم تنصر، ولكنه تنصر لا يعني لديهم إلا القليل؛ إذ كان مقصورًا على التعميد وأداء العشر، وقد قال الكاردينال ماسيا Massaia: إنه رأى بعينه أناسًا منهم يخرجون من الكنيسة التي عمدوا فيها إلى المسجد ليزيلوا أثر العمادة على يد الإمام.»٢

وبعد أن قتل هذا الملك في حربه مع الدراويش حسنت أحوال المسلمين بعض الشيء، ولكنهم تعرضوا لمظالم شتى يذكرها السياح من الأوروبيين كما ذكرها السياح الشرقيون في كتب الرحلات الحديثة.

السُّودَان

ونريد بالسودان هنا جملة الأقطار الأفريقية التي يقطنها الزنوج، وفيه مسلمون في جماعات قليلة أو متفرقون بين بواديه وقراه.

وموقف الحكومات الأجنبية في أقطار هذا السودان جميعًا هو موقف المقاومة كما يؤخذ من تقارير المبشرين والسياح من الأوروبيين، وقد تمنع هذه الحكومات رسالات التبشير من دعوة المسلمين إلى النصرانية، ولكنها تيسر لهم عملهم كل التيسير في بلاد الوثنيين، فتبيح لهم السفر إلى أقصى الجهات، وتحرمه على الجلابة والفقهاء وأصحاب الخلوات.٣

وصرح القس «شو» في سنة ١٩٠٩ «بأن قبائل الوثنيين ما لم تدخل في المذهب الإنجيلي قريبًا، فهي حتمًا صائرة إلى الإسلام.»

وعقب ترمنغهام على هذا في كتابه عن محاولة المسيحية مع الإسلام في السودان، فقال في صفحة ٣٨: «ولكن هذا الخطر قد زال الآن.»

ويفهم من كتاب «السودان المتغير» The Changing Sudan تأليف ولسون كاش Cash أنه ما من قائد أو رائد أرسلته مصر إلى أعالي النيل في القرن التاسع عشر بإيعاز من الدول إلا من رواد التبشير على وجه من الوجوه.

التبشير على الإجمال

وبعد هذه الخلاصة العاجلة عن موقف الإسلام من الاستعمار في القرن التاسع عشر على الخصوص، نوجز الموقف الذي تقفه منه جماعات التبشير بعد تجربة قرن كامل في مختلف الأقطار.

فالتقارير التي كتبها رسل التبشير مجمعة على صعوبة تحويل المسلم عن معتقده إلى دين آخر، وأكثر هؤلاء المبشرين تابعون لكنيسة روما أو للكنيسة الإنجيلية، ومنهم من يجتهد في تحويل المسيحيين الشرقيين إلى مذهبه؛ لأن التحول من مذهب إلى مذهب في ديانة واحدة أيسر من التحول من ديانة إلى أخرى.

وربما شجر النزاع بين المبشرين من المذهبين في أواسط أفريقيا وفي الشرق الأقصى من آسيا، وربما انتهى أمرهم جميعًا بين المسلمين إلى الكف عن الدعوة والاكتفاء بالقدوة والتعليم على أمل النجاح بهما حيث أخفقت الدعوة الصريحة كما ذكر داعيتهم الكبير ترمنغهام في كتابه عن محاولة المسيحية مع الإسلام في السودان.

وجملة الموقف الآن أن جماعات التبشير قد فرغت أو كادت من اتخاذ الإسلام هدفًا لدعوة التنصير، وهي تنظر إليه الآن نظرتها إلى منافس خطر في بلاد الوثنيين من الآسيويين والأفريقيين، وإذا أمنت خطره فقد تستريح إليه للتعاون على مقاومة الدعوة إلى المذاهب الهدامة أو مذاهب الإلحاد، وبخاصة في البلاد التي تصطدم لديها الكتلتان الشرقية والغربية.

ويبدو لنا أن هذه الجماعات في الشرق إنما تطيل رسالتها لاستبقاء الإتاوات المخصصة لها في بلادها، ولو كان بقاؤها على قدر نجاحها في التبشير؛ لعدلت عنه منذ عهد بعيد.

ولكن هذه الجماعات التي تمدها الإتاوات والحبوس من بلادها تتخفى بغرضها المدخول وراء كل غرض ظاهر من التعليم أو التطبيب أو الإحسان، ولها أساليب ملتوية لمحاولة التأثير، نذكر منها أسلوبًا صغيرًا اختبره كاتب هذه السطور في تشجيع بعض ذوي الأقلام، وغمط الآخرين ممن يحذرون خدمتهم الثقافية، فلا يخفى على أحد في الشرق العربي أن كل ترتيب للكتاب العشرين الذين تشيع كتبهم بين قراء العربية لا بد أن يرد فيه اسم كاتب هذه السطور في آخر القائمة على الأقل إن لم يرد في أولها، ولكن إحدى هذه الجماعات زعمت أنها تعني بترتيب الكتب العربية التي تقرأ في الشرق فلم يأت بينها ذكر لكتاب واحد ألفناه، ولم تصنع شيئًا بهذا السفساف إلا أن تدل على النية المدخولة والتواء الأسلوب، ومن دلالة كهذه يظهر ما وراء هذه الجماعات من الغرض، وإن ابتعدت عنه في الظاهر غاية الابتعاد.

١  صفحة ١٥٥ من رسائل جوردون التي طبعت سنة ١٩٠٢.
٢  Islam In Ethiopia by Trimingham.
٣  صفحة ٢٤٨ من كتاب «الإسلام في السودان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤