الفصل الحادي عشر

التصويت

هل تنطبق كل المشكلات التي تحدَّثنا عنها في الفصل الأخير حقًّا على العالم السياسي النزيه؟ منَحَت الانتخابات الرئاسية لعام ١٩٩٢ (وكانت أحدث انتخابات عند كتابة هذه السطور) المرشَّحِين الثلاثة الرئيسيين النِّسَبَ التالية من الأصوات الشعبية وأصوات المجمع الانتخابي:

المرشح أصوات شعبية أصوات انتخابية
بيل كلينتون ٤٣ ٦٩
جورج بوش ٣٨ ٣١
روس بيرو ١٩ ٠

إذن وفق دستورنا، انتُخِب بيل كلينتون رئيسًا للولايات المتحدة بأكثر من ثلثي أصوات المجمع الانتخابي، وبالمقارنة نجد أنه قد حصل على أقل من نصف التصويت الشعبي بكثيرٍ، وهذا مختلف تمامًا. أما روس بيرو، الذي فضَّله حوالي خُمس السكان الذين يحقُّ لهم الانتخاب، فلم يحصل على أيٍّ من أصوات المجمع الانتخابي على الإطلاق. إن القوانين، التي يعود تاريخها إلى الدستور الأصلي الصادر في عام ١٧٨٩، وعُدِّلَتْ بعد ذلك بخمسة عشر عامًا، تمنح المنصبَ للمرشح الذي يحصل على أغلبية أصوات المجمع الانتخابي (أكثر من نصفها)، إنْ كان هناك مثل هذا المرشح؛ فإذا لم يحصل أي مرشح على أغلبية أصوات المجمع الانتخابي، فإن الدستور يحتوي على إجراء معقَّد ينتزع الاختيارَ تمامًا من بين أيدي الناخبين، سواء أكان تصويتهم انتخابيًّا أم شعبيًّا. (فاز توماس جيفرسون بفترة ولايته الأولى كرئيس من خلال هذا الإجراء.) وبالرغم من أنه شيء لم يتوقَّعه كاتبو الدستور، فإن الشخصية الفردية للناخبين تلاشت في حد ذاتها بمرور الوقت، ولم تَعُدْ أصواتهم مُدرَجةً حتى في أوراق الاقتراع في معظم الولايات. وفي كل الحالات تقريبًا يعملون كمجموعات، ويتعهدون بدعم مرشح حزبهم، ونادرًا فقط ما يكون هناك ناخب يخالف هذا التعهُّد. والنتيجة المباشِرة هي أن كل صوت فردي من أصوات المجمع الانتخابي لولاية معيَّنة يذهب إلى المرشح الفائز في تلك الولاية، بينما يمكن لأغلبية ضئيلة من التصويت الشعبي في ولاية مزدحمة بالسكان أن تكتسح الأغلبيات الضخمة في الولايات الأصغر. والناخبون الخاسرون في ولايةٍ ما ليس لديهم أي تأثير إضافي على اختيار الرئيس؛ فقد خسروا فرصتهم عندما خسرت قائمة ناخبيهم المؤقتة (وقت كتابة هذا لم تَحِد سوى ولايتَيْ نبراسكا ومين عن نموذج «الفائز يحصل على كل الأصوات»)؛ لذا من الممكن (وقد حدث عام ١٩٩٢) لمرشح حاصل على نسبة ضئيلة من التصويت الشعبي عبر البلاد أن يحصد أغلبيةَ أصواتِ المجمع الانتخابي (في تلك الحالة غالبية عظمى). وقد حدث ذلك ستَّ عشرة مرة في تاريخنا، عادةً (وليس دائمًا) عندما يسحب حزبٌ سياسيٌّ ثالثٌ الأصواتَ الشعبية من المرشحين الأساسيين؛ ففي انتخابات عام ١٩٩٢ حصل بيل كلينتون على أغلبية التصويت الشعبي في ثلاث ولايات فقط وفي مقاطعة كولومبيا، وكانت الولايات هي: ماريلاند، ونيويورك، وأركنسو مسقط رأسه.

بالرغم من أن واضعي الدستور كانوا يقصدون أن للناخبين عقولًا يفكِّرون بها، وليسوا مجرد قطيع مُغيَّب يسير في ركب الأحزاب السياسية، لم تكن تلك هي الحالة لفترة طويلة (مع قلةٍ من الاستثناءات). فالدستور لا يحدِّد حتى كيفية اختيار الناخبين؛ فكل ولاية تحدِّد أنظمتها، ولا تخضع إلا لشرط أن يحدِّد تشريعُ الولاية النظامَ. ويبدو ظاهريًّا أنه لن يكون من غير الدستوري أن تخوِّل الهيئةُ التشريعية المهمةَ إلى هيئة التدريس في جامعة الولاية، أو إلى التعويذة الجالبة للحظ لفريق كرة القدم، أو إلى فريق كرة القدم نفسه. (اهدأ، يمكننا أن نعتمد على المحكمة العليا للقضاء بعدم الدستورية، بغضِّ النظر عن الحقائق.)

يختلف الأمر بالنسبة إلى مجلس الشيوخ ومجلس النواب؛ فقد حدَّدَ الدستور الأصلي أن يختار أهل الولاية كل ممثِّلٍ من ممثِّليها (لم تُستخدَم كلمة «انتخاب»، لكنَّ واضعي الدستور كان لديهم نوعٌ من الاختيار الشعبي في أذهانهم). من ناحية أخرى، كان اختيار أعضاء مجلس الشيوخ يتمُّ من جانب الهيئة التشريعية، التي كان يتم اختيار أعضائها بدورهم، مهما كانت رغبة الولاية في اختيارهم، في حدود معينة. لقد كان جهدًا واضحًا من جانب الآباء المؤسسين لكي يخفِّفوا المشاركة العامة المباشرة في اختيار أعضاء الكونجرس، لكن عُدِّل الدستور فيما بعدُ لكي يدعم الاختيار الشعبي لأعضاء مجلس الشيوخ، وتحديدًا عن طريق الانتخاب، ويتضح من الفصل السابق أنَّ هناك احتماليةً كبيرةً للتلاعب في تعريف الاختيار الجماعي.

لقد جاهَدَ علماء السياسة طويلًا مع مشكلة «أفضل» طريقة لاتخاذ هذا النوع من القرار؛ حيث من الصعب تحديد رغبات العامة المعقَّدة من خلال تصويت مباشر وبسيط بنَعم أو لا، كما أن الاحتياج لحكومةٍ تؤدِّي وظيفتها بكفاءة قد يكون له بعض الأولوية على رغبات العامة المباشرة. (جميعنا يعرف دُوَلًا ذات حكومات غير فعَّالة، والآراء منقسمة حول إنْ كنَّا هكذا أم لا.) لقد نصَّ الدستور الأصلي على أن يُدلِي كلُّ ناخب بصوته لِاسمين في الانتخابات الرئاسية، والحاصل على أصوات الأغلبية يتم اختياره كرئيس، ومَن يأتِ في المركز الثاني يكُن نائبه. قد يبدو ذلك للوهلة الأولى أكثر إنصافًا من حرمان الأقلية ببساطة، لكن سرعان ما بات واضحًا أنه يؤدِّي إلى حكومة متنازعة غير فعَّالة، وتمَّ تعديل الدستور سريعًا لكي يؤدِّي إلى نظامنا الحالي، والذي بدأ بانتخابات ١٨٠٤. (تخيَّلْ رونالد ريجان رئيسًا وجيمي كارتر نائب الرئيس، أو بيل كلينتون رئيسًا وجورج بوش نائب الرئيس، أو فرانكلين روزفلت رئيسًا وهيربرت هوفر نائب الرئيس؛ هذا أمر مربك للذهن.) كانت تلك أحد الأخطاء القليلة للغاية في صياغة الدستور. لقد كانت تلك الوثيقة تمثِّل إنجازًا رائعًا لأشخاص رائعين.

لقد أحدثنا جلبةً كبيرةً خلال هذا الكتاب حول أهمية معرفة أهدافك «قبل» اتخاذ القرارات. ما هدفنا في اختيار رئيس؟ لعل من غير الحكمة، لمصلحتنا جميعًا، أن نحدِّدَ إرادةَ الشعب بدقةٍ مبالغ فيها؛ فقد أوضحَتْ قصة «مأساة المشاع» أن الحكومة التي لا تكون أكثر من مجرد ترجمة للرغبات الفردية للشعب يمكن أن تؤدِّي إلى قرارات سيئة للجميع، حتى لو كان كل صوتٍ فرديٍّ متَّجهًا نحو ما نطلق عليه أحيانًا المصلحة الذاتية المستنيرة، ومثل تلك القرارات قد تكون سيئةً حتى لمَن يهتمون بمصلحتهم الذاتية فقط، سواء أكانت مستنيرة أم لا (سنعود إلى هذا في الفصل الرابع عشر). إلى جانب هذا، هناك العديد منَّا سيتخذون قرارات مشتركة، بل إننا قد نرغب في أن يكون لدينا قادة — حاشَ لله — أكثر كفاءةً من العاديين المتواجدين بيننا؛ لذا فإن كل الديمقراطيات الحديثة تضمُّ شكلًا من أشكال الحكومة التمثيلية، التي تعزل صناع القرار، إلى حدٍّ ما، عن تأثير مَن يختارهم؛ ألا وهو الشعب. وكان الدستور الخاص بنا يهدف إلى تحقيق مستوًى من هذا العزل، لكنه يتلاشى في هذه الفترة من الاتصال الجماهيري السريع بتداعيات لا يُحمَد عقباها. ويعتمد النوَّاب الآن بشكل كبير على الاقتراع لتحديد رغبات ناخبيهم، خشيةَ أن يُغضِبوا مقترعًا واحدًا محتملًا، وتحدِّد عمليةُ صنع القرار عند اختيار الحكومات جودةَ صنع القرار في تلك الحكومات، وهذه مسائل عميقة ندَّخِرها لوقت لاحق.

هناك حكاية شخصية توضح تلك المعضلة؛ لقد مرَّ هذا الكاتب بما يُطلَق عليه في الحياةِ حالة كشف منذ بضع سنوات، بينما كان يجلس في هدوء في اجتماع عادي في فيينا. كان الاجتماع منعقدًا في بهو فسيح مذهل في مبنًى كان فيما سبق أحدَ قصور الإمبراطورة ماريا تيريزا. كان المبنى والأراضي المحيطة به شاسعين وجميلين، وكان الكشف عبارة عن إدراك مفاجئ بأن ذلك البناء الرائع لا يمكن أن يشيد في العصور الحديثة في أي مكان؛ فليس هناك عملية قرار في أي ديمقراطية شعبية يمكن أن تؤيِّد أيَّ مشروع ضخم، مهما كان يستحق، فضلًا عن مساندته خلال الوقت اللازم لاستكماله. ومع أن هذا المبنى بعينه كان يحمل قيمة جمالية إلى حدٍّ كبيرٍ، فإن نفس العبارة تنطبق على أعمالٍ عامة أكثر نفعًا وعمليةً، مثل: الطرق، والسدود، والجسور. إلى جانب ذلك، فالمجتمع الذي يستحقُّ الحفاظ عليه ينبغي أن يكون متحضِّرًا بدرجة كافية لكي ينفق جزءًا من موارده على المسائل الجمالية والثقافية.

في مجتمعاتنا الحديثة، في الولايات المتحدة وغيرها، توجد الكثير من الأساليب لإيقاف الأشياء، والقليل جدًّا منها لجعلها تستمر، لكن منذ ما يقرب من أربعين عامًا، وفقًا لذاكرة الكاتب المباشرة، لم يكن هذا صحيحًا (لو أن منظومة الطرق السريعة الرابطة بين الولايات اقتُرِحت الآن، لما حظيت بأي فرصة لتنفيذها). هناك القليل من المشروعات يؤيِّدها عدد كافٍ من الأشخاص الذين يتمتَّعون بقوة كافية للتغلُّب على المعارضات التي لا مفرَّ منها؛ فقد استطاع الفراعنة، بما امتلكوه من سطوة كاملة، بناءَ الأهرامات عبر عشرات السنوات أو أكثر. والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ذات السلطة المقبولة على نطاق شاسع، تمكَّنَتْ من بناء الكاتدرائيات التي احتاجت لأجيال لاستكمالها، إنْ كان هناك أي كاتدرائية اكتملت من الأساس. كانت ماريا تيريزا إمبراطورة، وهذا ما يوضِّحه قصرها. إنَّ صنْع القرار من خلال مجموعات كبيرة لا يمكن أن يؤدِّي إلى قرارات محفوفة بالمخاطر. وفي حقبة الاتصال الجماهيري والاقتراع، لا يغامِر السياسيون الذين يودُّون الاحتفاظ بمناصبهم (أيْ جميعهم تقريبًا) بقرارات غير شعبية، وفي النهاية تتكوَّن حكوماتنا من سياسيين.

الصراع النهائي إذن في اختيار المديرين التنفيذيين وواضعي القوانين هو صراع بشأن الأهداف: هل نبحث عن أفضل حكومة فعالة ممكنة، تتطلَّب بعضَ القيادة، وبعض الرؤية، وربما بعض القرارات غير الشعبية، أم أننا نريد نظامًا يعكس آمالنا ورغباتنا، ولا يَستبعد أحدًا، ويعكس حقًّا مجموعةَ الآراء بين الناخبين؟ هناك أنظمة تصويت سوف تفضِّل أيًّا من هاتين الغايتين.

ولعل الشكوى الأكثر شيوعًا بشأن الانتخابات التي تُجرَى بنظام الفائز يحصل على كل الأصوات هي أنها تترك بحقٍّ عددًا كبيرًا من الناخبين دون أي تأثير إضافي؛ فتخطِّط الأقلية ببساطة — مثلها مثل الجيش المنهزم — للمنافسة القادمة وقد خسرت نفوذها تمامًا؛ حتى دورها التقليدي المتمثِّل في عرقلة ما تعارضه، تمارسه وهي ترمي إلى الانتخابات القادمة. وبينما قد تكون هناك انتخابات قادمة في دولتنا، يمكن لخسارة انتخابات وحيدة — في العديد من الدول الأخرى، سواء الآن أم في الماضي، وبالقطع في المستقبل — أن تعني فقدانَ التأثير لفترة طويلة جدًّا من الوقت. فالمجموعات الفائزة تهوى التمسك بالسلطة بعد انتهاء صلاحية تفويضها بفترة طويلة. وبالرغم من أن هذا لم يحدث بعدُ في دولتنا، فإنه ليس من الحكمة الرضا عن وجود المخاطرة (حتى عبارة لم يحدث بعدُ مفتوحةٌ للمناقشة؛ فالغالبية العظمى من أعضاء الكونجرس الحاليين ينجحون بالفعل في إعادة انتخابهم، بطريقةٍ ما).

إن البديل المتطرِّف لنظام الفائز يحصل على كل الأصوات هو ألَّا يتمَّ تجاهُل آراء أحد في عمل الحكومة اليومي؛ لذا ينبغي أن يكون لكل حزب تمثيلٌ في الكيان الحاكم (المجلس التشريعي في أي ديمقراطية) يتناسب تمامًا مع قوته التصويتية. ولو أن مجموعة بيرو نُظمت كحزب سياسي عام ١٩٩٢، وقِيست قوةُ الحزب النسبية من خلال أصواتهم لمرشحيهم الرئاسيين، لَكان التمثيل النسبي قد أدَّى إلى هيئة تشريعية تتكون من حوالي ٣٨ بالمائة من الديمقراطيين، و٤٣ بالمائة من الجمهوريين، و١٩ بالمائة من مؤيدي بيرو. وفي ظل هذه الظروف يتمثَّل التصرف الحصيف القائم على نظرية الألعاب في تعاون مجموعتين من مجموعات الأقلية معًا من أجل إحباط المجموعة الثالثة؛ ممَّا يسبِّب فوضى مع تغيُّر التحالفات مع مرور الوقت. العديد من الدول الأوروبية تستخدم مثل هذا النظام، وتمت تجربته في أجزاء من دولتنا، لكن الدرس النهائي في كل مكان هو أن الحكومة الفعالة تتطلب اتخاذ قرارات — اختيارات بين عدة خيارات مطروحة — والاختيارات ذات النتائج الفعلية لا تصنعها مجموعة شديدة التنوع بسهولة. وأولئك الذين يزعمون وهُم مؤمنون بصحة آرائهم بأن التنوُّع يعزِّز قوةَ المجتمع، سيجدون مشكلةً في العثور على تأييد تاريخي لهذا الرأي؛ إن التمثيل النسبي يجعل حقَّ الأقلية أكثرَ صعوبةً، لكنه في المقابل يصعِّب تحقيق رغبات الأغلبية. لتحسِمِ اختيارَك، وسيوصلك كالعادة إلى الغايات التي تسعى إليها.

وحتى عندما يتم الانتخاب داخل مجموعات أصغر من دولة بأسرها، وحتى عندما لا تمثِّل العلاقات غير المتعدية أهميةً، فإن النتيجة تعتمد تمامًا على قواعد التصويت. تأملْ عملية انتخاب من أجل شَغْل أحدِ المناصب الحكومية، بها ثلاثة مرشحين هم: ألف، وبوب، وكاد؛ سنمنح تلك العملية تسعة ناخبين، تفضيلاتهم موضَّحة — كالعادة — في الجدول أدناه، والأرقام الموضحة بين الأقواس فوق الجدول هي أعداد الناخبين الذين وضعوا علامات في بطاقات اقتراعهم كما هو موضح. وهكذا، يكون هناك اثنان من الناخبين رشَّحَا ألف كاختيار أول، وبوب كاختيار ثانٍ، وكاد كاختيار ثالث.

(٢) (٣) (٤)
ألف بوب كاد
بوب ألف ألف
كاد كاد بوب

في إطار قاعدةِ الأكثريةُ تفوز، حيث لا تُحصَى سوى أصوات المركز الأول، يكون كاد هو الفائز بأربعة أصوات، بينما حصل ألف وبوب على ثلاثة أصوات وصوتين على التوالي. من الواضح أن معظم الناس لا يحبون كاد، لكنَّ له جمهورًا من الناخبين المخلصين، وهذا مألوف تمامًا في العالم الواقعي؛ فهو فائز من خلال أقلية، بنفس هامش الفوز الذي حصل عليه بيل كلينتون عام ١٩٩٢.

لنَرَ كيف تتناول بعض أنظمة التصويت الأخرى المألوفة ذلك. من أكثر الأنظمة شيوعًا نظام التصويت المرجح؛ حيث يتم إحصاء الخيارات الثانية والثالثة لكنها تُمنَح أهميةً أقلَّ؛ فيمكن أن يُمنح المرء نقطتين لتصويت المركز الأول، ونقطة للمركز الثاني، وصفرًا للمركز الثالث (وهذا يُعرَف بنظام بوردا). من السهل أن نرى في إطار هذا النظام أن ألف هو الفائز الواضح بإحدى عشرة نقطة، بينما تساوَى كاد وبوب بثماني نقاط لكلٍّ منهما. وقد أتى الدعم الإضافي لألف من خلال المركز الثاني الذي اختاره فيه سبعة من الناخبين، تمامًا كما هو الحال في الفصل الأخير بالنسبة إلى أمثلة دودجسون؛ فهو مرشح بالإجماع بشكل أكبر من كاد، بالرغم من أن عددًا أقل من الناخبين هم مَن جعلوه اختيارهم الأول.

هناك نظام تصويت آخَر نواجهه كثيرًا وهو التصويت التفضيلي؛ من خلال هذا النظام يضع الناخب علامةً في بطاقة الاقتراع محدِّدًا اختياره الأول، والثاني، والاختيارات الأقل، كما هو موضح في الجدول. وهكذا إذا ما حصل أيُّ مرشحٍ على أغلبية مطلقة من خلال أصوات المركز الأول، يكون هو الفائز (إن النظام الانتخابي في الكلية يتبع هذا الجزء من القاعدة)، وإذا لم يحدث هذا، يُستبعَد المرشح ذو الأصوات الأقل في المركز الأول من التقييم، وتُوزَّع أصواته في المركز الثاني بين المرشحين المتبقين بحسب ترتيبهم في بطاقات الاقتراع؛ وفي تلك الحالة فإن المرشح الخاسر، بناءً على أصوات المركز الأول، هو ألف — الفائز السابق بالإجماع — لذا تذهب أصواته في المركز الثاني للمرشح الأنسب، وهو في تلك الحالة بوب؛ وهذا يكفي لكي يضع بوب في القمة، ويجعله الفائز بالرغم من تصنيفه في المركز الثاني في تصويت المركز الأول الأصلي. وميزة هذا النظام أنه يضع في الاعتبار حقيقةَ أن مؤيدي ألف سيفضِّلون بوب على كاد إذا لم يَفُزْ مرشحهم المفضَّل؛ أَلَيْسَ من العدل أن يُؤخَذ ذلك في الاعتبار؟

وهكذا نكون قد تناولنا الآن نفس رغبات الناخبين التي يعبِّرون عنها تمامًا بثلاثة أساليب مختلفة، وحصلنا على ثلاثة فائزين مختلفين يمثِّلون ثلاثة أهداف مختلفة للنظام الانتخابي.

لا تزال هناك طرق أخرى لعدِّ الأصوات، ويُطلَق على واحدة من هذه الطرق التي تحظى بتقديرٍ جمٍّ من قِبَل بعض السلطات طريقةُ التصويت بالموافقة؛ من خلال هذه الطريقة، يمكن لكل ناخب أن يصوت لأي عدد يرغبه من المرشحين، لكنه لا يُدلِي بأكثر من صوت واحد لأي مرشح فردي. (حينما أُخطِر الناس بذلك في بادئ الأمر، كان رد فعلهم أن قالوا إن هذا ليس من الإنصاف، فأنت بذلك تَدَع أيَّ ناخب يُدلِي بصوته بقدر ما يحلو له، لكن هناك سوء فهم؛ فإذا ما أدليتَ بصوتك لكل مرشح، فإنك تمحو صوتك، وهذا يماثل عدم التصويت على الإطلاق. إن التصويت لأي مرشح يعادل التصويت ضد الآخَرين، وليس هناك أي ميزة على الإطلاق في الإدلاء بالعديد من الأصوات.) إن الناخب لا يصنف المرشحين من خلال هذه الطريقة، لكنه فقط يضع علامةً في قائمة المرشحين أمام مَن يوافق عليهم، ولهذا أُطلِق عليه التصويتُ بالموافقة، والفائز هو المرشح الذي يحصل على أغلب الموافقات من الناخبين.

كيف سيكون تأثير ذلك هنا؟ حسنًا، ليست لدينا معلومات كافية، لكن لنفترِضْ أن كل ناخب أعطى أصواته بالموافقة لأعلى اثنين من المرشحين في قائمته، ووضَع علامة بأن أيًّا منهما سيكون مقبولًا، لكن دون التأشير على الاختيار الكائن في أسفل القائمة؛ سيكون ألف هو الفائز إذن، بتسعة أصوات بالموافقة (لم يصنِّفه أحدٌ في ذيل القائمة) مقارَنةً بخمسة وأربعة أصوات للمرشحين الآخرين؛ وهكذا، فإن الانتخاب بالموافقة يؤدِّي في هذه الحالة إلى نفس نتيجة نظام التصويت المرجح، لكن ينبغي ألا تُلْقِ بالًا لهذا؛ فمع وجود ثلاثة من المرشحين، وأربعة من أنظمة التصويت المختلفة، ينبغي أن يؤدِّي اثنان منهما على الأقل إلى نفس النتيجة.

وهكذا، فقد انتخبنا كاد بنظام الأكثرية، وبنظام التصويت المرجح انتخبنا ألف، وبالتصويت التفضيلي انتخبنا بوب بعدما استبعدنا ألف، وأعادنا الانتخابُ بالموافقة مرةً أخرى إلى ألف. (في هذه الحالة الأخيرة، كان علينا أن نخمِّن كيف كانت طريقة الناخبين في التأشير على موافقتهم.) بالله عليكم، مَن هو «اختيار الشعب»؟

صدِّقْ أو لا تصدِّقْ، إن الأمر أسوأ من ذلك؛ هناك نظام شائع للغاية للمرشحين المتعدِّدين، متَّبَع في العديد من الولايات والبلديات في الولايات المتحدة، وغالبًا ما يُتَّبَع في الانتخابات البرلمانية بالخارج؛ ألا وهو نظام جولة الإعادة الذي ذكرناه في الفصل السابق. في إطار هذا النظام، لا تُحصَى سوى أصوات المركز الأول — مع العلم بأن كل ناخب يُدلِي بصوت واحد فقط — وإذا لم يكن هناك مرشح حاصل على الأغلبية (أكثر من خمسين بالمائة من الأصوات)، تُجرَى جولة ثانية من الانتخابات لاحقًا لا تتضمَّن سوى أفضل اثنين من المرشحين؛ والفكرة هي إفساح المجال لأقوى اثنين من المرشحين، ثم ترك جمهور الناخبين يقرِّر بينهما. يبدو هذا عادلًا ويستخدم على نطاق واسع للغاية.

لنتأمل حالةً ذكرها ستيفن برامز (صاحب الكتابات العديدة المتعلقة بعملية التصويت). تُوصَف الحالة من خلال جدول يشبه الجدول الوارد أعلاه، به سبعة عشر من الناخبين وأربعة من المرشحين؛ سنستخدم نفس الأسماء لزيادة الحيرة.

(٦) (٥) (٤) (٢)
ألف كاد بوب بوب
بوب ألف كاد ألف
كاد بوب ألف كاد

تذكَّرْ أن هذه مجرد قوائم للتفضيلات؛ في الانتخابات الفعلية من المفترض أن يُدلِي كل ناخب بصوته لاختياره الأول، ولن يكون هناك سجلٌّ بالتفضيلات التالية للناخبين؛ لذا فنتيجة هذا الاقتراع هي التعادل بين المرشحين ألف وبوب، بستة أصوات لكلٍّ منهما، بينما يُستبعَد كاد بخمسة أصوات فقط. ليس هناك مرشح حصل على أغلبية الأصوات؛ لذا فإجراء جولة إعادة ضروريٌّ، ولما كان الهدفُ من جولة الإعادة هو استبعادَ المرشح الأقل شعبيةً على وجه التحديد، ثم جعْلَ كل الناخبين يحاولون ثانيةً أن يقرِّروا بين الاثنين الأوفر حظًّا من المرشحين، فهي تؤدِّي وظيفتها هنا. لنفترِضِ الآن أن مؤيدي كاد الذين خاب أملهم انتقلوا إلى خيارهم الثاني؛ ألا وهو ألف، سيمنح هذا ألف خمسةَ أصوات إضافية في جولة الإعادة، وفوزًا ساحقًا على بوب. هذا رائع حتى الآن؛ فجولة الإعادة أدَّتْ مهمتها، وألف هو اختيار الناس في منافسة مباشِرة مع بوب؛ إنه يستحق المنصب.

لكنْ لنتخيَّلِ الآن أنه قُبَيْل إجراء الانتخابات الأصلية مباشَرةً، يؤدِّي ألف عملًا بطوليًّا — لنتخيَّلْ أنه أنقذ طفلًا من الغرق، أو تسلَّقَ شجرةً لإنقاذ قطة — والناخبان الاثنان اللذان كانا يؤيدان بوب بالأساس حوَّلا ولاءهما لِألف في اللحظة الأخيرة؛ النتيجة هي أنه «سيخسر»؛ فقد حصل في الانتخابات الرئيسية على ثمانية أصوات، ولا يزال لم يحصل على الأغلبية، لكن بوب هبط لأربعة أصوات، وهو الآن المرشح المستبعَد. وفي جولة الإعادة لا يزال ألف يحتفظ بالأصوات الثمانية، لكنَّ كاد يحصل على أربعة أصوات إضافية من ناخبي بوب المحبطين، وهو الآن الفائز بتسعة أصوات مقابل ثمانية لألف.

إن ما حدث أمرٌ مذهل، ومن المفترض ألا يكون مقبولًا إذا ما أردنا بالفعل أن تعكس نتيجةُ الانتخاب إرادةَ الشعب إلى حدٍّ ما؛ إن المرشح ألف كان سيفوز لو لم يجذب المزيدَ من التأييد من خلال بطولته. من المضحك أن يكون لَديك نظامٌ يخسر فيه المرشح اقتراعًا كاد أن يفوز به؛ لمجرد أنه فعل شيئًا يستحق الثناء جلب له المزيد من الأصوات. بالطبع قد لا يحدث هذا كثيرًا، لكنه من المفترض ألا يحدث على الإطلاق؛ ومع ذلك فنظام جولة الإعادة هذا بالذات يوجد في كل مكان. لقد تعلَّمَ السياسيون البارعون، بالقطع، استغلالَ مواطِنِ ضعفِ النظام لمصلحتهم من خلال جلب التأييد لمرشح ضعيف في الجولة الأولى، حتى يمكنه أن يخوض جولةَ الإعادة، ويُهزَم هزيمةً منكرة حينها.

المحصلة النهائية هي أن الأنظمة المختلفة تحقِّق أهدافًا مختلفة. إن نظام المرشح الحائز على أعلى الأصوات (وهو نظامنا) يعاقب آراء الأقلية (وفي حالاتٍ كثيرةٍ آراءَ الأغلبية كما حدث في الانتخابات الرئاسية لعام ١٩٩٢)، بينما التمثيل النسبي (الأكثر شيوعًا في أماكن أخرى) يعمل ضد المرشحين المتقدمين، وغالبًا ما يؤدِّي إلى العجز والتردُّد. إن الاستبداد يعمل على تيسير صنع القرار، لكنه لا يقدِّم إلا قلة من الضوابط والموازنات للحماية ضد أي قرارات مفزعة حقًّا. إلا أنه في حالات الطوارئ الحقيقية، يمكن للقيادة الفعَّالة — التي تعني عددًا أقل من الطهاة في مطبخ صنع القرار — أن تصنع الفارقَ بين البقاء والهلاك. (حتى القادة غير الأكفاء أفضل من عدم وجود قادة على الإطلاق، سنذكر المزيد عن هذا فيما بعدُ. ولعل من أحد الأسباب التي جعلت الآباء المؤسسين يرون أن من السهل تعيين الرئيس قائدًا عامًّا للقوات المسلحة، هو أن الجميع تقريبًا كانوا يوقِّرون جورج واشنطن ويثقون به، وتلك الحالة الذهنية كانت مفقودة بشكل ملحوظ في بعض الحالات الأخيرة.) في اقتصاد الوفرة تحظى الحرية الفردية والديمقراطية الشمولية بتقدير كبير، أما في اقتصاد الندرة (الذي يتجه إليه العالم بأسره الآن لا محالة) قد تُعتبَر هذه المسائل ذات أهمية ثانوية مقارَنةً بسُبُل البقاء البسيطة. كل هذه الأمور تشكِّل أهميةً فائقة، لكنها تتجاوز أنظمة الانتخاب، ولن يُعثَر على أي حلول لها في هذا الكتاب البسيط عن صنع القرار. لكن حتى بعد حلِّ مسألة الأهداف، إنْ حدث ذلك على الإطلاق، ينبغي أن يتَّسِم أيُّ نظام انتخابي مصمَّم لإظهار إرادة الشعب بعدم الغموض، وبعض الأنظمة الشائعة الاستخدام ليست كذلك.

ليس من اليسير شرح مثل هذه القضايا للأفراد؛ فهُم يستاءون من الرياضيات، والإصلاح العقلاني لا يزال بعيدًا. لقد حاوَلَ هذا المؤلف ذات مرة أن يشرح كلَّ هذا لِلَجنة مكوَّنة من بعض المهندسين المرموقين؛ وذلك من أجل إدخال تحسينات على نظام اللجنة لاختيار المرشحين لعضويتها، فما كان منهم إلا أن ظهر الضجر على وجوههم ولم يتم شيء. لكن الموضوع جد مهم؛ لأنه يمثِّل ضربًا من صنع القرار على مستوًى عالٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤