مقدمة

ما من مفرٍّ من اتخاذ القرارات. أحيانًا نتخذ القرارات في غمرة لحظات السعادة، وأحيانًا في غيرها؛ أحيانًا في حياتنا المهنية أو العملية، وأحيانًا في غيرها؛ أحيانًا من أجل ربح أو تحقيق تقدُّم، وأحيانًا لأجل شيء آخَر؛ أحيانًا لأننا قرَّرنا أنه قد حان الوقت لاتخاذ قرار، وأحيانًا لأن اتخاذ القرار يُفرَض علينا. ومهما كانت الأسباب، فمِن المنطقي أن نؤدِّي هذه المهمة بكفاءة بدلًا من الاعتماد على الحظ؛ مما يعني أن فهْم الكيفية التي تُتَّخَذ بها القراراتُ أمرٌ له جدواه. هذا كتابٌ عن كيفية صنع القرارات بمهارة، وقُرْبَ نهايتِه تجده يتحدَّث عن الكيفية التي تستطيع بها الحكوماتُ اتخاذَ القرارات (وتعجز عن ذلك على نحوٍ متزايدٍ). لن يعلِّمك الكتابُ كيف تتجنَّب الأخطاءَ بقية حياتك، فأنت بهذا تطلب الكثير؛ إلى جانب أنه ما من طريقةٍ مضمونةٍ تخبرك — وقتَ اتخاذِ القرار — إنْ كان القرار الذي اتخذتَه صائبًا بصورة رائعة أم خاطئًا بدرجة فادحة، أم أنه سريعًا ما سيطويه النسيان (وهو ما يحدث عادةً). من أجل التقييم النهائي للقرار، علينا أن ننتظر حتى تظهر عواقبه، مهما استغرق ذلك من وقتٍ. وأحيانًا لا نعرف ذلك مطلقًا أو حتى نعيره اهتمامًا؛ لأن القرار الذي بَدَا يومًا ما مصيريًّا قد يصير محض ذكرى باهتة بعد اتخاذه بوقت قليل؛ فالأحوال تتغير.

أدهى من ذلك أن النتيجة النهائية لا تُعَدُّ طريقة فعَّالة للحكم على مدى جودة أدائنا وقت اتخاذ القرار؛ فإذا حدث شيء لم يكن بمقدورنا توقُّعه، فليس من الإنصاف أن نُلامَ عليه إنْ كانت المفاجأة سيئةً، وليس من الأمانة أيضًا أن ندَّعِي الفضلَ فيه إنْ كانت النتيجة جيدةً. فالحظ — سيئًا كان أم سعيدًا — يحالف الجميع، وإذا ما حدث وقرَّرنا أن نذهب في نزهة طويلة سيرًا على الأقدام في يومٍ ربيعيٍّ رائعٍ، وانتهى الأمر بهجومِ أحد الطيور المارة علينا، فهذا لا يعني أن قرارَ التنزُّه كان سيئًا؛ فالأمور السيئة تقع على أي حال.

إذن فإنَّ ما نعنيه بالقرار الصائب هو أنه قرار يمثِّل أفضل ما يمكن أن نفعله في ظلِّ ما نعرفه في ذلك الوقت، فإذا بذلنا أقصى ما في وسعنا، وكان تفكيرنا عقلانيًّا، فسنكون قد فعلنا كلَّ ما هو متوقَّع منَّا، وما يقع خارجَ نطاق سيطرتنا لا حيلةَ لنا فيه.

إنَّ حاجتنا للقرارات تلوح لنا كلَّ صباح، ولا تهدأ مطلقًا؛ فنحن نقرِّر ما سنتناوله على الإفطار، إلى أن تترسخ عاداتنا في ذلك، ونقرر ما إذا كنَّا سنقوم بعملية شراء مفاجئة ونحن نقف أمام خزينة الدفع في أحد المتاجر الكبيرة، ونقرر ما إذا كنَّا سنتزوج أم لا، ومتى (أو يجعلنا شريك حياتنا المحتمل نعتقد أننا نتخذ قرارًا). ونتخذ قراراتٍ بالذهاب إلى السينما، أو التمشية، أو شراء سيارة، أو وضْع حفاض للطفل، أو تناوُل وجبة السبانخ بالكامل، أو المراهَنة على اللون الأحمر أو الأسود في لعبة الروليت، أو الالتحاق بوظيفةٍ ما أو تركها، أو تأليف كتاب، أو حتى قراءة كتاب؛ وأيًّا ما كانت أسبابُك — واعية أم لا، مدروسة جيدًا أم لا — فقد عزمت على الشروع في قراءة هذا الكتاب، وكان هذا قرارًا.

بالنسبة إلى القرار الشخصي، الذي يَصدر عن شخص تجتمع لديه قوةُ الاختيار والقدرة على تحمُّل العواقب، هناك «طريقة مثلى» لأداء مهمة اتخاذ القرار، بالرغم من أنه لا يمكن أن يُتوقَّع منَّا أن نبذل قصارى جهدنا طوال الوقت؛ ففي كثيرٍ من الأحيان نتخبَّط في الحياة ونتخذ قراراتٍ مندفعةً، بعضُها صائب وبعضها ليس كذلك، ولا نتذكَّر إلا أحيانًا — وفيما بعدُ — ما إذا كنَّا على صواب أم على خطأ (إلا إذا كان موقفًا لا يُنسَى؛ وفي كلتا الحالتين، مَن ذا الذي يتذكَّر القراراتِ التي اتُّخذت على مائدة الغداء الخميس الماضي؟) أحيانًا يكون القرار ذا أهمية، وحينئذٍ قد ينتهي بنا الحال إما مهنِّئين أنفسنا أو متخيِّلين ما كان يمكن أن يحدث غير ما حدث، وقد كَتب كلٌّ من روبرت براونينج وجون جرينليف ويتيَر أشعارًا شهيرة عن ذلك، منها: «ربما كان ممكنًا ذات مرة؛ ذات مرة فحسب …»

والناس ليسوا سواءً عندما يتعلَّق الأمر باتخاذ القرارات؛ فهناك مَن يجرِّبون أيَّ شيء، وهم يتَّسِمون بالتسرُّع والجرأة والجاذبية، كأبطال الروايات الشعبية والتليفزيون. تعني كلمة «متهوِّر» فعْلَ الشيء دون تقدير؛ أي دون تفكير (وأبطال الروايات المتهوِّرون عادةً ما يحميهم المؤلِّفُ من عواقب جرأتهم؛ فهم يقفزون من الأماكن المرتفعة دون أن يُصابوا بخدشٍ من جرَّاء قفزتهم. أما الحياة الواقعية، فهي أقل تسامحًا). وهناك آخَرون يعيشون في معاناة التردُّد الدائم، وهؤلاء قابعون في أماكنهم وخائفون من الخطأ، ولا يحقِّقون أبدًا أيَّ شيء جدير بالذكر، وقد قال روبرت هيريك: «فَلْتجمع البراعمَ متى كان بمقدوركَ.» ويَعني بهذا أن تَنتهز الفرصَ. ويظل هناك بعضُ الأشخاص الآخَرين الذين لا يتخذون سوى قراراتٍ غاية في التحفُّظ، متجنِّبين ارتكابَ الأخطاء مهما اقتضى الأمر، وأيضًا دون أن يحقِّقوا أبدًا أيَّ شيء جدير بالذكر، ويُوصَم بيروقراطيو الحكومات بذلك الخلل في الشخصية. وما بين النقيضين عدد هائل من التنوعات والتدرجات.

وتزداد الأمور صعوبةً حينما يكون هناك المزيدُ من الشركاء الذين يتقاسمون تبعات القرارات السيئة، والمزيدُ ممَّن يَجْنُون فوائدَ القرارات الصائبة، والمزيدُ ممَّن يشاركون في اتخاذ القرار نفسه. ومن الممكن أن تكون لديك أي توليفة من متَّخِذي القرار والأهداف؛ قليلين أو كُثرًا لكل دور. وقد جَرَت أول محاولة جادة لفهم اتخاذ القرارات التي يشترك فيها العديد من اللاعبين في سياق ألعاب الفِرَق الجماعية التنافُسية؛ حيث يمكن أن تترجَم القرارات الأفضل مباشَرة إلى فوز. وبالرغم من كل المحاضرات الجوفاء التي يتلقَّاها أطفالنا عن اللعب لمجرد متعة اللعب، فإن الأشخاص الذين يمارِسون الألعاب يَهْوَوْن تحقيقَ الفوز بالفعل. ولقد مُورِسَت الألعاب على مدى التاريخ الإنساني — فالأطفال يعدُّون العدةَ لحياة البالغين من خلال ألعاب المحاكاة — وهناك بعض الأشخاص يتفوَّقون على غيرهم في ألعاب التفكير. (تولي الرياضات المختلفة أدوارًا مختلفة لعملية اتخاذ القرارات الذكية، وهي ليست دائمًا أدوارًا مهمة؛ ففي لعبة كرة السلة ومصارعة السومو، يخسر العبقري الصغير الحجم دائمًا.)

تتضمن استراتيجية الحرب نظرية الألعاب، وقد تكون جائزة اتخاذِ قراراتٍ أفضلَ من خصمك هي بقاءك على قيد الحياة، أو بقاء أسرتك، أو عشيرتك، أو بلدك. من المُجدِي التدرُّبُ قبل أن يرتفع سقف المخاطرة، وهذا هو مضمون معظم الألعاب. ورياضات المبارزة، والملاكمة، والبولو، والشطرنج، ورمي الرمح، ولعبة «جُو»، والمصارعة — جميعها — تنمِّي المهاراتِ القتاليةَ. ويُزعم أن ويلينجتون قال (مصيبًا كان أم مخطئًا، ليس لنا أن نحكم على ذلك) إنَّ النصر قد تحقَّق في معركة ووترلو على ملاعب إيتون. ويجيد الخبراء الاستراتيجيون العسكريون العظماء التفكيرَ مسبقًا في العديد من التحرُّكات والتحركات المضادة المحتملة، مثلهم مثل لاعبي الشطرنج الماهرين، وأفضلهم (مَن يظل منهم على قيد الحياة فعليًّا) ينتهي به الحال بالكتابة عن كيفية تحقيق ذلك (فالفائزون يكتبون عن نبوغهم، أما الخاسرون فنادرًا ما يكتبون عن أخطائهم. ويتمتع الجنرالات عادةً بسمعةٍ أفضل ممَّا يستحقون؛ فأمام كل فائز، هناك خاسر). وفي العصر الحالي، يقرأ الجنود المتدرِّبون هذه الكتبَ ويتدارسون هذه المعارك القديمة، لكن لا يوجد سوى بضعة مبادئ عامة ليسترشد بها المبتدئ؛ بالطبع هناك بعض الشعارات التي خلَّفَتْها تجاربُ الأسلاف: «فَلْتكن في المقدمة» و«فرِّقْ تَسُدْ»، لكن لا يوجد سوى القليل من النظريات. (أحد المبادئ العامة القليلة للحرب، وهو قانون لانكستر، لا يعرفه سوى فئة قليلة من المتخصِّصين العسكريين على نحوٍ مثيرٍ للشفقة، وسوف نخصِّص له فصلًا قصيرًا فيما بعدُ.) ولذا — وباستثناء وحيد حقيقي يعرفه مؤلف هذا الكتاب — تبدأ الجيوش التي تواجه حربًا حقيقية بالاستراتيجية والخطوات التكتيكية نفسها المستخدمة في الحرب السابقة، سواء كانت قد انتصرت أم هُزمت آخر مرة استخدمتها فيها. فخلال حرب المائة عام، تلقَّت فرنسا هزيمة ساحقة على يد حملة الأقواس الطويلة الإنجليز في معركة كريسي عام ١٣٤٦، ومرة أخرى في معركة بواتييه عام ١٣٥٦، وثالثة في معركة أجنيكورت عام ١٤١٥. لقد كانوا بطيئي التعلم، وكلَّفهم ذلك الغاليَ والنفيس. حتى إن اللغة الفرنسية تشتمل على مصطلح «السلاح الأبيض» — ويعني حرفيًّا «السلاح النظيف» — لوصف سلاح قاطع مثل سيف؛ ربما لأن طبقة النبلاء كانوا يعتقدون فيما مضى أن القتل مِن على بُعد باستخدام الأسهم أو البنادق ليس من الرجولة في شيء. وقد يكون ذلك صحيحًا، لكن الأسلحة التي تقتل وتصيب من على بُعد فعالة إلى حد بعيد مقارنة بالسيوف والرماح؛ ويُزعم أن ليو دورتشر قال إن المرء لن ينال مراده بطيبة قلبه ونبل أخلاقه مع الآخرين. والولايات المتحدة لم تُبلِ بلاءً حسنًا في مجالِ الابتكارِ أو الفوزِ في المعارك منذ الحرب العالمية الثانية، إلا عندما استطعنا التغلب على المعارضة بالرجال والعتاد. وتلك استراتيجية رابحة عادةً بغض النظر عن المهارة. فإذا وقف أحد العباقرة في وجه دبابة يقودها أحمق، فلتراهن حينها على الدبابة.

تتخذ عملية صنع القرار الحقيقية المتعددة الأطراف أشكالًا عدة على أرض الواقع؛ فبعض القرارات بها لاعبون عدة، وليس لها سوى جانب واحد فقط (مثل اللجان في حالتها المثالية)، ولقرارات أخرى لاعبان وجانبان (مثل المصارعة، أو الشطرنج، أو المبارزة، أو مباريات التنس الفردية)، وإلى جانب ذلك هناك قرارات بها لاعبون عدة وجوانب عدة (مثل الكونجرس، أو الأمم المتحدة، أو البوكر، أو أيٍّ من أحزابنا السياسية). على أعلى المستويات، يوجد صراع العِرْق البشري من أجل البقاء الطويل المدى على وجه الأرض، فضلًا عن تمتُّعه بجودة مقبولة للحياة. والقرارات البالغة الأهمية يجب اتخاذها وتنفيذها، بَيْدَ أن اتِّباع منهجٍ عقلاني في ذلك ليس محتملًا؛ فهناك الكثير من صنَّاع القرار، والقليل من النتائج، والكثير من الجلبة؛ وكل توليفة من توليفات صناع القرار والخيارات لها بنيتها الخاصة، وكلٌّ منها يمكن أن يؤدِّي إما إلى قرارات جيدة وإما إلى قرارات سيئة، وبعض الترتيبات لا يمكن أن تؤدِّي إلى اتخاذ أي قرار على الإطلاق، وسنَعرض لهذا فيما بعدُ.

من إحدى قراءاتنا التاريخية الأكثر تشويقًا مجموعةُ محاضر الجمعية الدستورية التي وضعها جيمس ماديسون عام ١٧٨٧؛ كان الخمسة والخمسون رجلًا الذين حضروا اجتماعَ الجمعية على درجة مُبهِرة من التعليم والمعرفة، ويتفوَّقون على أفرادِ أيٍّ مِن كياناتنا الحاكمة في الوقت الراهن، ومع ذلك فقد وجدوا مشكلةً حقيقيةً في وضع نظام فعَّال لصنع القرارات من أجل الدولة الجديدة التي كانوا يُنشِئونها. (لم يتم إرسالهم إلى فيلادلفيا لوضع دستور، لكنهم فعلوا ذلك على أي حال، وأفلتوا به، وكان هذا القرار جماعيًّا.) لقد أخذوا على عاتقهم أداءَ مهمة شاقة؛ إذ وضعوا هيكلًا حكوميًّا لا يؤدِّي إلى الأوتوقراطية (فقد رأوا الكثيرَ من ويلات الحكم الأوتوقراطي على يد الملوك الإنجليز)، أو إلى تفشِّي الفوضى (التي كانوا يدركون جميعًا أنها أسوأ)، وكان نظامُ الضوابط والتوازنات الرقابية المعقَّد الذي وضعوه يهدف إلى تفادي هذين النقيضين، وفي نفس الوقت تقليل الفروق بين الولايات الصغيرة والكبيرة. (ومن حسن حظنا أن ماديسون كان يدوِّن الملاحظات، وبذلك أضحَتْ لدينا فكرةٌ رائعة عمَّا دار من حوار آنذاك؛ حيث لم تكن هناك أي آلات للتسجيل.)

على مرِّ العقود القليلة الماضية، أدَّتْ بنا احتياجاتُ مجتمع العمل إلى تعلُّم الكثير عن صنع القرارات المتعدِّدة الأطراف (والمتعدِّدة المعايير)، وهناك حالات يستحيل معها — حرفيًّا — أن يتَّخِذ المرءُ قراراته على نحو يتَّسِق مع ذاته. قد تقول: مَن ذا الذي يهتم؟ (كَتَب رالف والدو إيمرسون: «إن الاتساق مع الذات على نحوٍ أحمق هو غول العقول الصغيرة.» وينزع الأشخاص الذين يخطئون في اقتباسِ هذه الحكمة البليغة إلى إغفال كلمة «أحمق» التي تُعَدُّ الكلمةَ المفتاحيةَ في العبارة؛ ومن ثَمَّ يغيِّرون المعنى بما يتناسب مع أهدافهم). باختصارٍ، إن سببَ السعي وراء الاتساق مع الذات هو أنك إذا لم تكن متَّسِقًا مع ذاتك، فإن خصمَكَ المتَّسِق مع ذاته يمكن أن يهزمك في ملعبك. ومع ذلك، ليس هذا من البديهيات، ويُطلِق وكلاءُ المراهنات الإنجليز على مثل تلك الانحرافات عن الاتساق مع الذات «سجل المراهنات الهولندي» لأسباب غير معروفةٍ لمؤلِّف الكتاب. وبالطبع، في أي لعبة تنافُسية تضمُّ خصمًا يتمتع بالقدرة على التفكير، سيكون من السهل توقُّع خطوات اللاعب المتَّسِق مع ذاته سريعًا؛ ومن ثَمَّ يمكن أن يستغل خصمه ذلك لمصلحته. ويدرك لاعبو البوكر ذلك، مثلهم في هذا مثل مدربي كرة القدم.

إن مشاكلنا الاجتماعية الأعمق (ليس فقط في ذلك العَقْد، أو ذلك القرن، أو تلك الألفية، أو في هذه الدولة، أو هذه القارة) تدور حول العثور على وسائل ثابتة وعادلة للحكم؛ أي تخويل سلطة صنع القرار داخل مجموعةٍ اجتماعيةٍ ما لأفراد بعينهم؛ بحيث تؤثِّر القراراتُ التي تتَّخِذها هذه القلة على كل أفراد المجموعة. علينا مواجهة كلٍّ من عملية توزيع الأرباح، وتقسيم المسئوليات والأعباء والسلطات، حتى قبل أن نتحدَّث عن الحكومة. من بينِ أقدمِ أشكالِ الحكمِ، تلك التي تتضمن القائدَ الذي يتخذ القرارات المُلزِمة لكل فرد بحكم قوَّته الغاشمة، أو بالإجماع، أو بسبب تقدُّمه في العمر، أو بحق المولد، أو بنفوذ السلطة الدينية. وفي أي موقف من المواقف المتأزمة، يكون من الأفضل في الغالب وجودُ قائدٍ مُعترَفٍ به، مهما كان غيرَ كفء، بدلًا من عدم وجود قائد على الإطلاق، وكل الجيوش تعرف هذا. قد لا تكون السلطة المطلقة عادلة، لكنها تؤتي ثمارها، وبخاصة وقت الأزمات؛ ومن أشكال هذا النظامِ الحكمُ تحت مظلة سيادة القانون (بالمعنى العام وليس بالمعنى الازدرائي)، الذي خرجت من رَحِمه مجموعة من القوانين الشاملة والصارمة التي أتتنا من الأعراف القديمة أو ربما عن طريق أيٍّ من الشرائع السماوية؛ ومن ثَمَّ يُسترشَد بها في كل القرارات الممكنة، وعادةً دون السؤال عن مصدر هذه القوانين. ومن أمثلة ذلك العديدُ من الكتب المقدَّسة وشريعة حمورابي، كذلك تُعتبَر الوصايا العشر أحدَ الأشكال المختصرة لهذا النظام في الحكم. وهناك أنواع أخرى لنُظُم الحكم تتضمن الإجماعَ العام، الذي يسوق كلَّ القرارات نحو القاسم المشترك الأدنى، والذي قد يكون سيئًا لكلِّ مَن يتأثَّر به. هناك أنماط أخرى تتضمن شكلًا من أشكال حكم الأغلبية (وتستخدم الولايات المتحدة نسخة من ذلك الحكم)، وهو الحكم الذي ربما — وربما لا — يتضمَّن بعضَ القيود على سلطة الأغلبية في اتخاذ القرارات التي تسبِّب عبئًا شديدًا على الأقلية. تتآكل تلك القيود على الأرجح بمرور الوقت، وهذا شيء حتمي في أي ديمقراطية شعبية (وعلى عكس الاعتقاد شبه العالمي، الذي ترسَّخ في المدارس، فإن الولايات المتحدة لم تُطلِق على نفسها دولةً ديمقراطيةً قطُّ؛ فالكلمة لم تظهر في الدستور أو في إعلان الاستقلال. والدستور يضمن بالفعل لكل ولاية شكلًا جمهوريًّا للحكم، لكن لذلك معنًى مختلف، وهو بذاته غير موضَّح في الدستور). وملاحظة ونستون تشرشل بأن الديمقراطية هي أسوأ أنظمة الحكم، باستثناء كل الأنظمة الأخرى، تلخِّص تلك المعضلةَ بدقةٍ. سوف نخصِّص مساحاتٍ عدة لهذا النوع من المشكلات؛ إذ إن عدم قدرة كياناتنا المنتخبة على الحكم الفعلي أصبح أمرًا يدعو للإحباط وخيبة الأمل على نطاق واسع في حقبة التسعينيات، وليس فقط في أمريكا. ومع كل هذا، يبدو أننا قد انخرطنا في شنِّ حملةٍ أشبه بالحملات الصليبية لإقناع كلِّ فرد في العالم، أيًّا كانت ظروفه المحلية، بتبنِّي نسخةٍ من شكل الحكم لدينا، فضلًا عن نظامنا الاقتصادي. وليس واضحًا لمؤلِّف هذا الكتاب كيف اتُّخذ قرار شنِّ هذه الحملة، أو مَن الذي اتَّخَذه، أو إلى متى ستستمر، لكن علينا أن نتذكر ما آلَتْ إليه الحملاتُ الصليبية الأصلية.

من السهل عند تناوُلِ أيِّ موضوع معقَّد أن نرى الموقفَ العام على أنه مجموعة من التفاصيل، وأن نغرق في التفاصيل البسيطة ونُغفل لُبَّ الموضوع. وغالبًا ما تتضمَّن أي لعبة جوهرَ المشكلة الحقيقية التي تمثِّلها، بأقل قدرٍ من المعتقدات التي تشوِّش الذهن، والناشئة عن تجارب سابقة، والتي يمكن أن تمثِّل مقدمةً ملائمةً.

لذا سنبدأ بعض أجزاء هذا الكتاب بأحد الألغاز التعليمية التي تمهِّد لموضوعات صنع القرار التي تليها. وبخلاف هذا، سيبدأ الكتاب بتناول ما هو بسيط، وصولًا إلى ما هو معقَّد، ثم إلى ما لا حلَّ له؛ إذ سيبدأ من القرارات الشخصية حينما تتوافر لدينا الحقائق، مرورًا بمشكلات اتخاذ القرار في ظلِّ الشك واللايقين، وفي ظل وجود منافسات، وصولًا في النهاية إلى صنع القرار في ظلِّ معايير متعدِّدة وأطراف عدة، وهذا ما يواجِه الحكوماتِ والشركاتِ الكبيرةَ عادةً. ويبقى لنا أن نرى إنْ كان بمقدورِ أحدٍ التوصُّلُ إلى شكل مستقرٍّ وناجحٍ بالفعل من أشكال الحكم على مدار آلاف السنوات التي قرأنا فيها عنه في قصص الخيال العلمي، ورأيناه في حلقات «ستار تريك». إن الديمقراطية، بمفهوم اتخاذ القرارات الجماعية بهدف تحقيق الصالح المشترك، هي شيء جديد نسبيًّا على المشهد التاريخي، ولم تجتَزْ هذا الاختبارَ بعدُ.

وبمجرد توضيح المبادئ بشكل مباشِر كما هي، ستكون هناك أمثلة بعينها عن صنع القرار في العمل، تبدأ من الرياضة، والمراهنة، واستراتيجيات الاستثمار، وصولًا إلى بعض المشكلات التي يعرفها القليل، مثل تقسيم مجلس النوَّاب، وهو موضوع الفيتو الأول لجورج واشنطن.

وأخيرًا، هذا الكتاب غير موجَّه لمَن هم خبراء بالفعل في نظرية اتخاذ القرارات الإحصائية؛ فهُم لديهم بالفعل العديدُ من الكتب الرائعة ليختاروا من بينها، لكنه يهدف إلى معاوَنةِ بقيتنا على تحسين فهمنا لصنع القرار، وأن نصبح أكثرَ فضولًا وحبًّا للاستطلاع بشأن «كيفية» اتخاذ القرارات، سواء تلك التي نتخذها نحن أم يتخذها الآخَرون من أجلنا، وأن نعمل بفاعلية أكثر قليلًا كأفراد ومواطنين على حدٍّ سواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤